كتاب القضاء من المحرر في الحديث - 02

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعدُ، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: "وعن عمرو بن العاص -رَضِيَ اللهُ تعالى عنهُ- أنه سمع رسول الله يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد»".

 المعنى: أن الحاكم وهو الذي يفض الخصومات، ويقضي بين الناس لا بد أن يكون مجتهدًا؛ لأنه قال: "«فاجتهد»"، فمن وصفه الاجتهاد، وإذا لم يكن مجتهدًا لم ينطبق عليه هذا الوعد. ولكن الاجتهاد في عرف الشرع لا يشترط فيه جميع ما يُذكر في كتب العلماء الذين جعلوا الاجتهاد وعرًا، ومناله صعبًا، فجزموا بانقطاعه، وأنه لا يوجد مجتهد، وأن على جميع من يطلب العلم أن يقلد؛ هذا الكلام ليس بصحيح، إذا تأهل طالب العلم للاستنباط من الأدلة بالطرق المعروفة عند أهل العلم وعرف كيف يتعامل معها، ويعرف قدرًا كافيًا من القرآن، وقال أهل العلم: إنه يكفي المجتهد آيات الأحكام، ولكن التي أوصلوها إلى خمسمائة آية. الكلام ليس بصحيح؛ لأن في الآيات الأخرى ذات الموضوعات غير الأحكام من القصص والآداب وغيرها فيها أحكام، ويستنبط منها أهل العلم أحكامًا.

 فإذا خصصنا ذلك بالخمسمائة آية حرمنا طالب العلم من حفظ بقية القرآن، وهذا الذي جعل كثيرًا من طلاب العلم يزهدون في حفظ القرآن. القرآن هو رأس مال المسلم بالذات طالب العلم، فعليه أن يحرص على حفظ القرآن، ويضمن حفظ القرآن قبل أن يتوسع في العلوم الأخرى فينشغل عنها.

ونذكر بما قلنا مرارًا نقلاً عن ابن خلدون في مقدمته من أن المغاربة يضمنون حفظ القرآن قبل البدء في العلوم الأخرى، هذا كلامه، وأما المشارقة فيحفظون من القرآن بالتدريج مع العلوم الأخرى حتى ينتهي الحفظ أن ينقطع. لا شك أن الطالب في بداية الطلب في الصغر يتيسر له الحفظ، لم ينشغل عقله ولا ذهنه ولا بدنه، ولم تندثر حافظته، فإذا ضمن حفظ القرآن، وهذه -على ما قال ابن خلدون- طريقة المغاربة، يدرك العلوم الأخرى بإذن الله.

ذكرنا عن الأزهر أيام أن كان جامعًا، ورأينا في كتب العلم ما يُكتب عليه مقرر السنة الأولى الابتدائية في الأزهر الشريف، مقرر السنة الثانية الابتدائية، وهكذا. فالكفراوي في شرح الآجرومية لما قررها على الجامعة أشكل على طلابها بعضُ ما يحتوي عليه، مكتوب على الكتاب مقرر السنة الأولى الابتدائية، وشرح القطر مقرر السنة الثانية الابتدائية، وشرح شذور الذهب مقرر السنة الثالثة الابتدائية، وشرح ابن عقيل الذي يُدرس في الجامعات كاملاً مقرر السنة الرابعة الابتدائية. فسألت الشيخ عبد الرزاق عفيفي: وما المراحل العلمية قبل الابتدائي هذا؟ قال: ما فيه شيء، يجيء الطالب من أهله، لكن من شرط دخول الأزهر أن يكون حافظًا للقرآن، خلاص انتهى الإشكال، إذا حفظ القرآن سهل عليه كل شيء، وأعانه الله على ما يريد طلبه. فالآن لو تعرض هذه المقررات على المراحل العليا وجدت من يقول: هذه مقررات صعبة، ووجدت الطلاب يلاحقون الأساتذة: احذف، حدد، وهي كانت في الابتدائي في الأزهر.

