شرح الموطأ – كتاب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (3)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وقفنا على حديث: ((بينما رجل يمشي)) هذا وقفنا عليه، وقرأت إلى إيش؟

طالب: قرأنا إلى حديث عبد الله بن أبي بكر: ((قاتل الله اليهود)).

إلى هذا، طيب.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

وحدثني عن مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش))

أقول: الكتاب إذا طال به الأمد لا شك أنه يمل، وهذا على مستوى التعليم، وعلى مستوى التأليف، تجد المعلم في أول الكتاب يبسط، وهمة ونشاط، ثم بعد ذلك يفتر، ثم يقتصر على التنبيه على ما لا بد منه، وهذا شيء ملاحظ.

المؤلفات أيضاً تجد المؤلف ينشط في أول الكتاب، ويبسط ويشرق ويغرب، ثم بعد ذلك يقتصر على الشيء اليسير، ويكون أقرب ما يكون إلى التعليقات اليسيرة، بينما هو شرح مبسوط، فلا شك أن الشرح في أول الكتاب يختلف عن الشرح في آخره، وهذا شيء ملاحظ يعني، وسببه الملل من قبل كثير من الطلاب، المطالبة قوية بأن ننهي الكتاب، وننجز الكتاب.

يقول:

"وحدثني عن مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش))" عطش عطشاً شديداً كاد أن يهلك منه ((فوجد بئراً فنزل)) نزل في البئر ليشرب منه، ليستقي منه، ((فنزل فيها فشرب وخرج، فإذا كلب يلهث)) والشيء بالشيء يذكر، عطشه قبل شربه ذكره بحاجة هذا الكلب الحاجة الشديدة، ولو لم يمر به هذا العطش ما أدرك مثل هذا العطش من هذا الكلب.

((فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى)) التراب الندي، يأكله من العطش؛ لأن فيه شيء من الرطوبة، "يلهث" وهذه صفة للكلب ملازمة له، {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} [(176) سورة الأعراف] هو في لهث دائم، لكنه واضح عليه العطش، وإلا قد يقول قائل: على ما استدل؟ أو بما استدل على عطشه؟ واللهث صفة ملازمة للكلب، حتى لو شرب لهث، لو حملت عليه لهث، وإن تركته لهث، لكن استدل بالقرائن، إما لبعد الماء مثلاً، أو لشدة حرارة في الجو، استدل به على أن لهثه بسبب العطش.

((يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني)) لأن الإنسان إذا جاع تذكر إخوانه الذين لا يجدون ما يشبعهم، وإذا عطش تذكر إخوانه الذين لا يجدون من يسقيهم، وهذه من حكم مشروعية الصيام، فأعظم حكم مشروعية الصيام تحقيق التقوى، ثم العطف على إخوانه الذين لا يجدون ما يأكلون في رمضان، ولا في غير رمضان، وفي هذا تذكير، وهذا ملحوظ أيضاً في هذا الحديث، ولذا قال: ((لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه)) ولو قدر أن إنساناً ممن أنعم الله عليه ولم يخرج، ولم يجتمع بالناس، ولا يرى حاجات الناس يتحسس حاجات الناس لظن أن الناس كلهم في مثل ما هو فيه، وهذه الطبقة الذين لا يدرون عن حاجات الناس لا شك أنهم إذا صاروا حول الولاة فإن ضررهم بالغ على فقراء الناس؛ لذا كانوا يقولون لولي الأمر الذي شغل بأعماله: الناس كلهم ما شاء الله بخير، ولا تجد فقير؛ لأنه قد يسمع من يقول: إنه لا يوجد فقير، ولا يوجد جاهل، سببه عدم مخالطة الناس، وعدم معرفة أحوال الناس، وإلا فالفقر موجود، والجهل موجود، بعضهم يقول لبعض الولاة: إن الناس ما عندهم مخالفات، وما عندهم..، وتسمع مثل هذه الكلمات، ولا شك أن مثل هذا غش لولي الأمر، غش له، هو فيما يقابل النصيحة الواجبة، ومعارض لها، نسأل الله العافية، فالذي يعرف أحوال الناس، ويخالط الناس لا شك أن مجالسته لمن بيده القرار خير، هذا إذا اقترن ذلك بالنية الصالحة.

فهذا الكلب بلغ به من العطش مثلما بلغ بالرجل، فتذكر حاله قبل النزول في البئر ((فنزل البئر فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه)) لماذا؟ لأنه يحتاج إلى يديه ورجليه في الصعود، لا يستطيع أن يصعد وهو في جوف البئر بيد واحدة، لكنه أمسك الخف بفيه حتى رقي، صعد وزناً ومعنى، فسقى الكلب، وفي بعض الروايات: أن القصة لامرأة بغي، قال: ((فشكر الله له، فغفر له)) شكر الله له صنيعه فغفر له هذا العمل يسير، لكنه عند الله عظيم، الذي أزال الغصن من طريق المسلمين غفر له، فقد يوفق الإنسان لعمل لا يكلفه شيئاً يذكر، ومع ذلك يكون الثواب المرتب عليه عظيم.

"((فشكر الله له، فغفر له)) فقالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجراً؟" لما سلط بنو آدم على هذه البهائم وخلقت من أجل نفعهم، وملكوا أمرها، وصار لهم من السلطة عليها إلى حد أن لهم أن يقتلوها، ويأكلوا لحمها، ظنوا أن ما فيها أجر ما دام هذه البهيمة المحترمة يصل الحد إلى أمر أن تقتل، ويؤكل لحمها، فكيف بغير المحترمة مثل هذا الكلب؟! ظنوا أن ما فيها أجر، وقوله: "وإن لنا في البهائم لأجراً؟" يشمل المحترم وغير المحترم، فإذا كان المحترم لبني آدم أن يقتلوه، وأي شيء أعظم من القتل؟! وأن يطبخوه ويشووه في النار، ويأكلوا لحمه، فهل في إطعامه أجر وإلا ما في إطعامه أجر؟ يعني قد يتصور الإنسان أن الإنسان ما دام سلط عليها إلى هذا الحد أنها لا قيمة لها، وإذا كان لا قيمة لها فكونها تموت عطشاً، أو تموت بسكين ما في فرق.

