التعليق على تفسير القرطبي - سورة يس (04)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

 قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: "قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ}[يس:45]، قال قتادة: يعني {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} أي: من الوقائع فيمن كان قبلكم من الأمم {وَمَا خَلْفَكُمْ} من الآخرة. وقال ابن عباس وابن جبير ومجاهد: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ}؛ ما مضى من الذنوب {وَمَا خَلْفَكُمْ}؛ ما يأتي من الذنوب. وقال الحسن: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} ما مضى من أجلكم، {وَمَا خَلْفَكُمْ} ما بقي منه، وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} من الدنيا، {وَمَا خَلْفَكُمْ} من عذاب الآخرة، قاله سفيان، وحكى عكس هذا القول الثعلبي عن ابن عباس قال: "{مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} من أمر الآخرة وما عملوا لها، {وَمَا خَلْفَكُمْ} من أمر الدنيا فاحذروها، ولا تغتروا بها، وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} ما ظهر لكم، {وَمَا خَلْفَكُمْ} ما خفي عنكم. والجواب محذوف والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا دليله قوله بعد: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}[يس:46] فاكتفى بهذا عن ذلك".

ما ذكره المفسِّر -رحمه الله- من الأقوال في المعنى {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} الآية تحتمل كل ما قيل؛ لأن {مَا} موصولة، وهي من صيغ العموم، وما ذُكر هي مجرد أمثلة، وإلا فالآية تشملها وتشمل غيرها، وما بين اليدين والخلف هذه أمور نسبية، أمور نسبية، كالمُقدَّم والمؤخر؛ لقوله في صفة وضوء النَّبِي عليه الصلاة والسلام-: «أقبل بهما وأدبر» «أقبل بهما وأدبر»،  «بدء بمقدم رأسه»، الأصل أن الإقبال يكون إلى الوجه، والإدبار يكون إلى القفا، لكن كونه «بدء بمقدم رأسه»، المراد به العكس؛ لأن هذه أمور نسبية، مثل ما يقال: دون، دون كذا، دونه من جهتك أو جهة غيرك، ولذا يختلف أهل العلم في قول الله -جلَّ وعلا-: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}[الرحمن:62]، هل هي أفضل من الأوليين أو أقل؟

هذا كلام كثير من أهل التفسير، لكن أيضًا كلام كثير من أهل التفسير: أنها أعظم، وأفضل وأكرم عند الله -جلَّ وعلالأن الدون نسبي، هل هو دون بالنسبة إلينا، أو بالنسبة إلى الله -جلَّ وعلا- يعني أقرب إلى الله -جلَّ وعلا- {وَمِنْ دُونِهِمَا} إلى الله -جلَّ وعلا-، يعني أقرب إلى الله -جلَّ وعلا- كلام أهل التفسير في هذا واضح، ومثله: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ}؛ لأن هذه أمور نسبية، ما بين الأيدي والخلف، الخلف هل هو الذي تركته؟ وما بين يديك ما أمامك من مدة الدنيا، أو العكس؟ ما بين يديك ما يمكن أن تطلع عليه، وتنظر فيه مما وقع، وما خلفك مما لم يقع؟ هذه أمور نسبية، ولذلك يختلف فيها المفسِّرون اختلافًا كبيرًا، ولا تنحسم، مثل هذه لا تنحسم، إنما كل واحد يستروح إلى ما يترجح عنده، والآية تحتمل الجميع.

طالب:.....

لا، قبل الصلاة ما يمكن أن يجيء، لكن في آخرها في الصلاة أو بعدها؟ منفصلًا عنها، لا هذا ليس مثلها؛ لأن الدبر لو كان يطلق على ما قبل الصلاة يمكن.

"دليله قوله بعد: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}[يس:46] فاكتفى بهذا عن ذلك.

 قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}[يس:47]؛ أي تصدقوا على الفقراء. قال الحسن: يعني اليهود أمروا بإطعام الفقراء، وقيل: هم المشركون قال لهم فقراء أصحاب النَّبِي- صلى الله عليه وسلم-: أعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله وذلك قوله".

حمل الآية على اليهود أو على المشركين بدليل الرد قالوا: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}، لكنه قد يستدل بهذا بعض مَنْ ينتسب إلى الإسلام، كالقدرية -مثلًا- وإلا فالأصل أن اليهودي، والمشرك لا يطلب منه النفقة؛ لأنها لن تقبل منه، هو مكلف بها، لكن لا تطلب منه حال كفره، لا تطلب منه حال كفره، وإلا هو مكلف بفروع الشريعة، والذي يَرد: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} نعم، اليهود يقولون هذا، والمشركون يقولون هذا، وبعض مَنْ ينتسب إلى الإسلام قد يقول هذا.

