كتاب الجامع من المحرر في الحديث - 25

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في حديث عياض بن حمار المخرج في صحيح مسلم وغيره، قال: «وأهل الجنة ثلاث، وأهل الجنة ثلاث»، جاءت أوصاف كثيرة في الكتاب والسُّنَّة لأهل الجنة، وجاءت خلال صفات موصلة إلى الظلال جمعها الحافظ ابن حجر في مؤلف في ظل الله وفي ظل عرشه أخص من تلك، قال: قال -عليه الصلاة والسلام-: «أهل الجنة ثلاثة» يعني ثلاثة أصناف، وليسوا بثلاثة أشخاص، الصنف الأول ذو سلطان مقسط، صاحب سلطان إمام خليفة من خلفاء المسلمين، والمراد به هنا السلطان الأعظم، خليفة المسلمين المقسط العادل، وجاء في الحديث الصحيح: «المقسطون على منابر من نور»، يقصَد بهم أهل العدل الذين يعدلون في أنفسهم وأهليهم وما ولوا، مقسطون بخلاف القاسط، وهو الجائر الظالم، {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15].

والمقسطون العادلون، ذو سلطان مقسط يعني عادل متصدق باذل لماله في رعيته وفيمن ولاهم الله عليه من ماله ومما ولي عليه مما هو تحت ولايته في بيت مال المسلمين، يكون متصدقًا، يبذل للمحاويج في خواصهم وفيما يحتاجون إليه في حاجة عموم الرعية، متصدِّق موفَّق، يسوس الناس بالرفق والعدل، وينصح لهم، ويجتهد في نفعهم ودفع ما يضرهم، هذا الموفق، وجاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل، إمام عادل.

 «ورجل رحيم رقيق» ورقيق، وجاءت رفيق، وهما متقاربان، يعني في قلبه رقة لأهله وإخوانه والمسلمين عمومًا، والرفق والرقة رقة القلب وخضوعه وخشوعه، دليل على خشية الله -جل وعلا- ذلك لمن خشي ربه، ولا شك أن الذي يخشى الله -جل وعلا- ويخشى عند ذكر أو سماع كلامه هذا بعيد كل البعد من ارتكاب ما يغضب الله -جل وعلا- وما يضر بخلقه.

«ورجل رقيق القلب لكل قربى ومسلم»، يعطف على أقاربه، ويحلم عليهم، ويعاملهم بالرفق واللين، «لكل قربى ومسلم» يعني من الخاص إلى العام، يرفق بأقاربه وأهله وذويه، وبالمسلمين عمومًا.

 «وعفيف متعفف ذو عيال» وعفيف متعفف ذو عيال، عفيف عن أموال الناس عفيف عن دماء الناس، عفيف عن أعراض الناس، صان لسانه وجوارحه وقلبه أيضًا، من أدواء القلوب وأمراضها صان جوارحه ولسانه وقلبه، المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده وعفيفٌ لا يتطاول على أعراض الناس ولا على أموالهم ولا على دمائهم، بل يكفُّ لسانه ويده عن إخوانه المسلمين وغيرهم؛ لأن الظلم والتعدي غير مقبول لا على مسلم ولا على كافر، وعفيف متعفف، عفيف خلقة، وطبع جُبل على ذلك، ومتعفف يتخلَّق بهذا الخلق العظيم، وهو العفة، عفيف في جوارحه، عفيف في بصره، عفيف في فرجه، عفيف في يده ولسانه إلى غير ذلك مما يمكن أن يتعدى شره وضرره إلى غيره.

طالب:...

صاحب سلطان.

طالب: ..........

 ذو ولاية يعني سواء كانت العظمى وهي الأهم دخولها دخولاً أوليًّا، ومن وُلّي على شيء يعدل فيمن ولاه الله، يدخل في ذلك حتى الأمراء والمدراء والوزراء كلهم من ولاه ولي الأمر والسلطان اكتسب الحق من هذه الولاية من ولاية السلطان الأعظم. هذه الرعاية الخاصة.

