التعليق على تفسير القرطبي - سورة النمل (05)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

قال الإمام القرطبي- رحمه الله تعالى-:

قوله تعالى: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} [سورة النملِ:65-66].

قوله تعالى: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل:65]، وعن بعضهم: أخفى غيبه عن الخلق، ولم يطلع عليه أحد؛ لئلا يأمن أحد من عبيده مكره، وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم-:"

لأن العبد إذا اطلع على الغيب، وعرف ما في المستقبل، وما يعرض له، وما يحصل له فإنه يأمن من هذا، يحترز مما يعتريه، {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [سورة الأعراف:188]، ومع الأسف أنه شاع بين الناس في السنوات الأخيرة لما انتشرت تجارة الأسهم، ادعاء الغيب من كثير ممن يزاول هذه المهنة، ومع الأسف من بعض من ينتسب إلى طلب العلم الشرعي، تجد الواحد منهم يتصل على الآخر فيقول: اشتر في الشركة الفلانية، فإنها خلال أسبوع سوف تتضاعف أسهمها، تتضاعف أقيامها، وستذكر ما أقول لك، واشترِ في كذا، وبع في كذا؛ لأنها تخسر وتنزل، هذا ادعاء علم الغيب، الإخبار عما في الغد من علم الغيب.

ويؤكدون ذلك وأحيانًا بالأيمان، وكل هذا داخلٌ في هذه الآية دخولًا أوليًّا، وانتشر هذا حتى حصل ما حصل من الكارثة التي صارت في سوق الأسهم، صاروا يعضون أنامل الندم حيث لا ينفعهم الندم، وتبرؤوا ممن اغتروا بهم، وقال قائلهم: ليتني لم أتخذ فلانًا مستشارًا، كما يقول القائل: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [سورة الفرقان:28]، إذا بان سوء العاقبة فهذه هي النتيجة، وكل هذا من شؤم ادعاء علم الغيب مع ما يحتف بهذه الأسهم من شبهات، بل محرمات أحيانًا.

فعلى الإنسان أن يحتاط لدينه، وأن ينتبه لهذا الأمر؛ لأن الذي يزعم أنه يعلم ما في الغيب هذا كافر، نسأل الله العافية، مخالف للنصوص القطعية، مصادم للنصوص القطعية، النبي- عليه الصلاة والسلام- لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، وهؤلاء يذكرون ما في الغد، بل ما في بعد أسبوع أو بعد أشهر، ويحلفون على ذلك، ويؤكدون، ثم بعد ذلك تظهر النتائج عكسية.

وقد يُستدرج الإنسان، يقع ما توقعه، ثم يستبصر في ذلك، ولا يشعر ولا يدري أنه منكرٌ به، ويُستدرج، نسأل الله السلامة والعافية.

"وقيل: نزلت في المشركين حين سألوا النبي- صلى الله عليه وسلم- عن قيام الساعة، و(من) في موضع رفع."

قيام الساعة، لا يعلم متى تقوم إلا الله- جلَّ وعلا-، ولا تأتي إلا بغتة، وهذا أمرٌ مجمعٌ عليه، وجاء في حديث جبريل- عليه السلام- حينما سأل النبي- عليه الصلاة والسلام- عن الساعة، قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» فهما مستويان في الجهل بها؛ لأنه لا يعلمها إلا الله- جلَّ وعلا-، ومع الأسف أن مَن بحث في أشراط الساعة زعم أن الساعة تقوم سنة ألف وأربعمائة وسبعة، وهذا الكلام قيل قبل أربعمائة سنة، يقول: تقوم الساعة سنة ألف وأربعمائة وسبعة بناءً على حساب الجُمل؛ لأن بغتة إذا حُسِبت بحساب الجُمل يظهر الناتج ألف وأربعمائة وسبعة، مع أن النصوص القطعية من الكتاب والسنة تدل على أنه لا يعلمها أحد إلا الله- جلَّ وعلا-.

وأما قول الله- جلَّ وعلا-: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [سورة طه:15]، يعني على ضوء قواعد العربية: كاد إذا كانت مثبتة تختلف عما إذا كانت منفية، فمفهوم قوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أنه أظهرها، لكن على إظهار قريب من الخفاء، وليس هذا هو المراد قطعًا؛ لأن مثل هذا النص يرد إلى النصوص المفسرة، فقال من قال من المفسرين -ولو وجه ظاهر-: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} حتى عن نفسي، هذا مبالغة في إخفائها، فالنصوص القطعية تدل على أنه لا يعلمها أحد كائنًا من كان.

هناك الأمور الخمسة التي استأثر الله بعلمها في آخر سورة لقمان، ومنها: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [سورة لقمان:34]، وهذه الآية أشكلت على كثير من الناس، نعم لا يعلم ما في الأرحام إلا الله- جلَّ وعلا-؛ لأنها من الخمس التي لا يعلمها إلا الله، وجاء النص الصحيح المفسر لهذه الآية؛ لأنه قد يقول قائل: {يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} لا ينفي أن يكون غيره يعلم، إلا أن النبي- صلى الله عليه وسلم-قال في الحديث الصحيح: «في خمسٍ لا يعلمها إلا الله»، فالحصر دل على أن ما في الأرحام لا يعلمه إلا الله- جلَّ وعلا-، وقد يقول قائل: إن الأطباء الآن بأجهزتهم يخبرون النساء الحوامل عما في بطونهن، هل هو ذكر أو أنثى، ولكن لا شك أن الحمل إذا خرج عن دائرة الغيب وعرفه الملك أمكن معرفته، وقبل ذلك لا يمكن بحال؛ لأنه من الخمس المغيبات التي لا يعلمها إلا الله.

"والمعنى: قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله، فإنه بدل مِن (مَن) قاله الزجاج. وقال الفراء: وإنما رفع ما بعد (إلا)؛ لأن ما قبلها جحد."