طالب:.....

نعم، والمشركون؟

طالب:.....

 لا هم، مسألة تكليفهم بفروع الشريعة هذا معروف عند جماهير أهل العلم أنهم مكلفون بالفروع، لكن أهل العلم يقولون: إنهم لا يطالبون بها حال كفرهم؛ لأن شرط المطالبة مفقود الذي هو الإيمان، ومع ذلك إن كان من باب التحدي لهم والإلزام، هذا بالنسبة لليهود، لكن فكيف يقال للمشركين، وهو مناسب لرد المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا}[الأنعام:149]؟

"وذلك قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا}[الأنعام:136]، فحرموهم وقالوا: لو شاء الله أطعمكم -استهزاء- فلا نطعمكم حتى ترجعوا إلى ديننا. قالوا: {أَنُطْعِمُ} أي: أنرزق {مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}، كان بلغهم من قول المسلمين: أن الرازق هو الله. فقالوا -هزءوا-: أنرزق من لو يشاء الله أغناه. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان بمكة زنادقة، فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله أيفقره الله ونطعمه نحن؟ وكانوا يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئته فيقولون: لو شاء الله لأغنى فلانًا، ولو شاء الله لأعز، ولو شاء الله لكان كذا. فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين، وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله تعالى.

وقيل: قالوا هذا تعلقًا بقول المؤمنين لهم: {أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}[يس:47] أي: فإذا كان الله رزقنا فهو قادر على أن يرزقكم فلم تلتمسون الرزق منا؟ وكان هذا الاحتجاج باطلًا؛ لأن الله تعالى إذا مَلَّكَ عبدًا مالًا، ثم أوجب عليه فيه حقًّا، فكأنه انتزع ذلك القدرَ منه، فلا معنى للاعتراض، وقد صدقوا في قولهم: {لَوْ شَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} ولكن كذبوا في الاحتجاج. ومثله قوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا}[الأنعام:148]. وقوله: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}[المنافقون:1]".

لأن شهادتهم باللسان، لا يعترفون بقلوبهم إنما بألسنتهم، والمعوَّل على القلب والتصديق.

"{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} قيل: هو من قول الكفار للمؤمنين، أي في سؤال المال وفي إتباعكم محمد، قال: معناه مقاتل وغيره. وقيل: هو من قول أصحاب النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- لهم، وقيل: من قول الله تعالى للكفار حين ردوا بهذا الجواب، وقيل: إن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- كان يطعم مساكين المسلمين، فلقيه أبو جهل فقال: يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال: نعم، قال: فما باله لم يطعمهم؟ قال: ابتلى قومًا بالفقر، وقومًا بالغنى، وأمر الفقراء بالصبر، وأمر الأغنياء بالإعطاء، فقال: والله يا أبا بكر ما أنت إلا في ضلال، أتزعم أن الله قادرٌ على إطعام هؤلاء، وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت؟ فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[الليل: 5-6] الآيات. وقيل: نزلت الآية في قوم من الزنادقة، وقد كان فيهم أقوامٌ يتزندقون، فلا يؤمنون بالصانع، واستهزءوا بالمسلمين بهذا القول، ذكره القشيري والماوردي قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}".

يعني استدلالهم واحتجاجهم بأن الله -جلَّ وعلا- قادر على إطعامهم، فإذا كان الله قادر على إطعامهم، وقدرته أعظم من قدرتنا، فلماذا لا يعطهم؟ يعني نظير احتجاجهم في أكلهم الميتة، قالوا: الميتة إنما قتلها الله، ذُبِحَت بسكين الله، وما ذبحناه ذبحناه بسكيننا، وما قتله الله أفضل مما قتلناه، فهذه حجج تبدو في ظاهرها قد تنطلي على بعض السذَّج، لكن مَنْ عرف حقيقة الأمر، وتقيَّد بالنصوص بالأوامر والنواهي عرف أن هذا كله زيف.

"قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[يس:48]. لما قيل لهم: {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ}[يس:45] قالوا: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} وكان هذا استهزاء منهم أيضًا، أي لا تحقيق لهذا الوعيد. قال الله تعالى: {مَا يَنظُرُونَ}[يس:49]، أي: ما ينتظرون {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} وهي نفخة إسرافيل {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} أي: يختصمون في أمور دنياهم فيموتون في مكانهم، وهذه نفخة الصعق وفي {يَخِصِّمُونَ} خمس قراءات: قرأ أبو عمرو".

