التعليق على تفسير القرطبي - سورة الجاثية (03)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف -رحمه الله تعالي-:

قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}.

 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: ذَلِكَ الْكَافِرُ اتَّخَذَ دِينَهُ مَا يَهْوَاهُ، فَلَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا رَكِبَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَفَرَأَيْتَ مَنْ جَعَلَ إِلَهَهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ مَا يَهْوَاهُ أَوْ يَسْتَحْسِنُهُ، فَإِذَا اسْتَحْسَنَ شَيْئًا وَهَوِيَهُ اتَّخَذَهُ إِلَهًا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ أَحَدُهُمْ يَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا رَأَى مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ رَمَى بِهِ وَعَبَدَ الْآخَرَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ السَّهْمِيِّ أَحَدُ الْمُسْتَهْزِئِينَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْبُدُ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّمَا عَبَدُوا الْحِجَارَةَ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ حِجَارَةٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَنْقَادُ لِهَوَاهُ وَمَعْبُودِهِ تَعْجِيبًا لِذَوِي الْعُقُولِ مِنْ هَذَا الْجَهْلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، مَجَازُهُ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ هَوَاهُ إِلَهَهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْهَوَى هَوًى؛ لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي النَّارِ."

الأصل في هذا أن الكافر يدور مع هواه إذا هوى شيئًا اتخذه إلهًا فأطاعه ونهاه، ائتمر بأمره وانتهى عند نهيه، والعبادة ليست إلا هذا، كما في حديث عدي بن حاتم في قوله جل وعلا -: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم من دون الله } قال: إننا  ليس نعبدهم، قال: «أليس يأمرونكم فتأتمرون، وينهونكم فتنتهون؟ فتلك عبادتهم»، فالذي يجعل الأوامر والنواهي على مقتضى هواه في جميع الأمور فهذا ما فيه إشكال أنه داخل دخولًا أوليًّا في هذه الآية، لكن مع الأسف أن بعض المسلمين يجعل الدين تابعًا للهوى، يجعل الدين تابعًا للهوى، فيقدم ما تهواه نفسه على مراد الله ومراد رسوله عليه الصلاة والسلام-هذا خطر كبير فيه مشابهة لهؤلاء الذين ختم الله على قلوبهم، وعلى أسماعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، كل بحسبه، تجد الإنسان يسمع الحكم الشرعي من شخص بدليله، ثم لا يعجبه هذا القول، ينتقل لآخر تبعًا لهواه.

 تجد في الأمور التي فيها جزاءات لاسيما المالية، تجد الإنسان يسأل في المناسك فيفتى بأن عليه دمًا، فلا يقتنع بذلك، يذهب ليسأل من يعفيه عن هذا الدم، هذا اتباع للهوى، لكن لو سأل شخصًا فقال: ليس عليك شيء، فأراد أن يتأكد ويحتاط فسأل من قال له: عليك دم، هذه تشبه المسألة الأولى أم تختلف عنها ؟ تختلف عنها، لأنه ما ذهب ليطلب الرخصة، إنما ذهب ليحتاط ويتأكد، ثم بعد ذلك إن تبع الذي أعفاه؛ لأنه أعلم وأوثق عنده في دينه فلا شيء عليه، وإن تبعه لأنه أسهل عليه وأيسر له لا لقوة دليله ولا رجحانه بذاته على غيره من حيث العلم والدين والورع فقد اتبع هواه من هذه الحيثية، فهذا يحتاج إلى نظر دقيق في هذه المسألة.

 كثير من الناس تجده يتتبع الرخص، ماذا قال فلان؟ فإذا قال فلان: دع فلانًا المتشدد، نذهب إلى من هو أسهل منه.

 فعلى كل حال الإنسان يحتاج إلى أن يخالف هواه، وأن يعصي هواه وشيطانه؛ ليبرأ من الدخول في هذه الآية.

" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا ذَكَرَ اللَّهُ هَوًى فِي الْقُرْآنِ إِلَّا ذَمَّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ"} [الأعراف: 176]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28]، وَقَالَ تَعَالَى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [الروم: 29]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]. وقال عبد الله بن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ« لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» وَقَالَ أَبُو أمامة: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: « مَا عُبِدَ تَحْتَ السَّمَاءِ إِلَهٌ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْهَوَى»، وَقَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْفَاجِرُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ».

العاجز، العاجز ماذا عندك؟

طالب: .....

العاجز هو الذي يتبع نفسه هواها، ويتمنى.

 على كل حال هناك ألفاظ وردت في النصوص على سبيل الذم، يعني لا توجد في نص يساق مساق المدح، هناك ألفاظ وردت ممدوحة بغير ذم والفاظ وردت ممدوحة ومذمومة، مذمومة في سياق وممدوحة في سياق وردت ألفاظ مذمومة في جميع النصوص مثل الهوى والترف وما أشبههما.

 الحديث الأول ماذا قال عنه؟

طالب: لا يؤمن أحدكم؟

نعم.

طالب: أحسن الله إليك يا شيخ، قال: أخرجه البغوي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: إنه في الأربعين، رويناه في كتاب الحجة بسند صحيح، وانتهى الكلام، تعقبه الحافظ ابن رجب في العلوم والحكم بأنه مختلف فيه على نعيم بن حماد، قال: وتصحيحه بعيد جدًّا، نعم.

أبو أمامة.

طالب: الحديث الثاني قال: أخرجه ابن أبي عاصم في السنة والطبراني والواحدي من حديث أبي أمامة وفيه الخصيب بن الجحدر كذاب، والخبر باطل.

بلا شك نعم، الذي بعده.

طالب: أحسن الله إليك حديث الكيس قال: أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم وأحمد من حديث شداد بن أوس، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم على شرطي البخاري، ورده الذهبي بقوله: لا والله، أبو بكر بن أبي مريم واهن، أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أنس، وضعفه........ وضعفه الألباني.

إذن كلها ضعيفة.

طالب: الكيس ضعيف.

كلها ضعيفة، لكن العاجز والفاجر عندكم كلكم عندكم الفاجر.

طالب: النسخة التركية.

ماذا؟

طالب: العاجز.

شوهوا المحفوظ العاجز هو مناسب للفظ لمعنى الكلمة.

"وَقَالَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ: « إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ»".