يعني ليس استثناءً تامًّا موجبًّا، إنما هو سالب؛ لأن ما قبلها جحد، يعني منفي من، تقدمت عليه {قُل لَّا يَعْلَمُ} إذا كان الاستثناء منفيًّا يرفع، وإذا كان المستثنى تامًّا موجبًا فإنه يُنصب.

"كقوله: ما ذهب أحد إلا أبوك، والمعنى واحد، قال الزجاج: ومن نصبَ نصب على الاستثناء، يعني في الكلام، قال النحاس: وسمعته يحتج بهذه الآية على من صدق منجمًا، وقال: أخاف أن يكفر بهذه الآية."

نعم، من يزعم أنه يدعي علم الغيب، ولم تكن لديه شبهة يتشبث بها لا شك أنه كافر، الذي يدعي علم ما نفاه الله- جلَّ وعلا- لا شك في كفره، إلا إذا كانت لديه شبهة عنده لديه شبهة، فتزال هذه الشبهة قبل الحكم عليه.

"قلت: وقد مضى هذا في (الأنعام) مستوفًى، وقالت عائشة: من زعم أن محمدًا يعلم ما في غدٍ فقد أعظم على الله الفرية.."

غلاة الصوفية جعلوا له من العلوم جميع ما يعلمه الله- جلَّ وعلا-، غلاتهم يزعمون أن النبي- عليه الصلاة والسلام- يعلم الغيب، بل جعلوا له كل ما يخص به الرب- جلَّ وعلا-، نسأل الله السلامة والعافية.

"والله تعالى يقول: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل:65]، خرجه مسلم، وروي أنه دخل على الحجاج منجمٌ فاعتقله الحجاج، ثم أخذ حصيات فعدهن، ثم قال: كم في يدي من حصا؟ فحسب المنجم، ثم قال: كذا، فأصاب."

لأن عدد الحصا ليس من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وإنما يعلمه الحجاج؛ لأنه عدها، فخرج عن دائرة الغيب، ومع ذلكم هو غيب، لا يعلمه هذا المنجم، فإن زعم أنه يعلم ما في يد الحجاج من الحصى ولو عدها الحجاج هي غيب، ما وراء هذا الجدار لا يمكن أن يعرفه من دونه؛ لأنه غيب، إلا بإعانة الشياطين، فتعود المسألة من كونها غيبًا إلى كونها استعانة بالشياطين، ومعروفٌ أن الشياطين لا يعينون إلا من استعان بهم، وقدم لهم، نسأل الله السلامة والعافية؛ لأنه لن يعرف هذا العدد بمفرده بمجرده إلا بإعانة من يستطيع الوقوف على هذا العدد؛ لأنه خرج عن دائرة الغيب.

"ثم اعتقله فأخذ حصيات لم يعدهن فقال: كم في يدي؟ فحسب فأخطأ، ثم حسب فأخطأ؟ ثم قال: أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها، قال: لا، قال: فإني لا أصيب، قال: فما الفرق؟ قال: إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب، وهذا لم تحصه فهو غيب. و{لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وقد مضى هذا في (آل عمران)، الحمد لله.

قوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [سورة النمل:66]، هذه قراءة أكثر الناس، منهم عاصم وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد: {بل أَدْرَك} من الإدراك، وقرأ عطاء بن يسار وأخوه سليمان ين يسار والأعمش: {بل ادَّرَك} غير مهموز مشددًا، وقرأ ابن محيصن.."

ذكر الأعمش في القراءة الأولى والثالثة، لكن أكثر كتب التفسير لا تذكر الأعمش في القراءة الثالثة، إنما المعروف عنه القراءة الأولى: {بَلِ ادَّارَكَ}.

"وقرأ ابن محيصن: "بل آدرك" على الاستفهام، وقرأ ابن عباس: "بلى" بإثبات الياء، و"أدارك" بهمزة قطع والدال مشددة وألف بعدها، قال النحاس: وإسناده إسناد صحيح هو من حديث شعبة يرفعه إلى ابن عباس، وزعم هارون القارئ أن قراءة أُبي "بل تدارك علمهم"، وحكى الثعلبي أنها في حرف أُبي "أم تدارك"، والعرب تضع (بل) موضع (أم) و (أم) موضع (بل) إذا كان في أول الكلام استفهام كقول الشاعر:

فوالله لا أدري أسلمى تقولت

أم القول أم كل إلي حبيب

أي بل كل.

قال النحاس: القراءة الأولى والأخيرة معناهما واحد؛ لأن أصل {أدارك} تدارك، أدغمت الدال في التاء وجيء بألف الوصل، وفي معناه قولان: أحدهما أن المعنى."

لأنه إذا أدغم الحرفان فصارا حرفًا واحدًا مشددًا، الحرف المشدد عبارة عن حرفين أولهما ساكن، ولا يمكن الابتداء بالساكن، فيتوصل إلى الابتداء به بمتحرك، فتتحد القراءتان.

"وفي معناه قولان، أحدهما أن المعنى: بل تكامل علمهم في الآخرة؛ لأنهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به، والقول الآخر أن المعنى: بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة، فقالوا: تكون، وقالوا: لا تكون، والقراءة الثانية فيها أيضًا قولان".

ما التدارك؟ من الإدراك، ومعناه على التتابع ظاهر؛ لأن من يتبع غيره قد يدركه، فتدارك أو ادارك علمهم في الآخرة يعني تدارك وتتابع علمهم في الآخرة، فعاينوا ما كانوا يشكُّون فيه، فبعد أن كان خبرًا قابلًا للشك على حد زعمهم، لعدم إيمانهم، صار يقينًا، بل صار عين اليقين، وحينئذ يتتابع علمهم عليه، ويتواطؤون عليه، ولا يمكن أحدٌ منهم أن ينكره.