يعني هذا الخلاف بين أهل العلم في عدد النفخات، هل هي اثنتان أو ثلاث؟ من أهل العلم مَنْ

يرى أنها ثلاث: نفخة فزع، ونفخة صعق، ونفخة بعث، ومنهم مَنْ يقول: إن الفزع من نفخة الصعق، يعني مقدماتها فزع ثم صعق، فتكون ثنتين.

"وفي {يَخِصِّمُونَ} خمس قراءات: قرأ أبو عمرو، وابن كثير: {يَخَصِّمُونَ} بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد، وكذا روى ورش عن نافع. فأما أصحاب القراءات، وأصحاب نافع سوى ورش فرووا عنه "يَخْصِّمُونَ" بإسكان الخاء وتشديد الصاد على الجمع بين ساكنين".

نعم؛ لأن الحرف المشدد هو عبارة عن حرفين أولهما ساكن، والخاء ساكنة فاجتمع ساكنان، لكن هذا النطق فيه عسر، والعربية لا تأتي بمثل هذا.

"وقرأ يحيي بن وثَّاب، والأعمش، وحمزة: "وَهُمْ يَخْصِمُونَ" بإسكان الخاء وتخفيف الصاد من "خصمه". وقرأ عاصم، والكسائي: "وَهُمْ يَخِصِّمُونَ" بكسر الخاء وتشديد الصاد، ومعناه: يخصم بعضهم بعضًا. وقيل: تأخذهم وهم عند أنفسهم يختصمون في الحجة أنهم لا يبعثون، وقد روى ابن جبير: عن أبى بكر عن عاصم، وحماد عن عاصم: كسر الياء والخاء والتشديد، قال النحاس: "القراءة الأولى أبينها، والأصل فيها {يَخْتَصِمُون}، فأدغمت التاء في الصاد، فنقلت حركتها إلى الخاء، وفى حرف أُبَيّ {وَهُمْ يَخْتَصِمُون}".

يعني على الأصل من غير إدغام وإبدال.

"وإسكان الخاء لا يجوز، لأنه جمع بين ساكنين وليس أحدهما حرف مد ولين. وقيل: أسكنوا الخاء على أصلها، والمعنى: يخصم بعضهم بعضًا، فَحُذِفَ المضاف، وجاز أن يكون المعنى: يخصمون مجادلهم عند أنفسهم، فَحُذِفَ المفعول، قال الثعلبي: وهي قراءة أُبَي بن كعب -رضي الله عنه-. قال النحاس: فأما {يَخْصِمُونَ} فالأصل فيه أيضًا "يختصمون"، فأدغمت التاء في الصاد، ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين". وزعم الفراء أن هذه القراءة أجود وأكثر، فترك ما هو أولى من إلقاء حركة التاء على الخاء واجتلب لها حركة أخرى، وجمع بين ياء وكسرة، وزعم أنه أجود وأكثر، وكيف يكون أكثر وبالفتح قراءة الخلق من أهل مكة، وأهل البصرة، وأهل المدينة؟! وما رُوي عن عاصم من كسر الياء والخاء فللإتباع، وقد مضى هذا في  البقرة، في {يَخْطُفُ أَبْصَارَهُمْ}، وفى يونس في {يَهدي}".

القراءة في البقرة: {يَخْطُفُ} من باب الإتباع، يعني: مثل ما قالوا في: {الْحَمْدِ لله} إتباع الدال للام، الدال أتبعت للام أو على قراءة الرفع: {الْحَمْدُ لله} أتبعت اللام للدال.

"وقال عكرمة في قوله –جلَّ وعزَّ–: {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} قال: "هي النفخة الأولى في الصور". وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "ينفخ في الصور والناس في أسواقهم، فمن حالب لقحة، ومن ذارع ثوبًا، ومن مارٍّ في حاجة". وروى نعيم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم–: «تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فلا يطويانه حتى تقوم الساعة، والرجل يَلِيطُ حوضه ليسقي ماشيته، فما يسقيها حتى تقوم الساعة، والرجل يخفض ميزانه فما يرفعه حتى تقوم الساعة، والرجل يرفع أكلته إلى فِيه، فما يتبلعها حتى تقوم الساعة»، وفي حديث عبد الله بن عمرو: «وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله قال: فيصعق ويصعق الناس» الحديث".

 يلوط حوض إبله يعني ينظِّفه من شوائبه، ويملسه، أشبه ما يكون بالتلييس.