"وإن لنا في البهائم لأجراً؟ فقال: ((في كل ذي كبد رطبة أجر))" البهيمة وهي تقاد إلى المذبح، وهي تقاد إلى الذبح يعرض عليها الماء وفيه أجر، قال: ((في كل ذي كبد رطبة أجر)) وهذا من عناية الإسلام بالحيوان، والحيوان له حقوق، جاءت به الشريعة، والأحاديث والنصوص في ذلك كثيرة، وإذا كانت هذه عنايته بالحيوان فكيف بعنايته بالإنسان، وإذا كان الكفار يطنطنون بمثل هذه الأمور حقوق الحيوان، حقوق الإنسان، فإن الإسلام قد سبقهم بأربعة عشر قرناً، هذا ديننا، فمع الأسف الشديد أن أولئك الذين يطنطنون بحقوق الحيوان، الإنسان عندهم أقل شأناً من الحيوان، وإن قالوا: حقوق الإنسان، حقوق الإنسان، وإن قالوا ذلك، بدليل أن الدماء تجري أنهار على وجه الأرض من الناس، والحيوان حقوقها محفوظة، والذي يسيء إليها يعاقب، ومع ذلك ألوف مؤلفة تقتل لا سيما من الدم الرخيص دماء المسلمين، فأين حقوق الإنسان فضلاً عن حقوق الحيوان؟! وشأن القتل في الإسلام عظيم، ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة)) فكيف بمن يقتل مسلماً؟! و((لا يزال المسلم في فسحة من دينه حتى يصيب دماً حراماً)) وقرن القتل بالشرك، وحكم على القاتل عمداً بالخلود في النار في آية النساء، وإن كان الكلام لأهل العلم في المسألة معروف، أنه لا يكفر بمجرد القتل، لكن شأن القتل عظيم، فأين هؤلاء الذين ينادون بحقوق الحيوان من حقوق الإنسان؟! وإذا كان دم المسلم في شريعة الإسلام أعظم الدماء فعلى أقل الأحوال أن يطالبوا بالعدل، لكن هذا من غفلتنا، كيف نطالب عدواً لنا، تمكن منا بالعدل، ولا نرجع لمعاتبة أنفسنا، وتصحيح أوضاعنا؟!! الذي به نستطيع أن نكف يد المعتدي علينا، ولا سلط علينا العدو إلا بسبب ذنوبنا، وكان الولاة إذا أرسلوا الجيوش من وصاياهم أن يقولوا: لا تكونوا عوناً للأعداء على أنفسكم، كيف يكون الإنسان عون للعدو على نفسه؟ بالمعصية يكون عوناً لعدوه على نفسه.

"فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((في كل ذات كبد رطبة أجر))" رطبة، الحي لا شك أن فيه رطوبة، فما دامت روحه في جسده فهو رطب، أو يقال: إن الرطوبة هذه باعتبار ما سيكون إذا سقي، فتكون كبده رطبة.

قال: "وحدثني عن مالك عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله أنه قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثاً قبل الساحل" قبل يعني جهة الساحل، ساحل البحر "فأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح" عامر بن الجراح، أحد العشرة المبشرين بالجنة، قال: "وهم ثلاثمائة" عدد هذا الجيش، عدد هذا البعث ثلاثمائة قال: "وأنا فيهم" جابر يقول: وأنا فيهم، قال: "فخرجنا" يعني يروي القصة من داخل الحدث، يعني ما يرويها بواسطة مخبرين، أو بواسطة وكالات أنباء يحتمل الصدق والكذب، هذا من مشاهداته "وأنا فيهم، قال: فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد" ثلاثمائة فني زادهم، ما الذي يكفيهم؟! فني الزاد "فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كله" جمع ما معهم، فقوله: فني الزاد فأمر بأزواد، كيف فني ثم يأمر بالأزواد وقد فني؟

طالب:......

إما أن يقال: قارب الفناء، أو يقال: إنه فني من بعضهم أو أكثرهم، وبقي مع بعضهم "فجمع ذلك كله فكان مزودي تمر"، أو كان في مزودي تمر، يعني البالغ، المجموع الذي جمع من الجيش كله مزودي تمر، المزودة أظن تعرفونها، مزودي تثنية مزودة، والمزودة هي التي يوضع فيها المتاع، وما زال العرب يسمونها مزودة، صح وإلا لا؟ أو ما تدرون؟ الحضر ما يدرون، ويسمونها مزودة؟ إيه.

"مزودي تمر، قال: فكان يقوتناه"

المزودة تمر هذا الذي كان في السابق أكل التمر كثير يعني الإنسان في جلسة يأكل الكيلو والكيلوين من دون تردد؛ لقلة الطعام، يعني إلى عهد قريب قبل أن تبسط الدنيا، والناس يأكلون بكثرة، فكيف وقد فني زادهم وعددهم ثلاثمائة كيف يكفيهم مزودتي التمر؟

"قال: فكان يقوتناه كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني" انتهى، ما في شيء، والذي عاش في هذه الأيام، وفي هذه الظروف قد لا يتصور مثل هذا الأمر، المزودة، مزودة الطعام التي يوضع فيها الطعام فيها عروتان، العرى أحياناً تربط على شيء إما على حصاة، أو على شيء على شان يصير فيها إمكانية للحمل؛ لأنه ما تجعل حبل بس على شان ما يمكن تحمل بهذه الطريقة، لكن يوضع لها بمقدار الكف شيء من أجل أن يسهل حملها فيه، هذا الشيء أحياناً يوضع فيه حصاة، وأحياناً يوضع فيه تمر، يرجع إليه عند الضرورة، وقد ينسى، ثم يأتي عليه السنة أو أكثر، وطريقة الحفظ ليست بعد مناسبة في هذه المزودة، ويحدثنا من فعل هذا أنهم قد يرجعون إليه بعد سنين، هذا يجعل لوقت الضرورة القصوى، إذا ما بقي إلا الموت، فالناس يعيشون في نعم، يعني إذا تذكروا أو سمعوا عن العهد القريب قبل خمسين أو ستين سنة شيء لا يخطر على البال من الجوع، وهذه النعم التي فتحت على هذه البلاد كانت البلدان المجاورة قد سبقت إليها، يعني في مصر والشام نعم، كان الآباء والأجداد يهاجرون، في العراق أيضاً نعم، ثم بعد ذلك {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [(30) سورة الشورى] ما شكرت هذه النعم، والنعم إنما تدوم وتزداد بالشكر، ثم فتحت الدنيا على هذه البلاد وما جاورها، وضيق على بلاد أخرى كانت تتخبط في مال الله، ونعم الله، ضيق عليهم، فصار العكس، صاروا هم يأتون، والأيام دول، الأيام دول قد يأتي العامل إلى هذه البلاد جاءت به الحاجة، ويساء التعامل معه، ولا يدري هذا المسيء أنه في يوم من الأيام يذهب إلى العمل في بيت هذا العامل، وحصل هذا، عملوا في مصر وفي الشام، وفي العراق وفي الهند أيضاً، ثم جاءوا بعمال من هذه البلاد، وأساءوا إليهم، والجزاء من جنس العمل، قد تدور بك الأيام، ثم يساء إليك، والقصص والحوادث كثيرة، لكن علينا أن نتقي الله -جل وعلا- فيما ولانا ممن جعلهم تحت أيدينا من النساء والذراري والعمال والخدم وما أشبه ذلك.

