شرح كتاب الأربعين النووية (06) - حديث: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين))

بسم الله الرحمن الرحيم

شرح الأربعين النووية (6)

شرح حديث: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين))

الشيخ/ عبد الكريم الخضير

 

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الإمام النووي- رحمه الله تعالى-: الحديث السادس.

عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) رواه البخاري ومسلم.

 

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف النووي - رحمه الله تعالى- في الحديث السادس من أحاديث الأربعين الجوامع التي جمعها في كتابه المختصر, النافع, الماتع, الجامع لهذه الأحاديث التي عليها مدار الإسلام: الحديث السادس, يقول - رحمه الله تعالى-: "عن أبي عبد الله النعمان بن بشير - رضي الله عنهما-"، هو أبو عبد الله النعمان بن بشير - رضي الله عنهما-، الكنية بالولد هي الأصل لأن الذكر أفضل جنس من الأنثى، وسيأتي في الحديث الذي يليه الكنية بالأنثى عن أبي رقية، التكني بالأنثى جائز عند أهل العلم, لكن الأصل التكني بالذكر لأن جنس الذكر أفضل من جنس الأنثى. والمقصود بالكنية, ما يقصد بالاسم, واللقب هو: التعريف, فإذا عرف بكنيته والأصل أن تكون بالذكر بها ونعمت، وقد يعرف بالأنثى لشهرتها؛ لأن البنت قد تكون أفضل من أخيها لأن تفضيل الجنس لا يعني تفضيل الأفراد. ويقول أبو حيان في كتاب جمعه في بيان محاسن ابنته واسمها النظار يقول: "هي أفضل من أخيها حيان"، فيوجد في الجملة يعني: من النساء من تفضل بعض الرجال، لكن يبقى أن جنس الذكر أفضل من جنس الأنثى, لقول الله -تعالى-: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} [سورة البقرة:228] فهذا تفضيل شرعي. لكن لا يعني أنه تفضيل أفراد في مقابل أفراد، بل هو تفضيل جملي، يعني: في الجملة الرجال أفضل من النساء.

وهنا كنّي النعمان بولده عبد الله, وفي الحديث اللاحق كني تميم الداري بابنته رقية، وقد يكنى الرجل للتعريف به، ولـمَّا يولد له, فعائشة أم عبد الله, ولم يولد لها، وقد يكنى بشيء له في أدنى ملابسة ولو كان حيواناً كما كني عبد الرحمن بن صخر الدوسي, بأبي هريرة، وقد يكنى بمجموع ولد ويقال: أبو الرجال مثلاً أبو الأشبال وما أشبه ذلك. وهذه الكُنَى معروفة لكن عندنا في الحديث الأول الكنية بالولد, والثاني بالبنت. الأصل في الكنية أن تكون بأكبر الأولاد, كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام- قال: ((فما لك من الولد؟ قال: لي شريح، ومسلم، وعبد الله، قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح، قال: فأنت أبو شريح))؛ لأنه كان يكنى بأبي الحكم، فكناه -عليه الصلاة والسلام- بأكبر أولاده؛ لأن الأكبر لا منازع له بين إخوته الصغار والسن له دور. وجاء في الحديث الصحيح: ((كَبِّر، كَبِّر)) لكن لو لقب الرجل بأصغر أولاده أو بأوسطهم لميزة له مثلاً, كما كني الإمام أحمد وصالح أكبر من عبد الله فلا مانع من ذلك، إذا كان هناك مبرر, وخَلَتْ المسألة من المفسدة؛ لأن هذا قد يجر إلى مفسدة بين الأولاد يكون فيها شحناء وإذا عُرِفَ الأب بالابن الصغير مع أنه يوجد من هو أكبر منه هذا قد يوغر نفس الكبير على أبيه, وعلى أخيه. على كل حال الأمر في هذا تدرس في الأحوال والظروف المحيطة به.

يقول: "قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن))"، تأكيد "إن"؛ يقال: "إن الحلال بين والحرام"، وجاءت به بعض الروايات. متى تحتاج الجملة إلى التأكيد؟ وقد يوجد مؤكد ثاني غير "إن"، "إن" حرف توكيد لكن لو قال: "إن الحلال لَبين وإن الحرام لَبين" صار فيها أكثر من مؤكد كما سيأتي في قوله: ((ألا وإن لكل ملك حمى))، هذه أكثر من مؤكد هنا فيه التأكيد بإن الناسخة. متى تحتاج الجملة إلى التأكيد؟

إذا كان المخاطب خالي الذهن فإنه لا يحتاج إلى تأكيد، إذا كان عنده شيء من التردد أُكِّد له بمؤكد واحد، إذا كان التردد أكثر احتاجت الجملة إلى أكثر من مؤكد. وهنا يقول - عليه الصلاة والسلام-: ((إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيّن))؛ لأن الحلال قد يدَّعي بعض الناس أنه ليس ببيّن، والواقع عند عامة الناس الحلال المجمع عليه الذي دلالة النصوص الصحيحة عليه صريحة هذا لا إشكال فيه، عند من يعيش بين أوساط المسلمين بخلاف من يعيش خارج بلاد المسلمين, وبين الكفار فقد يخفى عليه ما علم من الدين بالضرورة, لكن الكلام على المسلم الذي يعيش بين ظهرانَي المسلمين، الحلال بين بالنسبة له، المجمع عليه من مأكولٍ ومشروبٍ وملبوسٍ, وما يحتاج إليه من أمور الحياة فهذا لا خفاء فيه، حتى على عامة الناس، وكذلك الحرام المتفق عليه الذي دلالة النصوص عليه الصحيحة صريحة هذا أيضاً بيّن، كالزنا, وشرب الخمر, وغير ذلك من الأمور التي جاءت الأدلة بتحريمها صراحةً.

والحلال هو المباح الذي لا إثم في تناوله، والحرام هو: المحظور الذي يأثم فاعله. ويختلف أهل العلم في الأصل في الأشياء -في الأعيان- التي ينتفع بها، هل الأصل فيها الحل أو الأصل فيها الحظْر؟، هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، فأبو حنيفة يقول: الحلال ما أحله الله، وغيره يقول: الحرام ما حرمه الله، الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، ما معنى هذا الكلام؟ هل بين الجملتين فرق؟

هذا الكلام: الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله صحيح؟ هل هناك أحد يحلل أو يحرم غير الله -جل وعلا-؟ ليسذلك لأحد, قال -تعالى-: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [سورة الأنعام:57], فالحرام ما حرمه الله والحلال ما أحله الله. لكن مفهوم الجملتين بينهما فرق كبير، فأبو حنيفة عندما يقول: "الحلال ما أحله الله"، معناه: أن ما عدا ما نص على حله يبقى على المنع على الحظْر حتى يرد دليل يبيحه. والقول الثاني: وهو قول الشافعي معه جمع من أهل العلم، يقولون: "الحرام  ما حرمه الله"، معناه: أنك إذا وجدت شيئًا لا دليل ينص على تحريمه، فلك أن تنتفع به, بخلاف قول الإمام أبي حنيفة أنك إذا وجدت ما تنتفع به فإنه لا يجوز لك الإقدام على الانتفاع به حتى يرد دليل يبيحه. وقالوا: مثال ذلك الحشيشة، -من العجب أن شخصا حقق كتابا ورد فيه مثل هذا الكلام: "إن الحشيشة كل على أصله, فالشافعي على أصله يبيحها، وأبو حنفية على أصله يحرمها"، ثم علق المحقق بصفحات, فقال: كيف يقال مثل هذا الكلام في الحشيشة التي أجمع العلماء على أنها محرمة, وأنها أشد تحريماً من الخمر؟ ونقل كلام شيح الإسلام، ونقل كلام ابن البيطار، ونقل كلام الإجماع على تحريمها. لكنه لم يفهم المقصود-, أنت في البر, في الخلاء في نزهة وجدت نوعًا من الحشائش أعجبك لونه, وطعمه, ورائحته, ولا عندك نص يمنع، ولا نص يحرم، تأكل وإلا ما تأكل، ليس المقصود بها الحشيشة المسكرة, أو المخدرة، أو المفطرة لا, الحشيشة واحدة الحشيش وهو الكلأ، هل تأكل وإلا ما تأكل؟ إن كنت حنفياً فلا تأكل حتى يرد دليل يقول: "إن هذا من الحشيش المباح"، وإذا كنت على رأي غيره فكر حتى تجد ما يمنع، حتى تجد ما يمنع إما بعينها أو بجنسها الضار مثلاً كما تضر فتمنع للضرر، هذا هو المقصود في كلام أهل العلم حينما يمثلون بالحشيشة ولا يريدون بها الحشيشة المسكرة التي أجمع العلماء على تحريمها, وعلى أنها أضر من الخمرة. أو مثلا وجدت حيوانًا أو دويبة وأنت مشتهي لأكلها مثلاً هل تقدم لأكلها أو تنظر حتى ترى الدليل الذي يبيح أو يمنع؟ كل على مذهبه، أبو حنيفة يقول: "لا تأكل إلا بدليل"، والشافعية ومن معهم يقول: "كُلْ حتى يرد الدليل على منعها". ويوجد في بعض مركبات الأدوية مستخلصات أو أجزاء من بعض الحشرات أو بعض الحيوانات الصغيرة, وبعض الزواحف, وهذا كثير عندهم، وقد يوجد عندهم بكامله محنط ويستعمل في بعض الأدوية، وهو على ما يقولون مجرد لمرض كذا أو مرض كذا، أنت لا تجد نصًّا يدل على الإباحة ولا ما يدل على المنع ففي محلات الأدوية في الشعبية والأعشاب والتداوي بها أمثلة كثيرة، تجدون عندهم في أواني كبيرة كتنك مثلاً فيها من الزواحف البرية أشياء وأنواع تستعمل شيء للظهر, وشيء للبصر, وشيء للركب, أمور عندهم كثيرة, أشياء يكتبون عليها أن هذا نافع لكذا, وأن هذا نافع لكذا, وقد يستندون إلى بعض كتب الطب القديم، يعني: من خواص هذا الحيوان كذا، تجدون في حياة الحيوان الشيء الكثير لكن ما حكم استعمال هذا الحيوان في هذا الدواء؟ هل هو من المباح أو من المحظور؟  لأن الله لم يجعل شفاء أمتي  محمد - عليه الصلاة والسلام - فيما حرم عليها، فكل على مذهبه أبو حنفية يقول: "لا تأكل، الأصل المنع، وأنه لا يجوز الانتفاع إلا بدليل"، وغيرهم يقولون: "انتفع حتى يجد الدليل المانع". أيهما أحوط؟ مذهب أبي حنفية أحوط في باب الأطعمة، مع أنه في باب الأشربة غيره أحوط.