طالب: .....

لا، ما يلزم؛ لأن الإبل لا تنقطع، من البادية، كلها من البادية.

طالب: .....

على كل حال هي لن تنقطع، ولا يعني أن الناس كلهم يعودون إليها.

"قوله تعالى: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً}[يس:50]. أي: لا يستطيع بعضهم أن يوصي بعضًا لما في يده من حق. وقيل: لا يستطيع أن يوصي بعضهم بعضًا بالتوبة والإقلاع بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم".

نعم؛ لعدم الفرصة، تأخذهم أخذًا سريعًا، لا تترك لهم فرصة يوصون، ولا ينهون مشاكلهم، وأسباب خصوماتهم، إنما تأخذهم على غرة.

"{وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} إذا ماتوا، وقيل: إن معنى {وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}، لا يرجعون إليهم قولًا".

يعني لا يستطيعون الرد عليهم.

"وقال قتادة: {وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} أي: إلى منازلهم، لأنهم قد أُعْجِلُوا عن ذلك.
قوله تعالى:
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}[يس:51]. هذه النفخة الثانية للنشأة. وقد بينا في سورة [النمل:87] أنهما نفختان لا ثلاث. وهذه الآية دالة على ذلك. وروى المبارك بن فضالة عن الحسن قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بين النفختين أربعون سنة،
الأولى يميت الله بها كل حي، والأخرى يحيي الله بها كل ميت
». وقال قتادة: الصور جمع صورة، أي: نفخ في الصور والأرواح. وصورة وصور مثل سورة البناء وسور، قال العجاج:

ورب ذي سرادق محجور
 

سرت إليه في أعالي السور
  

وقد روي عن أبى هريرة -رضي الله عنه- أنه قرأ: {ونفخ في الصُّوَر}. قال النحاس: والصحيح أن {الصُّوْر} بإسكان الواو القرن".

لعلها "الصُّوَر"، لعلها القراءة: "الصُّوَر".

طالب: قراءة أبي هريرة؟

 كأنَّها، لأن {الصُّوْر} ما فيها خلاف.

طالب: وضع كسرة تحت الواو.

في "الصُّوْرِ" لا، لعلها هكذا.

طالب: تحت الراء.

نعم، تحت الراء، لكن الواو كأنها مفتوحة؛ لتخالف قراءة الجماعة، وإلا ما لذكرها داعٍ إذا كانت في {الصُّوْر}، كأنها "الصُّوَر" جمع صورة، قال قتادة: {الصُّوْر} جمع صورة، ولعلها "الصُّوَر"، نعم.

"وقد روي عن أبى هريرة -رضي الله عنه- أنه قرأ: "ونفخ في الصُّوَر". قال النحاس: والصحيح أن {الصُّوْر} بإسكان الواو: القرن. جاء بذلك التوقيف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وذلك معروف في كلام العرب. أنشد أهل اللغة:

نحن نطحناهم غداة الغورين
 

بالضابحات في غبار النقعين
  

                            نطحًا شديدًا لا كنطح الصورين

وقد مضى هذا في الأنعام مستوفًى. {فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ} أي: القبور، وقُرِئ بالقاف: "من الأجداف".

بالفاء، قرئ بالفاء.

"وقُرِئ بالفاء: "من الأجداف". ذكره الزمخشري. يقال: "جدث وجدف". واللغة الفصيحة: "الجدث" بالثاء، والجمع "أجدث، وأجداث"، قال المتنخل الهذلي:

عرفت بأجدث فنعاف عرق
 

علامات كتحبير النماط"
  

النماط: البسط.

"واجتدث: أي اتخذ جدثًا. {إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} أي: يخرجون، قاله ابن عباس وقتادة. ومنه قول امرئ القيس:

فسُّلي ثيابي من ثيابك تنسيلي
  

ومنه قيل للولد: "نسل"؛ لأنه يخرج من بطن أمه. وقيل: يسرعون. "والنسلان والعسلان": الإسراع في السير، ومنه مِشية الذئب، قال:

عسلان الذئب أمسى قاربًا
 

وبرد الليل عليه فنسل
  

يقال: عسل الذئب ونَسَل، يعسل وينسل، من باب ضرب يضرب. ويقال: "يَنْسُلُ" بالضم أيضًا.
وهو الإسراع في المشي، فالمعنى يخرجون مسرعين. وفى التنزيل:
{مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}[لقمان:28]، وقال: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ}[القمر:7]، وفي {سَأَلَ سَائِلٌ} {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}[ المعارج:43] أي يسرعون، وفى الخبر: شكونا إلى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- الضعف فقال: «عليكم بالنَسْل» أي: بالإسراع في المشي فإنه ينشط قال ابن الأنباري: {يَا وَيْلَنَا} وقفٌ حسن ثم تبتدئ".