"فكان يقوتنا كل يوم قليلاً قليلاً -يعطيهم على تمرة- حتى فني ولم تصبنا إلا تمرة تمرة" طيب تمرة ويش تسوي؟ تمرة واحدة ماذا تصنع؟ "فقلت: وما تغني تمرة؟!" هل تسد جوع؟ لا "فقال: لقد وجدنا فقدها".

طالب:......

إيه نعم إيه، يسأل جابر، وهب بن كيسان يسأل جابر "فقلت: وما تغني تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت، قال: ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظرب –الجبل- فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة" ثلاثمائة في ثمانية عشرة، يعني كم؟ ستمائة وجبة، ستمائة وجبة، وإذا قلنا: في اليوم وجبتين كم؟ حوت واحد، نعم؟

طالب: ألف ومائتين.

ألف ومائتين "فأكل منه ذلك الجيش ثمانية عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا" يعني صار مثل الدرواز كالقوس "ثم أمر براحلة فرحلت، ثم مرت تحتها ولم تصبها" الذين سافروا إلى الساحل الغربي في البدع وجهته، إحنا رأينا مزرعة بوابتها سقفها حوت، لكن هذا أشد، ما في نسبة بينها وبين هذا، يعني يمكن طول هذا.

"ثم مرت تحتها ولم تصبها".

"قال مالك: الظَرب الجبيل" الجبيل: يعني الجبل الصغير.

ثم بعد هذا قال -رحمه الله-...

يعني ما استنبط من الحديث أمور كثيرة فيه أحكام، وآداب وعبر، لكن الوقت لا يستوعب لبسط هذه المسائل، فالبخاري ترجم عليه باب الشركة في الطعام والنهد والعروض، الشركة في الطعام والنهد، الطعام الموجود الذي معهم، مما ملكوه كما هنا، والنهد يسمونه الآن القطة، يؤخذ من كل شخص مبلغ معين، ثم بعد ذلك يشترى به ما يكفي الجميع، ومثل هذا يتسامح فيه، يعني إذا فرض على كل شخص مائة ريال، واشتري بها، أو أنفق على هذه الحملة إلى الرجوع، ما يقال: والله فلان يأكل أكثر من فلان، هذا عليه مائة وخمسين، وهذا عليه سبعين، وهذا عليه ثمانين، وهذا عليه عشرين ما يأكل، يتسامح في مثل هذا، فأيضاً النووي ترجم على الحديث: باب إباحة ميتة البحر، وهذا فيه حديث أبي هريرة ((هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)).

طالب:......

وين؟

طالب:......

لا، لا، إيش الفرق بينهما؟

طالب:......

ويش فيه؟

طالب:......

البوفية المفتوحة إحنا قلنا: القطة هذه أو النهد يؤخذ من كل شخص مائة ريال، والبوفية المفتوح لا سيما مع هذا التنافس الموجود في المطاعم يقال: كل حتى تشبع بعشرين ريال، فالنظر في مثل هذا إلى عقود ما هو بعقد واحد، كل شخص له عقده، تأكل بعشرين قد تأكل بمائة، وقد لا تأكل إلا بعشرة، هذا الغرر ظاهر، لكن في النهد أولاً: مسألة الحاجة الداعية إلى هذا معروفة، بخلاف البوفية المفتوح، الحاجة الداعية إلى هذا بأن يوجد من يتولى هذا الأمر، ولا يترتب عليه الضرر المترتب على البوفية المفتوح؛ لأن الداخل إلى هذه البوفية معروف أنه جاء للتحدي، ما جاء ليأكل أكل حاجة، ومسألة النهد ما يمكن أن يأكل الإنسان تحدي، إذا أكل تحدي وقف عند حده، إذا عرف أنه يأكل أكثر من حاجته يوقف عند حده، بينما البوفية المفتوح جاء من أجل هذا.

طالب:......

إيه.

طالب:......

لا، لا اللي رايح هناك هم يقولون له: كل حتى تشبع؟ لا، لا بنفسية...

طالب:......

المقصود أنه إذا دخله مثل هذه النوعية، ولا داعي إلى ذلك، يعني ما في داعي، يعني بينما الجيش كله ينزل إلى البلد وكل يتقضى لنفسه؟! هذا فيه مشقة عليه.

قال: "وحدثني عن مالك عن زيد بن أسلم عن عمرو بن سعد بن معاذ عن جدته أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يا نساء المؤمنات لا تحقرن إحداكن لجارتها، ولو كراع شاة محْرقاً))" أو محَرّقاً، جاء في الرواية الأخرى: ((ولو فرسن شاة)) فرسن شاة هو الكراع، والكراع المحرق، يعني ما الذي في ظلف الشاة؟ وإذا أحرق ويش يبقى منه؟ كل هذا من باب الحث على الصلة، ولو بالشيء اليسير، ولا شك أن وجود مثل هذه الصلة في المجتمع المسلم يزرع فيه المودة والرحمة والشفقة، ولو كان شيئاً يسير؛ لأن كثيراً من الناس يبقى عنده شيء من الطعام، يقول: هذا ما يسوى من..، ما ينمد هذا، أو ما يقولون مثل هذا؟ وما يدريك أن جارك بحاجة إلى أقل من هذا، ما تدري، فأعرض.

((لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)) وهنا: ((لا تحقرن إحداكن لجارتها لو كراع شاة محرقاً)) الكراع وهو الظلف ليس فيه شيء، وإنما هذا فيه المبالغة في الصلة، ولو كانت بشيء يسير، وفي حديث التخلف عن صلاة العشاء قال: "ولو أن أحدهم علم بعظم"...

طالب:......

لا، بعرق سمين، ((لو أن أحدهم يجد عرقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء)) عرقاً سميناً العرق: هو العظم إذا كان عليه لحم، قالوا: المرماتين الحسنتين ما بين ظلفي الشاة، كيف يوصف هذا بالحسن؟ لأن بعضهم يقول: إن ما بين ظلفي محرف أو مصحف عن ضلعي الشاة، لا شك أن بين ضلعي الشاة لحم حسن، لكن ما بين ظلفيها ما في لحم حسن، فقال بعضهم: إن هذا مصحف، نعم؟

طالب:......

ويردها.

طالب:......

الظروف تقدر بقدرها، يعني ما تأتي إلى بيت غني وتهدي إليه شيء يسير، هذا خطاب للمتصدق أو المهدي، أيضاً هناك خطاب من الشارع للمتصدق عليه، ((من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)) تقول له: جزاك الله خير، لكن والله إحنا لسنا بحاجته، لو أبقيناه عندنا للغد خرب، فسد، ابحث عن..، يعني بالأساليب تمشي الأمور، فكل له ما يخصه من خطاب الشرع، أما بهذه الطريقة أن تعمد إلى أسوأ ما عندك وتعطيه جارك الغني، والغني بعد يرد عليك بمثل هذا أو أشد، هذا كله من فساد القلوب يعني، سبب فساد القلوب.

طالب:......