أقول: القرآن حفظه وضمان، حفظه ييسر كل العلوم، ولا يكفي في ذلك ما يقرره بعض العلماء من آيات الأحكام. قالوا في سنن أبي داود أنه يكفي المجتهد، وسنن أبي داود خمسة آلاف حديث. وأضاف الغزالي لسنن أبي داود سنن البيهقي. نعم، سنن البيهقي عشرة مجلدات ضخام كبار بقدر ذراع اليد، وتكليف الطلاب بمثل هذا فيه حرج. لكن يسعى إلى أن يصل إلى هذه المراتب، وليس في هذا حد محدد، بل إذا حفظ ما يكفيه من الكتاب والسنة، والأوقات تختلف، ففي زمن الحفظ الحفاظ متى يسمى المحدث حافظًا؟ يعني حفظ مئات الألوف من الأحاديث، قال بعض السلف: مائة ألف. وفي عصرنا إذا حفظ قدرًا من الكتب الستة مع أحاديث الأحكام الطريقة التي يمشي عليها أهل العلم: الأربعين ثم العمدة ثم البلوغ ثم بعد ذلك يترقى إلى الكتب المسندة، ويحفظ منها ما يستطيع، قد نقول له: حافظ.

المقصود أن الأوقات تتفاوت، ولا يُكلَّف طالب علم أو عالم متأخر جدًّا بعد انقراض عصر الرواية والحفظ بما يطالب به المتقدمون، لكن المسألة تسديد ومقاربة. لكن بعض المتأخرين شددوا في شروط المجتهد في كلام لابن القيم وللشوكاني وللصنعاني، قالوا: إن القضاة الذين عيَّنهم النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- قد لا تنطبق عليهم هذه الشروط، لا تنطبق عليهم هذه الشروط؛ لأن في بعضها نوعًا من الشطط.

على كل حال إذا تدرج طالب العلم في الدراسة النظامية، وكانت لديه الأهلية للحفظ، فحفظ من الكتاب والسنة ما يكفي ومن علوم الآلة ما يستطيع بواسطته أن يتعامل مع النصوص ويفهم النصوص، وعرف الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد والعام والخاص، وعرف هذه الأمور، وكانت لديه دربة وفقه نفس على ما يقولون؛ استطاع أن يتولى هذا المنصب. قديمًا عندنا يقولون: من حفظ البلوغ والزاد استحق الفتيا والقضاء. لكن هل الحفظ يكفي؟

لا يكفي، لا يكفي الحفظ، لا بد من الفهم، ولا بد من المقدمات من العلوم التي يحتاج إليها طالب العلم ليتعامل مع هذه النصوص، ويفهم هذه النصوص.

على كل حال الاجتهاد ميسور، لكن يحتاج إلى مقومات من الحفظ والفهم، وقبل ذلك الإخلاص لله -جَلَّ وعَلا- والجد والاجتهاد والحرص على التحصيل ومزاحمة الشيوخ وتكميل ما ينقص من هذه الآلات وسؤال أهل العلم؛ لأن البعض ما كل الناس يتيسر لهم أن يجلسوا لطلب العلم على الشيوخ الراسخين، قد يكون في بلد ليس فيه منهم أحد، يتابع دروسهم في الآلات التي تنقل هذه الدروس، وبإمكانه أن يسأل عن طريق هذه الآلات ويجاب في الحال، كل الأمور تيسرت، ولله الحمد. فإذا كان مع ذلك نية صالحة خالصة لله -جَلَّ وعَلا- وجد واجتهاد وهمة عالية، يدرك بإذن الله.

"«إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران»"، أجر الاجتهاد والتعب في النظر في القضايا، وقبل ذلك أجر تعبه على التحصيل، وله أجر الإصابة.

"«وإذا أخطأ فله أجر»"، قد يقول قائل: كلاهما اجتهد وبذل جهده واستفرغ وسعه في النظر في القضية، لكن هذا وُفق فأصاب، والثاني ما حالفه الحفظ، فإما أن يكون سبب ذلك نقصًا في الآلة والتحصيل، وإما أن يكون سببه التقصير في التحصيل أو التقصير في النظر في القضية. إذا كان سببه النقص في الأهلية مثلاً، فهمه أقل من هذا مثلاً، عمرو فهمه أقل من فهم زيد، والجهد المبذول واحد منهما في الطلب وفي النظر وفي كذا. نقول: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}  [المائدة: 54]، والذي اجتهد وحصل من العلم ما حصل وإن لم يصل إلى ما وصل إليه غيره أجره عند الله ثابت. وعلى كل حال هذا كلام الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، ولا يقال: إن هذا أخطأ بعد أن بذل مثل ما بذل زميله، لماذا ينقص أجره؟

 ولا بد أن يكون منه شيء من التفريط في البداية أو في النهاية، أو يكون في الأصل تركيبه ما يحتمل ما احتمله زميله، ثم يقال بعد ذلك: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}  [المائدة: 54].