خَرَّج الحديث؟

طالب: قال: لا أصل له، ذكره ابن الجوزي في: [لألئ الحديث]، والزمخشري في: [الفائق]، وابن الأثير في: [النهاية] بدون إسناد، ولكن الحديث جاء بلفظ: «استعينوا بالنسل، فإنه يقطع عنكم الأرض، وتخفون له»، قال: "ففعلنا، فخففنا له". من حديث جابر، من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر، وأخرجه أبو يعلى: من طريق .... في صحيحه، وهو أيضًا في صحيح ابن خزيمة، وصححه الألباني.

نعم.

"قال ابن الأنباري: {يَا وَيْلَنَا} وقف حسن ثم تبتدئ {مَنْ بَعَثَنَا} وروي عن بعض القراء: {يا ويلنا مِنْ بعثِنا} بكسر من والثاء من البعث. روي ذلك عن علي -رضي الله عنه-، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على قوله: {يَا وَيْلَنَا} حتى يقول: {مِنْ مَرْقَدِنَا}. وفي قراءة أُبَيِّ بن كعب -رضي الله عنه-: "من هبنا" بالوصل {مِنْ مَرْقَدِنَا} فهذا دليل على صحة مذهب العامة قال المهدوي: "قرأ ابن أبي ليلى: "قَالوُا يَا وَيْلَتَنَا" بزيادة تاء".

يعني: "يا هبنا" هي بمعنى "بَعَثَنَا" ولما كانت القراءة على الأحرف السبعة يجوز مثل هذا، لكنهم أجمعوا على حرف واحد، هو ما بين الدفتين من كتابة عثمان -رضي الله عنه- المصاحف، وإقرار الصحابة وإجماعهم على ذلك مما يوافق العرضة الأخيرة بالنسبة للنَّبِي -عليه الصلاة والسلام-.

"وقرأ ابن أبي ليلى: "قَالوُا يَا وَيْلَتَنَا" بزيادة تاء، وهو تأنيث "الويل"، ومثله: {يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ}[هود:72]. وقرأ علي -رضي الله عنه-: {يا ويلتنا مِنْ بَعْثِنَا}".

يا ويلتا، ويلتا.

"يا وليتا" فـ "مِنْ" متعلقة "بالويل" أو حال من "ويلتا" فتتعلق بمحذوف، كأنه قال: "يا ويلتا كائنًا من بعثنا"، وكما يجوز أن يكون خبرًا عنه كذلك يجوز أن يكون حالًا منه. و"مِنْ" من قوله: {مِنْ مَرْقَدِنَا} متعلقة بنفس البعث. ثم قيل: كيف قالوا هذا وهم من المعذبين في قبورهم؟ فالجواب أن أُبَيَّ بن كعب -رضي الله عنه- قال: "ينامون نومة -وفى رواية- فيقولون: "يا ويلتا من أهبنا من مرقدنا"، قال أبو بكر الأنباري: لا يُحمل هذا الحديث على أن "أهبَّنا" من لفظ القرآن كما قاله من طعن في القرآن، ولكنه تفسير {بَعَثَنَا} أو مُعَبِّرٌ عن بعض معانيه".

يعني في قولهم: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} وهم يعذبون في قبورهم، هم أُسْمِعُوا ما في الآخرة من عذاب في النار -نسأل الله السلامة والعافية- وكذبوا به، فلما رأوا مقدمات في القبر لم يكن من التصديق به مناص ولا مفر، وعذاب القبر بالنسبة لعذاب النار –نسأل الله العافية- مثل النوم، كأنهم راقدون، بالنسبة لعذاب النار، هذا بالنسبة للكفار كأنهم راقدون، ولذا جاء في الخبر: «ناركم التي توقدون عليها جزء من سبعين جزءًا»، وجاء في بعض الأخبار: "أن أهل النار لو رجعوا إلى الدنيا لناموا على ناركم هذه"، -نسأل الله السلامة والعافية ولا ينفي هذا أن يكون يفتر عنهم العذاب قبيل البعث، ثم يُبعثون فيقولون: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}.

طالب:.....

هم يعرضون على النار الكبرى، يفتح لهم عليها باب، وأما عذاب القبر فهو موجود، يعني ما يعذبون به في قبورهم مستمر، لكن عرضهم على نار الآخرة هذا ما فيه شك أنه أعظم -نسأل الله السلامة والعافية-.