لكن هذا الحديث انطباقه على الواقع: شحًّا مطاعًا، وهوى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، عليك بالعزلة، ما عليك من أحد، ودع عنك أمر العامة، معناه ظاهر الانطباق على الواقع محقق، لكن هناك نصوص أخرى ما زالت قائمة محكمة من الخلطة والأمر والنهي والتعليل والتوجيه، كل هذا مطلوب، ويتأكد ما جاء في الخبر في حق من لا يستطيع أن يؤثر في غيره، كسائر نصوص العزلة.

 ماذا قال عنه؟

طالب: قال: أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه-وحسنه الترمذي... انظر حجة الرسول عليه الصلاة والسلام- انتهى كلامه، قال الترمذي في بعض النسخ: حسن غريب، والحديث ضعفه الألباني.

على كل حال الحديث لا يقل عن الحسن، وتشبث به كثير من طلاب العلم يقولون: هذه الأمور موجودة، وعلقت الخلطة عليها، وإذا وجدت عليك بخويصة نفسك، ما عليك من أحد، اعتزل الناس، ومقتضاه ألا تأمر، ولا تنهى، ولا تعلم، ولا توجه، إذا ترك هذا الأمر فماذا يكون حال الناس؟ أقل الأحوال التخفيف والمدافعة، وتقليل الشر بقدر الإمكان، وسماع كلمة الحق من قبل غافل يستيقظ بها، فالعزلة لا شك أن الإنسان إذا كان يتأثر ولا يؤثر فهذا يتعين في حقه العزلة؛ لأنه يخشى عليه، وأما إذا كان بالعكس يؤثر في الناس، يأمرهم وينهاهم، ويعلمهم، ويرشدهم، ويوجههم، ولا يتأثر بما هم عليه مما ذكر في الحديث وغيره فإن هذا يخالط الناس، الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم جاء مدحه، نعم.

وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ؛ فَالْمُهْلِكَاتُ شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ. وَالْمُنْجِيَاتُ خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْعَدْلُ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ»".

ماذا قال عنه؟

طالب: قال: صحيح بشواهده، أخرجه البقاعي والديلمي والبزار وأبو نعيم من طرق كلها من حديث أنس، وورد من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما- بأسانيد واهية، لكن تتقوى بمجموعها، انظر الصحيحة للألباني.

لكن الواهية تتقوى مهما كثرت؟ الواهية لا تتقوى عند جمهور أهل العلم، مهما كثرت الطرق والشواهد والمتابعات، مادامت شديدة الضعف، هذه هي الجادة المعروفة عند أهل العلم، منهم من يرى أن الحديث الواهي إلى طريق آخر واهٍ يخف ضعفه، ثم إذا جاء من أكثر من طريق واهٍ يشد بعضه بعضًا، لا تصل إلى درجة الحسن، لكن ترتفع عن درجة الضعف الشديد إلى الضعف الذي ينجبر، وهذه طريقة السيوطي، ويسلكها الشيخ الألباني أحيانًا، ولذلك ماذا قال عنه؟

طالب: الألباني رحمه الله في الصحيح قال: حسن لغيره.

يسلكها أحيانًا، يجبر الضعيف، شديد الضعف لاسيما إذا كثرت طرقه لا يكفي طريق واحد، ومنه إذا وجد طرق كثيرة، يعني تدل على أن له أصلًا، وعامة أهل العلم على أن مثل هذا لا ينجبر، لا يقبل انجباره، يبقى واهيًا.

" وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: إِذَا أَصْبَحَ الرَّجُلُ اجْتَمَعَ هَوَاهُ وَعَمَلُهُ وَعِلْمُهُ، فَإِنْ كان عمله تَبَعًا لِهَوَاهُ فَيَوْمُهُ يَوْمُ سُوءٍ، وَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ تَبَعًا لِعِلْمِهِ فَيَوْمُهُ يَوْمٌ صَالِحٌ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ:

إِنَّ الْهَوَانَ هُوَ الْهَوَى قُلِبَ اسْمُهُ ... فَإِذَا هَوِيتَ فَقَدْ لَقَيْتَ هَوَانًا

وَسُئِلَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ عَنِ الْهَوَى فَقَالَ: هوان".

هَوَيْت يعني وقعت في هوَّة، يعني في حفرة، وأما هَوِيت فقد رغبت في الشيء.

 " وَسُئِلَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ عَنِ الْهَوَى فَقَالَ: هوان سرقت نونه، فأخذه شام فَنَظَمَهُ وَقَالَ:

نُونُ الْهَوَانِ مِنَ الْهَوَى مَسْرُوقَةٌ ... فَإِذَا هَوِيتَ فَقَدْ لَقِيتَ هَوَانَا

وَقَالَ آخَرُ:

إِنَّ الْهَوَى لَهْوَ الْهَوَانُ بِعَيْنِهِ ... فَإِذَا هَوِيتَ فَقَدْ كَسَبْتَ هَوَانَا

وَإِذَا هَوِيتَ فَقَدْ تَعَبَّدَكَ الْهَوَى ... فَاخْضَعْ لِحُبِّكَ كَائِنًا مَنْ كَانَا"

لحبك يعني محبوبك، فاخضع لحبك يعني محبوبك، وهو يحكى واقعًا أن المحبوب لا بد أن يخضع له.

"وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ:

وَمِنَ الْبَلَايَا لِلْبَلَاءِ عَلَامَةٌ ... أَلَّا يُرَى لَكَ عَنْ هَوَاكَ نُزُوعُ

الْعَبْدُ عَبْدُ النَّفْسِ فِي شَهَوَاتِهَا ... وَالْحُرُّ يَشْبَعُ تَارَةً وَيَجُوعُ

وَلِابْنِ دُرَيْدٍ:

إِذَا طَالَبَتْكَ النَّفْسُ يَوْمًا بِشَهْوَةٍ ... وَكَانَ إِلَيْهَا لِلْخِلَافِ طَرِيقُ

فَدَعْهَا وَخَالِفْ مَا هَوِيَتْ فَإِنَّمَا ... هَوَاكَ عَدُوٌّ وَالْخِلَافُ صَدِيقُ

وَلِأَبِي عُبَيْدٍ الطُّوسِيِّ:

وَالنَّفْسُ إِنْ أَعْطَيْتَهَا مُنَاهَا ... فَاغِرَةٌ نَحْوَ هَوَاهَا فَاهَا"

وقال الشاعر: وخالف النفس والشيطان واعصهما.... وإن هما محضاك النصح فاتهم

الأصل أن النفس الأمارة والشيطان لا ينصحانك، فالنفس تتبع هواها وما يروق لها وما تشتهي، وقد حفت النار بالشهوات، وأنت خالف أمرها واعصها؛ لأن الجنة حفت بالمكاره، وإن كان المقابل والمضاد مما تكرهه.

"وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: مَرَرْتُ بِرَاهِبٍ فَوَجَدْتُهُ نَحِيفًا فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ عَلِيلٌ. قَالَ نَعَمْ. قُلْتُ مُذْ كَمْ؟ قَالَ: مُذْ عَرَفْتُ نَفْسِي! قُلْتُ فَتَدَاوَ؟ قَالَ: قَدْ أَعْيَانِي الدَّوَاءُ، وَقَدْ عَزَمْتُ عَلَى الْكَيِّ. قُلْتُ وَمَا الْكَيُّ؟ قَالَ: مُخَالَفَةُ الْهَوَى.

وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: هَوَاكَ دَاؤُكَ، فَإِنْ خَالَفْتَهُ فَدَوَاؤُكَ. وَقَالَ وَهْبٌ: إِذَا شَكَكْتَ فِي أَمْرَيْنِ وَلَمْ تَدْرِ خَيْرَهُمَا فَانْظُرْ أَبْعَدَهُمَا مِنْ هَوَاكَ فَأْتِهِ. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ فِي ذَمِّ الْهَوَى وَمُخَالَفَتِهِ كُتُبٌ وَأَبْوَابٌ أَشَرْنَا إِلَى مَا فِيهِ كِفَايَةٌ مِنْهُ، وَحَسْبُكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى} [النازعات: 41 -40]."

من المؤلفات في الباب في ذم الهوى كتاب كبير لابن الجوزي بهذا اللفظ: ذم الهوى، كتاب مجلد كبير مطبوع ومتداول اسمه ذم الهوى.

" قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ} أَيْ عَلَى عِلْمٍ قَدْ عَلِمَهُ مِنْهُ. وَقِيلَ: أَضَلَّهُ عَنِ الثَّوَابِ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ عَلَى عِلْمٍ قَدْ سَبَقَ عِنْدَهُ أَنَّهُ سَيَضِلُّ."

يعني أضله الله على علم منه، يعني من الله -جل وعلا-، والاحتمال الثاني على علم منه من الضال نفسه.

طالب: وهب المراد به......يا شيخ..

وهب هذا إطلاق.

"وقال مُقَاتِلٌ: عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ أَنَّهُ ضَالٌّ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقِيلَ: عَلَى عِلْمٍ مِنْ عَابِدِ الصَّنَمِ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ. ثُمَّ قِيلَ:" عَلى عِلْمٍ" يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ، الْمَعْنَى: أَضَلَّهُ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِهِ، أَيْ أَضَلَّهُ عَالِمًا بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَضَلَّهُ فِي حَالِ عِلْمِ الْكَافِرِ بِأَنَّهُ ضَالٌّ.

 {وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} أَيْ طَبَعَ عَلَى سَمْعِهِ حَتَّى لَا يَسْمَعَ الْوَعْظَ، وَطُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ حَتَّى لَا يَفْقَهُ الْهُدَى، {وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً} أَيْ غِطَاءً حَتَّى لَا يُبْصِرَ الرُّشْدَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: " غَشْوَةً" بِفَتْحِ الْغَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ". وَقَالَ الشَّاعِرُ:

أَمَا وَالَّذِي أَنَا عبد له ... يمينًا ومالك أُبْدِي الْيَمِينَا

لَئِنْ كُنْتَ أَلْبَسْتِنِي غَشْوَةً ... لَقَدْ كُنْتُ أَصْفَيْتُكَ الْوُدَّ حِينَا"

أو أُبدي؟

طالب: أبدي اليمين؟

كأنه أبدي اليمين..

طالب: .....

أُبدي، أُبدي.

طالب: أبدي اليمين.

أبدى؟ أَمَا وَالَّذِي أَنَا عبد له ... ويمينًا..

طالب: ومالك أبدي.

طالب: أقصد يا شيخ ما المعنى لو كان أبدي ......

نعم، تفهم منه.

طالب: يمينًا ومالك أبدي يثبت ما في نفس الوقت.

أما والذي أنا عبد يمينًا ومالك أبدي اليمينا، يعني أنت ما تحتاج إلى أن أبديه وأظهره أنت تعلم أن عبدًا..

طالب: أبدي الشيخ نعم.

"أَمَا وَالَّذِي أَنَا عبد له ... يمينا ومالك أُبْدِي الْيَمِينَا

لَئِنْ كُنْتَ أَلْبَسْتِنِي غَشْوَةً ... لَقَدْ كُنْتُ أَصْفَيْتُكَ الْوُدَّ حِينَا"

"{ فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} أَيْ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَضَلَّهُ، {" أَفَلا تَذَكَّرُونَ} تَتَّعِظُونَ وَتَعْرِفُونَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ."

قادر على كل شيء، قدير، إنه على كل شيء قدير، والتعليق بالمشيئة جاء فيه حديث آخر من يخرج من النار ويقال له: تمنَّ، بصحيح مسلم، ثم في آخره: فإني على ما أشاء قادر ولا يعني هذا أن الذي لا  يشاءه لا يستطيعه ولا يقدر عليه، والآيات كلها مطلقة أنه على كل شيء قدير، فلا قيد، وأما تعليق المشيئة فقد يفهم منه أن الذي لا يشاءه  لا يقدر عليه، مع أنه في الحديث قادر، لا يتصور أنه لا يقدر على ما لا يشاءه، لماذا؟

 لأن هذه القدرة متعلقة بأمر سابق موجود، لا يتصور أنه لا يقدر عليه، بينما عموم أن الله على كل شيء قدير فيشمل السابق واللاحق إذا قلنا إنه معلق بالمشيئة قلنا إنه لا يستطيع الذي يشاءه، من لواحق، أما ما وجد وتحقق وظهر للعيان وتم إيجاده فإنه قادر عليه بلا محالة، فالمشيئة تختلف في الحديث عن المشيئة المطلقة في مثل هذا الكلام.

" وَهَذِهِ الْآيَةُ تَرُدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ."

طالب: وقال يعني على ما يشاء....