"القراءة الثانية فيها أيضًا قولان: أحدهما: أن معناه: كمل في الآخرة وهو مثل الأول، قال مجاهد: معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم؛ لأنَّهم كانوا في الدنيا مكذبين، والقول الآخر: أنه على معنى الإنكار وهو مذهب أبي إسحاق، واستدل على صحة هذا القول بأن بعده {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} [سورة النمل:66]، أي لم يدرك علمهم علم الآخرة، وقيل: بل ضل وغاب علمهم في الآخرة، فليس لهم فيها علم، والقراءة الثالثة: "بل ادَّرك" فهي بمعنى {بَلِ ادَّارَكَ}، وقد يجيء افتعل وتفاعل بمعنى؛ ولذلك صحح ازدوجوا حين كان بمعنى تزاوجوا."

يعني يأتي المفاعلة التي هي في الأصل بين طرفين، بمعنى الفعل الذي هو لطرفٍ واحد، يأتي كالمسافرة مثلًا، قلت: سافر زيد، لا يعني أن هذه المفاعلة المسافرة وقعت بين طرفين، تقول: طَارَقَ زيدٌ النعل، المطارقة هذه لا تعني أنها بين اثنين، وإن كان بابها والأصل فيها أنها تكون بين اثنين كالمضاربة والمكاتبة وما أشبه ذلك.

"والقراءة الرابعة: ليس فيها إلا قول واحد يكون فيه معنى الإنكار، كما تقول: أأنا قاتلتك؟ فيكون المعنى لم يدرك، وعليه ترجع قراءة ابن عباس، قال ابن عباس: "بلى آدارك علمهم في الآخرة" أي لم يدرك. قال الفراء: وهو قول حسن كأنه وجهه."

قوله: أأنا قاتلتك؟ هذا الاستفهام إنكاري، يراد به إنكار المقاتلة.

"وهو قولٌ حسن كأنه وجهه إلى الاستهزاء بالمكذبين بالبعث، كقولك لرجل تكذبه: بلى لعمري قد أدركت السلف، فأنت تروي ما لا أروي، وأنت تكذبه، وقراءة سابعة: "بلَ أدرك" بفتح اللام عدل إلى الفتحة لخفتها، وقد حُكى نحو ذلك عن قطرب في {قُمِ اللَّيْلَ} [سورة المزمل:2] فإنه عدل إلى الفتح."

فتح اللام التي في (بل) "بلَ أدرك".

"وقراءة سابعة: "بلَ أدرك" بفتح اللام عدل إلى الفتحة لخفتها، وقد حُكى نحو ذلك عن قطرب في {قُمِ اللَّيْلَ} [سورة المزمل:2] فإنه عدل إلى الفتح، وكذلك و"بعَ الثوب" ونحوه. وذكر الزمخشري في الكتاب: وقرئ "بل أأدرك" بهمزتين "بل أأدرك".

الفتح، فتح اللام التي هي في الأصل مكسورة، وعدل عنها إلى الفتح للتخفيف، لا شك أن الأصل هو الكسر؛ لأنه إذا توالى ساكنان، حُرك الأول منهما بالكسر، {يَرْفَعِ اللَّهُ} [سورة المجادلة:11]، قد يقول قائل: الفعل ما يجر، نقول: نعم، حرك بالكسر؛ لئلا يجتمع ساكنان، طيب لماذا لم يحرك بالفتح أو لم يحرك بالرفع؟ هو محله الجزم، فإذا حُرِّك بالرفع والمضارع يرفع إذا تجرد عن العوامل الناصبة والجازمة ظُنَّ أنه مرفوعٌ أصلًا، وأنَّ محله الرفع، وكذلك إذا حرك بالنصب ظُنَّ أنَّه منصوب؛ لدخول العامل الناصب عليه؛ لأنَّ من شأن الناصب أن ينصب، والتجرد يرفع، والمضارع إنما يُرفع إذا تجرد عن العوامل، ويُنصب إذا دخل عليه ناصب، ويُجزم إذا دخل عليه جازم، وحينئذٍ يلجأ إلى حركةٍ لا توجد في الحالات الثلاث، ليُعرف أن هذا ليست حركة إعراب، الحركة التي عليه ليست حركة إعراب، وإنما هي حركة تخلص، فيُلجأ إلى الكسر لهذا، وإلا فالأصل أن الفعل لا يُجر.

"وذكر الزمخشري في الكتاب: وقرئ "بل أأدرك" بهمزتين "آأدرك" بألف بينهما "بلى أأدرك"، "أم تدارك"، "أم أدرك" فهذه ثنتا عشرة قراءة.

ثم أخذ يعلل وجوه القراءات وقال: فإن قلت فما وجه قراءة "بل أأدرك" على الاستفهام؟ قلتُ: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك من قرأ: "أم أدرك" و "أم تدارك"؛ لأنها (أم) التي بمعنى (بل) والهمزة، وأمَّا من قرأ: "بلى أأدرك" على الاستفهام، فمعناه: بلى يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور وقت كونها؛ لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن. {فِي الْآخِرَةِ} في شأن الآخرة، ومعناها {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} أي في الدنيا. {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} [سورة النمل:66]، أي بقلوبهم، واحدهم عمو، وقيل: عَمٍ، وأصله عميون، حذفت الياء؛ لالتقاء الساكنين، ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها."

{عَمِونَ} جمع مذكر سالم، جمع عمٍ، واحدهم عمٍ، وأصله ناقص، مختوم بالياء، والناقص في حالة الرفع تحذف ياؤه إذا لم يقترن بـ (أل)، جاء قاضٍ، فهو في محل الرفع محذوف الياء، ويجمع على قاضون، مثل عمون.

"قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة النمل:67]، يعني مشركي مكة، {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} هكذا يقرأ نافع هنا، وفي سورة: (العنكبوت)."

المؤلف، المفسر على قراءة نافع؛ لذا تجدون مثل ما كررنا مرارًا أنه يفسر الآيات على قراءته، ويشير إلى القراءات الأخرى.

"وقرأ أبو عمرو باستفهامين إلا أنه خفف الهمزة، وقرأ عاصم وحمزة أيضًا باستفهامين إلا أنهما حققا الهمزتين، وكل ما ذكرناه في السورتين جميعًا واحد، وقرأ الكسائي وابن عامر ورويس ويعقوب: "أئذا" بهمزتين، "إننا" بنونين على الخبر في هذه السورة، وفي سورة: (العنكبوت) باستفهامين.

قال أبو جعفر النحاس: القراءة "إذا كنا ترابًا وآباؤنا آينا لمخرجون" موافقة للخط حسنة،.."

هي خبر قراءة، القراءة حسنة.

"وقد عارض فيها أبو حاتم فقال: وهذا معنى كلامه"

ومر بنا مرارًا أن المراد بأبي حاتم هو السجستاني.

"وهذا معنى كلامه: "إذا" ليس باستفهام و "آينا" استفهام، وفيه {إن} فكيف يجوز أن يعمل ما في حيز الاستفهام فيما قبله؟ وكيف يجوز أن يعمل ما بعد {إن} فيما قبلها؟ وكيف يجوز غدًا إن زيدًا خارج؟ فإذا كان فيه استفهام كان أبعد، وهذا إذا سئل عنه كان مشكلًا لما ذكره، وقال أبو جعفر:"

لأنَّ ما بعد الاستفهام لا يعمل فيما قبله.

"وقال أبو جعفر: وسمعت محمد بن الوليد يقول: سألنا أبا العباس عن آية من القرآن صعبة مشكلة، وهي قوله الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سورة سبأ:7]، فقال: إنّ عمل في {إذا} {ينبئكم} كان محالًا؛ لأنه لا ينبئهم ذلك الوقت".

إنْ عمل.

 " فقال: إنْ عمل في {إذا} {ينبئكم} كان محالًا؛ لأنه لا ينبئهم ذلك الوقت، وإنْ عمل فيه ما بعدُ (إنَّ) كان المعنى صحيحًا".

ما بعدَ إنّ.

" وإنْ عمل فيه ما بعدَ (إنَّ) كان المعنى صحيحًا، وكان خطأً في العربية أن يعمل ما قبل (إنَّ) فيما بعدها، وهذا سؤال بَيِّن رأيت أن يذكر في السورة التي هو فيها، فأما أبو عبيد فمال إلى قراءة نافع، ورد على من جمع بين استفهامين، واستدل بقوله تعالى: واستدل بقوله تعالى".

يعني جوابه في الجزء الرابع عشر صفحة "262"، جواب هذا الإشكال.

"واستدل بقوله تعالى: {أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [سورة آل عمران:144]. "

سبأ، سبأ الجزء الرابع عشر، مائتين اثنين وستين؟

طالب:..........

يقول: ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد (إن)؛ لأنه لا يعمل فيما قبله، وألا يتقدم عليها ما بعدها ولا معمولها، وأجاز الزجَّاج أن يكون العامل فيها محذوفًا. التقدير: إذا مُزقتم كل ممزق بعثتم، أو أنبئكم بأنكم تبعثون إذا مزقتم -هذا الجواب الذي أحال عليه هنا- قال المهدوي: ولا يعمل فيه مزقتم؛ لأنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. لماذا؟ الآن المضاف إليه مجرور، مجرور بالمضاف، فالمضاف هو العامل في المضاف إليهم، وهنا يقول: المضاف إليه لا يعمل في المضاف - هذا طبيعي، هذا أنه إذا كان العامل هو المضاف في المضاف إليه لا ينعكس- وأجازه بعضهم على أن يجعل (إذا) للمجازاة.

لكن هل يجوز أن يكون المضاف إليه عاملًا بمعنى أنه يأتي منه الحال؟

طالب:..........

يأتي منه الحال؟

ولا تجز حالًا من المضاف له

إلا إذا اقتضى المضاف عمله

{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [سورة يونس:4]، {جَمِيعًا} حال من الكاف المضاف إليه، ولذا المضاف إليه معمول وليس بعامل.

 إلا إذا اقتضى المضاف عمله

كما في هذا.

أو كان جزء ما له أضيف

أو مثل جزئه فلا تحريف

المقصود أن المضاف إليه الأصل فيه أنه معمول وليس بعامل.

"فأما أبو عبيد فمال إلى قراءة نافع ورد على من جمع بين استفهامين، واستدل بقوله تعالى: {أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [سورة آل عمران:144]، وبقوله تعالى: {أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [سورة الأنبياء:34]، وهذا الرد على أبي عمرو وعاصم وحمزة وطلحة والأعرج لا يلزم منه شيء، ولا يشبه ما جاء به من الآية شيئًا، والفرق بينهما أن الشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد، ومعنى: {أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [سورة الأنبياء:34]، أفإن مت خلدوا، ونظير هذا: أزيدٌ منطلق، ولا يقال: أزيد أمنطلق؛ لأنها بمنزلة شيء واحد، وليس كذلك الآية؛ لأن الثاني جملة قائمة بنفسها فيصلح فيها الاستفهام."

لأن منطلق كلمة، أزيدٌ منطلق، منطلق: خبر زيد، لا يقوم بنفسه، أما جملة {فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [سورة الأنبياء:34] جملة كاملة من مبتدأ وخبر، يختلف الحكم في هذا عن هذا.