"قال أبو بكر:" وكذا حفظته "مَنْ هبَّنا" بغير ألف في "أهبَّنا" مع تسكين نون "مَنْ". والصواب فيه على طريق اللغة "مَن أهبَّنا".

مَنَ.

"والصواب فيه على طريق اللغة "مَنَ أهبَّنا" بفتح النون على أن فتحة همزة "أَهبَّ" ألقيت على نون "منَ" وأسقطت الهمزة، كما قالت العرب: منَ أخبرك منَ أعلمك؟ وهم يريدون مَنْ أخبرك. ويقال: "أهببت النائم فهب النائم". أنشدنا أحمد بن يحيى النحوي:

من هو؟ ثعلب هذا؟ هل علق عليه؟

ما علق على أحمد بن يحيى؟

طالب: .....

ما علق عليه؟

طالب: .....

نعم.

طالب: .....

ثعلب نعم.

 

"وعَاذِلَةٍ هبت بليل تلومني
 

ولم يعتمرني قبل ذاك عَذُولُ
  

وعاذلةٍ الواو واو رُبَّ.

"وقال أبو صالح: "إذا نفخ النفخة الأولى رُفِعَ العذاب عن أهل القبور وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية، وبينهما أربعون سنة، فذلك قولهم: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} وقاله ابن عباس وقتادة. وقال أهل المعاني: "إن الكفار إذا عاينوا جهنم وما فيها من أنواع العذاب صار ما عُذِّبوا به في قبورهم إلى جنب عذابها كالنوم". قال مجاهد: فقال لهم المؤمنون {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ}. قال قتادة: فقال لهم من هدى الله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ}. وقال الفراء: فقال لهم الملائكة: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ}. قال النحاس: "وهذه الأقوال متفقة؛ لأن الملائكة من المؤمنين وممن هدى الله -عزَّ وجلَّ-. وعلى هذا يتأول قول الله -عزَّ وجلَّ-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}[البينة:7] وكذا الحديث: «المؤمن عند الله خير من كل ما خلق»".

يدخل فيهم مَنْ تحلى بهذا الوصف من البشر ومن الملائكة ومن الجن أيضًا.

"ويجوز أن تكون الملائكة -صلى الله عليهم- وغيرهم من المؤمنين قالوا لهم: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ}. وقيل: إن الكفار لما قال بعضهم لبعض: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} صَدَّقُوا الرسل لما عاينوا ما أخبروهم به، ثم قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} فكذبنا به، أقروا حين لم ينفعهم الإقرار. وكان حفصُ يقف على: {مِنْ مَرْقَدِنَا} ثم يبتدئُ فيقول: {هَذَا}. قال أبو بكر بن الأنباري: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} وقفٌ حسن، ثم تبتدئ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ}".

يعني كأنه سؤال وجوابه، فيفصل بينهما.

"ويجوز أن تقف على: {مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} فتخفض {هَذَا}على الإتباع "للمرقد"، وتبتدئ: {مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ}".

يعني وصف له، وصف {مَرْقَدِنَا هَذَا} أو بدل، أو بيان.

"على معنى: بَعْثُكم ما وعد الرحمن، أي: بَعْثُكم وعد الرحمن. قال النحاس: التمام على: {مِنْ مَرْقَدِنَا} و {هَذَا} في موضع رفع بالابتداء، وخبره: {مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ}. ويجوز أن يكون في موضع خفض على النعت لـ: {مَرْقَدِنَا} فيكون التمام: {مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا}، {مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} في موضع رفع من ثلاث جهات: ذكر أبو إسحاق منها اثنتين قال: "يكون بإضمار: {هَذَا}. والجهة الثانية: أن يكون بمعنى: حق ما وعد الرحمن بعثكم. والجهة الثالثة: أن يكون بمعنى: ما وعد الرحمن".

قوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً}[يس:53]. يعني إن بعثهم وإحياءهم كان بصيحة واحدة وهي قول إسرافيل: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة والشعور المتمزقة! إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وهذا معنى قوله الحق: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ}[ق:42]، وقال: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ}[القمر: 8]. على ما يأتي. وفي قراءة ابن مسعود- إن صح عنه-: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا زَقْيَةً وَاحِدَة} والزَقْيَةُ: الصيحة، وقد تقدم هذا. {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}".

تقدم هذا في السورة نفسها في الدرس الماضي.