"«وإذا حكم فاجتهد»"، الأصل اجتهد ثم حكم، الاجتهاد سابق للحكم، "«إذا حكم الحاكم فاجتهد»" فإما أن يقال: هذا من باب الترتيب الذكري لا الزماني (إن من ساد ثم ساد أبوه) نعم، من الذي يسود الأول؟

الأب قبل الابن في الغالب، لكن قد يوجد نادرًا أن يسبق الابن الأب في شيء من هذا النوع، فالدلائل في غريب الحديث للقاسم بن ثابت السرقسطي، مات قاسم قبل تكميله فكمله أبوه ثابت، هذا قد يرد على مثل هذا.

لكن المقصود أنه ترتيب ذكري لا ترتيب زمني، فالاجتهاد يسبق الحكم: "«إذا حكم الحاكم فاجتهد»"، أو يكون من باب البيان، يعني "«إذا حكم»" بالاجتهاد، اجتهاد مع الحكم لا يكون بعده.

"«ثم أخطأ فله أجر»، متفق عليه" مع الذي قبله، بل قال: "متفق عليهما".

"وروى الإمام أحمد بإسناد لا يصح"، "بإسناد لا يصح". طيب، إذا كان "لا يصح" لماذا يذكره المؤلف؟

لبيان ضعفه.

"من حديث عبد الله بن عمرو: «إذا قضى القاضي فاجتهد فأصاب فله عشرة أجور، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر أو أجران»"، هذا الحديث منكر. لماذا؟

لأنه مخالف لما هو في الصحيح، من المخالف، والمنكر: ما يرويه الضعيف مخالفًا فيه الثقة، وقد يطلق عليه الشذوذ، فالشاذ والمنكر بمعنى واحد عند كثير من أهل العلم. فيذكرون الضعيف، قد يذكرون ما دونه؛ لبيان ضعفه، وإلا فلا يجوز ذكره مع الإطلاق إلا لمن يعرف، عند من يعرف، أما أن يلقى على عامة ولا يُبيَّن حكمه فهذا لا يجوز. فلا بد للخطيب على المنبر إذا ذكر حديثًا ألا يذكر إلا ما ثبت، فإن ذكر شيئًا غير ثابت؛ لوجوده ودورانه بين الناس فلا بد أن يبين أنه غير ثابت، وأنه لا يصح عن النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-.  

قد يقول قائل: في المصنفات للأئمة المتقدمين، الإمام أحمد ما قال: بإسناد لا يصح مثلاً لما رواه بالمسند. يندر أن يبين المتقدمون الحكم بهذه الصراحة، إنما واجبهم أن يرووا الأحاديث بالأسانيد، وإذا رووا الحديث بالأسانيد وهم في عصر الرواية فالسامعُ يعرف أن هذا الحديث غير صحيح؛ لأن في إسناده فلانًا وهو يعرف. أما الآن فما يكفي أن يساق الحديث بإسناده، بل لا بد من أن يُنص على أنه غير صحيح؛ لأن عموم طلاب العلم وكثيرًا من طلاب العلم لا يفرقون بين الرواة الثقات والضعفاء، بل لا يكفي أن يقال: هذا الحديث موضوع؛ لأن الناس لا يعرفون معنى كلمة موضوع، بل لا بد أن يقال على المنبر: مكذوب على النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- والحافظ العراقي أورد حديثًا وقال: هذا حديث موضوع لا يصح، مكذوب على النبي ، فاعترض عليه شخص من العجم وقال: كيف تقول يا شيخ تقول: مكذوب على الرسول وهو موجود في كتب السنة بالأسانيد؟

قال: هاته نرى إسناده، فجاء به من الموضوعات لابن الجوزي! الناس بعد عصور الرواية وبعد كثرة اختلاطه بغيرهم وانصراف كثير منهم عن العلم فلا بد أن يُبين لهم بدقة، وعلى ما يقال: توضع النقاط على الحروف. كانت الحروف ما فيها نقاط، ويعرفون، يعرفون (تبينوا) من (تثبتوا) بدون نقاط، لكن لو تُكتب الآن بدون نقاط فمن يميز؟

ثم قال -رَحِمَهُ اللهُ-: "وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: كتب أبي وكتبت له إلى عبيد الله بن أبي بكرة".