"((إن الحلال بيّن))"، معلوم أن الحلال مستوى الطرفين الذي لا إثم في تناوله ولا إثم في تركه، مما دلت النصوص الصحيحة عليه صراحة هذا بيّن لا خفاء فيه لأحد، فلا يتردد في تناوله إلا من باب أنه قد يجر إلى ما وراءه. فالاسترسال في المباحات يجر إلى المشتبهات, والاسترسال أيضاً في المشتبهات يجر إلى المحرمات على ما سيأتي في بقية الحديث؛ ولذا كان السلف - رحمهم الله تعالى - فيما يذكر عنهم- يتركون كثيرًا من الأمور المباحة خشية أن تجرهم إلى الأمور المحرمة. والنفس لها ضراوة على ما تعتاد، وقد تعتاد شيئًا مباحاً ثم تطلبه في وقت من الأوقات لا تجده إلا من طريق فيه شبهة أو فيه حيلة، ثم بعد ذلك ترتكب بناء أن هذا ليس بمجزوم بتحريمه، فيه شك، فيه تردد, ثم إذا استرسل في هذا النوع جرها. هذا هو الاسترسال إلى الأمور المحرمة.

((وإن الحرام بيّن))، كذلك الحرام الذي دلت النصوص الصحيحة الصريحة على تحريمه، هذا لا يختلف فيه الناس، يعني: هل يختلف الناس في تحريم الخمر كما يختلفون في تحريم الدخان مثلاً؟ الخمر دلت النصوص القطعية الصريحة على تحريمه، بينما الدخان -لا سيما في أول اكتشافه- تردد بعض الناس في حكمه, ثم بعد ذلك لما اكتشف من الناحية الطبية الضرر العظيم المترتب على شربه جزم أهل العلم بتحريمه. وهكذا قد يكون الشيء في أول أمره مما يشك فيه فيكون من نوع المشتبهات، ثم بعد ذلك ينتقل إلى نوع المحرمات أو المباحات حسب ما يتبين لأهل العلم من حقيقته هذا بالنسبة لذات المحرم، وقد يكون الحلال بيّن ظاهر في أول الأمر، ثم بعد ذلك يكتشف فيه ما يضر أو العكس، قد يتخوف الناس من شيء يرون ضرره، ثم بعد ذلك يطمئن الناس من الناحية الطبية أنه لا ضرر فيه, فينتقل من كونه مشتبهاً إلى كونه مباحاً, أو العكس.

((وبينهما مشتبهات)) وفي بعض الروايات: ((مشبهات))، وفي بعضها: ((متشابهات)) وهنا: ((مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس))، هذه الأمور المشتبة المترددة بين النوع الأول وبين النوع الثاني. هذه يخفى أمرها على كثير من الناس.

((لا يعلمها كثير من الناس)) مفهوم ذلك أنه يعلمها أيضاً كثير من الناس، إذا كان الحلال البيّن يعلمه جميع الناس، والحرام البيّن يعلمه جميع الناس, فهذه المشتبهات لترددها بين النوع الأول, والنوع الثاني يخفى أمرها على كثير من الناس, وأمرها ظاهر جلي عند كثير من الناس. فمفهوم قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا يعلمهن كثير من الناس)) أنه يعلمهن كثير من الناس أيضاً, لكن لو كانت العبارة: "لا يعلمهن أكثر الناس"، لقلنا: إنه يعلمهن القليل من الناس؛ لأن الكثير يقابله الكثير، بينما الأكثر يقابله الأقل، ولا شك أن هناك مشتبهات لا يعلمهن إلا قليلٌ من الناس وذلكم لشدة الخفاء في هذه المشتبهات، يعني: قوله: ((لا يعلمهن كثير من الناس)) قالوا: مفهومه أنه يعلمهن كثير من الناس، يعني: هل المقابل الكثير هنا القليل، أو أنه يوجد كثير من الناس وبمقابلهم أيضاً كثير بخلاف الأكثر والأقل؟ حينما يقول الله -جل وعلا-: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [سورة الحجرات:12] إن بعض الظن إثم، مفهومه: أن البعض الأخر من الظن ليس بإثم، فعلى هذا لو قال شخص: "الله - جل وعلا- يقول: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وأقول: إن بعض الظن ليس بإثم"، فنقول: أنت أحد شخصين: إما أن يكون كلامك كفراً, أو يكون صحيحاً. كيف يكون كفرًا؟ إذا قصد البعض الذي قرر وحكم عليه بأنه إثم تكفر بهذا، فأنت مكذب لله، لكن إذا قصدت البعض الآخر الذي يفهم من هذا البعض، نقول: كلامك صحيح؛ لأن مفهوم البعض أن هناك بعض آخر ليس بإثم، وهنا مفهوم كثير من الناس أنه هناك من الناس كثير أيضاً يعلمون هذه المشتبهات، لكن هذا من حيث تحليل اللفظ بخلاف ما لو قال: لا يعلمهن أكثر الناس, فيفهم منه: أنه يعلمهن القليل من الناس. لكن بالنسبة للواقع المشتبهات يعلمها كثير من الناس أو القليل؟ نقول: من هذه المشتبهات ما يعلمها أكثر الناس، ومن المشتبهات ما يعلمها كثير من الناس، ومن المشتبهات مالا يعلمها إلا أقل الناس، أقل القليل من الراسخين من أهل العلم وذلكم لأن الاشتباه أمر نسبي, الاشتباه أمر نسبي، قد يجد اشتباه, يشتبه على كثير من الناس ثم بعد ذلك يأتي من أهل العلم من يجليه ويوضحه للناس فينكشف هذه الاشتباه, ويبقى عدد قليل لا يستوعب هذا البيان فيبقى مشتبها عليه.

 والكثرة وإن كانت بالنسبة لأوساط العلماء وطلاب العلم هي أمر نسبي لكنها بالنسبة لعامة الناس الذين لا يستمعون لتوضيح أهل العلم ولا لبيان أهل العلم، ولا يطالعون ولا يبحثون عن البيان النبوي وبيان من يقوم مقامه من ورثته -عليه الصلاة والسلام- يبقى الكثرة فيهم ظاهرة لعموم الناس، لا يعلمهن كثير من الناس.

 سبب هذا الاشتباه عدم بلوغ الدليل فإذا كانت المسألة خالية من الدليل المانع أو المبيح، صار الحكم فيه بالنسبة للعالم الذي لا يستطيع أن يحكم لعدم وجود الدليل فصارت من المشتبهات حتى يقف على الدليل. فصار الاختلاف في فهم الدليل. أيضاً الاختلاف في الفهم يورث الاشتباه فمثلاً قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((عرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرنة))، عموم المسلمين الذين يتبعون المذاهب الثلاثة لا إشكال عندهم في أن عُرنة ليست بموقف، وأما من يتبع الإمام مالكاً ويرى أن هذه عرفة, لكنه منهي عن الوقوف فيه, ولو لم يكن من عرفة ما استثني. هذا الفهم عند هذا الإمام المعروف بالاطلاع الواسع عن السنة، والفهم الدقيق للسنة, يورث اشتباها عند من يسمع كلامه. فسبب الاشتباه هنا فهم الدليل، الدليل موجود وصحيح وشبه الصريح عند عامة أهل العلم لكن فهم الإمام مالك عن هذا الدليل أورث اشتباها عند بعض الناس، فمما يسبب الاشتباه الاختلاف في فهم الدليل.