"والأول كلام يصلح فيه الاستفهام، فأما من حذف الاستفهام من الثاني وأثبته في الأول فقرأ: "أئذا كنا ترابًا وآباؤنا إننا" فحذفه من الثاني؛ لأن في الكلام دليلًا عليه بمعنى الإنكار.

قوله تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [سورة النمل:68]، تقدم في سورة (المؤمنون)، وكانت الأنبياء يقربون أمر البعث مبالغة في التحذير، وكل ما هو آتٍ فقريب."

يقربون أمر الساعة التي هي مقدمة البعث، «بعثت أنا والساعة كهاتين»، ومع ذلك مضى أكثر من ألف وأربعمائة سنة ما قامت الساعة، كل ما هو آتٍ قريب. ويقربونها؛ كي يستعد لها الناس.

"قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة النمل:69]، أي {قُلْ} لهؤلاء الكفار {سِيرُوا} في بلاد الشام والحجاز واليمن، {فَانظُرُوا} أي بقلوبكم وبصائركم {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} المكذبين لرسلهم. {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [سورة النمل:70]، أي على كفار.."

{سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة النمل:69] الأرض جنس، يشمل ما ذكر في بلاد الشام والحجاز واليمن، ويشمل غيرها من بلاد المشرق والمغرب، كلها فيها عبر وآيات، فهل من مدكر؟ الناس ينظرون في الآفاق، وينظرون في الأرض على اختلاف ألوانها وأشكالها، ومناخها، وتضاريسها، ومع ذلك لا اعتبار ولا ادكار، وكثيرٌ من الناس يذهب إلى السياحة والفرجة والمتعة، ويرى من آيات الله ما يخلع القلوب، ومع ذلك كأن شيئًا لم يكن، ويزاول في سياحته هذه التي الأصل أن يستفيد منها ويعتبر، يزاول فيها ما حرم الله- جلَّ وعلا-. -فالله المستعان-.

"{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [سورة النمل:70]، أي على كفار مكة إن لم يؤمنوا، {وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ} في حرج، {مِّمَّا يَمْكُرُونَ} نزلت في المستهزئين الذين اقتسموا عقاب مكة، وقد تقدم ذكرهم، وقرئ: "في ضِيق" بالكسر، وقد مضى في آخر (النحل).

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [سورة النمل:71]، أيَّ وقتٍ يجيئنا العذاب بتكذيبنا، {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}."

استبعاد لعذاب الله، وما أشبه الليلةَ بالبارحة، يوجد الآن على وجه الأرض من يستبعد وينكر العذاب، وحال كثيرٍ من المسلمين، وإن لم يقولوا بلسان المقال، بل ما اشتمل عليه حالهم كأنها حال مكذب، والله المستعان.

"قوله تعالى: {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} [سورة النمل:72]، أي اقترب لكم ودنا منكم {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} أي: من العذاب".

لأن الرديف قريبٌ من مرادفه، الرديف قريب من مرادفه، لصيق له، مجاورٌ له، فإذا ردفَ لهم بعض الذي يستعجلون قرب منهم، إذا كان رديفًا لهم كان قريبًا منهم.

"أي من العذاب، قاله ابن عباس، وهو من ردفه إذا تبعه، وجاء في أثره، وتكون (اللام) أدخلت؛ لأن المعنى اقترب لكم ودنا لكم، أو تكون متعلقة بالمصدر، وقيل: معناه معكم، وقال ابن شجرة: تبعكم، ومنه ردفُ المرأة؛ لأنه تبع لها من خلفها، ومنه قول أبي ذؤيب:

عاد السواد بياضًا في مفارقه

لا مرحبًا ببياض الشيب إذ ردفا

أوضح منه: الرديف على الدابة، الدابة يركب عليها الاثنان والثلاثة إذا كانت تطيق ذلك يجوز، وجاء في أحاديث عن أكثر من ثلاثين صحابيًّا، كل منهم يقول: (كنت رديف النبي- صلى الله عليه وسلم-)، وألَّف ابن منده في ذلك جزءًا فيمن ردف النبي- صلى الله عليه وسلم- فصاروا أكثر من ثلاثين، هذا أوضح من ردف المرأة؛ لأنَّ الردف ملاصق، ويأتي مع لا يأتي بعد، أما الرديف الذي يركب خلف الراكب فهذا ليس بملاصق له.

"قال الجوهري: وأردفه أمر لغة في ردفه، مثل تبعه وأتبعه بمعنى، قال خزيمة بن مالك بن نهد:

إذا الجوزاء أردفت الثريا

ظننت بآل فاطمة الظنونا

يعني فاطمة بنت يذكر بن عنزة أحد القارظيَن."

القارظين، القارظ بن عنزة، ذهب ولم يعد.

 إذا ما القارظ العنزي آبا

معلقٌ عليه الأمور المستحيلة، ذهب لحاجة من الحاجات ولم يرجع.

"وقال الفراء: {رَدِفَ لَكُم} دنا لكم، ولهذا قال: {لكم}. وقيل: ردفه وردف له بمعنى، فتراد اللام للتوكيد".

فتزاد.

"فتزاد اللام للتوكيد، عن الفراء أيضًا:"

وإلا فالأصل أنه متعدٍّ بنفسه.

"كما تقول: نفدته ونقدت له".

نقدته ونقدت له.

"نقدته ونقدت له، وكلته ووزنته وكلت له ووزنت له، ونحو ذلك. {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [سورة النمل:72]، من العذاب فكان ذلك يوم بدر، وقيل: عذاب القبر.

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [سورة النمل:73]، في تأخير العقوبة وإدرار الرزق، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} فضله ونعمه.

قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} [سورة النمل:74]، أي تخفي صدورهم، {وَمَا يُعْلِنُونَ} يظهرون من الأمور، وقرأ ابن محيصن وحميد: {ما تَكنُّ} من كننت الشيء إذا سترته هنا، وفي (القصص) تقديره: ما تَكن صدورهم عليه.."

يعني ما تنطوي عليه وما تخفيه.

"وكأن الضمير الذي في الصدور كالجسم السائر، ومن قرأ: {تُكنُّ} فهو المعروف، يقال: أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك. قوله تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سورة النمل:75]، قال الحسن: الغائبة هنا القيامة، وقيل: ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض، حكاه النقاش، وقال ابن شجرة: الغائبة هنا جميع ما أخفى الله تعالى عن خلقه وغيَّبه عنهم، وهذا عام، وإنما دخلت (الهاء) في {غَائِبَةٍ} إشارة إلى الجمع، أي: ما من خصلة غائبة عن الخلق إلا والله عالم بها قد أثبتها في أم الكتاب عنده، فكيف يخفى عليه ما يُسِر هؤلاء وما يعلنونه، وقيل: أي كل شيء هو مثبت في أم الكتاب."

العموم في الغائبة؛ لأنها نكرة في سياق النفي، وأكد هذا العموم بـ (من).

"وقيل: أي كل شيء هو مثبت في أم الكتاب يخرجه للأجل المؤجل له، فالذي يستعجلونه من العذاب له أجل مضروب، لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه، والكتاب اللوح المحفوظ، أثبت الله فيه ما أراد ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته.

قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة النمل:76]، وذلك أنهم اختلفوا في كثير من الأشياء حتى لعن بعضهم بعضًا فنزلت، والمعنى: إن هذا القرآن يبين لهم ما اختلفوا فيه لو أخذوا به، وذلك ما حرفوه من التوراة والإنجيل، وما سقط من كتبهم من الأحكام."

سبب اختلافهم الكثير فيما بينهم، وإن كان لديهم كتاب منزل، لكنهم استحفظوا عليه فلم يحفظوه، استؤمنوا واستحفظوا فلم يحفظوا، فغيروا وبدلوا، وكل واحد منهم يرجع إلى ما بيده من التوراة التي حرفها أو حُرفت له، فلا يرجعون إلى أصلٍ واحد، ولذا حصل الاختلاف الكبير بينهم؛ لأنَّ كل واحد يحرف نسخته على ما يشاء، على ما يريد، أو تحرف له، أو يتبع غيره ممن يحرف، المقصود أن كل واحد بيده غير ما بيد الآخر، فلذا كلٌ يرجع إلى نسخته فيحصل الاختلاف. ولذا ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن عشرة من النصارى اجتمعوا لبحث مسألة فصدروا عن أحد عشر قولًا، لماذا؟

 لأنهم لا يرجعون إلى أصل يمكن أن يحتكموا إليه، والذين بحثوا في الروح التي حجب الله عن الخلق معرفة ماهيتها وكنهها، اختلفوا على أكثر من مائة قول، والسبب في ذلك أنه لا يوجد أصل يرجعون إليه، لا يوجد أصل، الله- جل وعلا- يقول: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [سورة الإسراء:85]، وهم يخوضون في تعريفها، ولما لم يوجد الأصل الذي يمكن أن يعتمد عليه ويرجع إليه حصل مثل هذا الاختلاف، وهذا التباين الكبير في أقوالهم في حدها وماهيتها وكيفيتها.

"{وَإِنَّهُ} يعني القرآن، {لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [سورة النمل:77]، خص المؤمنين؛ لأنهم المنتفعون به {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ}.."

نعم، لأنه كتاب محفوظ، تكفل الله بحفظه، قال: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر:9]، والكتب الأخرى استُحفِظوا عليها، لكنهم لم يحفظوها، فكتابنا -ولله الحمد- محفوظ، ومن يرجع إليه ويتحاكم إليه لا بد أن يصل إلى الحق، والقول الراجح المعتمد على النص الصحيح، قد يكون النص في دلالته شيء من الإجمال، ثم يختلف أهل العلم بسبب ذلك، وفي النهاية يعرف الراجح والمرجوح بالمرجحات المعتبرة عند أهل العلم.

" {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ} [سورة النمل:78]، أي يقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه في الآخرة، فيجازي المحق والمبطل، وقيل: يقضي بينهم في الدنيا فيظهر ما حرفوه، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} المنيع الغالب الذي لا يرد أمره، {الْعَلِيمُ} الذي لا يخفى عليه شيء.

قوله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [سورة النمل:79]، أي فوِّض إليه أمرك واعتمد عليه فإنه ناصرك، {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} أي الظاهر، وقيل: المظهر لمن تدبر وجه الصواب."

المبين: البين الواضح الظاهر، الذي لا خفاء فيه، وهو أيضًا مُبين لغيره، الحق المبين لما يختلف فيه.

" {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [سورة النمل:80]، يعني الكفار؛ لتركهم التدبر، فهم كالموتى لا حس لهم ولا عقل، وقيل: هذا فيمن علم أنه لا يؤمن {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء} يعني الكفار الذين هم بمنزلة الصم عن قبول المواعظ، فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولوا كأنهم لا يسمعون، نظيره: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [سورة البقرة:18]، كما تقدم. وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبي إسحاق وعباس عن أبي عمرو: {ولا يَسمَع} بفتح الياء والميم. {الصمُّ} رفعًا على الفاعل، والباقون {تُسمعُ} مضارع أسمعت {الصُمَّ} نصبًا.

مسألة: وقد احتجت عائشة- رضي الله عنها- في إنكارها أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أسمع موتى بدر بهذه الآية، فنظرت في الأمر بقياس عقلي ووقفت مع هذه الآية، وقد صح عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ما أنتم بأسمع منهم»."