لا، لا، الطبري رحمه الله- في أول تفسير الملك قال: إنه على ما يشاء قدير، وكله إذن إذا كان المرد الاستدلال بالحديث.

طالب: ......

الحديث صحيح في مسلم، لكن الآيات كلها ما فيه تعليق المشيئة.

" وَالْإِمَامِيَّةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ، إِذْ هِيَ مُصَرِّحَةٌ بِمَنْعِهِمْ مِنَ الْهِدَايَةِ"

الإمامية الذين هم الرافضة الاثنا عشرية كلهم قدرية، بل غلاة في القدر مثل المعتزلة، وهم أيضًا في كثير من أبواب الاعتقاد معتزلة، إضافة إلى الرفض نسأل الله العافية-، هذه لا ترد على القدرية. القدرية الذين هما نفاة القدر، ويرون أن الأمر أنف، أن مشيئة الله لا تتعلق بفعل مخلوق، بل المخلوق يخلق فعله، وليست مشيئته وقدرته تابعة لمشيئة الله وقدرته، فيثبتون خالقًا مع الله- جل وعلا-، ولذا جاءت تسميتهم بمجوس هذه الأمة، هذا طرف.

 والطرف الثاني من يستدل بهذه الآيات ويقول: إن الإنسان مسلوب الإرادة، أضله الله، أضله الله، خلاص، لا إرادة له ولا شيء، ختم الله على سمعه وقلبه، ما له دخل، ما له دور، والله جل وعلا- ختم على هؤلاء، وجعل هؤلاء من أهل النار، وهؤلاء من أهل الجنة، وليس لهم أي عمل، وهذا قول الجبرية، { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}، الجبرية يرون أن الإنسان...

 القدرية نفاة نفوا؛ لئلا يثبتون أن الله جل وعلا- ظالم لبعض العباد، والجبرية قالوا: إن هذا تقديره هؤلاء في النار ولو لم يكن منهم أي سبب، وهؤلاء في الجنة، لكن يترتب عليه الظلم، الله جل وعلا- خلق الإنسان، وركب فيه العقل، وبيَّن له السبيل، هداه النجدين، بيَّن له الطريق على ألسنة رسله وكتبه المنزلة، ما ترك لأحد حجة، وفي علمه السابق -جل وعلا- أن هذا يستجيب للرسل، فيكون من أهل الجنة، وهذا لا يستجيب، فيكون من أهل النار، وأثبت هذا في علمه السابق هذا في علم الله- جل وعلا- أن هذا شقي، وهذا سعيد، لكن هل هو بمجرد هذا التقدير، أو بأسباب حصلت منه؟

 الله- جل وعلا- دله على الطريق، وركب فيه الاختيار، وجعل فيه المشيئة، لكأنها مشيئة تابعة لمشيئة الله- جل وعلا-، لكن فيه أحد يمنع الإنسان إذا سمع المؤذن أن يقوم للصلاة؟ الذي لا يصلي هو يوجد شيء يمنعه من الصلاة، أم فيه حرية واختيار يمكن بكل سهولة أن يقوم إلى مكان الوضوء يتوضأ ويخرج إلى المسجد؟

 ما فيه ما يمنع، لكن الله- جل وعلا- علم منه أنه لا يستجيب، فقضى عليه بأنه شقي، وهذا علم منه- جل وعلا- أنه يستجيب، فقضى عليه، وكتب عليه أنه سعيد، فللإنسان حرية واختيار، وليس بمجبور، وليس حركته كحركة ورق الشجر في مهب الريح، كما يقول الجبرية، يتحرك بإرادة واختيار، يؤمر فيأتمر، أو يعصي، موجود فيه هذا وفيه هذا، لكن هل تركيب الشخص الذي يأتمر غير تركيب الشخص الذي يعصي؟ هل يوجد ما يوثقه من امتثال الأمر؟ الحرية موجودة، بدليل أن كثيرًا ممن كانوا لا يأتمرون ولا ينتهون منَّ الله عليهم بالهداية، فصاروا يأتمرون، وينتهون، والعكس أيضًا، والعبرة بالخواتيم.

 فقول الجبرية باطل؛ لأنه يلزم منه أن الله جل وعلا- ظالم لبعض لخلقه، وقول القدرية أيضًا باطل؛ لأنه يثبت مع الله- جل وعلا- خالقًا، وأهل السنة وسط بين الفريقين، يثبتون للعبد مشيئة، وله قدرة، وله حرية، وله اختيار، لكنها مربوطة ومتعلقة بمشيئة الله جل وعلا-.

"ثُمَّ قِيلَ: {وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} إِنَّهُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الدُّعَاءِ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ " البقرة"."

وهذا الختم وهذا الطبع كله بأسباب بدرت منهم، لأسباب بدرت منهم، الأسباب منهم، وهؤلاء الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم علم الله جل وعلا- منهم أنهم لا يستجيبون، فطبع الله على قلوبهم، هنا يقول: خرج مخرج الخبر عن أحوالهم، الأسباب التي هي سبب للطبع مثلاً جاء في حديث «من ترك ثلاث جمع متوالية طبع الله على قلبه» هو في الأزل في القدر مكتوب أنه مطبوع على قلبه وأنه شقي، لكن ما السبب في هذا الطبع؟ السبب كونه ترك ثلاث جمع متوالية، والسبب منه أم من غيره؟ منه. هل يوجد ما يمنعه من صلاة الجمعة؟ ما يوجد ما يمنعه، فيه حرية واختيار، لكنه اختار ألا يصلي، فمثل هذا ليس لهؤلاء حجة على الله جل وعلا-.

قد يقول قائل: إن السبب يتقدم الحكم، ما تحكم على الإنسان حتى يبدو السبب منه، والحكم في علم الله جل وعلا أزلي قبل وجود السبب. نقول: نعم هذا بالنسبة للمخلوق الذي لا يعرف النتائج والأحكام حتي تظهر الأسباب التي رتبت عليها هذه الأحكام، أما بالنسبة للخالق الذي يعلم ما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون فمثل هذا لا يتجه إليه، الله يعلم جل وعلا-، يعني لو أن مدرسًا قال للطلاب، عدَّد عشرة منهم، قال: أنتم ناجحون، وعشرة منهم: أنتم راسبون، هم عشرون قبل الامتحان حكم عليهم بهذا، يسوغ أم ما يسوغ؟

طالب: يسوغ.