أبو بكرة الصحابي الجليل رُبيع بن الحارث، له أولاد: منهم عبد الرحمن، ومنهم سليمان، ومنهم عبيد الله المكتوب إليه، ومعنى "كتب أبي" يعني أمر، "وكتبت له" يعني باشرت الكتابة.

"كتب أبي وكتبت له إلى عبيد الله بن أبي بكرة"، إلى أخيه عبيد الله "وهو قاضٍ بسجستان: أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان".

لا شك أن الغضب يغطي على العقل، وهو مراتب: منه الغضب اليسير الذي لا يؤثر تأثيرًا كبيرًا، ومنه المتوسط، ومنه الشديد الذي يشبه الجنون بحيث لا يدري ما يقول. والنبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- غضب في قضية ابن الزبير مع خصمه من شراج الحرة، ولكنه لما قال له عبد الله بن عمرو: إن قريشًا تقول: تكتب عن محمد وهو بشر يرضى ويغضب؟ قال له: «اكتب، والله لا أقول إلا حقًّا».

 النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- معصوم من أن يقول غير الحق، فلا يُستدرك على هذا الحديث بقضائه -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- وهو غضبان، كما قال بعضهم في الشروح. ولكن يبقى أن الغضب مراتب، وكلام أهل العلم في طلاق الغضبان وفي تصرفاته معروف، ولا شك أن الغضب مختلف، نرى بعض الناس إذا غضب واشتد غضبه يقتل، بعضهم يتصرف تصرفات المجانين، وبعض الغضب هذا يلمسه كل إنسان من نفسه أنه توجد المقدمات ويغضب، لكن لا يصل إلى هذا الحد، فإذا وصل إلى حد لا يدري ما يقول فإنه حينئذ يُنهى عن القضاء، وإذا قضى وهو غضبان فإن أصاب الحق نفذ، وإن لم يصب رُد، وبعضهم يقول: لا ينفذ مطلقًا، ما دام قضى وهو غضبان فقضاؤه باطل، وإصابته للحق وهو في شدة الغضب مثل إصابة القاضي الثالث الذي قضى عن جهل فأصاب الحق.

وعلى كل حال: هناك مشوشات على الذهن متفاوتة، فإذا رأى القاضي أنه في حال لا تؤهل للقضاء والنظر الصحيح الدقيق في القضايا، سواء كان غضبان أو جائع أو عطشان أو في برد شديد أو حر شديد، فإنه حينئذ ينتظر، ولا يلزمه أن يقضي في هذه الحال ولو كان مكلفًا به وواجبًا عليه. بعض الطلاب إذا انتهى الدرس وخرج الشيخ من المسجد في الظهرية في شدة حر الشمس، يوقف الشيخ يسأل، ما يلزمه أن يقف، ما يلزم الشيخ أنه يجلس ويقف له. من هذا النوع، قد لا يجيبه بجواب صحيح أو يكون حاقنًا يدافع الأخبثين، فمثل هذه الحالة سواء كان في خصومة أو طالب علم يستفيد أن لا يضجر الشيخ؛ لأن الشيخ مع الضجر وهو بشر قد يتكلم بكلام غير مناسب.

قد يقول قائل: إنه قد يحتاج إلى شيء اعتاده لا يتمكن من النظر في القضية إلا إذا تناوله. بعض الناس القهوة تؤثر فيه، يقول: ما أقدر أن أقضي إلا أتقهوى. يعني في المباحات يُمكَّن منها ليتم النظر، لكن بعضه في المحرمات مثل الذي يدخن مثلاً، جاء وقت ما يستطيع أن ينظر.

 نقول: في الأصل أن مثل هذا لا يولى القضاء، إذا ورد هذا، وبعض القضاة والمسألة غير مشكلة عندهم؛ لأن القضاء بغير ما أنزل الله، يدخن -نسأل الله العافية- الأمر أعظم من ذلك، يقول: ما يتمكن من النظر في القضية حتى يدخن علبة كاملة، نسأل الله العافية. يعني في قضاء الشرع هذا غير وارد إلا عند من يرى إباحته، فهذا شيء آخر، لكن في القضاء بغير ما أنزل الله، هو ما يزاوله من القضاء بغير ما أنزل الله أشد مما طلب.