على كل حال الظروف والأحوال تقدر بقدرها، تصور أنه بعد وليمة بقي شيء يسير من الطعام فذُهب به إلى مبرة من المبرات ليودع في ثلاجتهم ليوزع على الفقراء، يقول الذي ذهب به: فوجئت أن عندهم طابور الساعة ثنتين من الليل، ينتظرون ما يأتي، قال: حطه الآن نأكله، ما يحتاج ثلاجات، فالغفلة عن مثل هذه الأمور يجعلنا نتصور مثل هذا التصور، لا شك أن مثل هذه الأمور لها من يستقبلها.

قال -رحمه الله-:

"وحدثني عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((قاتل الله اليهود))" يعني لعنهم كما جاء في بعض الروايات: لعنهم، ولذا بعض الشراح فسر الحديث: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه)) ثم قال: ((فليقاتله)) يعني إن أبى، فقال هذا الشارح: بالسب والشتم؛ لأن قاتل تأتي بمعنى لعن، بالسب والشتم، هذا الكلام ليس بصحيح، يعني إذا جاءت في موضع لا يعني أنها تأتي في كثير من المواضع، ولذا غريب الحديث فرع من فروع اللغة، ومع ذلك من أهم أنواع علوم الحديث، لا ينوء به إلا من جمع الله له بين اللغة والحديث؛ لأن الذي ليس لديه علم بالحديث وإن كان لغوياً بيأتي إلى كتب اللغة ويفسر اللفظ بما وقف عليه من كتب اللغة بما لا يوافق السياق أحياناً مثل هذا اللي فسر "فليقاتله" باللعن والسب، وهو يصلي يلعنه ويسبه أعوذ بالله، والذي عنده معرفة بالحديث وليست لديه خبرة باللغة قد لا يستطيع الوقوف على المعنى المراد، ولا يستطيع التمييز بين الألفاظ الموجودة في كتب اللغة، وموائمتها لكلامه -عليه الصلاة والسلام-، ولا يستطيع أن يميز الراجح من المرجوح من الألفاظ مما له أصل، ومما لا أصل له، لا سيما وأن كثيراً من كتب اللغة تأثرت بالمذاهب، سواءً كانت الفرعية أو الأصلية، مؤلفات المتأخرين باللغة متأثرة بالمذاهب بلا شك، فإذا كان مؤلف هذا الكتاب شافعي تأثر بمذهب الشافعي، إذا كان حنفي تأثر...، قد يقول قائل: إيش دخل المذاهب بالمفردات؟ لها دخل كبير؛ لأن الحقائق قد تشترك فيها اللغوية مع الشرعية، فنحتاج إلى تمييز بين هذه الحقائق، فلا شك أن الذي يفسر الحديث ويتصدى لشرحه لا بد أن يكون قد جمع بين الحديث واللغة.

((قاتل الله اليهود)) واليهود أهل حيل ((نهوا عن أكل الشحم فباعوه فأكلوا ثمنه)) الرواية المفسرة: ((جملوه)) يعني أذابوه، فباعوه فأكلوه، قالوا: ما أكلنا شحم، يقولون: ما أكلنا شحم، لكن الشحم غيروه بالإذابة، ثم بعد ذلك باعوا هذا الشحم المذاب الجميل فأكلوا ثمنه، يعني تحايلوا على ارتكاب المحرم، والحيلة من أجل ارتكاب المحرم أو ترك الواجب حرام؛ لأنه وسيلة إلى غاية محرمة، والحيلة إلى الخلاص أو التخلص من محرم، أو لفعل واجب مطلوبة، واليهود أهل حيل، وقصة السبت معروفة، وجاء النهي عن مشابهتهم.

((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل)) هؤلاء أذابوا هذا الشحم وغيروه عن مسماه، ثم بعد ذلك باعوه بأقل ثمن، وكل هذا تحايل، ارتكاب للمحرم مع الحيلة، وهي شر من ارتكاب المحرم المجرد، لكن لو تحايلوا إلى ما يخرج الشيء المحرم عن حقيقته إلى شيء مباح، أو إلى شيء مختلف فيه، ويش معنى هذا؟ عندك ماء نجس عالجته على قول من يقول بالاستحالة حتى طهر، أو أضفت إليه ما يطهره ثم بعته، هذه حيلة، لكن هل نقول: إن هذا حرام؟ الغاية مباحة، فلا تكن الحيلة محرمة.

مختلف فيه: عندك خمر تخلل بنفسه مباح ما في إشكال، لكن إذا خللته حرم عليك، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فخللته فبعته، هل نقول: إنك ارتكبت ما ارتكبت اليهود؟ في مشابهة في التحيل، لكن الغاية تختلف، هذا خل طاهر ما في إشكال، إنما النهي عن التخليل، فهذه أيضاً تختلف، والحكم فيها يختلف ليس متفق عليه مثلما عندنا، وإن كان التخليل حرام، لكنه عمد إلى هذا التخليل فخلله فباعه خلاً، يستفاد منه، يعني حقيقة الخل تختلف بينما إذا تخلل بنفسه، أو خلله مخلل، الحقيقة ما تختلف، فليست الأمور مستوية على حد واحد.

بعضهم يجعل من مثل هذه الحيل مسألة التورق، يقول: إنها حيلة إلى المحرم، الأصل أنت تحتاج إلى دراهم ما تحتاج إلى سلعة، تحتاج دراهم إلى أجل فلا بد أن يزاد عليك في القيمة، تحتاج إلى عشرة آلاف ما يمكن أن تأخذها إلا بإحدى عشر ألف مثلاً، وهذا عين الربا، والمسلم ما يصنع مثل هذا، هذا الأصل فيه والمفترض فيه، فيعمد إلى أن يكون بينهما سلعة تشترى باثني عشر ألف، أو بإحدى عشر ألف، وتباع بعشرة آلاف من أهل العلم من يرى أنها حيلة، هذا عمر بن عبد العزيز يصرح بهذا، وشيخ الإسلام أيضاً، قبلهم ابن عباس، وشيخ الإسلام ابن تيمية يصرح بهذا، وبعض المعاصرين يقول: إن الربا الصريح عشرة آلاف بإحدى عشر ألف أسهل دراهم بدراهم أسهل من التورق، لكن هل يمكن أن يقال بمثل هذا وعامة أهل العلم على جوازه؟ يعني هل يمكن أن يقال لزيد من الناس بدلاً من التورق اذهب إلى البنك وأنت محتاج ومضطر وخذ منهم عشرة آلاف بإحدى عشر ألف؟ مع أن مسألة التورق مباحة عند عامة أهل العلم، المذاهب الأربعة كلهم يجيزونها.

طالب:......