لا، ما يسوغ؛ لأنه ما يعرف عن المستقبل شيئًا، لكن الله جل وعلا- يعرف ماذا سيحدث في المستقبل، ففرق بين الخالق والمخلوق؟

" وحكى ابن جريج أنها نزلت فِي الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ مِنَ الْغَيَاطِلَةِ. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ ذَاتَ ليلة ومعه الوليد بن الْمُغِيرَةِ، فَتَحَدَّثَا فِي شَأْنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ إِنَّهُ لَصَادِقٌ! فَقَالَ لَهُ: مَهْ! وَمَا دَلَّكَ عَلَى ذَلِكَ!؟ قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، كُنَّا نُسَمِّيهِ فِي صِبَاهُ الصَّادِقَ الْأَمِينَ، فَلَمَّا تَمَّ عَقْلُهُ وَكَمُلَ رُشْدُهُ، نُسَمِّيهِ الْكَذَّابَ الْخَائِنَ!! وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ إِنَّهُ لَصَادِقٌ! قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُصَدِّقَهُ وَتُؤْمِنَ بِهِ؟ قَالَ: تَتَحَدَّثُ عَنِّي بَنَاتُ قُرَيْشٍ أَنِّي قَدِ اتَّبَعْتُ يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَجْلِ كِسْرَةٍ، وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى إِنِ اتَّبَعْتُهُ أَبَدًا. فَنَزَلَتْ {وَخَتَمَ عَلَى سمعه وقلبه}".

نسأل الله السلامة والعافية.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا} هَذَا إِنْكَارٌ مِنْهُمْ لِلْآخِرَةِ وَتَكْذِيبٌ لِلْبَعْثِ وَإِبْطَالٌ لِلْجَزَاءِ. وَمَعْنَى {نَمُوتُ وَنَحْيا} أي نموت نحن، وتحيا أولادنا".

لأنهم لو أقرو بالحياة بعد الموت كانوا أقروا بالبعث وهم ينكرونه، فلا بد من تأويله، فإما أن يقول إن المراد بتحيا أولادنا أو على ما سيأتي تقريره من قبل المؤلف رحمه الله-.

"أي نموت نحن وتحيا أولادنا، قاله الكلبي. وقرئ " وَنُحْيا" بِضَمِّ النُّونِ. وَقِيلَ: يَمُوتُ بَعْضُنَا وَيَحْيَا بَعْضُنَا. وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ نَحْيَا وَنَمُوتُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ.

 {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}" قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي السِّنِينَ وَالْأَيَّامَ. وقال قتادة: إلا العمر، والمعنى واحد. وقرئ: " إِلَّا دَهْرٌ يَمُرُّ". وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: الدَّهْرُ هُوَ الَّذِي يُهْلِكُنَا، وَهُوَ الَّذِي يُحْيِينَا وَيُمِيتُنَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الْمَوْتُ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ أَبِي ذُؤَيْبٍ:

أَمِنَ الْمَنُونِ وَرَيْبِهَا تَتَوَجَّعُ ... والدهر ليس بمعتب من يجزع

وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَيْ وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا اللَّهُ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: مَا يُهْلِكُنَا إِلَّا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَهُوَ الَّذِي يُهْلِكُنَا وَيُمِيتُنَا وَيُحْيِينَا، فَيَسُبُّونَ الدَّهْرَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ». قُلْتُ: قَوْلُهُ: " قَالَ اللَّهُ"..

الحديث بكماله عند من؟

طالب: أحسن الله إليك، قال: أخرجه الطبري بهذا اللفظ، والحاكم، من حديث أبي هريرة، وصححه على شرطهما، ووافقه الذهبي، وهو كما قال، لكن جعل صدره من كلام ابن عيينة، وهو عند البخاري دون صدره ....

نعم.

" قُلْتُ: قَوْلُهُ: " قَالَ اللَّهُ إِلَى آخِرِهِ نَصُّ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُهُ. وَخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَأَبُو دَاوُدَ. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قَالَ: « لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ»، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الدَّهْرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ."

يعني كابن حزم يرى أن الدهر من أسماء الله، وعامة أهل العلم على أنه ليس من أسماء الله، لكن لما نسب التصرف في الكون الذي هو في الأصل لله -جل وعلا- إلى الدهر وإلى الليالي والأيام، وسب الدهر باعتبار أنه هو المتصرف، والمتصرف في الحقيقة هو الله جل علا-، فإذا سب الدهر على أنه هو المتصرف اتجه السب إلى المتصرف الحقيقي.

طالب: يقال مثل هذا يخبر به ......

لا، لا، هذا هو المراد، هذا هو المراد عند أهل العلم.

" وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ اسْمًا إِنَّمَا خَرَجَ رَدًّا عَلَى الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الدَّهْرَ هُوَ الْفَاعِلُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَانُوا إِذَا أَصَابَهُمْ ضُرٌّ أَوْ ضَيْمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ نَسَبُوا ذَلِكَ إِلَى الدَّهْرِ، فَقِيلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ: لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ."

يعني فإن الذي تسبونه في الحقيقة هو الله، يعني تسبون الدهر باعتبار أنه هو المتسبب، لكن الذي تسبونه في الحقيقة هو الله جل وعلا- المتصرف على خلاف مرادكم.

 لو أن شخصًا فعل فعلًا واختفى، ثم وجد عند هذا الفعل من يصلح أن يلصق به، فاجتمع الناس عليه فسبوه وذموه ودعوا عليه، يلحقه شيء أم ما يحلقه؟

 لا يحلقه شيء، يلحق من؟ يلحق الفاعل، يعني لو وجدت مصحفًا ممزق بيد شخص، وعليه أمارات الفسق فأنت تسبه وتدعو عليه، وليس هو الفاعل؛ الفاعل غيره، يتجه السب والشتم والدعاء عليه إلى هذا أو الذي فعل حقيقة؟ إنما يتجه إلى الذي فعل حقيقة، والدهر هو مجرد خزائن، أيام وليالي، ليس له شيء من التصرف، والمتصرف هو الله جل علا- وحده لا شريك له، فالذي يسب الدهر على أساس أنه هو المتصرف هو في الحقيقة إنما يسب الله جل وعلا-.

طالب: .......كذلك اليوم...

ماذا؟

طالب: سب اليوم........