 عفيف متعفف ذو عيال، له عيال يربيهم على مراد الله ومراد رسوله -عليه الصلاة والسلام-، ويأمرهم بالخير، ويكفهم عن الشر، ومع كونه ذا عيال تكون حاجته إلى المال أشد، حاجته إلى المال أشد، ومع ذلك يتعفف عن أموال الناس، يتعفف عن أموال الناس ولو كان ذا عيال، وإنما يطلب الأموال بالطرق المشروعة، وينفقها بما يرضي الله -جل وعلا- في نفقته على نفسه وعياله، ولا يضيع من يمون، بل ينفق عليهم من تلزمه نفقتهم.

 قال: «وأهل النار خمسة» وأهل النار خمسة، يعني خمسة أصناف، «الضعيف الذي لا زبر له»، ضعيف ولا عقل له يردعه عما يضره، وتجده يتخبط في أمور دينه ودنياه، ونجد فيه المسلمين لا سيما في ناشئتهم كثُر هذا الأمر، من كثُر فيه الضعف من كل وجه ضعف الدين وضعف الدنيا تجده لا يحسن التصرف، ولا يتعبد لله -جل وعلا- على مراده، ويتخبط في أموره، والله المستعان، الضعيف الذي لا زبر له لا عقل له، فتجده ينظر إلى الناس ويظن أنه لا بد أن يصير مثل فلان وفلان، وما يدري أن الله هو المعطي والمانع والقاسم {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف:32] فتجده يقول: أنا مثل فلان، فكيف أُنقَص عنه في راتبي، في وظيفتي، المعطي والمانع هو الله -جل وعلا-، وتجده يعترض على كل شيء، ولا يبذل الأسباب التي يصل بها إلى ما يريد، يتكل على هذا النقد لغيره، ويغفل عن نفسه، وينشغل بعيوب الناس، ويترك عيوب نفسه، الضعيف والضعف أعم من أن يكون في البدن أو في العلم أو في العقل وضعف الرأي، لا عقل له يزبره ويزجره عما لا يليق به.

 «الذين هم فيكم تبعًا لا يبتغون أهلاً ولا مالاً»، لا يطلبون أهلاً ولا مالاً، لا يبذلون الأسباب لبناء الأسرة الصالحة، ولا يبحثون عن الأموال بالطرق الشرعية بحيث يكونون أعضاء كما يقال فاعلين في المجتمع مؤثرين، ينفعون أنفسهم وأهليهم وغيرهم، تجده سبهللة، لا يسعى في نفع نفسه فضلاً عن نفع غيره، «والخائن الذي لا يخفى له طمع» يعني لا يلوح له طمع، ولا يظهر له مجال للأخذ من هذا الذي يمكن أن يؤخذ من مال أو عرض لا يخفى له طمع وإن دق، إلا خانه، تجده مُولى على أمور من أمور المسلمين، فتجده إذا لاح له شيء يمكن أخذه لم يتورع عنه وإن دقّ، وإن كان ورقة أو شيئًا يسيرًا من أمور الدنيا، نعم قد يكون هناك أمور جرت العادة بالتسامح فيها، جرت العادة بالتسامح فيها، وعدم الحساب عليها، بعض الناس يتورع بخلاف هذا الذي ذُكر هنا خائن، يتورع عن شحن الجوال في العمل، ويسألون عن الشحن في المسجد، الورع ألا تفعل شيئًا من ذلك، لكن إذا فعلت، والناس جرت العادة بالتسامح في مثل هذا، يعني لو وُجِدت في بيت شخص من أشد الناس شحًّا، وشحنت جوالك في بيته، فالغالب أنه لا يقول شيئًا، فضلاً عن أوساط الناس وكرامهم، فمثل هذا أمره يسير، لكن مع ذلك الورع مطلوب، بعض الناس يحتاج إلى توقيع بقلم، يتورع عن التوقيع بقلم الدوام، الوظيفة، والأمر في ذلك سهل هذه أمور يسيرة جرى الناس بالتعافي، جرت العادة بتعافي الناس عنها، يتعافون يتسامحون، لكن مع ذلك الورع مطلوب؛ لأنه قد يستدرج يتسامح في هذا، ثم يطمع إلى ما هو أعلى منه، ثم إلى ما هو أعلى، لكن إن ملك نفسه واقتصر على هذه الأمور التي يتسامح الناس فيها فالأمر فيه سعة إن شاء الله تعالى.

«لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه» يسأل بعض الناس عن السكن في الفنادق وغيرها وفيها أشياء مما يستعمله النازل من المتاع، المنظفات وغيرها، فيقول: هل له أن يأخذها إذا خرج؟ فهل هي وضعت له على وجه الخصوص؟ وتكون داخلة في الأجرة؟ أو أنه يستعملها ما دام ساكنًا ويترك الباقي لا يأخذ منه شيئًا؟ لا شك أنه محل إشكال، ومعروف أنها وُضعت معلوم أن هذه الأمور وُضعت للساكن، يستخدمها ويستعملها، والغالب أنها لا تعاد لساكن آخر، لا سيما مع الترف الذي يعيشه الناس، أنها لا تستعمل مرة ثانية، فهل له أن يحملها معه إذا خرج؟ الورع أن يتركها، وإن تأول، وهناك من يفتي بالقول أنها وضعت له، ولا يستعملها أحد بعده، فإذا فُكَّت من غلافها فهي في حكم التالف عندهم، مع أن الورع معروف ألا يأخذ شيئًا يخرج كما دخل يخرج كما دخل.

 «وإن دق إلا خانه، ورجلٌ لا يصبح ولا يمسي، لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك»، يتحين الفرص؛ ليخونك في أهلك ومالك بما يستطيع، إن استطاع بالفعل فعل، وإن لم يمكنه إلا النظر نظر، كانت العادة عند العرب قبل الإسلام أنهم لا يتطاولون، ولا ينظرون إلى محارم الناس، ونساء الجيران وغيرهم، حتى يواري جارتي مأواها، ولا النظر، ومع الأسف أنه يوجد في المسلمين من يرسل النظر إلى محارم الناس وعوراتهم، ولا شك أن هذه معصية، والإصرار عليها خطير جدًّا مؤثر على القلب تأثيرًا بالغًا، وحفظ النظر من أعظم أسباب حفظ القلب من أعظم أسباب حفظ القلب، ومن غض بصره رُزق يقينًا وطمأنينة في قلبه، والله المستعان.

 بعض الناس يخرج إلى الأسواق، ويشاهد القنوات؛ من أجل هذا النظر المحرم، ودعوة سعد بن أبي وقاص على الذي اتهمه فدعا عليه سعد قوله: اللهم أطل عمره، وأدم فقره، وعرضه للفتن، حتى صار شيخًا كبيرًا جدًّا قد عمي ويخرج إلى الأسواق، ويتعرض لنساء المسلمين، نسأل الله العافية، وهو ممن لا أرب له في النساء، لكنها دعوة العبد الصالح، سعد، فنخشى من هؤلاء الذين يرسلون أبصارهم في محارم المسلمين أن تكون قد أصابتهم دعوة من رجل صالح، ودعوة أم جريج عليه: اللهم لا تمته حتى يرى في وجوه المومسات، تعني الزواني، فقَبِل الله دعوتها، فقد انشغل في صلاته، انشغل في صلاته، فلم يجب أمه؛ اجتهادًا منه إلى أن الصلاة أولى من إجابة الدعوة، هذه موازنة بين مصالح، فرجح المرجوح، وابتلي بهذه الدعوة، ومع ذلك نجَّاه الله من هذه المصيبة، وبرأه على رؤوس الأشهاد، ولكنها دعوة مستجابة من أم؛ لأن النتائج لا تضمن.

 قد يقول قائل: إذا كنت تقيًّا مثل جريج، خلها تدعو إذا صرت أُبرَّأ من الله -جل وعلا- بأن ينطق الطفل بأن أباه فلانًا الراعي، وتظهر براءة جريج على رؤوس الأشهاد، ويقبل الناس عليه بعد ذلك، لكن قد لا تنجح الفتنة، ولذلك الذي يعرض نفسه للفتن هذا خاطئ بلا شك؛ لأن من ينجو من الفتن؟ فلا يجوز للإنسان أن يعرض نفسه للفتن، ويقول: أقتحم هذه الغمرة، وينجينا الله منها، من يضمن لك؟ وهل أنت وصلت إلى مستوى تنجى فيه من الفتن في الدنيا قبل الآخرة؟ لأنه أحيانًا يفتَن، ويبتلى، ويستجيب لما افتُتن به، نسأل الله العافية.

«ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك في أهلك ومالك»، وذكر البخل أو الكذب يعني من الخصال القبيحة الشنيعة التي هي من خصال أهل النار، فالبخل والشح {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، والكذب من خصال المنافقين، «إذا حدّث كذب».

 والشِّنظِير الذي هو سيئ الخلق، والفحاش في الأقوال وفي الأفعال، فسوء الخلق يقابل حسن الخلق، الذي ما وضع في الميزان أثقل منه، ما وضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، ويقابله سوء الخلق فجزاؤه ضد جزاء حسن الخلق، والله المستعان.

"وفي لفظ: «إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا»" الله -جل وعلا- يوحي إلى نبيه، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وحيه -جل وعلا- إلى نبيه بالقرآن أمر ظاهر، ووحيه إليه بالسُّنَّة بدلالة هذه الآية، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم 3:4] فما فائدة قوله: «إن الله تعالى أوحي إلي»؟

 من باب الاهتمام بما أوحي به، أوحي إلي أن تواضعوا، التواضع، في مقابل الكِبر الذي لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، نسأل الله العافية، فالتواضع واجب، «أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخرُ، حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد»، لا يفخر عليه بلسانه، ويتطاول عليه، ويقدح في نسبه أو في أصله، ولا يبغي عليه بفعلٍ يسيء إليه، ولا يبغي أحد على أحد، لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد، هذا هو التواضع، والتواضع من الأخلاق المحمودة.

 قد يقول قائل: إن التواضع قد يعرضني لتطاول الناس علي، واحتقاري، في الحديث: «من تواضع لله وفعه»، هذا من خدع الشيطان. يقول لك: إذا تواضعت احتقرك الناس، بالعكس، ترتفع في عيون الناس.

 تواضع تكن كالنجم لاح لناظرٍ            على صفحات الماء وهو رفيع

 ولا تك كالدخان يعلو بنفسه                إلى طبقات الجو وهو وضيع

 فمن تواضع لله رفعه.

"وعن همام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار" الأحاديث ما نحتاج إلى ذكر من خرجها؛ لأنها كلها في صحيح مسلم التي مرت الأمس واليوم كلها في صحيح مسلم، كلها صحيحة ما فيها كلام.

طالب:...

نعم معروف.

 "عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «لا تكتبوا عني، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه»".

 لا تكتبوا عني، يعني لا تكتبوا غير القرآن، فمن كتب شيئًا غير القرآن فليمحه، في أول الأمر يخشى أن يختلط القرآن بغيره من كلامه -عليه الصلاة والسلام-، فإذا كُتب القرآن وكُتب ما ينطق به الرسول -عليه الصلاة والسلام- يخشى أن يختلط هذا بهذا، ومنهم من يقول: يعني لا تكتبوه في موضع واحد في ورقة واحدة، فتوجد الخشية من اختلاط القرآن بالسُّنَّة، ولا شك أن هذا في أول الأمر، ومن أهل العلم من يقول: إن النهي عن الكتابة خشية أن يعتمد الناس عليها ويترك الحفظ، ولا شك أن للكتابة أثرًا في ضعف الحفظ، أثرًا في ضعف الحفظ، كان الحفظ هو الأداة الوحيدة، حفظ الصدر الأداة الوحيدة لحفظ العلم، وكانوا يحفظون أشياء كثيرة جدًّا، عشرات بل مئات الألوف من الأحاديث.

 وأُذن في الكتابة في عهده -عليه الصلاة والسلام-، فأمر بالكتابة لأبي شاة، قال: «اكتبوا لأبي شاة»، وقال أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه-: ما كان أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر حديثًا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب، ومنهم من يقول: إن النهي هنا للكراهة، لمجرد الكراهة، والكتابة جائزة؛ لأنه جاءت أحاديث بجوازها، ثم أجمعت الأمة على جواز الكتابة، ومع ذلك توسع الناس بالكتابة، وضعف الحفظ عندهم، ضعف الحفظ عندهم، ومع ذلك استرسل الناس في الكتابة، وحفظ الله بها العلم، حفظ الله بها العلم.