لا، هذه ليست مثلها، وليست من الحيل التحايل المحرم، بل اشتريت سلعة فبعتها واستفدت من ثمنها، وهذا قول عامة أهل العلم، نعم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

قال الإمام مالك -رحمه الله- في تتمة:

باب جامع ما جاء في الطعام والشراب:

وحدثني عن مالك أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: يا بني إسرائيل عليكم بالماء القراح، والبقل البري، وخبز الشعير، وإياكم وخبز البر فإنكم لن تقوموا بشكره.

وحدثني عن مالك أنه بلغه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد فوجد فيه أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- فسألهما فقالا: أخرجنا الجوع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((وأنا أخرجني الجوع)) فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري، فأمر لهم بشعير عنده يعمل، وقام يذبح لهم شاة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((نكب عن ذات الدر)) فذبح لهم شاة واستعذب لهم ماء، فعلق في نخلة، ثم أتوا بذلك الطعام فأكلوا منه، وشربوا من ذلك الماء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لتسألن عن نعيم هذا اليوم)).

وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يأكل خبزاً بسمن، فدعا رجلاً من أهل البادية فجعل يأكل ويتبع باللقمة وَضَرّ بالصحفة...

وَضَرَ الصحفة.

نعم؟

وَضَرَ الصحفة.

ويتبع باللقمة وضر الصحفة، فقال عمر -رضي الله عنه-: كأنك مقفر فقال: والله ما أكلت سمناً، ولا رأيت أكلاً به منذ كذا وكذا، فقال عمر: لا آكل السمن حتى يحيا الناس من أول ما يحيون".

وحدثني عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: "رأيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو يومئذٍ أمير المؤمنين يطرح له صاع من تمر فيأكله حتى يأكل حشفها".

وحدثني عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: سئل عمر -رضي الله عنه- عن الجراد فقال: "وددت أن عندي قفعة نأكل منه".

وحدثني عن مالك عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن حميد بن مالك بن خثيم أنه قال: كنت جالساً مع أبي هريرة -رضي الله عنه- بأرضه بالعقيق فأتاه قوم من أهل المدينة على دواب، فنزلوا عنده، قال: حميد فقال أبو هريرة: "اذهب إلى أمي فقل: إن ابنك يقرئك السلام، ويقول: أطعمينا شيئاً، قال: فوضعت ثلاثة أقراص في صحفة، وشيئاً من زيت وملح، ثم وضعتها على رأسي، وحملتها إليهم، فلما وضعتها بين أيديهم كبر أبو هريرة، وقال: الحمد لله الذي أشبعنا من الخبز بعد أن لم يكن طعامنا إلا الأسودين الماء والتمر، فلم يصب القوم من الطعام شيئاً، فلما انصرفوا قال: يا ابن أخي أحسن إلى غنمك، وامسح الرعام عنها، وأطب مراحها، وصل في ناحيتها فإنها من دواب الجنة، والذي نفسي بيده ليوشك أن يأتي على الناس زمان تكون الثلة من الغنم أحب إلى صاحبها من دار مروان".

وحدثني عن مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان قال: أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بطعام ومعه ربيبه عمر بن أبي سلمة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((سم الله، وكل مما يليك)).

وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: "جاء رجل إلى عبد الله بن عباس، فقال له: إن لي يتيماً وله إبل، أفأشرب من لبن إبله؟ فقال له ابن عباس: إن كنت تبغي ضالة إبله وتهنأ جُرباها

جَرباها.

وتهنأ جَرباها، وتلط حوضها، وتسقيها يوم وردها، فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب".

وحدثني عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه: "أنه كان لا يؤتى أبداً بطعام ولا شراب حتى الدواء فيطعمه أو يشربه إلا قال: الحمد لله الذي هدانا وأطعمنا وسقانا، ونعمنا الله أكبر، اللهم ألفتنا نعمتك بكل شر فأصبحنا منها وأمسينا بكل خير، فنسألك تمامها وشكرها، لا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، إلهُ الصالحين، وربُ العالمين.

إلهَ، إلهَ.

ولا إلهُ غيرك

إلهَ الصالحين.

إلهَ الصالحين، وربُ العالمين

ربَ.

وربَ العالمين، الحمد لله، ولا إله إلا الله، ما شاء الله، ولا قوة إلا بالله، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وقنا عذاب النار".

قال يحيى: سئل مالك هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم منها أو مع غلامها؟ فقال مالك: ليس بذلك بأس إذا كان ذلك على وجه ما يعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال.

قال: وقد تأكل المرأة مع زوجها، ومع غيره ممن يؤاكله، أو مع أخيها على مثل ذلك، ويكره للمرأة أن تخلو مع الرجل ليس بينه وبينها حرمة.

نعم يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"وحدثني عن مالك أنه بلغه أن عيسى بن مريم" وهذا من الإسرائيليات "كان يقول: يا بني إسرائيل عليكم بالماء القراح" القراح الخالص الذي ليس فيه كدر، وليس فيه ملوحة ولا شوائب "والبقل البري" الذي لا يكلفكم زراعة ولا حصد ولا مئونة، يعني تخففوا من هذه الدنيا "وخبز الشعير" الذي يباع بأرخص الأثمان، ولا تتكلفوا في طعامكم "وإياكم وخبز البر" هذا غالي، المسألة مسألة ممر، ومعبر إلى الدار الآخرة "وإياكم وخبز البر، فإنكم لن تقوموا بشكره" هذا من الإسرائيليات التي تذكر عن عيسى -عليه السلام-، وعلى كل حال هذا فيه لفت إلى أن الإنسان عليه أن يقتصد في أموره كلها، ولا يلزم أن يترك خبز البر؛ لأنه لا يقوم بشكره، عليه أن يأكل، لكن عليه أن يشكر، يأكل الحلال ويقوم بشكره، والله المستعان.

قال: "وحدثني عن مالك أنه بلغه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد فوجد فيه أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب فسألهما فقالا: أخرجنا الجوع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((وأنا أخرجني الجوع))" كان -عليه الصلاة والسلام- في عيشه شيء من الشدة، تمر به الأيام بل الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين لا يوقد في بيته نار -عليه الصلاة والسلام-، وإنما هما الأسودان الماء والتمر.

"((وأنا أخرجني الجوع)) فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري" ليجدوا عنده شيئاً يأكلونه "فأمر لهم بشعير عنده يُعمل" أشرف الخلق، وأكرم على الله يقدم له شعير، وهذا يدل على حقارة الدنيا، وأنها ليست بشيء، وأنها لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن الذي يضيق عليه في أمور الدنيا أنه ليس بدلالة على أن الله لا يحبه؛ لأن الدنيا يعطيها من يحب ومن لا يحب، بخلاف الدين، فالعبرة بالتقوى.