 قد يوجد الدليل المانع وله دليل مخصص، أو مقيد أو ناسخ, بمعنى: يوجد رافع كلي أو جزئي لدلالة هذا الدليل الصحيح الصريح, لكن بعض الناس لم يتطلع عليه، هذا أيضاً يورث اشتباها. من الاختلاف في  فهم الدليل عند تعارض الأدلة اختلاف العلماء في التعامل مع هذه الأدلة واختلافهم في القواعد والأصول التي يبنون عليها مذاهبهم هذا أيضاً يورث اشتباها. فمثلاً لو دخل شخصٌ المسجدَ، فالأصل أن يصلي ركعتين امتثالاً للحديث: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)). وقد يدخل اثنان في وقت النهي واحد يصلي وواحد يجلس لا يصلي، هذا عنده أدلة, وهذا عنده أدلة, والتعارض يورث اشتباها، فهاتان الركعتان اللتان يصليهما الداخل في وقت النهي، من الأمور المشتبهة، قد يكون فعلها واضحاً عند بعض الناس، وقد يكون تركها واضحاً عند بعض الناس فتكون إما من القسم الأول عند بعض, أو من القسم الثاني عند بعض، وقد تكون من المشتبهات؛ لخفاء وجه الجمع بين هذه النصوص المتعارضة. ونحن نرى الإخوان يدخلون الآن المسجد بعضهم يجلس وبعضهم يصلي، فبعضهم يعمل بـ:(( لا يجلس حتى يصلي ركعتين)) وبعضهم يعمل بـ: ((لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس)) كل معه حق, وكل معه دليل، لكن ما الحق في هذه المسألة؟ لأن الحق لا يتعدد, وليس كل مجتهد مصيب, الحق واحد لا يتعدد. فمن الذي يقرر أن فلان هو الموافق لما عند الله - جل وعلا- أو أن  فلان الذي فعل ضد ما فعله هو الموافق لما عند الله - جل وعلا- هذا أيضاً مما يورث الاشتباها. والمسألة طويلة الذيول، يعني: حينما يقول الشافعية ومن يقول بقولهم مثل شيخ الإسلام - رحمه الله-: أن أحاديث النهي عامة وأحاديث ذوات الأسباب خاصة، والخاص مقدم على العام، هذا نقل المسألة من حيز الاشتباه إلى حيز الحلال البين، لكن حينما يقول الطرف الآخر: وهم جمهور أهل العلم أن أحاديث ذوات الأسباب عامة في جميع الأوقات، وأحاديث النهي خاصة بهذا الأوقات والخاص مقدم على العام, انتقلت عندهم من النوع الأول إلى النوع الثاني. وبقيت المسألة بالنسبة لكثير من الناس مشتبهة، حتى أن بعضهم قال: "لا تدخلوا المسجد في هذه الأوقات؛ لئلا تقع في الحرج". وبعضهم قال: "إذا دخلت المسجد تظل واقفاً لا تجلس"، ومنهم  من قال: "إذا دخلت المسجد اضطجع يا أخي، كي ما تخالف النص فلا تجلس"، هذا أيضاً مما يورث الاشتباه.

ومن استبان عنده الدليل واتضحت له دلالته صار من الذين يعلمون هذه المشتبهات. وهذا لكل عالم من أهل العلم نصيبه من هذا العلم، الذي نص عليه في هذا الحديث؛ لأن الحلال بيّن هذا ما يكلف المجتهد شيئًا، والحرام بيّن لا يكلف المجتهد شيئًا. لكن هل هناك مشتبهات أو شبهات، أو مشبهات، أو متشابهات تخفى على جميع الناس؟ قلنا: لا يعلمهن كثير من الناس يعلمهن كثير من الناس بالمقابل. هناك أشياء مشتبهة تخفى على أكثر الناس ولا يعلمها إلا القليل النادر. وبعضهم يمنع أن يوجد في النصوص ما يستغلق على جميع أهل العلم، في جميع الأقطار وفي جميع العصور؛ لأن القرآن نزل تبياناً لكل شيء، قال الله -تعالى-: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}[سورة الأنعام:38], والنبي -عليه الصلاة والسلام- أُنزل إليه القرآن ليبين للناس وما ترك شيئًا مما تحتاجه الأمة إلا بينه. وأهل العلم لاسيما أهل التأويل يختلفون في وجود مثل هذا تبعاً للوقف في سورة آل عمران على قوله -تعالى-: {إلا الله}[سورة آل عمران:7] الوقوف على لفظ الجلالة يدل على أن هناك من المتشابه ما لا يعلمه إلا الله، هل يرد هذا المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله على كون القرآن نزل بيانًا لكل شيء, وما فرط في الكتاب من شيء؟ وهل يطعن هذا في وظيفة النبي - عليه الصلاة والسلام - في بيانه للناس ما نُزّل إليهم؟ أو نقول: إن وجود مثل هذا وهو قليل نادر لامتحان إيمان بعض الناس، كما قال الله -عز وجل-: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا} [سورة آل عمران:7] هذا لامتحان الإيمان, وهذا بناءً على الوقف على لفظ الجلالة. أما الوقف على: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} -كما يقول مجاهد وغيره- يدل على أنه لا يوجد هناك من المتشابه ما يعجز عنه جميع أهل العلم حتى الراسخين. ووجود القليل النادر لا يقدح في القواعد العامة، كما أن كون القرآن بلسان عربيٍ مبين، لا يعني: أن وجود كلمة أو كلمات بغير العربية تقدح في كونه: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [سورة الشعراء:195] الشيء القليل النزر اليسير هذا لا يقدح في القواعد العامة، على خلاف بينهم في وجود كلمات أعجمية في القرآن بعد إجماعهم أنه لا يوجد تراكيب أعجمية، فجمل أعجمية غير موجودة بالإجماع، وأعلام أعجمية موجودة بالإجماع. لكن الكلام في الألفاظ الأعجمية, هل هي موجودة في القرآن أو غير موجودة؟ تدخل تحت النفي أو لا تدخل؟ والشيء اليسير يقرر جمع من أهل العلم أنه لا يؤثر في الحكم. على أن ما قيل في القرآن من الكلمات الأعجمية, من أهل العلم من يقول: إنها مما اتفقت عليه اللغات، يعني: تكلم به العجم, وتكلم به العرب, أو أن أصله أعجمي ثم عُرب. وكون الشيء القليل النادر لا يؤثر في كون القرآن نزل بلسان عربي, لاسيما مع وجود الأعلام الأعجمية, وسمى بها العرب وتداولها ولاكتها أنفسهم, لا يبرر لما يقوله بعض الناس من استعمال بعض الاصطلاحات والألفاظ الأعجمية، مع وجود ما يقوم مقامها من الألفاظ العربية. فتجد بعض الناس يخاطب ببعض الألفاظ الأعجمية, يقول: "إن هذا لا يؤثر في كون اللغة العربية هي الأصل". نقول: إن هذا لو وجد في غير هذا العصر الذي ظهرت فيه الأمة مظهر الضعف، وأن من تكلم بهذه الألفاظ يقتدي بالكفار ويلهج بلهجتهم  من باب الإعجاب بهم كما هو ظاهر. يعني: مرة في سؤال على الهاتف سأل واحد سؤال شرعي يسأل عن حكم شرعي لما انتهى من السؤال. قال: "أوكي"، هذا لا يليق بشخص لاسيما في مثل هذا المقام. لا شك أن هذا يدل على شيء من الانهزامية, وعلى المسلم أن يعتز بدينه، ولغته التي حملت هذا الدين. تجدون بعض الألفاظ يتشدق بعض الناس من باب الإعجاب، نقول: هذا لا شك من منعه لكن قد تكون الحاجة داعية إلى تعلم بعض اللغات والتخاطب بها والتحدث بها عند الحاجة، هذا أمر لا إشكال فيه إن شاء الله - تعالى- لكن لا لجميع الناس وإنما لمن يحتاجه فقط. الأصل المنع والحاجة تقدر بقدرها، لكن المشكلة في حينما يتخاطب الناس به بين أهليهم وذويهم وأقرانهم, وأمثالهم ونظرائهم يتشدقون بها، هذا هو محل النظر.