مثل هذه الأمور التي تشوش من الغضب والبرد والحر ومدافعة الأخبثين بول أو غائط، ما يتمكن، فلا بد من أن يفرغ باله، أو نعاس شديد، بعضهم يطرأ عليه باختياره أو بغير اختياره أن تمر الليلة ما نام أصلاً، ثم يأتي إلى الدوام من الغد وهو ما نام وينعس، سواء كان مفتيًا أو قاضيًا أو معلمًا أو... هذا يمكن أن ينطق بباطل، ولذا جاء النهي عن الصلاة في حال النعاس؛ لأنه قد يذهب ليدعو لنفسه فيدعو عليها.

"ألا تحكم بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله يقول: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان»".

 و"«لا»" هنا يحتمل أن تكون نافية فيرفع الفعل، ويحتمل أن تكون ناهية فيُجزم، والعلماء يقولون: إن ورود النهي بلفظ النفي (لا) بدلاً أن تكون ناهية: "«لا يحكمْ»" هذا الأصل بالجزم، فإذا أريد المبالغة في نفي هذا الحكم قيل: "«لا يحكمُ»"، الأصل ألا يوجد هذا أصلاً بين القضاة، فهو منفي من الوجود: "«لا يحكمُ أحد بين اثنين وهو غضبان»"، والحال أنه "«غضبان»".

المفتي إذا سئل من مطلِّق غضبان وقال: غضبت فطلقت زوجتي، قال: الغضب درجات، فيسأل عن المثير هل يقتضي أن يكون الغضب شديدًا أو لا يقتضي ذلك فيكون الغضب خفيفًا لا يذهب مع العقل ولا كذا؟ ولا شك أن هذا يتفاوت بين الناس، فبعض الناس يثيره أدنى شيء، وبعضهم عنده من العقل والرزانة والتأني ما يتبصر معه في الأمور. وهذه الأمور من كثرة ما تمر على من يفتي يستطيع أن يميز بين الغضب الذي يغطي العقل، والغضب الذي لا يصل إلى هذا الحد.

قال -رَحِمَهُ اللهُ-: "عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عنهُ- عن النبي قال: «بينما امرأتان معهما ابناهما»"، وهذا في شرع من قبلنا، هذا في عهد داود وسليمان.

"«جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك»"؛ لأن الصغار ما بينهم تفريق، ولا بينهم علامات، ولذلك في مستشفيات الولادة إذا وُلد المواليد وعددهم عشرة، عشرون في آن واحد يضعون علامات تميز مثلاً هذا ولد هذه، وهذا ولد تلك، وهكذا، لكن أولئك ما عندهم، ولا توقعوا أن يصير مثل هذا.

"«فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك. فتحاكما إلى داود، فقضى به للكبرى»".

 على الولد لهذه. لماذا؟

هل هو من باب «كبِّر كبِّر»، أم من باب أن الصغيرة عندها وقت تستطيع أن تحمل، وهذه يمكن ما تحمل غير ما حملت، هذا الذي يظهر أن داود -عليهِ السَّلامُ- رأى أن هذه كبيرة يمكن ما يجيئها غير هذا الولد، فحكم به لها، والصغيرة قدامها- إن شاء الله- الزمان الطويل، يمكن أن تأتي باثنين أو ثلاثة أو أكثر، فحكم به للكبرى. لكن هل هذا كافٍ في نزع الولد من أمه وإعطائه لأخرى؟

"«فخرجتا على سليمان بن داود -عليهما السلام- فأخبرتاه»"، خرجتاه إلى سليمان فأخبرتاه.

"«فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما»"، من يرضى بقطعه نصفين؟ غير أمه، مستحيل أن ترضى لابنها بأن يشق ابنها نصفين.

"«ائتوني بالسكين أشقه بنكما. فقالت الصغرى: لا، هو لها»"؛ لأنه إذا شُق بالسكين أيست منه، وإذا بقي على قيد الحياة يردّه الله، ولذلك ما رضيت بأن يُشق بالسكين وقالت: "«هو لها»".