يعني فيه نفس سب للدهر، سب الدهر، لكن اقتران الدهر بأمر سوء لا يمنع من تسميته مثلاً يوم نحس؛ لما حصل فيه، ومثل ما جاء: «إن كان الشؤم في شيء ففي المرأة والدابة والدار»، المرأة والدابة والدار لا دخل لهم فيما حصل عند الاقتران بهم، يعني نزل بيتًا فحصل له مصيبة، رأى أن هذا الشؤم بسبب هذه الدار، أو اشترى دابة، فوقع منها، وانكسر، أو تزوج امرأة، فاقترن بها بعض المصائب المالية والبدنية وغيرها، إن كان الشؤم ففي هذه الثلاث، لكن لم يكن شؤمًا، فالشؤم موجود عند هذه الثلاثة لا بها، ثلاثة أسباب.

 يعني لو تزوج امرأة ثانية وقد كتب عليه أن يفتقر، كتب عليه أن يفتقر، فتزوج امرأة ثانية فنفس الشيء، لو ركب دابة ثانية وقد كتب عليه أن ينكسر فلابد أن يحصل ولو كانت غير الدابة الأولى، وهكذا، ولذا، وهذا ملحظ دقيق، وإن لم يوضحه ابن القيم -رحمه الله – قال: إن الشؤم يحصل عند هذه الثلاثة لا بها، معلوم أن الأسباب عند الأشعرية غير مؤثرة، ويقولون: إن الري يحصل عند الشرب، والإبصار يحصل عند البصر لا به، ولذلك لا فرق بين المبصر والأعمى عندهم، ويجوزن أن يرى العمى وهو بالصين بقة الأندلس؛ لأن البصر سبب، وليس له أثر، والكلام في هذا كثير، لكن فيما ذكر ابن القيم بالنسبة للثلاثة إن كان الشؤم في ثلاث، فالشؤم الشيء يحصل عندها لا بها؛ لأنها ليست أسبابًا حقيقية مؤثرة، ليست أسبابًا حقيقية مؤثرة.

 لو صار عندك مثلاً موظف من بلد عرفوا بصناعة الفراء أو السيارات من نوع معين، فكان شراؤك للفراء لك ولأسرتك من صناعة بلد هذا الشخص، أو سيارتك من سيارات بلد هذا الشخص، إن كنت معجبًا به وبصناعاتهم صار سببًا يعني في وجود هذه الأشياء، يعني له أثر في الموضوع، لكن إذا كنت ما رغبت فيه، ولا أردته، ولا أعجبك بشيء من الأشياء، ثم اشتريت هذه السيارة، وإن كانت مصنوعة من مصنوعات بلده حينما توظف عندك مثلاً لخدمتك، وجود هذه الآلة عند وجود هذا الرجل لا بسببه، بخلاف ما لو كان له أثر في وجودها، ظاهر أم ليس ظاهر؟

طالب: ظاهر.

 فوجود هذه المصائب وهذه المشاكل عند وجود هذه المرأة؛ لأنها مكتوبة عليك حتى لو تزوجت غيرها، والدابة أيضًا كونك وقعت منها وانكسرت فلا يعني أن هذا أمر لم يكتب عليك، إنما كتب عليك، فلو اشتريت غير هذه الدابة لحصل لك، ولا يقال: إن قول ابن القيم هذا موافق لقول الأشعرية، لا، الأشعرية يجعلون كل الأسباب لا وجود لها، ولا أثر لها، وجودها مثل عدمها، فالإنسان يشرب كأسًا من الماء، كأسين، ثلاثة، يتضوع، يحصل له الري، يقول: ليس من الماء، إنما حصل هذا الري عنده لا به، هذا الكلام باطل مخالف لصريح العقل فضلاً عن صحيح النقل.

 يقابلهم المعتزلة، المعتزلة يجعلون الأسباب مؤثرة بذاتها، وأهل السنه يجعلون للأسباب أثرًا، لكنه الله-جل وعلا- هو الذي جعل الأثر في هذا السبب.

طالب: شيخ..

نعم.

طالب: أحسن الله إليك، على هذا القول هل يدخل مع هذه الثلاثة غيرها؟

لكن الناس ملحظهم لحصول هذه الأمور لهذه الثلاثة فقط، وهي موجودة عند غالب الناس، وأكثر الناس يتشاءمون بها من هذه الحيثية، فجاء التنصيص عيها، يعني مثلاً لو توظف بوظيفة، وكلما طلع يروح الدوام صدم، يدعو الله لا يعيد هذه الوظيفة، أو كذا، يظن أن هذه الأمور من الوظيفة، لا هذه ليس لها شأن، ليس لها أثر.

طالب: شيخ أحسن الله إليك، يعني مثلاً يترك الزوجة؟

كيف يتركها؟ لا، لو أخذ غيرها وباقٍ مما كتب عليه شيء سيصير، لا، لا، ما يتركها.

طاب: بعضهم ياشيخ يستدل بالشؤم في ثلاثة ويطلقها..

لا، لا، يعني لأن الناس يرون أن هذه الأمور حصلت بها بسببها.

طالب: بعضهم يا شيخ أحسن الله إليك جو المدينة الفلانية سيئة، يعني هل هذا مناسب؟

يصير بعض البلدان جوها موبوء، وبعضها صحي، وبعضها غير صحي، هذا سهل، هذا موجود، ولذا يقول النبي- عليه الصلاة والسلام-: « اللهم انقل حماها إلى الجحفة»، كان فيها حمى، وهذا شيء ملاحظ ومشاهد، بعض البلدان السكن فيها لمجرد عمارة الأرض وإلا غير مناسبة إطلاقًا، بردٌ شديد وحر شديد، وبعض البلدان متوسطة، فيها هذا وفيها هذا.

طالب: ما يقال: إنه يسب الدهر يا شيخ؟

لا، ما يسب الدهر الآن، هو يحكم على هذا البلد بأنه شديد البرد، أو موبوء، البيئة متلوثة، هذا ما فيه إشكال.

طالب: ......

يعني المهم أنه باعتبار أن هذا الأثر موجود، موجود بالفعل لو انتقل عنه إلى بلد آخر انتهى.

" أَيْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْفَاعِلُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي تُضِيفُونَهَا إِلَى الدَّهْرِ، فَيَرْجِعُ السَّبُّ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ هذا ما ذكرناه مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ ...» الْحَدِيثَ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ، وَهُوَ أَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ:

يَا عَاتِبَ الدَّهْرِ إِذَا نَابَهُ ... لَا تَلُمِ الدَّهْرَ عَلَى غَدْرِهِ

الدَّهْرُ مَأْمُورٌ، لَهُ آمِرٌ ... وَيَنْتَهِي الدَّهْرُ إِلَى أَمْرِهِ

كَمْ كَافِرٍ أَمْوَالُهُ جَمَّةٌ ... تَزْدَادُ أَضْعَافًا عَلَى كُفْرِهِ

وَمُؤْمِنٌ لَيْسَ له درهم ... يزداد إِيمَانًا عَلَى فَقْرِهِ"

يعني مثل ما قال نسأل الله العافية المعري: كم عالم، عالم ضاقت ...

طالب: مذاهبه.

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقًا

 هذا الذي جعل الأفهام حائرة.... وصير العالم النحرير زنديقًا

 نسأل الله العافية.

"وَرُوِيَ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَانَ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ الدَّهْرَ فَزَجَرَهُ أَبُوهُ وَقَالَ: إِيَّاكَ يَا بُنَيَّ وَذِكْرَ الدَّهْرِ! وَأَنْشَدَ:

فَمَا الدَّهْرُ بِالْجَانِي لِشَيْءٍ لِحينِهِ ... وَلَا جَالِبَ الْبَلْوَى فَلَا تَشْتُمَ الدَّهْرَا

وَلَكِنْ مَتَى مَا يَبْعَثُ اللَّهُ بَاعِثًا ... عَلَى مَعْشَرٍ يَجْعَلُ مَيَاسِيرَهُمْ عُسْرَا

وقال أبو عبيد: ناظرت بعض الملحدة فَقَالَ: أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ:" فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ"!؟ فَقُلْتُ: وَهَلْ كَانَ أَحَدٌ يَسُبُّ اللَّهَ فِي آبَادِ الدَّهْرِ، بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:

إِنْ مَحِلًّا وَإِنْ مُرْتَحِلًا ... وَإِنَّ فِي السَّفَرِ إِذْ مَضَوْا مَهَلَا

اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ وَبِالْعَدْ ... لِ وَوَلَّى الْمَلَامَةَ الرَّجُلا"

يعني ما فيه أحد يسب الله وهم يعترفون بأنه هو الخالق الرازق، يعترفون بربوبيته، فيسبونه مباشرة، لا، لا يسبونه، إنما يسبون الأسباب التي جعلها الله جل وعلا أسبابًا.

"قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ يَذُمُّوا الدَّهْرَ عِنْدَ الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ، حَتَّى ذَكَرُوهُ فِي أَشْعَارِهِمْ، وَنَسَبُوا الْأَحْدَاثَ إِلَيْهِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ قَمِيئَةَ:

رَمَتْنِي بَنَاتُ الدَّهْرِ مِنْ حَيْثُ لَا أَرَى ... فَكَيْفَ بِمَنْ يُرْمَى وَلَيْسَ بِرَامٍ

فَلَوْ أَنَّهَا نِبْلٌ إِذًا لَاتَّقَيْتُهَا .......... وَلَكِنَّنِي أُرْمَى بِغَيْرِ سِهَامِ

عَلَى الرَّاحَتَيْنِ مَرَّةً وَعَلَى الْعَصَا .... أَنُوءُ ثَلَاثًا بَعْدَهُنَّ قِيَامِي"

يعني حاول يقوم ثلاث مرات ...

"وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الشِّعْرِ. يُنْسِبُونَ ذَلِكَ إِلَى الدَّهْرِ وَيُضِيفُونَهُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ الْفَاعِلُ لَا رَبَّ سِوَاهُ." وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ". أي علم. و" من" زَائِدَةٌ، أَيْ قَالُوا مَا قَالُوا شَاكِّينَ.

 {" إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} أَيْ مَا هُمْ إِلَّا يَتَكَلَّمُونَ بِالظَّنِّ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ أَصْنَافًا، مِنْهُمْ هَؤُلَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُثْبِتُ الصَّانِعُ وَيُنْكِرُ الْبَعْثَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَشُكُّ فِي الْبَعْثِ وَلَا يَقْطَعُ بِإِنْكَارِهِ. وَحَدَّثَ فِي الْإِسْلَامِ أَقْوَامٌ لَيْسَ يُمْكِنُهُمْ إِنْكَارُ الْبَعْثِ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَتَأَوَّلُونَ وَيَرَوْنَ الْقِيَامَةَ مَوْتَ الْبَدَنِ، وَيَرَوْنَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ إِلَى خَيَالَاتٍ تَقَعُ لِلْأَرْوَاحِ بِزَعْمِهِمْ، فَشَرُّ هَؤُلَاءِ أَضَرُّ مِنْ شَرِّ جَمِيعِ الْكُفَّارِ."

لأنهم يرون أن قولهم فيه شيء من القبول والرواج على بعض الناس الذين لا يدركون حقائق الأمور، يقولون: نعم يبعثون، البدن يستمر ميتًا، والروح تبعث وتنعم بأمور لا حقيقة لها، بل هي أمور تخيلية.

" لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يُلَبِّسُونَ عَلَى الْحَقِّ، وَيُغْتَرُّ بِتَلْبِيسِهِمُ الظَّاهِرِ. وَالْمُشْرِكُ الْمُجَاهِرُ بِشِرْكِهِ يَحْذَرُهُ الْمُسْلِمُ. وَقِيلَ: نَمُوتُ وَتَحْيَا آثَارُنَا، فَهَذِهِ حَيَاةُ الذِّكْرِ. وَقِيلَ: أَشَارُوا إِلَى التَّنَاسُخِ، أَيْ يَمُوتُ الرَّجُلُ فَتُجْعَلُ رُوحُهُ فِي موات فتحيا به".

يعني كون الناس يغترون بمثل هؤلاء، ولا يغترون بالكافر الصرف المعلن بكفره هو الذي جعل المنافق في الدرك الأسفل من النار؛ لأنه يظهر للناس أشياء، ويلبس عليهم، وأما الكافر فلا يمكن أن يقبل منه شيء، لا يمكن أن يقبل، أما المنافق باعتباره يصلي مع الناس، يأتي بما يغرهم به في الظاهر قد يقبل منه، وما يمكن أن يخشى مثل ما جاء في الخبر: «منافق عليم اللسان»، وقد كثروا في هذا الزمان مما يكتبون في الصحف، ويظهرون للناس في وسائل الإعلام، ويلبسون عليهم، ويلقون عليهم الشبهات، وهم كثير، لكن كسرهم الله.