((فمن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعرضه))، الأمر المشبه الذي لم يتبين ولم يتحرر لك أنه من النوع الأول أو من النوع الثاني، عليك أن تتقيه؛ استبراءً للدين، طلباً لبراءة دينك, وعِرضك. ولا شك أن طلب البراءة للدين أمر مطلوب لتخرج من العهدة بيقين، اترك هذا الأمر، اترك هذه الشبهة وعليك أن تجعل بينك وبينها وقاية طلباً لبراءة دينك, وأنت مطالب بهذا، لكن ما معنى استبراء العرض؟

 استبراء العِرض يعني: أن الناس إذا رأوك تتناول هذه الأمور وتزاول هذه الأمور المشتبهة لاكتك ألسنتهم، فمنهم من يقول: "فلان يرتكب حرامًا"؛ لأن ميله إلى أن هذا الأمر المشتبه من النوع الثاني. ومنهم من يقول: "يرتكب حلالاً". ومنهم من يقول: "هذا لا يحتاط لدينه"، فتبقى حديثاً للناس في مجالسهم ينالون ما ينالون من عرضك الذي هو محل المدح, أو الذم, فأنت عليك أن تطلب البراءة لعِرضك. لكن هل ملحظ العِرض، ملحظ الدين شرعي، لكن هل ملاحظة الناس وترك العمل من أجل ألا يقول الناس: "فلان يفعل كذا" أو "فلان يفعل كذا"، هل هذا شرعي أو غير شرعي؟ كونك تترك المباح؛ لئلا يقول الناس: "الحلال بيّن" أو تترك المأمور به؛ لئلا يقول الناس: "هذا رياء"، كما أنك لو فعلت شيئاً من أجل الناس -ولو كان أصله شرعياً- فإنه من باب الرياء، لكن الأمر المتردَّد فيه هل يلاحظ فيه كلام الناس، وهل لكلام الناس أثر في الفعل أو الترك؟

((فقد استبرأ لدينه وعرضه))، الاستبراء للدين شرعي والاستبراء للعرض شرعي, أو غير شرعي؟ كونه دافع للفعل أو دافع للترك؛ لئلا يقول الناس: "إنه يفعل كذا" أو "يترك كذا", هذا في الأصل ليس بشرعي؛ لأن المنظور إليه هو الله وحده -جل وعلا-، لكن باعتبار أن هذا الأمر صار سببًا لتأثيم بعض الناس، وصار سببًا لضررك؛ لأن الكلام يجر بعضه بعضاً إلى أن يصل إلى حد ما يتضرر به الإنسان, فعليك أن تستبرأ لا سيما ومسألة في أمر لم يتبين لك فيه الترك أو الفعل. أما ما تبين لك فيه الفعل أو الترك من النوع الأول أو الثاني فلا تلتفت إلى كلام أحد، لا تلتفت إلى كلام أحد لاسيما في المأمورات والمنهيات. فعليك أن تفعل ما أمرت به ولو قال الناس ما قالوا، وعليك أن تنتهي عما نُهيت عنه لو قال الناس ما قالوا، يبقى الأمور المشتبه التي ليس ما يدل عليها صراحة إما أن تفعل وإما أن تترك، فمثل هذا عليك أن تتقي وتستبرأ لعرضك. 

 "((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام))"، هل وقع لا محالة أو كاد أن يقع؟ من المعلوم أن النفس تقود الإنسان إذا اعتادت على شيء, وقد لا يكون مقصودا له من أول الأمر أن تعتاد المباح وتكثر منه وتستغرق وتوغل فيه فتعتاده نفسك، وتكون لها ضراوة فيه بحيث تجبرك على تناوله في كل وقت، إذا اعتدته. وهذا ما يعرف بنوع الإدمان، والإدمان هو المداومة على الشيء وإن اقترن ببعض الأمور دون بعض، والإدمان على هذه المباحات يجعلك تطلبها في أول الأمر من حلها؛ لأنك مسلم تتدين بالإسلام وتأتمر وتنتهي هذا الأصل، لكن قد لا تجد هذا المباح الذي عودت نفسك عليه من أمر حلال بيّن، فتطلبه بوسائل أو بطرق قد لا تسلم وقد تتأول، قد تقول: "الجمهور يبيحون هذا"، فمثلاً أنت في أول الأمر تتورع عن مسألة التورق؛ لأن فيها كلام لأهل العلم، كلام لابن عباس وكلام لعمر بن عبد العزيز، وكلام لشيخ الإسلام, فهذا الكلام يورق شبهة، لكن ليستْ من القوة بحيث يتركها الإنسان إذا اضطر إليها مع عدم وجود البديل؛ لأن الأئمة وعموم أهل السلف والخلف على جوازها. وعرف ابن عباس بالمنع عنها، وعمر بن عبد العزيز، وشيخ الإسلام ابن تيمية، فهؤلاء يحرمونها, ومن عداهم يقولون: "إنها هي الحل الوحيد حينما تستغرق الطرق من القرض, أو السَّلَم, أو غيرهما من الحلول الشرعية"، لكن إذا استغلقت الأبواب وأنت مضطر إلى مبلغ من المال, عامة أهل العلم على جوازها.

فأنت تتورع في أول الأمر فلا تسلكها ثم بعد ذلك تجد نفسك مع التوسع في المباحات أنك محتاج إلى هذه المسألة، مع أنك كنت ممن يتورع عنها، وإذا توسعت قد تأخذ أموال الناس للتكثر لا للحاجة, ولا للضرورة، مع أنه قد جاء المنع عنه. تصور ما وجدت من تتعامل معه هذه المعاملة على جهة التورق، وأنت عودت نفسك على هذا الأمر الذي لا تستطيع أن تتخلى عنه، تذهب إلى مسألة أشد منها تقول: "العِينة يبيحها الشافعي", يعني: انتقلنا من مسألة يبيحها عامة أهل العلم ويمنعها القليل، انتقلنا إلى العكس مسألة العينة، وصورتها أن يبيع عليك السلعة فبدل من أن تبيعها على غيره في مسألة التورق يشترط عليك أن تبيعها عليه؛ هذه مسألة العِينة. تقول: "والله, يبيحها الشافعي وأتباعه, والشافعي إمام من أئمة المسلمين، فما المانع ما نستعملها؟ ولست بأورع من الشافعي". فترتكب العينة ثم يتدرج الأمر إلى أن ترتكب الربا المجمع على تحريمه؛ ولذلك ترك كثير من السلف كثيرًا من المباحات ليس من باب العبث ولا من باب التضييق على النفس. وإذا وجد في عصرنا من يترك كثيرًا من المباحات ويقتصر على القليل؛ لأن الدنيا ممر ومعبر إلى الآخرة، تجد الناس يسخرون منه ويتحدثون فيه في المجالس. وهل مثل هذا الترك مما يستبرأ به العرض، ولا يستبرأ به الدين, إلا إذا قلنا: إنه يُحَرِّم ما أحل الله؟ لكن إذا كان يرى هذه الأمور مباحة, لكن يقول: "ليس هناك الداعي إلى أن أُمَرِّن نفسي على أمور تنقطع فيما بعد، ثم أبحث عنها فلا أجدها وقد تجرني إلى أشياء وأنا لست بحاجة ولست بملزم أن أستعمل هذا المباح", فلا حرج. وهكذا يكون التدرج والخوف من الاسترسال في المباحات من هذا, فيكف بالشبهات؟ إذا استرسل الإنسان في الشبهات يوشك أن يقع في الحرام، فالذي يسترسل ويتعامل مع الناس طول عمره في مسألة التورق -وهذا وجد من بعض التجار أنه استعمل هذه المسألة مع الناس خمسين سنة-, هل يتيسر له في كل وقت سلعة يملكها مِلكًا تامًّا يحوزها إلى رحله ثم يبيعها على المحتاج, ثم يحوزها المحتاج إلى رحله ثم يبيعها على طرف ثالث؟ هل تتيسر هذه العمليات بهذه الطريقة في كل وقت؟ لا. تجده أحياناً يضيق عليه الوقت, وأحياناً لا يتيسر له, وأحياناً التاجر الأول لا يمكنه من حيازة السلعة, ثم بعد ذلك يريد أن يمشي هذا الزبون لا يفوت؛ لأنه اعتاد هذه الطريقة فيتجاوزها فيقع في الحرام.

 ((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام))، يعني: نقول: وقع لا محالة, أو أنها تجره إلى الوقوع في الحرام كما أن المباحات تجره إلى الوقوع في المشبهات والمكروهات؟ وجاء في الحديث: ((لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده))، قال أهل العلم: إن البيضة ليست بنصاب تقطع فيه اليد، وإنما يعتاد سرقة الشيء اليسير حتى يقوده ذلك إلى سرقة ما هو أكبر منه حتى يصل إلى النصاب الذي تقطع به اليد.

((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام))، يعني: يكاد أن يقع في الحرام أو أن هذه الشبهات تجره إلى الوقوع في الحرام، كما أن سرقة الشيء اليسير يجره إلى الوقوع في سرقة الشيء الكبير التي تقطع به اليد؟ فلو قلنا: إنه وقع في الحرام لا محالة, قلنا: إن الشبهات من النوع الثاني، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، إذاً الشبهات حرام فانتقلت إلى النوع الثاني بدلاً من أن تكون من النوع الثالث.

 ((كالراعي يرعى حول الحمى))، الحمى ما يحميه من يقدر عليه، بحيث يمنع الناس منه من الأمور المباحة. الإنسان يحمي ماله, ولا يلام في ذلك. اشترى أرضاً فسوّرها ومنع الناس من دخولها, يمنع من ذلك؟ لا. المقصود حمى المباح, ومنع الناس من دخوله والرعي فيه. ((كالراعي يرعى حول الحمى))، راعي الإبل, أو الغنم, أو البقر, أو الخيل, أو غيرها من الحيوانات يرعى حول حمى هذه البهائم, وهذه الحيوانات لا تُملك من أن تدخل هذا الحمى لاسيما إذا كان هذا الدخول ممكناً، هذه تستدرج تأكل مما حولها ثم تنتقل إلى الذي بعده، ثم تنتقل إلى الذي بعده حتى تدخل في هذا الحمى، ومثل هذا متصور لأن هذه بهائم لا عقل لها, لا تأتمر ولا تنتهي إلا بما تراه من حولها إذا كان الراعي معه العصا ويذوده عن هذا المكان تنزجر, وإلا هي تسترسل وترعى تجد الرعي.