"«فقالت الصغرى: لا يرحمك الله»"، من البلاغة يقولون: يجب أن تقول: لا ويرحمك الله؛ لئلا يتسلط النفي على الرحمة، لا ويرحمك الله. لكن في النصوص توجد هذه الواو؟ في القرآن والسنة توجد؟ هذا مثل الوقف اللازم، تقف، وليس في القرآن هذه الواو. وفيه ما يكون مآله مثل مآل النفي هنا: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}  [يونس: 65]، هو قولهم: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}  [يونس: 65]؟ لا، وحينئذ يجب الوقوف هنا، ولا يحتاج واوًا.

سئل النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- عن بيع الميتة والخمر والأصنام، فقال: «لا، هو حرام»، عند قراءته مدرجًا: «لا هو حرام»، يعني ليس بحرام.

الواو هذه لا شك أنها تزيل اللبس، لكن ليست بلازمة. اللازم الوقوف؛ ولذا ما جاءت في مصادر كتب السنة في أي مصدر من المصادر هنا.

"«قالت الصغرى: لا»"، يعني لا تشقه نصفين "«يرحمك الله»"، "«لا، يرحمك الله»" وقف لازم.

"«هو ابنها، فقضى به للصغرى»"، "«فقضى به للصغرى»" وهذا من سياسته -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، وأبوه ملك نبي، لكن لا يلزم أن يكون مصيبًا في كل شيء، لا يلزم إذا اجتهد أن يكون مصيبًا في كل شيء.

ففي المسألة لو طبقنا عليها الحديث السابق: داود له أجر أم لا أجر له؟

طالب: له أجر.

كم؟

طالب: واحد.

واحد، وسليمان له أجران. هذا من باب التطبيق على الحديث، وإلا فهذا إلى الله -جَلَّ وعَلا-، لهم من الأجور، أنبياء هؤلاء.

في بعض البلدان المجاورة يوجد تاجر من الهندوس في بلد مجاور قريب، يأتمنه الناس على أموالهم، ويودعونه ودائعهم، فأودع عنده شخص مسلم وديعة مال كثير، فلما طلبه منه أنكر قال: ما عندي شيء، ذهب إلى القاضي فقال القاضي للمدعي: ألك بينة؟ قال: لا. قال: ما لك إلا يمينه، قال: إذًا يحلف. ما الوسيلة؟ هذا الهندوسي يعبد البقر. القاضي قال: ائتوني بسكين مثل سليمان، ووضع السكين في يد الهندوسي وقال: اقبض عليها. هو بإمكانه أن يقول: احلف بالبقرة أو أي حلف، لكن هذا شرك، ما يمكن، لا يجوز للقاضي أن يطلبه من الخصم. قال: اقبض على السكين، وقل: ورب البررة، قال: ورب البررة، ما عنده مشكلة. قال: مهلك الفجرة، قال: مهلك الفجرة. إن كان المال عندي آخذ هذه السكين وأذبح البقرة، قال: لا لا لا، مال يدفع، بقرة ما يذبح!

فالقاضي لا بد أن يكون لديه فراسة وتصرف في مثل هذه المواقف؛ ليستخرج بها الحكم من هؤلاء الخونة الذين لا يؤمنون بالله، ولا يتورعون عن الحلف به. ومع الأسف إن بعض المسلمين الآن يحلف بالله وهو كذاب، لكن هذه الوسيلة الشرعية: البينة على المدعي، واليمين على من أنكر. ولكن القاضي بفراسته يستطيع أن يوصل الحق إلى صاحبه بطريقته؛ ولذلكم برز نوابغ من القضاة، ودُوِّن في كتب التراجم وفيما كتب في القضاء والقضاة نوادر من أحكامهم ينبغي أن تُردد وتُعرف عند طلاب العلم، وتوزع على القضاة يقرءونها؛ لأن هذه الأمور تفتح آفاقًا للقضاة. ينبغي أن تُدرس سير القضاة المتميزين، منهم على مر التاريخ في أقسام القضاء وعلى القضاة. أخبار القضاة لوكيع في ثلاثة مجلدات، ومطبوع ومتداول، وطلاب العلم على ذكر منه لا سيما من يزاول القضاء.