 نعم قيل: نموت وتحيا آثارنا هذا إنكار للبعث الحقيقي، لكن الآثار والذكر يستمر بعد الموت؛ لأنه لو قيل: نموت ونحيا حياة حقيقة لصاروا مقرين بالبعث، والحقيقة أنهم لا يقرون بالبعث، فلابد من تأويل الآية إما بالتأويل الأول: نموت وتحيا أولادنا، أو يموت أقوام وتحيا أقوام، أو نموت وتحيا آثارنا كما هنا أو إشارة إلى التناسخ، أو نموت، تفارق أروحنا أبداننا، لكنها تنتقل لأبدان أخرى فتحيا بها، القول بالتناسخ قديم جدًّا، ومع ذلك موجود إلى الآن، في بعض الجهات في الفلبين وفي غيرها يقولون بهذا، فندهم الأمر سهل أن يقتل الإنسان يقتل فيُقتل ثم يأتي من الغد كأن المسألة يسافر ثم يأتي بتأشيرة ثانية، كما يفعل بعض أهل الحيل من العمال، إذا مات روحه تأتي إلى بدن آخر ويجيء، ولذلك يسهل عندهم القتل، يسهل عندهم ما يوجب القتل؛ لأن الأثر ضعيف، يحيا غدا أو بعده، سهل، والله المستعان-

طالب: أول من قال بها الهنود واليونان تناسخ الأرواح.

والله الهند أقدم، الهنود أقدم بهذا.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ} أَيْ وَإِذْ تُقْرَأُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ آيَاتُنَا الْمُنَزَّلَةُ فِي جَوَازِ الْبَعْثِ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ دَفْعٌ، {مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا} حُجَّتَهُمْ" خَبَرُ كَانَ، وَالِاسْمُ {إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا}."

يعني مثل {ليس البر أن تولوا} يكون الخبر هو المقدم فنصبه ظاهر، والمبتدأ اسم هو المؤول المصدر المؤول.

 "{ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا} الْمَوْتَى نَسْأَلُهُمْ عَنْ صِدْقِ مَا تَقُولُونَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ} يَعْنِي بَعْدَ كَوْنِكُمْ نُطَفًا أَمْوَاتًا {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} كَمَا أَحْيَاكُمْ فِي الدُّنْيَا {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أَنَّ اللَّهَ يُعِيدُهُمْ".

نعم على ما تقدم، وهما موتتان وحياتان نطفة ميتة ثم يُحيا بنفخ الروح، ثم يموت بمفارقة الروح البدن، ثم يُحيا للبعث { ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين}.

" كَمَا بَدَأَهُمْ. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ:" فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ سَمَّى قَوْلَهُمْ حُجَّةً، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُمْ أَدْلَوْا بِهِ كَمَا يُدْلِي الْمُحْتَجُّ بِحُجَّتِهِ."

يعني على حد زعمهم أنه حجة، وتسمى حجة، يعني مثل ما يقال: الحديث الموضوع المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقال الحديث يعني على حد زعم واضعه يسمى حديثًا على حد زعم واضعه، وهذه تسمى حجة على حد زعم المحتج بها.

" كَمَا يُدْلِي الْمُحْتَجُّ بِحُجَّتِهِ وَسَاقُوهُ مَسَاقَهَا فَسُمِّيَتْ حُجَّةٌ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ. أَوْ لِأَنَّهُ فِي حُسْبَانِهِمْ وَتَقْدِيرِهِمْ حُجَّةٌ. أَوْ لِأَنَّهُ فِي أُسْلُوبِ قَوْلِهِ: تَحِيَّةٌ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ".

كيف تكون تحية والمراد بها الإكرام والتعظيم؟ وتكون بضرب وجيع؟ هذا تهكم هذا.

"كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَالْمُرَادُ نَفْيَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ الْبَتَّةَ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ وَقَعَ قَوْلُهُ: { قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ} جَوَاب { ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}؟ قُلْتُ: لَمَّا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ، وَحَسِبُوا أَنَّ مَا قَالُوهُ قَوْل مُبَكِّتٍ أُلْزِمُوا مَا هُمْ مُقِرُّونَ بِهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الَّذِي يُحْيِيهِمْ ثُمَّ يُمِيتُهُمْ، وَضَمَّ إِلَى إِلْزَامِ ذَلِكَ إِلْزَامَ مَا هُوَ وَاجِبُ الْإِقْرَارِ بِهِ إِنْ أَنْصَفُوا وَأَصْغَوْا إِلَى دَاعِي الْحَقِّ وَهُوَ جَمْعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِتْيَانِ بِآبَائِهِمْ، وكان أهون شيء عليه."

يعني إذا كان قادرًا على إماتته الحي ثم إحيائه، إذا كان قادرًا على إماتة الحي ثم إحيائه فقدرته على إحياء من مات من باب أولى؛ لأن الكل عنده سواء، الكل عنده سواء، إماتة ثم إحياء بالنسبة لهم للأحياء الذين يتحدثون يحتاجون في إحيائهم إلى إماتة قبلها، وآبائهم الذين طُلب إحياؤهم وهم أموات، فالفعل الواحد أسهل من الفعلين عندهم عند المتكلمين أسهل، فإذا قدر على ما هو عندهم أشد مما يترتب عليه إماتة ثم إحياء فقدرته على الإحياء بعد أن حصلت الإماتة من باب أولى، فيكون إتيانه بآبائهم الذين ماتوا أهون، وهو أهون عليه من الذي لم يمت بعد ثم يموت ثم يبعث ثانية مرة ثانية، مع أن الكل عليه هين، وأهل العلم يقولون: إن أفعل التفضيل هنا ليست على بابها، إن أهون بمعنى هين، الكل هين سهل عليه.

طالب: شيخ أحسن الله إليك، أصحاب الكهف إماتة أم نوم؛ لأن الله قال: {ثم بعثنهم ليتسألوا بينهم}؟

نعم.

طالب: النوم أخو الموت.

إن الذين طلبوا رؤية الباري جل وعلا- فصعقوا ماتوا، ثم بعثهم، والنائم يبعث؛ لأن النوم موت.

طالب: .......الكلام ..

نعم، خلاص يكفي، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.

"