((يوشك أن يرتع فيه))، قد لا يستطيع منع هذه الدواب وهذه المواشي وقد يستطيع لكن لا يملك نفسه، يتركها يقول الذي حماها لا يراقبون ولا يدري ما المانع؟ والأرض واحدة وكلها لله، يتأول لاسيما إذا كان الحمى بحق. لأن الحمى قد يكون بحق, ومباح إذا كان لمصالح المسلمين العامة, كإبل الصدقة, أو مَنَعَ الحاكم من دخول هذه الأرض؛ لأنه ينوي فيها إقامة مشروع لعموم المسلمين, ينفعهم هذا له أن يحمي هذه الأرض، أما بغير حق كأن يحميها لأمواله الخاصة, فهذا لا يجوز. والحديث لم يُسق لبيان حكم الحمى، وهنا نقول: إن النص قد تكون دلالته على المسألة أصلية وقد تكون دلالته على المسألة تبعية. ومن الأخبار ما يساق لبيان الواقع لا للدلالة على حكم أصلاً، فهنا إنما هو لبيان الواقع, لا لبيان حكم الحمى كما ذكر النبي - عليه الصلاة والسلام-، ما يكون في آخر الزمان، ذكر فيه أمورًا محرمة, هل معنى هذا أن ذكر النبي - عليه الصلاة والسلام - لها يدل على إباحتها؟ وأن الظعينة تركب من المدينة إلى عدن, أو من المدينة إلى كذا, هذا يدل على جواز سفر المرأة بغير محرم؟ هذا حكاية واقع، لا يدل على الحكم الشرعي. وليس في مثل هذا الدليل دلالة لا أصلية ولا تبعية. والدلالة الأصلية هي مجمع على العمل بها, ولزومها، وأما بالنسبة للدلالة التبعية فهي محل خلاف بين أهل العلم, والشاطبي فيما قرره في الموافقات أنها لا يستدل بها, إنما يستدل بالدليل على ما سيق لأجله. ونجد أهل العلم يستنبطون من الآية أو من الحديث المسائل الكثيرة منها: ما يقرب استنباطه, ومنها: ما يكون الاستنباط ظاهرا، وقريبا لكنه أبعد من الذي قبله, لكنه يكون وجه الدلالة منه بعيداً.

ولا شك أن النص الشرعي حينما يساغ إذا كان من آية أو من حديث ثابت أنه من قول الله - جل وعلا- أو من قول من لا ينطق عن الهوى, {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم:4], لا يخفى عليه ما ينتاب هذا الدليل, وما يعرض له، إذا كان سيق لبيان حكم من الأحكام, فتجد من الأحاديث ما استنبط منه أهل العلم أكثر من مائة فائدة، مائة حكم، مائتي حكم, أحكام كثيرة يستنبطون من الدليل الواحد, منها ما دلالة الخبر عليه ظاهرة، ومنها ما دلالة الخبر عليه متوسطة، ومنها ما دلالة الخبر عليه خفية. هذا فيما إذا لم يعارض هذا الدليل بمدلوليه الأصلي والتبعي. أما إذا عورض فلا شك أن العمل بالأقوى من حيث الثبوت ومن حيث الدلالة. فمثلاً الحائض تفعل ما يفعله الحاج غير ألا تطوف بالبيت، استدل به من يقول: "إن الحائض تقرأ القرآن"؛ لأن الحاج يقرأ القرآن، لكن الوصف المؤثر في المسألة الحج, وهل من أعمال الحج المقصودة قراءة القرآن؟ بل ليس من أعمال الحج قراءة القرآن؛ ولذا لو حج شخص ولم يقرأ إلا في الصلاة إذ في الصلاة لا بد من قراءة, أو أن حائض حجّت وفَوْرَ أن طهرت طافت ولم تتكلم بكلمة، ومع هذا منذ أحرمت إلى أن حلت ما قرأت شيئًا من القرآن, حجها صحيح أو غير صحيح؟ صحيح, فليس القرآن من متطلبات الحج. فالدلالة هنا تبعية ملغاة باعتبار المعارضة, وهذا على خلاف بين أهل العلم في ثبوت المعارض وعدم ثبوته. ومثل ذلك حينما يستدل الحنفية على امتداد وقت الظهر إلى مصير ظل الشيء مثليه بحديث: ((إنما مثلكم ومثل من كان قبلكم كمثل من  استأجر أجيراً إلى نصف النهار - يعني: إلى الزوال- بدينار، ثم استأجر أجيراً إلى وقت العصر بدينار، ثم استأجر أجيراً إلى غروب الشمس بدينارين، فاحتج أهل الكتاب, فقالوا: نحن أكثر عملاً وأقل أجرًا))، فيقولون: المثل الأول الذي نصف النهار مثلاً لليهود، والمثل الثاني من نصف النهار إلى وقت العصر مثلاً للنصارى، ومثل من وقت العصر إلى غروب الشمس مثلا للمسلمين, فاحتج اليهود واحتجاجهم ظاهر، فوقتهم أطول وأجرهم أقل، وكذلك احتجاج النصارى. فيقول الحنفية: "لا يمكن أن يكون ظاهراً وجيهاً إلا إذا قلنا: إن وقت الظهر يمتد إلى مصير ظل الشيء مثليه؛ لأنا لو قلنا: وقت الظهر ينتهي إلى مصير ظل الشيء مثله ما قلنا: إنهم أكثر عملاً". هل يمكن أن يستدل بمثل هذا الحديث على وقت الظهر إلى مصير ظل الشيء مثليه مع وجود أحاديث صحيحة صريحة، كحديث عبد الله بن عمر بن العاص في مسلم: ((ووقت الظهر إلى مصير كل شيء مثله))، يعني: يعارض هذه الدلالة التبعية التي لم يُسَقْ الحديث من أجلها وإنما سيق الحديث لبيان فضل هذه الأمة. فهذه الدلالة التبعية معارضة بدلالة أصح وأصرح منها، فمثل هذا تكون الدلالة التبعية ملغاة على القول بأنه يمكن أن يكون في بعض الأوقات, أو في بعض الأماكن أن وقت الظهر ممساوٍ أو أقصر من وقت العصر, إذا قلنا: إنما ينتهي بمصير كل شيء مثله، مع أن ابن حزم -وهو والواقع- يشهد بأن وقت الظهر أطول في كل زمان وفي كل مكان من وقت العصر، حتى على قول الجمهور الذين يرون أن وقت الظهر ينتهي بمصير ظل كل شيء مثله.

((ألا وإن لكل ملك حمى))، قلنا: إن هذا بيان للواقع وأن الملوك يحمون. ومنهم: من يحمي بحق فيكون من نوع المباح, ومنهم: من يحمي بظلم, وعدوان, لا حق له في هذا الحمى لمنع المسلمين مما أباحه الله لهم من لمصالحه الخاصة, وهذا من النوع المحرم.

 ((ألا وإن حمى الله محارمه))، المحارم التي جاءت الأدلة بتحريمها هذه هي الحمى الذي لا يجوز أن يُقتَرب منه؛ ولذا جاء النص على قوله -تعالى-: {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [سورة البقرة:187]. القرب من المحرم يوقع فيه لا محالة, ولذا جاءت الشريعة بسد الذرائع الموصلة إلى المحرمات. نسمع الآن الأقوال والمقالات -فيما يُسمع, ويُرى ويُقرأ- تمثِّل الحملة على موضوع سد الذرائع, حتى قال من قال: "إننا ضيعنا على أنفسنا بسد الذرائع والمحرمات قليلة, فلماذا هذا التضييق؟" وكتب من كتب في الصحف وغيرها بعنوان "فتح الذرائع". لماذا؟ لأن المحرمات المنصوصة بعينها قليلة, وهو يريد أن يتنصل عن هذه المحرمات ويترك الحرية لنفسه يفعل ما شاء. لماذا حرم النظر إلى المرأة الأجنبية؟ هل حرم النظر لمجرد النظر؟ لماذا حرم الاستماع إلى ما يثير الغرائز؟ كل هذا إنما حرم من أجل الفاحشة الموبقة من الموبقات, - نسأل الله السلامة والعافية-. فالأبواب الموصلة إليها كلها موصدة, وهؤلاء يريدون أن تُفتح هذه الأبواب. وهل يعقل أن الإنسان إذا وقع على شفير الشيء أن يملك نفسه دونه؟!!

تقول عائشة: ((كان النبي - عليه الصلاة والسلام- يأمرني فأتزر ثم يباشرني وأنا حائض)). وقرر جمع من أهل العلم أنه يجوز الاستمتاع بما فوق السرة وما تحت الركبة، ويبقى ما دون ذلك حمى؛ لئلا تُقرب المرأةُ وقت المحيض. فهذا حمى, وهذا من باب سد الذرائع, وإن كان يوجد ما يدل على استعمال ما فوق ذلك لمن يملك نفسه، لمن يملك نفسه, والعلماء يقررون بالنسبة للقبلة للصائم أنها تجوز لمن يملك إربه, ويمنع لمن لا يملك خشية أن يقع فيما يبطل صومه. فسد الذرائع بابه معروف في الشرع ومقرر، كما قال الله -تعالى-: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الأنعام:108].  سب آلهة المشركين لا شك أنه حصل من الأنبياء، حصل تكسيرها, وتحطيمها, لكن لما كان ذريعة إلى أن يسب الرب - جل وعلا- منع من هذه الحيثية؛ سداً  لهذه الذريعة.