ومن القضاة المعاصرين من لديهم من أمثال هذه الأحكام الشيء الكثير، قضية جاء شاب من البادية ومعه إبل فباعها في السوق، بعد يومين أو ثلاثة جاء أبوه إلى المشتري قال: إبلي؟ قال: اشتريتها من ولدك، هذه إبلي، والولد أنا ما وكلته، ولا فوضته، فأريد الإبل، تحاكما إلى القاضي، فلما ادَّعى الأعرابي الأب على المشتري وهو حاضر قال: إن ولدي أخذ إبلي وباعها في السوق، وهذا أنا أطالبه برد الإبل، أنا ما وكَّلت الولد. قال: أنت جئت تشتكي ولدك أم تشتكي المشتري؟ قال: أنا أشتكي المشتري. موجود رجل الأمن أو الخادم قال: اذهب بالولد اقطع يده، وأعطه إبله، قال: لا لا يا شيخ، كيف تفعل هذا؟ قال له: ولدك سارق تقطع يده، وخذ إبلك. مثل شق الولد بالسكين، فقال: هي خلاص، أنا سمحت ولدها. وهذا مثل هذا ما يزال إلى وقتنا هذا، يعني النبوغ في القضاة والنجابة والفراسة موجودة ولله الحمد.

"«فقضى به للصغرى»، قال: قال أبو هريرة: واللهِ إنْ سمعت"، يعني: ما سمعت "بالسكين قط إلا يومئذ، ما كنا نقول إلا المدية"، يعني في دوس ما يقولون: سكين، يقولون: مدية، والمدية هي السكين.

"متفق عليهما، واللفظ لمسلم، وقال البخاري: «لا تفعل يرحمك الله»"، يعني لفظ البخاري: "«لا تفعل يرحمك الله»"، وتلك قالت: "«لا، يرحمك الله»"، والمقصود واحد، يعني المقصد في الرواية الأولى لا تفعل، يعني لا تشقه.

"وعن علي -رَضِيَ اللهُ تعالى عنهُ- قال: قال رسول الله : «إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقضِ للأول حتى تسمع كلام الآخر»".

قال -رَحِمَهُ اللهُ-:  "وعن علي -رَضِيَ اللهُ تعالى عنهُ- قال: قال لي رسول الله "، يعني شافهه بهذا الكلام، والكلام له ولغيره، الحكم واحد.

"«إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقضِ للأول حتى تسمع كلام الآخر»"؛ لأنه قد يكون الأول هو المدعي وادعى، فقد يكون عند الآخر ما يدفع هذه الدعوى، ما يدفع به هذه الدعوى.

"«فلا تقضِ للأول حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي»"، ما يمكن الحكم بغير سماع الثاني المدعى عليه. طيب، ادَّعى الأول وعنده بينة، هل يلزم سماع كلام الثاني؟ لا بد من سماع، قد يكون عنده مما يدفع أو يطعن في هذه البينة ما يكون الحق له به، وإلا وقد قيل: إذا جاءك مُدَّعٍ عينه في يده على شخص يقول: اقتلع عيني، قال: لا تسمع حتى يأتي الثاني. لماذا؟

لأنه قد تكون عيناه في يديه، ما تدري، وهو من هذا الباب: لا تُسمع الدعوى إلا بحضور الخصم، ودفاعه عن نفسه، وإدلائه بما لديه. والحكم على الغائب عند أهل العلم إذا تعذَّر حضوره وتعذَّر توكيله، إن تعذَّر حضوره يُطلب التوكيل يحضر وكيل كأن يكون مسجونًا في بلد بعيد، وقد يتعذر التوكيل ويتضرر المدعي، وحينئذ كيف يصنع القاضي؟

طالب: .......

نعم.

طالب: إذا تعذَّر التوكيل وعدم حضور الخصم؟

نعم.

طالب: .......

كيف؟

طالب: ينظر........

ويكون الحكم موقوفًا؟

طالب: نعم.

ويكون الحكم حينئذ موقوفًا إلى أن يحضر الخصم، يحكم غيابيًّا، ولئلا يتضرر المدعي. وفي مثل هذا يُحكم لامرأة المفقود، المفقود: غاب زوجها، وجلست سنين وبعد؟ لا بد أن يحكم لها، والعلماء ضربوا للمفقود مدة، من كان غالبه الهلاك أربع سنوات قالوا، ومن كان غالبه السلامة يضرب له تسعون سنة منذ وُلد، وهذا فيه ضرر على المرأة لا سيما مع تيسر أسباب الوصول إلى هذا المفقود التي يُحكم بواسطتها على أنه مفقود بالفعل إذا لم يصل الخبر الصحيح.

"«فسوف تدري كيف تقضي»، قال علي: فما زلت قاضيًا بعدُ"، يعني "قاضيًا" بالطريقة والوسيلة الشرعية التي بيَّنها النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، يعني "قاضيًا" قضاءً صحيحًا بواسطة ما أرشد إليه النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-.