نعم، لما خاطب أهل القليب، قليب بدر، فقيل له: كيف تخاطب أناسًا قد ماتوا؟ قال: «ما أنتم بأسمع منهم لما أقول» ولا شك أن هذا السمع خاص، ولا يعني أن جميع الأموات يسمعون أو يُسمع منهم، لكن الأصل {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [سورة النمل:80]، وخص منهم من خاطبه النبي- عليه الصلاة والسلام-، وأخبر أنهم سمعوا، فلا يضرب العام بالخاص.

"قال ابن عطية: فيشبه أن قصة بدر خرقُ عادةٍ لمحمد- صلى الله عليه وسلم- في أن رد الله إليهم إدراكًا سمعوا به مقاله، ولولا إخبار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة، وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين."

ابن القيم -رحمه الله- بحث هذه المسألة، وأطال البحث في كتاب الروح، فيرجع إليه من أراد المزيد.

"قلت: روى البخاري -رضي الله عنه-: حدثني عبد الله بن محمد سمع رَوح بن عبادة قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله- صلى الله عليه وسلم- أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فقذفوا في طوي من أطواءِ بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى وتبعه أصحابه، قالوا: ما نُرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفير الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: «يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟» قال: فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم». قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله؛ توبيخًا وتصغيرًا ونقمة وحسرة وندمًا، خرجه مسلم أيضًا.

قال البخاري: حدثنا عثمان قال حدثنا عبدة عن هشام عن أبيه عن ابن عمر قال: وقف النبي- صلى الله عليه وسلم- على قليب بدر فقال: «هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا» ثم قال: «إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق» ثم قرأت.."

يعني عائشة.

" ثم قرأَت {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} حتى قرأت الآية."

طالب: فيه سقط يا شيخ.

ماذا يقول؟

طالب: قال المحقق: ما بين المعقوفين سقط من نسخ الأصل، والمستدرك من صحيح البخاري وبه يستقيم السياق.

«إنهم الآن».

طالب: إنهم ليسمعون ما أقول فذكر ذلك لعائشة- رضي الله عنها- فقالت: إنما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إنَّهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق».

نعم موجود ثم قال: «إنَّهم الآن ليعلمون».

السقط: يسمعون ما أقول، فذكر ذلك لعائشة فقالت: إنما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إنَّهم الآن..».

«إنَّهم الآن ليعلمون». فرق بين يسمعون ويعلمون، رواية «ليعلمون»  تستدل بها عائشة على أنهم لا يسمعون، عملًا بعموم الآية: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} كونهم يعلمون، نعم يعلم، خلاص حق اليقين، وهذا سقط لا بد منه؛ لأن السياق الذي ساقه المؤلف فيه خفاء، أقول فيه خفاء تبينه الرواية الصحيح، «هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا» ثم قال: «إنهم الآن.. ». ماذاعندك؟

طالب: يسمعون ما أقول.

«إنَّهم الآن يسمعون ما أقول».

طالب: يسمعون ما أقول فذكر ذلك لعائشة فقالت: إنما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إنَّهم الآن..».

«إنَّهم الآن ليعلمون»، سقط سطر الظاهر، وجاءنا في أكثر من موضع يسقط سطر كامل، مرَّ علينا سقوط سطر في أكثر من موضع، السقط بين قوله: (ثم قال) في آخر السطر الثاني، وبين قوله: (إنهم الآن) في أول السطر الثالث، يعني سطر كامل سقط، وإلا فالكلام فيه إيهام.

" ثم قال: «إنهم الآن ليسمعون ما أقول» فذكر ذلك لعائشة فقالت: إنما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق» ثم قرأت {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} حتى قرأت الآية. وقد عورضت هذه الآية بقصة بدر، وبالسلام على القبور، وبما روي في ذلك من أن الأرواح تكون على شفير القبور في أوقات، وبأن الميت يسمع قرع النعال إذا انصرفوا عنه إلى غير ذلك، فلو لم يسمع الميت لم يسلم عليه، وهذا واضح وقد بيناه في كتاب التذكرة."

إذًا كيف يحمل قول الله- جلَّ وعلا-: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} هل المراد به إسماع تترتب عليه فائدته من الإجابة، يعني ولو ذكرت لهم ما ذكرت وسمعوا منك ما ذكرت ما استفادوا؛ لأنَّ الإجابة مستحيلة، بعد الموت، بعد المعاينة، وبعد الغرغرة لا ينفع توبة، فأنت لا تسمعهم سماعًا ينفع، لا تسمعهم سماعًا ينتفعون به، وقد نُفي السمع من الكفار، لا يسمعون بها، هم يسمعون سماع أصوات، لكن لا يسمعون سماعًا ينفع، سماع إجابة، لا، فإذا حُمل النفي هنا على السماع النافع المجدي ثبت السماع في الجملة الذي لا ينفع؛ لأنه بعد المعاينة لا ينفع، فيستقيم الكلام في نفسه.

ومن يقول: إن الأصل أنهم لا يسمعون، أن الموتى لا يسمعون، يُستثنى من ذلك ما جاء استثنائه في مثل أهل القليب ونحوهم، قد يسمعون لحكمة يراها الله- جلَّ وعلا-، وكونهم يُسمعون هذا أيضًا محل نظر، ومحل خلاف بين أهل العلم، الأصل أنهم لا يُسمعون، قد يحصل لهم ما يحصل من عذاب، لكنَّ هذا العذاب لا يُسمع هذا هو الأصل، والنبي- عليه الصلاة والسلام- قرر أنهم يعذبون في قبورهم، وأنه يسمعهم، يسمع ضرب المرزبة، يسمعها كل شيء إلا الثقلين، ولو سمعها الإنسان لصعق، وجاء في الحديث الصحيح: «لولا أن تدافن»  وفي رواية: «لولا أن لا تدافنوا لأسمعتكم» فدل على أن السماع الخاص لا يعني السماع العام، لا منهم ولا إليهم.