((ألا وإن حمى الله محارمه)), فالحرام البين هذا مما لا يختلف فيه ولا يجوز أن يقرب، بل يجب أن يبتعد عنه. الوسائل الموصلة إلى المحرمات لها أحكام هذه المحرمات، فالوسائل لها أحكام الغايات، والمحرم والمحارم كلها من الحرمان الذي هو المنع، فيمنع منها ومن قربانها، من أن يقرب منها أو يستعمل الوسائل الموصلة إليها. فمن يستعمل وسائل هذه المحرمات لا شك أنه يجد نفسه في يوم من الأيام مقارفا لهذه المحرمات، وهذا مثل ما قلنا في التدرج في كسب الأموال، تجده يحرص على الحلال في أول الأمر ويستبرأ لدينه وعرضه، ثم يقوده النهم، كما قيل: "منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب مال"، فيقوده النهم بعد ذلك إلى أن يأتي إلى الأمور المختلف فيها والراجح جوازها، ثم ينتقل إلى الأمور المختلف فيها والمرجح تحريمها, ثم بعد ذلك يقوده ذلك إلى المحرم المجمع عليه.

((ألا)) وهذه حرف تنبيه وتوكيد أيضاً. ((وإن)) حرف توكيد.

((ألا وإن في الجسد مضغة))، ألا وإن في الجسد، -الجسد والبدن واحد-, والمراد به: المحسوس, وهو قسيم الروح والنفس التي يتركب منهما الإنسان. ((ألا وإن في الجسد مضغة))، يعني: قطعة لحم صغيرة, بقدر ما يمضغه الإنسان، بقدر ما يمضغه من الطعام.

((إذا صلحت صلح الجسد كله))، صلحت وصلح تضبط بفتح اللام وضمها, والفتح أكثر وأشهر. ((إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)), إذا كان الأمر كذلك فعلى المسلم أن يُعنى بإصلاح قلبه، وأن يكون همه بإصلاح قلبه أكثر من همه بإصلاح بدنه، فصلاح القلب لابد أن يكون الاهتمام به أكثر من الاهتمام بصلاح العمل، وللقلب آفات، أوصلها بعضهم إلى نحو من الأربعين فعلى الإنسان أن يعرفها، وأن يعرف كيف يعالج قلبه منها؛ ليبرأ منها، ومن تبعاتها، قال الله -تعالى-: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [سورة الشعراء:88-89]. فسلامة القلب هي محط النجاة, وهي السبب في نجاة الإنسان يوم لا ينفعه ماله ولا بنون.

((ألا وإن في الجسد مضغة, إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب))، بعضهم يمثل القلب بالملِك، والأعضاء بالرعية، وأن هذا الملك إذا أمر هذه الرعية امتثلت. هل يأمر القلب ولا تتحرك اليد، بل ترفض؟ إذا لم تتحرك اليد فمعناه: أن هذا الأمر ملغى, كمن أراد أن يتناول شيئًا بأمر من القلب ثم عدل عنه. وبهذا يكون أبلغ من الملك؛ لأن رعيته لا يمكن أن تخالفه, بينما الملك يوجد في رعيته من يخالفه.

 هذه المضغة في بدن الإنسان هي الآمر, وهي الناهي بالنسبة للأعضاء, ولا يمكن لعضو من الأعضاء أن يتخلف عن أمره إلا إذا كان هذا العضو معطلاً وأمره حينئذ يكون لغواً وعبثاً. إذا كانت اليد مشلولة, هل يمكن أن يقول القلب لهذه اليد: ارتفعي فتناولي كذا؟ إذا كانت اليد معطلة مشلولة لا يمكن ذلك، ومن السفه أن تأمر هذه اليد كما يقال للمقعد: "اجري"، هل يمكن أن يأتي ملك بكامل عقله يأمر المقعد بأن يجري, أو يأمر الأعمى أن يبصر؟ إلا على القول بأن الأسباب لا أثر لها كما يقوله الأشعرية، فيقولون: "الأمر سهل، يقال للأعمى: انظر ما الذي أمامك" هذا مقتضى قولهم؛ لأنهم يقررون أن أعمى الصين في أقصى المشرق يجوز أن يرى بقرة الأندلس. وإذا كان يجوز عقلاً عندهم أن يرى بقرة الأندلس, لماذا لا يؤمر أن يرى؟ إذًا يجوز أمره بأن يرى؛ لأن العقل إذا أجاز هذا أجاز هذا، إذا أجاز الغاية أجاز الوسيلة، لكن هل هذا من العقل في شيء؟ هل يمكن إلغاء الأسباب إلغاء كلياً؟ هذا خلل في العقل، كما أن الاعتماد على الأسباب خلل في الشرع كقول المعتزلة. فعلى هذا القلب لا يأمر اليد المشلولة أن ترتفع لتناول ما يحتاج إلى رفع اليد، لكن اليد السليمة التي يمكن أن تتناول، والرِّجل السليمة التي يمكن أن تمشي, والعين السليمة التي يمكن أن تنظر, والأذن السليمة التي يمكن أن تسمع, لا شك أنها تأتمر بأمره, ولا يمكن ولا يتصور أن تتأخر عن أمره إلا إذا ألغى هذا الأمر. والقلب الذي هو بهذه المثابة هو محل العقل الذي هو مناط التكليف. وهذه المسألة كبرى مسألة محل العقل من البدن مسألة كبيرة جداً ومعضلة من المعضلات، فالنصوص الشرعية كلها تخاطب القلب، مع أنها تقرر أن مناط التكليف العقل، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((رفع القلم عن ثلاثة: والمجنون حتى يعقل...))، فهناك ارتباط بين القلب والعقل لا محالة. يعني: من نظر إلى النصوص جزم بهذا وقطع به بدون تردد؛ ولذا يقرر أهل العلم أن محل العقل القلب. ويشكل على هذا من حيث الواقع, أنه لو نقل قلب من إنسان إلى إنسان ما تأثر المنقول إليه بأفكار المنقول منه، ولو تعرض الرأس لخلل تأثر العقل وإن كان القلب سليماً, فاعلاً, فهذا إشكال. لكن هل من أجل هذا الإشكال نقضي على النصوص التي منها قوله -تعالى-: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَاَ} [سورة الأعراف:179]؟ هل يمكن أن نقضي على مثل هذا وعلى الجمع من النصوص التي تخاطب القلب, وتجعل مناط التكليف مما يدل على أنهما شيء واحد، أو أحدهما ظرف, والثاني مظروف, كل النصوص على هذا؟ هل نقضي عليها بمثل قولهم: "إن القلب قد يكون سليماً والعقل مختلا أو العكس؟ قد يكون القلب سقيماً من الناحية الطبية, والعقل سليما الذي هو مناط ومتعلق التكاليف الشرعية. هل نقول: إن العقل شيء مستقل استقلالاً تامًّا -كما يقوله الأطباء- عن القلب الذي هو المضغة؟ حتى قرر بعضهم: أن هناك قلبا متعلقا بالبدن، قلب محسوس، وهو المضغة، وقلب متعلق بالشعور, -وهو المعقول اللامحسوس- المتعلق بالدماغ. هذا يقوله بعضهم.

 لكن الحديث يقول في الجسد، ومضغة يعني: محسوسة، وهذا واقع القلب المعروف المعلق في داخل القفص الصدري. يعني: إذا فتح الرأس يوجد فيه مضغة تعرف بالقلب؟ بإجماع الأطباء لا؟ فهذا الحديث الصحيح المتفق عليه يقرر أن القلب الذي يتعلق به الصلاح والفساد هو هذه المضغة؟ وهل مع هذا البيان ما يحتاج إليه من بيان، مع النصوص الأخرى الواردة في الكتاب والسنة؟ لا. لكن ما موقف المسلم من مثل هذه الأمور التي تشاع بين فينة وأخرى على يد الأطباء, أو على غيرهم ممن يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا؟ هل تختل عقيدة المسلم واتباعه لنصوص الكتاب والسنة بمثل هذا الكلام؟ أحياناً يظهر لك أشياء محسوسة؛ الحمل يخبر عنه قبل خروجه من بطن أمه بستة أشهر, خمسة أشهر, يقال: ما في بطنها ولد أم بنت ثم يقع الواقع كذلك، وقد يصور بآلاتهم وأجهزتهم، والنبي - عليه الصلاة والسلام- يقول: ((في خمس لا يعلمهن إلا الله، لا يعلم ما في الأرحام إلا الله)). هل تختل عقيدتنا بمثل ما يقرره الأطباء بمثل هذا؟ الاستمطار الذي يدعونه في سورة الواقعة: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ*لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ}[سورة الواقعة: 68-70] لم يقل: "لجعلناه"؛ لأنه لا يحتاج إلى تأكيد، ليس هناك أحد يتردد في هذا من أجل أن يؤكد له الكلام. وهم يدعون بالاستمطار. هل تختل عقائدنا بمثل هذه الاكتشافات؟ أبداً، نصوصنا على العين والرأس إذا استوعبنا واستطعنا أن نوفق بينها فبها ونعمة, وإلا فالنصوص قاضية على كل قول. وقَدَمُ الإسلامِ لا تثبت إلا على قنطرة التسليم، ولذلك إذا تعارضت هذه الأقوال مع النصوص الصريحة الصحيحة نضرب بها عرض الحائط، ونقرر أن العقل في القلب, كما اتفقت على ذلك النصوص كلها، يعني: وإن قلنا بقول -هو رواية عن الإمام أحمد- أن له اتصالا بالدماغ، بمعنى: أنه يتأثر بتأثر الدماغ وبذلك تجتمع الأقوال، ويكون المحل الأصلي، والمقر الأصلي للعقل هو القلب, ويكون هناك مؤثر آخر وهو الدماغ. وذلك كما يتركب الكهرباء من السالب والموجب, ولا يمكن أن يقوم الكهرباء بواحد منهما. وعلى كل حال القول المحقق أن العقل محله القلب كما يقرره عامة أهل العلم.