يقول: "فأمر لهم بشعير عنده يعمل، وقام يذبح لهم شاة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((نكب عن ذات الدر))" يعني ابتعد واجتنب عن ذات الدر ذات الحليب، يعني: لا تذبحها "فذبح لهم شاة، واستعذب لهم ماء" يعني طلب لهم ماءاً عذباً "فعلق في نخلة، ثم أتوا بذلك الطعام" الشعير والشاه "أتوا بذلك الطعام فأكلوا منه، وشربوا من ذلك الماء" بعد الجوع يأكلون من لحم هذه الشاة، ويشربون من هذا الماء البارد، وخبز الشعير مع أن الناس يتفقون على ذمه، الشعير عموماً يؤكل عند الحاجة، حتى يقول القائل: إنه الطعام المأكول المذموم، ويقدم لأشرف الخلق، والله المستعان.

"وشربوا من ذلك الماء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لتسألن عن نعيم هذا اليوم))" والحديث في الصحيح، إشارة إلى ما في سورة التكاثر {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [(8) سورة التكاثر] وإن كان بعض المفسرين يقول: إنها في الكفار الذين لا يستعملون هذا النعيم فيما يرضي الله -جل وعلا-، لكن السؤال عام؛ لأن من المسلمين من لا يشكر، ومنهم من يقصر في الشكر، فماذا عنه -عليه الصلاة والسلام-، وهذا السؤال أشرف الخلق يأكلون من خبز الشعير، ويشربون الماء، ويأكلون من لحم الشاة ثم يقول: ((لتسألن))؟ واللام واقعة في جواب قسم مقدر، والله لتسألن عن نعيم هذا اليوم.

ولا شك أن السؤال شامل، فمما يسأل عنه العظائم، ومما يسأل عنه ما دونها من الذنوب، ويسأل عن الصغائر، وقد يسأل عن خلاف الأولى، لا سيما إذا كان بهذه المنزلة؛ لأن هؤلاء النفر الرسول -عليه الصلاة والسلام- ومن معه أعرف الخلق بالله -جل وعلا-، فكونهم يشبعون هذا لا شك أنه بالنسبة لهم خلاف الأولى.

قال: "وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب كان يأكل خبزاً بسمن، فدعا رجلاً من أهل البادية، فجعل يأكل ويتبع باللقمة وضر الصحفة" وضر الصحفة يعني الذي يتعلق به شيء من الدسم، من السمن، يعني مثلما يبقى في الإناء شيء يسير من الإدام يتتبعه الآكل بما معه من خبز ونحوه.

"فقال عمر: كأنك مقفر" مقفر مجدب يابس بخلاف المخصب "كأنك مقفر، فقال: والله ما أكلت سمناً، ولا رأيت أكلاً به منذ كذا وكذا" ما رأى، فهو حينئذٍ معذور وإلا غير معذور؟ نعم معذور "فقال عمر: لا آكل السمن" يعني عمر يأكل سمن وخبز، أمير المؤمنين "ثم قال: لا آكل السمن حتى يحيا الناس" يعني يصيبهم الحيا، وهو الخصب، تصيبهم الحيا الخصب، ويشترك الناس في المأكول من السمن ونحوه فيأكل عمر، أما يأكل عمر دون رعيته فلا "حتى يحيا الناس من أول ما يحيون".

"وحدثني عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أنه قال: "رأيت عمر بن الخطاب وهو يومئذ أمير المؤمنين يطرح له صاع من تمر فيأكله حتى يأكل حشفها" يعني كونه يأكل هذا التمر بما فيه من جيد ورديء ورطب ويابس يدل على أنه متنعم؟ لا والله، عمر لم يتنعم، وهو أمير المؤمنين، ويحاسب نفسه عن رعيته الذي فيهم من يأكل وفيهم من لا يأكل، فأكله لهذا التمر كله بما فيه من الحشف يدل على أنه لا يأكل ولا يشبع، ولا يتنعم.

"وحدثني عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه قال: سئل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن الجراد" إيش رأيك بالجراد؟ لما جاء الجراد قبل خمس سنوات قال الناس: هذه حشرات، وفزعوا منها، فزعوا منها وقالوا: هذه حشرات، ما السبب؟ نعم أنهم ما احتاجوا إليها، ولا اضطروا إليها، مع أنها مباحة يعني، ((أحلت لنا ميتتان ودمان... السمك والجراد... الكبد والطحال)) فهي مباحة، فلما جيء بها إلى الناس، والآن يحذر منها، يقول: الجراد ضار، نعم إذا رش بالسموم، واختلط به يكون ضار؛ لأن السم ضار، أما الجراد فليس بضار، لكن الناس يسمونه الآن حشرات، وينتقد بعضهم بعضاً، وإذا قدم تقززت النفوس، والسبب في هذا أن الدنيا فتحت على الناس، وكان الناس إلى عهد قريب يخرجون للبحث عنه، ويقول قائلهم: إن الجراد يرخص اللحم، لماذا؟ لأن اللحم لا يعرف إلا في المواسم في الأضحية وشبهها، فيقولون: الجراد يرخص اللحم، أما الآن فالجراد لا يعرف، ولو جيء به لم يؤكل، والله المستعان.

"سئل عمر -رضي الله تعالى عنه- عن الجراد، فقال: "وددت أن عندي قفعة" يعني زنبيل، إناء، قفعة، وإيش تسمونها يا أبو عبد الله القفعة؟

طالب:......

.....لا يا أبو عبد الله لا تجحد جزاك الله خير.

طالب:......

ما تتسمى، ما تعرفه؟ ترى هذا يا أبو عبد الله إن خالف الواقع فهو.

طالب:......

لا، تعرف المحدرة إيه بس؟

طالب:......

هذا اللي أنا أبيك تقوله، المحدرة تعرفها.

"وددت أن عندي قفعة نأكل منه" يقول: وددت، يتمنى أن عنده لو جراد يأكل منه، والله المستعان، وهذا يدل الدلالة التي سبق أن ذكرناها أن الدنيا لا شيء، ولا تزن عند الله جناح بعوضة، ولا يعرف قدرها إلا أمثال هؤلاء.

قال: "وحدثني عن مالك عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن حميد بن مالك بن خثيم أنه قال: كنت جالساً مع أبي هريرة بأرضه بالعقيق" أبو هريرة الذي يوجد مغمىً عليه بين المنبر والحجر من الجوع عنده أرض بالعقيق، توسعوا، أبو هريرة عمّر بعد النبي -عليه الصلاة والسلام- بما يقرب من نصف قرن، عمر له أرض بالعقيق "فأتاه قوم من أهل المدينة على دواب فنزلوا عنده" ضيوف "قال: حميد فقال أبو هريرة: "اذهب إلى أمي فقل: إن ابنك يقرئك السلام، ويقول: أطعمينا شيئاً، قال: فوضعت ثلاثة أقراص في صحفة" الآن إذا نزل بك ضيف أية ساعة من ليل أو نهار لا تحمل له أدنى هم، يؤتى بالطعام في أقرب وقت بالتليفون المطعم الفلاني ويحضر، وانتهى الإشكال، كان الناس إذا نزل بهم الضيف في منتصف الليل احتاجوا أن يعملوا له الطعام إلى صلاة الفجر، ويسهرون الليل كله من أجل أن يجهزوا الطعام لهذا الضيف، والله المستعان.