 العلم صيد والكتابة قيده           قيّد صيودك بالحبال الواثقة

 فمن الحماقة أن تصيد غزالة      وتتركها بين الخلائق طالقة

 توسع الناس في الكتابة، ودُوِّنت الكتب، وصُنِّفت المؤلفات، وحفظ الله السُّنَّة بهذه الكتابة وضموها إلى الحفظ، ضموا إلى حفظ الصدر حفظ الكتاب، وجعلوه من أنواع الحفظ المواكب لحفظ الصدر.

 وعلى كل حال الكتابة مما يعين على حفظ العلم، كان الناس قبل أن تظهر الطباعة إذا احتاج أحد إلى شيء إن استطاع أن يحفظه حفظه وإلا كتبه ودوّنه، وكتابته له تغني عن قراءته مرارًا، عن كتابته مرارًا، أنت أردت أن تقتني هذا الكتاب، وما وجدت إلا هذه النسخة عند فلان، هذا قبل الطباعة، تذهب إلى فلان وتستعيرها وتستأجرها وتنسخها، وترسخ في ذهنك مع الكتابة؛ لأن المجرَّب أن الكتابة مع إحضار الذهن مع الاستحضار أفضل من القراءة عشر مرات، طال بالناس الأمد، ووجدت الطباعة، ووجدت الطباعة، في أول الأمر نُهي عن الكتابة، وأصبحت ضرورة من ضرورات العلم، وتتابع الناس عليها، وأجمعوا عليها، ووُجِدَت لها الأدلة، وتداولها الأئمة من غير نكير على مر العصور، ثم وُجِدَت الطباعة فاستنكرها أهل العلم، وأفتى بعض شيوخ الأزهر بتحريم طباعة الكتب الشرعية، قالوا: اطبعوا كتب اللغة، اطبعوا كتب التواريخ والأدب، الأمر سهل، لكن كتب العلم هذا إحداث، وأثره على التحصيل ظاهر، أنت لما تحتاج إلى كتاب فتكتبه وتنسخه بيدك مثل ما تشريه من المكتب جاهزًا وتضعه في الرف؟

فرق كبير جدًّا، واعتمد الناس على هذه المطبوعات، وتباهوا بجمع الكتب، وجمعوا عشرات الألوف من الكتب، ثم ماذا؟

لا شيء، إلا من وُفِّق وسلك الطريق وجمع هذه الكتب للمراجعة والإفادة، فهذا نافع جدًّا، ويقال في مثل هذا مثل ما قيل في الكتابة، الذي يقتني الكتب ليفيد منها ويقرأ فيها ويحفظ منها ويراجعها هذا مهم جدًّا.

 كانت الكتب تكتَب بدون فهارس، فإذا احتاج الشخص إلى مسألة تصفح الكتاب كاملًا، وهو يبحث عن مسألة، ومر في طريقه على عشرات المسائل التي بعضها أهم مما يبحث عنه، ثم جاءت الفهارس فصار الإنسان يصل إلى ما يريد بسهولة، ولا يمر على غير ما يريد، صار في ذلك أثر كبير على التحصيل، ثم جاءت الطامة الكبرى الحواسب، اضغط زرًّا يخرج لك الحديث من عشرين طريقًا، يتكلم لك على هذا الراوي من عشرين عالمًا، ثم ماذا؟ تنطفئ الكهرباء ترجع عاميًّا، هذا الحاصل، وليست وسيلة لتحصيل العلم، إنما هي تنفعك في المراجعة، أنت حافظ طالب علم ومؤصل ومؤسس، وتحتاج إلى مراجعة مسألة، أو تحتاج إلى نظر في درجة حديث هل هو صحيح أو غير صحيح، وأنت خطيب، بقي وقت يسير على دخولك للخطبة، لا مانع أن تستفيد، أما في وقت الرخاء فلا يبنى عليها طلب علم، وأنا أعرف أن كثيرًا من الناس لا يعجبهم هذا الكلام؛ لأنها مريحة، ما تكلف شيئًا، والعلم لا يستطاع براحة الجسم، قال يحيى بن أبي كثير: لا يستطاع العلم براحة الجسم، ذكره مسلم في صحيحه، وذكره أين؟ في كتاب مواقيت الصلاة، والشراح تعجبوا من إيراد هذا الأثر بين أحاديث مواقيت الصلاة، لا يستطاع العلم براحة الجسم، تشير إلى مواقيت الصلاة؟