إذا كان القلب بالنسبة إلى المسلم بهذه المثابة, ومدار الصلاح والفساد عليه, فلماذا يغفل كثير من الناس عن إصلاح قلبه؟ وتجد كثيرًا من الأمراض المتعلقة بالقلب مستعصية لدى كثير من المسلمين حتى من بعض من ينتسب إلى العلم وطلبه, تجده يقول: "حاولنا إصلاح النية, وعجزنا"، أو "حاولنا الإقبال على الله والخشوع في الصلاة عجزنا"، أو "حاولنا ترك الحسد عجزنا"، أو "حاولنا محاربة العجب عجزنا"، وتجده يسعى جاهداً لمعرفة أحكام الصلاة, وأحكام الصيام وهذا مطلوب, قال -عليه الصلاة والسلام-: ((من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)) لكن المدار على القلب. لماذا لا نسعى في إصلاحه؟ ونجد الكتابات -مع أن القرآن والسنة الاهتمام بالقلب وبالأمور التي تصلح القلب فيهما ظاهر, لكن نجد المؤلفات عند أهل العلم أقل بكثير من كتب الفقه العملي الظاهر، ونحن بحاجة إلى إصلاح الباطن؛ لأن المدار على هذا الباطن، والنبي - عليه الصلاة والسلام- يقول: ((التقوى هاهنا)). نعم التقوى خفية محلها القلب لكن علامتها, وعلامات صدق هذه الدعوة تظهر على الجوارح؛ ولذا يخطئ كثير من يقول: التقوى هاهنا، والأمارات والعلامات عليه ظاهرة بضد ما ادعى. تجده يرتكب المحرم ويقول: "هذا أمور ظاهرة لا مشكلة فيها، التقوى هاهنا,كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام-". يا أخي لو اتقيت لما فعلت، كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام- لابن مظعون لما تأول وشرب الخمر قال: ((لو اتقى الله ما شرب الخمر))، فكيف تعصي الرب بالمعاصي الظاهرةِ وتزعم التقوى وحقيقة التقوى: فعل الأوامر, واجتناب النواهي؟ نعم, محلها القلب لكن آثارها تظهر على الجوارح كالشهود للدعوة فإذا كان على الجوارح ما يناقض التقوى فأنت كاذب في دعواك، وإذا ظهر على جوارحك ما يوافق التقوى من فعل الأوامر واجتناب النواهي فدعواك صادقة.

 "رواه البخاري ومسلم" فهو متفق عليه. وفي الصحيح ألفاظ كثيرة لهذا الحديث مثل ما مثلنا بـ"المشبهات", و"الشبهات", و"متشابهات", و"مشتبهات". وترجم عليه الإمام البخاري في مواضع من كتابه خمسة كلها استنباطات، وأورده في كتاب الإيمان وهو محله الأصلي؛ لأن الإيمان محله القلب, والحديث نص على القلب، وإن كان للجوارح نصيب من الإيمان؛ لأنه قول باللسان, واعتقاد بالجنان -الذي هو القلب-, وعمل بالأركان. فالعمل بالأركان كالأدلة على ما في القلب، والقلب سمي قلبا إنما هو لتقلبه؛ ولذا كان كثيرا ما يدعو النبي - عليه الصلاة والسلام- بقوله: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)).

القلب أيضاً يقال له: فؤاد.

بنقل عدلاٍ ضــــابط الفـــــــــؤاد

 

.............................

 

وهو القلب.

منهم من يقول: إن القلب سمي بذلك؛ لأنه يوجد مقلوبا في البدن، لكن هذا ليس بصحيح, لأنه ليس له أعلى وأسفل ليعرف أنه مقلوب, أو غير مقلوب.

البخاري - رحمه الله تعالى- أورد الحديث في باب الإيمان, وأورده أيضاً في أوائل المعاملات، من أجل اتقاء الشبهات، وأورد خبرا عن حسان بن أبي سنان، حسان بن أبي سنان قال: "ما رأيت شيئاً أهون من الورع ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))" هذا يتكلم من مقامه هو, لا من مقام عامة الناس, يعني: إذا كان الورع يستصعبه سفيان وابن المبارك وغيرهما, فضلاً عما دونهما, فكيف يقول حسان بن أبي سنان: "ما رأيت شيئاً أهون من الورع"؟ لأن هناك أمورًا صعبة وعسيرة لكنها بالمقابل يسيرة على من يسرها الله عليه. حسان بن أبي سنان سهل عليه الورع أي شيء يشك فيه يتركه, لكن هل هذا سهل على عموم الناس؟ هذا ليس بسهل, يعني: كم نجد في الناس من مرضى يمنعون من أشياء تؤثر على صحتهم ومع ذلك يرتكبونها, فيكف بما يؤثر في الدين، مع أن الدين رأس المال ينبغي أن يكون الاعتناء به والاهتمام به أكثر، لكن واقع الناس يدل على أن اهتمامه بصحتهم بأكثر من اهتمامه بسلامة دينهم، هذا واقع عموم الناس.

تقول مثلاً: "ما رأيت شيئاً أهون من علاج السكر". ما هو علاجه؟ "كُفَّ يدك وأرسل رجلك" وذلك مثلما قال حسان بن سنان. يعني: امش كثيراً ولا تأكل كثيراً. هل يطيق كثير من المرضى هذا العلاج؟ لو أطاقوه ما مرضوا أصلاً. تجده يمرض ويغمى عليه من هذا المرض ويعود فيأكل؛ لأن هذه أمور فيها نزاع وصراع نفسي، بعض الناس يتغلب عليه, وبعضهم لا يتغلب عليه. فحسان بن أبي سنان يستطيع أن يتغلب على ما يوقعه في هذه الشبهات فضلاً عن المحرمات؛ ولذا تجده يقول: "ما رأيت شيئاً أهون من الورع، ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))". هذا أمر سهل؟

إذا كان الإنسان يحمل إلى المستشفى مغمى عليه؛ لأنه أكثر من التمر، وهو مريض سكري، تقول له: "يا أخي، لا تأكل، اترك الأكل، اقبض يدك وأرسل رجلك", نظير ما قال حسان بالنسبة للورع. يقول: "إن شاء الله، إذا طلعت من المستشفى", وتجد -سبحان الله- قبل الابتلاء الرغبة في الحلويات والنشويات أقل من الرغبة فيها بعد هذا الابتلاء وبعد هذا المنع، ثم بعد ذلك لا يستطيع أن يملك نفسه, فكيف يملك نفسه أمام مغريات الدنيا بالورع؟ وحسان بن أبي سنان يقول: "ما رأيت شيئًا أهون من الورع"، هذا هو الذي قطع أعناق العلماء والعباد فضلاً عن عامة الناس, فكل يتحدث من مقامه.