"إن ابنك يقرئك السلام، ويقول: أطعمينا شيئاً، قال: فوضعت ثلاثة أقراص في صحفة، وشيئاً من زيت وملح" هذا الإدام زيت وملح "ثم وضعتها على رأسي وحملتها إليهم" إلى أبي هريرة وأضيافه "فلما وضعتها بين أيديهم كبر أبو هريرة" الله أكبر، يعني هذه الأقراص الثلاثة التي وجدت مع الزيت والملح كأنه فتح، كبر أبو هريرة، الذي وجد مثل هذا بعد سنين مضت، كان ما يوجد مثل هذا، أبو هريرة يوجد مغمىً عليه ما به إلا الجوع، يظنون به شيء من الصرع -رضي الله عنه وأرضاه-.

"كبر أبو هريرة، وقال: الحمد لله الذي أشبعنا من الخبز بعد أن لم يكن طعامنا إلا الأسودين الماء والتمر" شبعوا من الخبز، والآن في بيوت المسلمين الخبز يرمى في القمائم؛ لأنه يحتاج إلى معالجة، يحتاج إلى أن تقطع منه وتضعه في طعام آخر، يبون شيء أسرع، والله المستعان، وصل الأمر في بعض البلدان المجاورة التي نكبت الآن بالحروب والقلاقل، وصل بهم الحد إلى أن كانوا يمسحون الماصات، ماصات الموظفين، بل زاد الأمر عندهم إلى أن مسحوا الخفاف برقائق الخبز، ثم انظر ترى الآن لهم أكثر من حدود ثلاثين سنة وهم في حروب، نسأل الله العافية، {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [(7) سورة إبراهيم] والسنن الإلهية واحدة لا تتغير ولا تتبدل، والله المستعان.

"فلم يصب القوم من الطعام شيئاً" يعني ما كفاهم ثلاثة أقراص "فلما انصرفوا قال: يا ابن أخي أحسن إلى غنمك" يوصيه بالغنم "أحسن إلى غنمك، وامسح الرعام عنها" الرعام: المخاط، وما يخرج من فمها وأنفها، "وامسح الرعام عنها، وأطب مراحها" يعني نظف المراح لا يصير فيه قطع خشب وإلا شيء شوك أو شيء يؤثر عليها "وصل في ناحيتها، فإنها من دواب الجنة" النبي -عليه الصلاة والسلام- لما سئل: نصلي في مرابض الغنم؟ قال: ((نعم)) وسئل: نصلي في مرابض الإبل؟ فقال: ((لا)).

"فإنها من دواب الجنة، والذي نفسي بيده ليوشكن أن يأتي على الناس زمان تكون الثلة من الغنم أحب إلى صاحبها من دار مروان".

يعني في أيام الفتن لا شك أن من عنده غنم، ويذهب بها إلى شعب من الشعاب يشرب من لبنها، ويأكل من نسلها، لا شك أن هذه تكفيه وتغنيه، وأما دار مروان في أوقات الفتن ماذا تفيده؟ وماذا تنفعه؟ ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، يفر بدينه من الفتن)).

قال: "وحدثني عن مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان قال: أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بطعام ومعه ربيبه عمر بن أبي سلمة" عمر بن أبي سلمة ابن أم سلمة، ربيبه ابن زوجته -عليه الصلاة والسلام-، "فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((سم الله، وكل مما يليك))" لأنه كانت يده تطيش في الصحفة، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((سم الله)) وهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب، ((وكل مما يليك)) يعني لا تأكل من أعالي الصحفة؛ لأن البركة تنزل في أعاليها وفي وسطها، وهذا من أدب الطعام.

ثم قال: "وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: "جاء رجل إلى عبد الله بن عباس فقال له: إن لي يتيماً، وله إبل" يعني يتيم إما أخ، أو ابن عم، أو قريب، يكون وكيل عليه "وله إبل، أفأشرب من لبن إبله؟" أو قريب منه ولو لم يكن هناك وكالة "فقال له ابن عباس" الخراج بالضمان، والغنم مع الغرم، إن كنت تقدم شيء لهذا اليتيم، ولمال هذا اليتيم انتفع وإلا فلا.

"فقال ابن عباس: إن كنت تبغي ضالة إبله" إذا ضل منها شيء ذهبت لتبحث عنه فاستفد، الخراج بالضمان، "وتهنأ جرباها" يعني إذا جرب بعضها تهنأها يعني تطليها بالقطران وتعالجها إذا مرضت "وتلط حوضها" يعني الحوض الذي فيه الماء تنظفه "وتسقيها يوم وردها، فاشرب غير مضر بنسل" يعني يجوز لك أن تشرب؛ لأنك تُقدم وهذا في مقابل هذه الخدمة "فاشرب غير مضر بنسل" يعني لا تشرب اللبن كله عن ولدها، "ولا ناهك في الحلب" يعني لا تأتي على كل شيء، اشرب حاجتك، لكن لا تأتي على كل شيء بحيث أذن لك فتقول: هذه فرصة "ولا ناهك في الحلب".

قال: "وحدثني عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه: "أنه كان لا يؤتى أبداً بطعام" عروة بن الزبير "بطعام ولا شراب حتى الدواء فيطعمه أو يشربه إلا قال: الحمد لله الذي هدانا وأطعمنا وسقانا" وهذا من شكر النعمة، أن الإنسان يسمي في أول الأكل، ويحمد الله -جل وعلا- في آخره.

"إلا قال: الحمد لله الذي هدانا وأطعمنا وسقانا ونعمنا" وكثير من الناس يغفل عن هذا "الله أكبر، اللهم ألفتنا نعمتك" يعني وجدتنا نعمتك ووافتنا نعمتك بكل شر "ألفتنا نعمتك بكل شر، فأصبحنا منها وأمسينا بكل خير" يعني أنت ترزقنا يا ربنا ونحن نعصيك، يعني نزلت علينا وأتتنا هذه النعم ونحن نقارف المخالفات، ونحن على حال لا ترضيك "وأمسينا بكل خير" أمسينا بكل خير من هذه النعم "نسألك تمامها وشكرها، لا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك إله الصالحين" يعني منادى حذف حرف النداء "يا إله الصالحين، وربَ العالمين، الحمد لله، ولا إله إلا الله، ما شاء الله ولا قوة إلا بالله، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وقنا عذاب النار" هذا الشكر، وإذا توطأ القلب مع اللسان حصل المزيد.

"قال يحيى: سئل مالك هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم منها أو مع غلامها؟" يعني بوجود محرمها "فقال مالك: ليس بذلك بأس" لا سيما وأنهم ليس عندهم سرج فلا ترى، وإذا أمنت الفتنة بأن كانت امرأة كبيرة وحضرت وأكلت هذا لا مانع منه إلا إذا وجدت الفتنة، فلا يجوز حينئذٍ أن تخالط الرجال، أو تجلس مع الرجال.