فالأصل أنهم لا يَسمعون ولا يُسمعون، ولكن جاء في النصوص ما يدل على شيء يسير من ذلك مستثنى من هذا العام، فإذًا قصة القليب وأنهم سمعوا، وأن الميت لا يسمع قرع نعالهم، وما أشبه ذلك، لكن لا يعني أنه كل من ذهب إلى صاحب قبر أنه يسمع كلامه، يا فلان يا فلان، يسمع كلامه، لا يلزم، وقل في مثل هذا العكس.

طالب:..........

السلام، أمَّا بالنسبة للنبي- عليه الصلاة والسلام- فترد روحه، وأما بالنسبة لغيره فيحصل الأجر بالسلام، وكونه يجيب أو لا يجيب فهذه مسألة الله أعلم بها، كونها ترد الروح هذا خاص بالنبي- عليه الصلاة والسلام-.

طالب:.........

معروف، هذا الشريط الذي سمع من روسيا، وأنهم سجلوا أصواتًا، وزعموا أنها أصوات أموات يعذبون، وأنهم نفوا ذلك فيما بعد، نفوه نفيًا قاطعًا، وحجبوا الشريط ومنعوا تداوله، على كل حال كل هذا من خطط الكفار الذين يريدون تشكيكنا في ديننا، وما جاءنا عن نبينا- عليه الصلاة والسلام- «لولا أن لا تدافنوا» يعني من كثرة الأموات «لأسمعتكم»، فدل على أن هذا ليس بالإمكان سماعه إلا على طريقة خرق العادة للنبي- عليه الصلاة والسلام-، وقد يكون هناك موعظة لشخصٍ بعينه يتعظ بها فيخرق الله له هذه العادة فيسمع شيئًا من هذا، أما الأصل فإنه لا يَسمع ولا يُسمع.

طالب:..............

كل هذا إما أن يكون رؤى ومنامات كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجب في أهوال القبور، أو يكون من باب الاعتبار والاتعاظ لشخصٍ بعينه، أراد الله له- جلَّ وعلا- هذه الموعظة ليعتبر ويدكر، كما حصل لبعض من دفن ميته ثم عاد إليه؛ لأنه وقع في قبره شيء، فوجده يُعذب، يعني هذه خوارق نادرة لا يعمم الحكم بها.

"قوله تعالى: {وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ} [سورة النمل:81]، أي كفرهم، أي ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم، وقرأ حمزة: "وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم".."

{وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ} هذه هداية التوفيق والقبول التي لا يملكها إلا الله- جلَّ وعلا-، وأما هداية الدلالة والإرشاد فهي له- عليه الصلاة والسلام-: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [سورة الشورى:52]، له ولأتباعه من دعاة الحق.

"وقرأ حمزة: "وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم"، كقوله: {أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ} [سورة يونس:43]، الباقون: "بهادي العمي" وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وفي (الروم) مثله.

وكلهم وقف على {بِهَادِي} بالياء في هذه السورة، وبغير (ياء) في (الروم) اتباعًا للمصحف."

يعني وقوفًا مع الرسم، لا يُتعدى.

"إلا يعقوب فإنه وقف فيهما جميعًا بالياء، وأجاز الفراء وأبو حاتم: "وما أنت بهادٍ العمي" وهي الأصل، وفي حرف عبد الله "وما أن تهدي العمي"، {إن تسمع} أي ما تسمع {إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} قال ابن عباس: أي إلا من خلقته للسعادة فهم مخلصون في التوحيد."

القراءة التي أجازها أو الوجه الذي أجازه الفراء وأبو حاتم بالقطع عن الإضافة "ما أنت بهادٍ العمي"، ويجوز الإضافة هنا، ويجوز القطع يجوز الوجهان {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [سورة النازعات:45]، يجوز أيضًا: "منذرٌ من يخشاها"، إلا أنه من حيث المعنى هناك فرق لطيف يُلحظ في ترجيح أحد الوجهين.

إذا قلت، أو إذا قال زيد من الناس: أنا قاتلٌ عمروًا، أو قال: أنا قاتلُ عمروٍ، الفرق بينهما أنه إذا قال: أنا قاتلٌ عمروًا، يهدد، يهدده بالقتل. أما إذا قال: أنا قاتلُ عمروٍ، فإنه يقرُّ بذلك على نفسه، وأن القتل قد حصل في المضي، وأما بالنسبة للتهديد فسوف يحصل بالمستقبل، والكلام على الدابة طويل جدًّا.

نقف على هذا.

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

هذا يسأل عن بعض التفاسير، وبعض الكلام لبعض المخالفين وهنا يقول: كأنه سؤال موجه إلى من تقدم لعالم يقول:

ماذا يقول شيخنا الإمام

في مسلمٍ ذنوبه ضخام

ضاقت عليه نفسه فقررَ

عذلًا لها بهمةٍ عن الورى

مع ما يرى في أمة الإسلام

من ضعفها وكثرة الأسقام

هذا يسأل عن العزلة، متى تترجح؟ والخلطة متى تكون راجحة؟ أو متى تتعين العزلة، أو متى تتعين الخلطة؟

على كل حال إذا كان الإنسان بمنزلة بحيث يؤثر ولا يتأثر هذا يتعين عليه الخلطة، ولا تجوز له العزلة، وإذا كان بالعكس يتأثر بأعمال الناس وأفعالهم وشرورهم ومنكراتهم ولا يستطيع التأثير فيهم، فإن مثل هذا تتعين عليه العزلة، وإذا كان الأمر سجالًا يؤثر ويتأثر فينظر إلى الغالب، ينظر إلى الغالب فيحكم به.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"