لا، أبدى بعضهم مناسبة وهي جيدة وقوية، أن مسلمًا -رحمه الله- وهو الإمام الذي له ذوق رفيع في معرفة الطرق والأسانيد وسياق المتون، مسلم أعجبه سياق هذه الأحاديث بمتونها وأسانيدها وبيان ألفاظ رواتها، أعجبه ذلك، ويعرف مسلم أن مثل هذا ما يأتي من فراغ، لا يأتي إلا من تعب، لا يأتي إلا من تعب، فأراد أن يذكِّر طالب العلم، قارئ الكتاب بأن العلم لا يستطاع براحة الجسم، وقالوا: من طلب العلا سهر الليالي، العلم ما يأتي إلهامًا أو وحيًا، لا، يأتي بالتعب.

«لا تكتبوا عني، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عني» حدثوا عني، ولا حرج، «وبلغوا عني ولو آية» لا يجوز لأحد أن يكتم علمًا اكتسبه مما تثبت فيه وتأكد منه، عليه أن يحدِّث ويبلغ العلم، وهذا إذا لم يكن عند غيره تعيّن عليه، صار فرض عين، وأما إذا كان مبذولاً وموجودًا عند غيره فهذا فرض كفاية، التحديث لمن حفظ شيئًا من العلم، وتذكير الناس به، ووعظ الناس به هذه وظيفة العلماء الربانيين الذين تعلموا وعملوا وعلموا هذه وظيفتهم.

 وفي ترجمة القعنبي يقول: رأيت كأني في جمع من طلبة الحديث، يعني العلماء المحدثين؛ لأن طلبة الحديث تطلق على المحدثين، وعندنا من يحفظ الأربعين يقال: الإمام المحدِّث! والمحدّث الكبير من طلبة الحديث هناك، فالله المستعان، قال: كأني في جمع من طلبة الحديث، فقيل: ليقم أهل العلم، فقاموا، وقمت معهم، فقيل لي: اجلس، قلت: لم وأنا واحد منهم؟ أطلب معهم، قال: لكنهم حدثوا وأنت لم تحدث، يعني بلغوا العلم، وأنت ما بلغت، ومن ذلك الوقت اجتهد في تبليغ العلم ونشره، «وحدثوا عني ولا حرج».        

"قال همام –الراوي-: أحسِبه، قال: أحسِبه قال: «ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»، «ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»".

 هذا الحديث مما عُدَّ من المتواتر لفظًا ومعنى.

 مما تواتر حديث من كذب           ومن بنى لله بيتًا واحتسب

إلى آخر ما قال، لكنه من الأحاديث المتواترة المروي أوصل رواته من الصحابة إلى تسعين منهم العشرة المبشرين بالجنة.

 «ومن كذب علي» من كذب على الرسول -عليه الصلاة والسلام-، متعمدًا قاصدًا الكذب عليه- عليه الصلاة والسلام-، «فليتبوأ مقعده من النار» فليتبوأ ليتخذ مقعدًا من النار، نسأل الله العافية، والكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- من عظائم الأمور ومن الموبقات، لكن من فعله غير مستحل له لا يكفر عند عامة أهل العلم، وإن قال أبو محمد الجويني، والد إمام الحرمين: إنه يكفر، ونُقِل عن ابن الجوزي أنه من كذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- في تحريم حرام أو تحليل حلال فإنه يكفر، نقلوه عن ابن الجوزي، وأما الجويني فأطلق القول بكفر من كذب على النبي -عليه الصلاة والسلام-، وجماهير أهل العلم على خلافه، وخطَّؤوا الجويني في هذا؛ لأنها كبيرة من كبائر الذنوب، وأهل السُّنَّة مذهبهم أهل الحق أن مرتكب الكبيرة لا يكفر خلافًا للخوارج، «ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»، نسأل الله العافية.

طيب غير المتعمد؟ يعني هل في هذا فسحة أن الإنسان يتحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وينسب إليه ما لا يجزم بثوبته عنه؟ جاء في الحديث في مقدمة مسلم: «من حدث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين»، واللفظ: «يَرى أنه كذب» يعني إذا كان يعرف أنه كذب فهو أحد الكاذبين، والثاني يُرى يعني يراه غيره ولو ما رآه هو بنفسه مما يدل على وجوب التثبت فيما ينسب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وجوب التثبت فيما ينسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.