الآن علي -رَضِيَ اللهُ عنهُ-، القضاء في عهده -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- لا بد من أن يُعين من قِبَله -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- القاضي، وبعده يعينه ويوليه ولي الأمر، الحاكم يعين القضاة، ويعين الولاة على الأقاليم، وهم في الغالب يتولون كل شيء.

المقصود أنه قد يكون قاضيًا ولم يُعيَّن من قِبَل ولي الأمر، يأتي رجلان إلى شخص يُحكِّمانه، التحكيم ومنصوص عليه عند أهل العلم: إذا حكَّم رجلاً نفذ قوله، لكن لا بد أن يكون أهلاً للحكم، يعني تنطبق عليه شروط القضاء، لا بد أن تنطبق عليه، الجاهل ما يُحكَّم، ومن لا يصلح للقضاء كالمرأة لا يُحكم، ولا ينفذ حكمه؛ لأنها ولاية، وفي حديث أبي بكرة: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»، وسيأتي.

المقصود أنه إذا حُكم وغير معين من ولي الأمر، والمعين من ولي الأمر هذا مفروغ منه، حاكم قاضٍ ما فيه إشكال. لكن إذا تحاكما إلى رجل غير معين وغير معتمد من ولي الأمر، إذا كان أهلاً للقضاء ورضيا به وتحاكما إليه فحكم يلزم حكمُه، لكن لا بد أن يكون أهلًا للقضاء، حكَّما يعني من يصلح للحكم، ما يحكَّم. وفي بعض الأعراف والعادات عند بعض القبائل يتحاكمون إلى شيخ القبيلة وهو عامي لا يفهم شيئًا، فإن كان من باب الصلح بينهم فالأمر فيه سهل، وإن كان من باب الإلزام فهذا لا يجوز، التحاكم إلى غير ما أنزل الله.

"قال علي: فما زلت قاضيًا بعدُ"، و"بعدُ" مبني على الضم، لماذا؟

طالب: .......

نعم؛ لأن المضاف محذوف مع نيته، يعني: بعد ذلك.

"رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وهذا لفظه، وقال: حديث حسن".

يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- في حديث علي: "رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وهذا لفظه"، يعني لفظ الترمذي، "وقال: حديث حسن"، والحسن عند الترمذي:

....وقال الترمذي ما سلم           من الشذوذ مع راوٍ ما اتهم

بكذب ولم يكن فردًا ورد           قلت وقد حسن بعض ما انفرد

 فالحسن عند الترمذي ما سلم من الشذوذ، ولم يكن راويه متهمًا بالكذب، ويأتي من غير وجه، (ولم يكن فردًا ورد)، لكن هذه الشروط في بعض الأحاديث التي حكم عليها الإمام الترمذي لا تنطبق على الأحاديث التي حكم عليها، وهنا الحديث ورد من طرق يتحقق فيها الحُسن، بل بعض المتأخرين حكم عليه بأنه صحيح لغيره، لكن الذي يظهر أنه لا يتجاوز الحُسن، والحَسن من قبيل المقبول المحتج به.

قال: "ورواه علي بن المديني في كتاب العلل"، "كتاب العلل" الموجود منه مطبوع في جزء، و"علي بن المديني" من الأئمة الكبار في هذا الشأن، وهو شيخ للإمام البخاري.

"وقال: هذا حديث كوفي"، يعني: رواته من أهل الكوفة.

"وإسناده صالح"، والصالح، الصلاحية في عُرف أهل العلم أعم من أن تكون للاحتجاج أو الاستشهاد، ومثل هذا قالوا في قول أبي داود: وما سكتُّ عنه فهو صالح، يعني صلاحية أعم من أن تكون للاحتجاج فيكون صحيحًا أو حسنًا، أو للاستشهاد فيكون ضعيفًا ضعفه غير شديد قابل للانجبار، والكلام في هذا يطول.

وعلى كل حال الحديث في مجموع طرقه لا ينزل عن درجة الحسن، والحسن محتج به عند أهل العلم، ومعناه صحيح، ما فيه إشكال، ما فيه قاضٍ ينظر لشخص ولا ينظر لخصمه، وإلا فلا يستحق أن يكون قاضيًا.

والله أعلم.