نسأل الله - جل وعلا- أن يستعملنا وإياكم فيما يرضيه، وأن يجنبنا وإياكم ما يغضبه من معاصيه والله وأعلم.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 

يقول: ما حكم اللحوم المستوردة من الخارج؟

أما المستوردة من البلدان غير أهل الكتاب, وغير المسلمين فهذه لا شك تحريمها؛ لأن أكل ذبيحة المشرك حرام على المسلم، يبقى ذبيحة المسلم وذبيحة الكتابي، {حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ} [سورة المائدة:5] مباح، ثم بعد ذلك حسب ما يغلب على الظن؛ لأن من البلدان التي كانت بلدان كتابية، منها من تخلت عن دينها, ومنهم من تمرد على دينه، ويغلب على الظن أنهم يذبحون بطرق لا تجوز عندنا, على خلافٍ بين أهل العلم أنه له يلزم أن يذبح الكتابي بطريقة موافقة لطريقتنا, أو لا يلزم بطريقته هو وطعامه حل لنا، لكن الأكثر على أنه لا بد أن يذكي تذكيةً شرعية، ومع ذلك إذا وردنا الطعام من بلاد، من بلاد كتابية, أهلها يهود أو نصارى فإننا نأكل؛ لأن طعامهم حِل لنا، من تورع باعتبار أنهم دخلهم ما دخلهم من تنصل وتنكب لأديانهم من جهة، ومن غل وحقد على المسلمين, تجدهم يصدرون لنا شيئًا قد يضر بنا سواء, كان يضر بنا من الناحية الصحية, أو من ناحية الدين, قد يدخلوه في هذه الأطعمة التي يصدرونها لنا، ما يضر بأدياننا وأبداننا, فمن اتقاها من أجل هذا لا سيما إذا قويت الشبهة فاستبرأ لدينه وعرضه، وإذا ضعفت الشبهة فإن ترك مثل هذا إنما هو كما يقرر بعض أهل العلم من الوسواس، من الوسواس، وبعض الناس يحمله الورع على ترك، ترك الأطعمة التي تزرع في بلده من مسلمين, وهي لا تحتاج إلى تذكية، زروع وثمار هذا الورع وسواس، يقول: لماذا؟ يقول: لأن هذا الزرع تدوسه الحيوانات، قد تدوسه الإبل قد تدوسه البقر، ويحتمل أن هذه الحيوانات بالت أو راثت على هذه الزرع أثناء الدياسة، والشافعية يرون أن بول ما يؤكل لحمه حرام، فمن هذا الباب يتقيه، أولاً: كون هذا البول وقع أو ما وقع احتمال، الأمر الثاني: أنه يمكن أن تداس بطرق أخرى، الأمر الثالث: أن القول بحلها راجح والأدلة ظاهرة على ذلك احتمال أيضاً أن تكون دياستها بواسطة الحمر، لكن على حسب ما يقوى، إذا كان أنت تعرف أن هذا المزارع يدوس الزرع بحمر, واحتمال أن تبول هذه الحمر وبولها نجس، على حسب ما يغلب على ظنك, أما إذا كان الغالب على الظن فإن ترك هذه الأطعمة من أجل هذا إنما هو وسواس، وبعضهم يقول: إن هذه الزروع والحروث في بعضها أوقاف، وبعض الموقوف عليهم أيتام, وقد يظلم هؤلاء الأيتام فلا أخذ منه هذا أيضاً نوع من الوسواس، نعم, إذا عرفت فلان بعينه من المزارعين يغش, أو يرتكب كذا, أو محرمات, أو كذا اجتنب زرعه.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.

يقول: هل من الشبهات تعتبر وجهًا من أوجه التحليل؛ فبعض الناس يستحل بعض المنكرات بحجة كونها من المتشابهات واختلف فيها علماء هذا العصر؟

في الحديث الشبهات قسيم للحلال وليست بقسم منه، الشبهات قسيم للحلال، كما أنها قسيم للحرام, وليس بقسم منه فلا يقال: بأنها حلال, ولا يقال: بأنها حرام, ولا يتذرع بكون هذه الشبهة يجوز ارتكابها إلا إذا ضاقت المسالك، فبين أن يُرتكب أمر فيه شبه، أو أمر محرم سواء، إذا ضاقت به المسالك فارتكاب الشبهات أسهل من ارتكاب المحرم المجمع عليه، مثال ذلك: مسألة التورق التي ذكرناها وأباحاها عامة العلماء منهم الأئمة الأربعة وأتباعهم, وحرمها ابن عباس, وعمر بن عبد العزيز، وشيخ الإسلام ابن تيمية, إذا ما وجد إلا تورق, أو ربا محرم, ماذا ترتكب؟ ترتكب هذه التي عامة أهل العلم على جوازها، فهي أسهل من الربا المحرم بكثير، لكن ليست من الحلال البيّن لوجوب من يخالف فيها، وإن كان الراجح جوازها فأنت ترتكب هذه الشبهة في مقابل المحرم، لكن لا ترتكبها في مقابل المباح المجمع على حله.

يقول: إن جميع الأديان باطلة غير الإسلام، فكيف ندعو اليوم للاعتراف بأديانهم؟

يقول: نحن كمسلمون.
هذا خطأ كمسلمين، وأيضاً التشبيه هنا بل نحن مسلمون.
نعلم أن جميع الأديان اليوم باطلة غير الإسلام؟.
لا شك أن جميع الأديان منسوخة، منسوخة بعد بعثة النبي - عليه الصلاة والسلام-: ((والله لا يسمع بي يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار)), {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [سورة آل عمران:85]، كلها باطلة، وأهل العلم ينقلون الإجماع على أن اليهود والنصارى كفار، حتى قالوا: من شك في كفرهم كفر، هذا ما في إشكال.
يقول: إن جميع الأديان باطلة غير الإسلام، فكيف ندعو اليوم للاعتراف بأديانهم؟
لا، لا، لا تجوز الدعوة للاعتراف بأديانهم، يعني: إذا كان الاعتراف من باب إقرارهم بإقرار الشرع لهم بالجزية هذا ما في إشكال، هذا شرع، مجرد إقرارهم في هذه الدنيا، أما في الآخرة لا نصيب لهم فيها, وإن كان المراد بالاعتراف: أنهم على حق فلا, ولا يجوز بحال أن يظن بأهل الفجور خيراً كما قال الحافظ بن كثير: ومن عظائم الأمور أن يظن بأهل الفجور خيراً. للاعتراف بأديانهم الباطلة فما هي حقيقة هذه الدعوات؟
هذا الدعوات التي تقال الآن يعني: حقيقتها فيما يظهر والعلم عند الله – تعالى-، وأنا ما شاركت في هذا، لكن ما سمعنا عنهم, ممن شارك يقول: إننا نتحاور في الأمور المشتركة، الأديان كلها تحرم الظلم، تحرم القتل بغير حق، نتفق على هذا ونبين لأولئك أن ديننا يحرم هذه الأمور فننفي ما نتهم به من الإرهاب واستحلال الدماء وما أشبه ذلك، هذا الذي يقولونه.

يقول: إذا كان الإنسان يعيش معه في مجتمعه كفار, فهل يتعايش معهم؟ وهل يخالطهم؟ وهل تلغى الفروق بينهم؟

المسألة مسألة هجرة, وخلطة, ولكل منهما ما يبرره والهجر علاج، فإذ كان هو الأنفع والأجدى لا سيما من يخالطهم يخشى على تأثره بهم, ولا يرجى تأثيره فيهم, مثل هذا يلزمه أن يعتزلهم كما يلزمه أن يعتزل الفساق من المسلمين, بل من باب أولى وإذا كان يستطيع التأثير فيهم ولا يتأثر بما لديهم من عادات, ومن أفكار فإن هذا يخالطهم ويدعوهم، مع أنه ينبغي أن يحافظ على القدر المطلوب من بغضهم؛ لأن الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، ولا يمنع ذلك أن يصلهم؛ تأليفًا لهم، لا يمنع أن يصلهم؛ تأليفًا لهم إذا كانت هذا الصلة تُجدي وتنفع في دعوتهم.
يعني إذا كان قصده باعتبار أننا مسلمين, أو لأننا مسلمون؟ هذا لا إشكال يعني: إذا كانت الكاف للتعليل هي تأتي فالعبارة صحيحة.

يقول: نقرأ الكتب وننتهي من القراءة لكن نحس بأننا لم نضبط الكتاب، نحس أننا لم نضبط الكتاب وأعني بالقراءة القراءة العادية؟

لا شك أن الناس يتفاوتون؛ فمنهم من إذا قرأ الكتاب أدرك منه يعني: قراءة مرور، قراءة عرض, منهم: من يدرك عشرة بالمائة، ومنهم: من يدرك واحد بالمائة، ومنهم: من يدرك عشرين بالمائة, ومنهم: من يدرك خمسين بالمائة, كل على حسبه باعتبار قوة الحفظ والفهم وضعف ذلك، فمن لديه قوة في الحافظة، قوة في الفهم يدرك, ومن كانت حافظته أضعف كان إدراكه أقل، ولكن لن تحم الفائدة إذا قرأت، فقد تختبر نفسك إذا انتهيت من الكتاب, تستذكر لا تذكر شيئًا، قد لا تذكر شيئًا وقد تذكر مسألة, أو مسألتين, أو مسائل لكن فرق بينك وبين من لم يقرأ الكتاب أنه إذا طرح مسألة في مجلس، أنه طرح مسألة في مجلس، أنه إذا طرح مسألة في مجلس أنك تذكر, أن هذه المسألة مرت عليك، بينما الذي لم يقرأ الكتاب لا يذكر شيئاً ولو كان من أذكياء الناس وأشد الناس حافظة؛ لأن تذكر أن هذه المسألة مرت في الكتاب الفلاني قد لا تذكرها بالتفصيل لكن تذكرها إجمالاً، ولا بد من التركيز أثناء القراءة، القراءة النافعة يكون فيها تركيز ويكون فيها أيضاً نقل للرؤوس الفوائد ويكون في الكتاب علامات على أن هذا الكلام مهم يحتاج إلى حفظ, أو مهم يحتاج إلى فهم، أو مهم يحتاج إلى نقل في كراسة تذكر فيها الفوائد والنوادر، وغير ذلك من الفنون والمعارف التي يحتاجها الإنسان حسب أهميتها.