طالب:...

كذب ما يجوز؟

طالب: ..........

 فضائل الأعمال يتسامح كثير من أهل العلم رواية الضعيف فيها، أما الموضوع فلا يجيزه أحد، الموضوع المكذوب المختلق على النبي -عليه الصلاة والسلام- ما لم يقله لا يقول به أحد من أهل العلم، فعلى طالب العلم والمسلم على وجه العموم أن يتثبت فيما ينسبه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الأمر ليس بالسهل، يقول: يُرى أنه كذب، يعني ما يلزم أن يراه هو، فمعنى هذا أنه لا بد أن يتأكد مما يضيفه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه ثابت عنه. 

ثم قال: "وعن تميم الداري -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «الدين النصيحة» «الدين النصيحة»".

 الدين مبتدأ والنصيحة خبره، والمبتدأ معرفة والخبر معرفة، وهذا عند أهل العلم يدل على الحصر، فحصر الدين بالنصيحة، لكنه كما يقول أهل العلم: إن الحصر هناك حصر حقيقي وهناك حصر إضافي، فإذا قلت: لا إله إلا الله حصر حقيقي، لا معبود بحق إلا الله -جل وعلا-، وإذا قلت: الشاعر حسان، حصر إضافي ليس بحقيقي، هناك شعراء غيره والدين فيه خصال غير النصيحة فهذا حصر إضافي، ومما يدل على أهمية النصيحة حيث حُصِر الدين بها، كما في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «الحج عرفة»، الحج عرفة يعني لو جاء واحد ووقف بعرفة ورجع إلى أهله يكون حج؟ لا، لكن لأهمية الوقوف بعرفة، وأنه ركن من أركان الحج، ركن ركين به يفوت الحج، حُصِر به حصرًا إضافيًّا وإن لم يكن حقيقيًّا.

«الدين النصيحة» النصيحة بذل الخير للمنصوح، بذل ما ينفعه، هذه نصيحته، بخلاف الغش، الذي هو بذل ما يضره، "قلنا: لمن يا رسول الله؟" الصحابة لما سمعوا هذا الحصر احتاجوا إلى مزيد بيان لمن تكون هذه النصيحة؟ فلو اجتهدوا وأتى كل واحد بصنف قد يبقى مما يحتاج إليه مما لا يدركه الناس، النبي -عليه الصلاة والسلام- لما ذكر السبعين الألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، ودخل بيته، بات الناس يدوكون، كل واحد يجيء بقول، لعلهم الذين لعلهم كذا، ولعلهم كذا، ولعلهم كذا، فخرج النبي -عليه الصلاة والسلام- فلم يعاتبهم، ولم يثرب عليهم، مما يدل على أن مثل هذا الصنيع جائز إذا أُتي بصيغة ترجي، ما جُزِم بتفسير كلام الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالرأي ولا بتفسير كلام الله -جل وعلا- بالرأي، إذا لم يجزَم به إذا أُتي به على سبيل الترجي وعلى سبيل البحث والمباحثة بين طلاب علم لا شك أن هذا جائز.

 "قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»"، خمسة، لله، كيف تنصح لله -جل وعلا-؟ بأن تعبده على مراده، ولا تشرك به شيئًا، تفرده بالعبادة، وأن تعبده على ما يريد هو لا ما تريد أنت وتخلص في عبادته، وأن تأتي بما أمرك به، وتجتنب جميع ما نهاك عنه، قال: لله، ولكتابه، والنصيحة لكتاب الله -جل وعلا- كتاب مفرد مضاف، والمفرد المضاف من صيغ العموم يعم، فهل يدخل فيه جميع الكتب؟ أو القرآن خاصة؟ هو مفرد مضاف، كذلك ولرسوله، هل يدخل في ذلك جميع الرسل تنصح لهم؟ تنصح لجميع الكتب التي أنزلها الله -جل وعلا-؟ ما تستطيع أن تبذله من هذا يجب عليك، والذي فوق مقدورك بما لم يبلغك من الكتب السابقة.