"لا بأس بذلك إذا كان ذلك على وجه ما يعرف للمرأة" يعني على الهيئة الموجودة عندهم، ما هو بيطرد هذا الكلام مع الاختلاف الجذري في أحوال الناس، وعادات الناس، وألبسة الناس، وتوسع الناس، وفساد القلوب من قبل بعض الرجال، كثير من الرجال قلوبهم فيها مرض، فمثل هذا لا يوجه إليهم مثل هذا الكلام، أن تأكل معه من الرجال.

على كل حال مثل هذا الكلام هو رأي الإمام مالك بهذه القيود، وبهذه الاحتياطات، ولا يلزم الموافقة عليه أيضاً، لا سيما في زماننا الذي نعيش فيه، وفيه ما فيه من الفتن، وفيه أيضاً ما يدعو إلى إثارة الغرائز والفتن من توسع الناس رجالاً ونساءً.

قال: "وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله" يؤاكل الزوج، يعني لا بد من وجود محرم، على كل حال لا بد من وجود محرم "أو مع أخيها على مثل ذلك، ويكره للمرأة أن تخلو مع الرجل" والكراهة كراهة تحريم في عرف الإمام مالك: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)).

"ويكره للمرأة أن تخلو مع الرجل، ليس بينه وبينها حرمة" يعني ليس من محارمها، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"
هذه تسأل تقول: كيف ننصح الأخوات فالفساد –والله المستعان- انتشر حتى أنني لا أدري من أنصح؟ وكيف أنصح؟ وبما أنصح؟ هل أنصحها بلبس العباءة المحتشمة؟

أم أنصحها بترك التبرج والسفور؟ أم ننصحها بعدم الخوض مع البائع؟ لقد شق الأمر علينا، ولا ندري من ننصح، فالأمر كبير -نسأل الله العفو والعافية-؟
على كل حال على الإنسان أن ينصح، وعليه أن يأمر، وعليه أن ينهى، فمن اطلع على منكر، من رأى منكر فليغيره حسب استطاعته وقدرته بما لا يلحقه بسببه ضرر، فإن استطاع أن يغير باليد، وهذا في مقدور الولاة، ومن ولاهم الوالي، وفي مقدور ولي الأمر في البيت، وفي مقدور من لا يترتب على تغييره مفسدة، إذا ترتب على ذلك مفسدة فإنه يعدل حينئذٍ إلى التغيير باللسان، فإن لم يستطع فبلسانه، إذا خشي على نفسه من التغيير باللسان انتقل إلى المرحلة الأخيرة، وهي التغيير بالقلب، بأن يبغض المنكر، ويبغض أيضاً مرتكب المنكر؛ لأن هذا أمر مكروه لله ولرسوله، فيكره ما يكرهه الله ورسوله، ويبيت في نفسه أنه متى استطاع التغيير باللسان أنه يغير، ولا يقول: الحمد لله أنا معذور، ومرتاح من هذه الشعيرة؛ لأنني معذور، لا أنت لست بمعذور إلا إذا عجزت، ولا يرتب لك الأجر والثواب في الانتقال من المرحلة العليا إلى الدنيا إلا إذا تحقق العجز، وعدم الاستطاعة، مع تبييت النية أنك متى قدرت على المراتب العليا أنك تنتقل إليها، ولذا من ابتلي بالعمى مثلاً أو المرض أو العرج وما أشبه ذلك، إن فرح بهذه العلة؛ لأنه معذور من جهاد ونحوه فإنه يؤاخذ، لكن من منع بعلة لا يد له فيها، وخارجة عن قدرته وإرادته، وبيت في نفسه أنه متى زال عذره فعل ما أمر به هذا يؤجر مثل أجر غير الممنوع ((وإن لكم إخواناً بالمدينة ما هبطتم وادياً، ولا سلكتم فجاً إلا كانوا معكم)) يعني في الأجر ((حبسهم العذر)) لكن من فرح بهذا العذر لأنه يعفيه من الأمر والنهي والجهاد وغيره، لا شك أن هذا ملوم، فعلى الإنسان إذا لم يستطع التغيير باليد أن يعدل إلى التغيير باللسان، إذا خشي على نفسه من التغيير باللسان فإنه حينئذٍ يكتفي بالتغيير بالقلب ببغض المنكر، وبغض المرتكب للمنكر، وأنه متى تيسر له التغيير بما هو فوق ذلك يغير.
الأمر الثاني: أنه إذا كثرت المنكرات، وعمت بها البلوى بحيث لا يستطيع الإنكار إنكار هذه المنكرات بجملتها، وإن كان يستطيع مفرداتها، تغيير مفرداتها، فإنه يغير ما يستطيع بالقدر الذي يستطيع، وبالطريقة التي يستطيعها، وما عدا ذلك لا يكلف الله نفسا ًإلا وسعها، فمثل هذه المنكرات التي عمت بها البلوى، دخلت في شارع عام مملوء بالناس، إن أنكرت على هذا الإسبال، وأنكرت على هذا الدخان، وأنكرت على هذا حلق اللحية، وأنكرت على هذا، معناه أنك تبي تقيم إقامة في هذا الشارع، مثل هذا لا تطالب به، يعني لو دخل واحد شارع البطحة مثلاً، ورأى هذه المخالفات من العمال وغيرهم، هذا يدخن، وهذا حليق، وهذا مسبل، وهذا كيف، وهذا، فيقدم من المنكرات في التغيير الأهم فالأهم، يقدم الأهم، فمثلاً شاب يتحرش بامرأة مثلاً أو بصبي، هذا يقدم على حلق لحية، ويقدم على دخان، ويقدم على إسبال، ثم بعد ذلك ينظر إلى الذي يليه من المنكرات، وهنا تكون المفاضلة إذا عجز عن الجميع، فيبدأ بأنكر المنكرات، ما يقال: والله شخص جالس والناس يصلون يدخن يقال له: لا تدخن، يقال له: لا تدخن لكن أعظم من ذلك صل، الصلاة أعظم وهكذا، أو شاب مسبل ومع ذلك يتعرض لامرأة أو لصبي، يقال له: تعال أنت يا أخي مسبل، الإسبال حرام، نقول: نعم الإسبال حرام، لكن أهم من ذلك المنكر الذي يفوت.
على كل حال على الآمر والناهي أن يكون حكيماً، وعلى معرفة وخبرة بالأساليب التي تترتب عليها المصلحة، ولا يترتب عليها مفسدة.

يقول: هل الأواني المزخرفة بماء الذهب داخلة في ذلك؟

إذا عرضت على النار، وتحصل من هذا الذهب الذي طلي به هذا الإناء شيء فإنه حينئذٍ يحرم استعماله، وإن كان مجرد لون هذا ما يضر.