"{فَإِذَا هُمْ} مبتدأ وخبره: {جَمِيعٌ} نكرة، و{مُحْضَرُونَ} من صفته، ومعنى {مُحْضَرُونَ} مجموعون أحضروا موقف الحساب، وهو كقوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}[النحل:77].

 قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}[يس:54]. أي: لا تنقص من ثواب عمل. {وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} {مَا} في محل نصب من وجهين: الأول: أنه مفعول ثانٍ لما لم يسم فاعله. والثاني: بنزع حرف الصفة، تقديره: إلا بما كنتم تعملون، أي: تعملونه، فحذف، قوله تعالى".

حرف الصفة حرف الجر، نعم.

والنفخة هذه نفخة البعث هي الثانية على قول المؤلف وما اختاره ورجَّحه، وهي الثالثة التي عند جمع من أهل العلم، يتقدّمها نفخة الفزع، ونفخة الصعق، وأول مَنْ تنشق عنه الأرض بعد هذه النفخة: النَّبِي -عليه الصلاة والسلام- كما جاء في الحديث الصحيح، ويقول: «فإذا موسى باطش بقائمة العرش، يعني آخذ بقائمة العرش فلا أدري أبعث قبلي، أَمْ جُوزِيَ بصعقة الطور». يعني ما صعق، وهذه من مناقبه، وهذا لا يعني أنه أفضل من محمد -عليه الصلاة والسلام-، لأن التفضيل من جهة لا يعني التفضيل المطلق، يعني مثل ما ذكرنا مرارًا في كون أول مَنْ يُكْسَى يوم القيامة إبراهيم -عليه السلام قبل محمد -عليه الصلاة والسلام-، ومع ذلك لا أحد يقول: إن إبراهيم -عليه السلام- أفضل من محمد -عليه الصلاة والسلام-، يعني كون الإنسان يفضل من جهة لا يعني أنه أفضل مطلقًا، فالنَّبِي -عليه الصلاة والسلام- سيد ولد آدم -عليه السلام- وأفضل الخلق، ومع ذلك موسى -عليه السلام- عندما تنشق الأرض عن محمد -عليه الصلاة والسلام-، موسى آخذ بقائمة العرش، ويُكْسَى إبراهيم قبل غيره؛ لأنه لما أرادوا أن يلقوه في النار جرَّدوه من ثيابه، فجوزي بذلك -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام-.

 ومع ذلك هذا اليوم يوم عسير على الكفار؛ {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِير}[المدثر:8-10]. –نسأل الله العافية-، أمور مهولة يشيب منها الولدان، ولكن الرَّان الذي غطَّى على القلوب جعلها لا تدرك ما كان يدركه الناس قبل، يعني كان الناس إلى وقت قريب إلى ثلاثين سنة، إذا رأوا جنازة تأثَّروا أيامًا، والآن ينظرون إلى الجنائز، ويزورون القبور، وبعضهم قد ينزل في القبر، وبعضهم يشاهد التغسيل، وبعضهم يشاهد الاحتضار، وكأن شيئًا لم يكن، ما فيه أدنى تأثر.

 المؤلف -رحمه الله تعالى- القرطبي، في تفسير سورة: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}[التكاثر:1] له كلام نفيس جدًّا حول هذه المسألة، وأن على الإنسان أن يُحْضِر قلبه في هذه المواطن، لكن ما الحيلة إذا كان لا يَحْضُر عند قراءة القرآن، ولا في الصلاة، ولا في الذكر، ولا في الدعاء، فكيف يَحْضُر في غيرها من المواطن؟!

يعني يعلم الإنسان أن الباب مغلق، فليسعى جادًّا في فتحه والصلة بينه وبين ربه؛ ليتعلق به دون مَنْ سواه، وإلا فما معنى أن الجوالات بالموسيقى الصاخبة على القبر؟! وما معنى أن يوجد الكهل يدخن على شفير القبر؟! أمور يعني ما تستوعب، لكن الله المستعان، يعني هذا الشيء أدركه كل إنسان بنفسه، التغير والتحول الذي في قلوب الناس، يعني شيء ما يخطر على بال، يعني أدركنا قبل عشرين، وقبل خمسة وعشرين، وقبل ثلاثين سنة شيئًا يختلف تمامًا على ما نحن عليه حتى إن الإنسان أحيانًا يتمنى أن لو مات قبل عشرين سنة؛ لأنه يجد من نفسه أفضل مما هو عليه الآن بكثير، يعني ما فيه نسبة، نسأل الله -جلَّ وعلا- أن يردنا إليه رد جميلًا، نعم.

"قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}[يس:55]. قال ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، ومجاهد: "شغلهم افتضاض العذارى". وذكر الترمذي الحكيم في كتاب [مشكل القرآن] له: حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود في قوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}[يس:55]. قال: "شغلهم افتضاض العذارى".

حدثنا محمد بن حميد، حدثنا هارون بن المغيرة، عن نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس بمثله. وقال أبو قلابة: "بينما الرجل من أهل الجنة مع أهله، إذ قيل له تحول إلى أهلك: فيقول: أنا مع أهلي مشغول، فيقال: تحول أيضًا إلى أهلك". وقيل: أصحاب الجنة في شغل بما هم فيه من اللذات والنعيم عن الاهتمام بأهل المعاصي ومصيرهم إلى النار، وما هم فيه من أليم العذاب، وإن كان فيهم أقرباؤهم وأهلوهم، قاله سعيد بن المسيب وغيره. وقال وكيع: يعني: في السماع. وقال ابن كيسان: {فِي شُغُلٍ} أي: في زيارة بعضهم بعضًا".

السماع الذي هو غناء لأهل الجنة، غناء الحور العين الذي يكون لمن لم يسمع الغناء المحرم في هذه الدنيا، {جَزَاءً وِفَاقًا}[النبأ:26]، يعني مَنْ تلذَّذ بشيء محرم في الدنيا حرمه في الآخرة، كما جاء: «مَنْ شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة».

طالب: من تاب؟

من تاب تاب الله عليه، لكن قد يُحرمها ولو تاب، ومع ذلك لا يحس بفقدها.

"وقيل: في ضيافة الله تعالى. وروي: "أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين عبادي الذين أطاعوني وحفظوا عهدي بالغيب؟ فيقومون كأنما وجوههم البدر والكوكب الدري، ركبانًا على نجب من نور أزمتها من الياقوت، تطير بهم على رءوس الخلائق، حتى يقوموا بين يدي العرش، فيقول الله -جلَّ وعزَّ- لهم: السلام على عبادي الذين أطاعوني وحفظوا عهدي بالغيب، أنا اصطفيتكم، وأنا اجتبيتكم، وأنا اخترتكم، اذهبوا فادخلوا الجنة بغير حساب فـ {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}[الزخرف:68]. فيمرون على الصراط كالبرق الخاطف فتفتح لهم أبوابها، ثم إن الخلق في الحشر".

في المحشر.

في المحشر؟

في المحشر نعم.

 "ثم إن الخلق في المحشر موقوفون فيقول بعضهم لبعض: يا قوم أين فلان وفلان؟ وذلك حين يسأل بعضهم بعضًا فينادي منادٍ: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}". و{شُغُلٍ} و{شُغْل} لغتان قرئ بهما، مثل "الرُعُبِ والرُعْب، والسُحُتِ والسُحْت، وقد تقدم. {فَاكِهُونَ} قال الحسن: "مسرورون". وقال ابن عباس: "فرحون". وقال مجاهد، والضحاك: "معجبون". وقال السدي: "ناعمون". والمعنى متقارب. والفكاهة: المزاح والكلام الطيب. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والأعرج: {فَكِهُون} بغير ألف، وهما لغتان كالفاره والفره، والحاذر والحذر، قاله الفراء. وقال الكسائي، وأبو عبيدة: "الفاكه ذو الفاكهة، مثل شاحم ولاحم، وتامر ولابن، والفكه المتفكه والمتنعم".

يعني ذو الشحم، وذو اللحم، وذو التمر، وذو اللبن.

"والفكه المتفكه والمتنعم، و{فَكِهُون} بغير ألف في قول قتادة: "معجبون". وقال أبو زيد: "يقال رجل فكه: إذا كان طيب النفس ضحوكًا.

وقرأ طلحة بن مصرِّف: {فَاكِهين} نصبه على الحال.
قوله تعالى:
{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}[يس:56]. مبتدأ وخبره، ويجوز أن يكون {هُمْ} توكيدًا {وَأَزْوَاجُهُمْ} عطف على المضمر، و{مُتَّكِئُونَ} نعت لقوله: {فَاكِهُونَ}. وقراءة العامة: {فِي ظِلالٍ} بكسر الظاء والألف، وقرأ ابن مسعود، وعبيد بن عمير، والأعمش، ويحيى، وحمزة، والكسائي، وخلف: {في ظُلَل} بضم الظاء من غير ألف، فالظلال: جمع ظل، وظُلَلٌ: جمع ظُلَّة. {عَلَى الأَرَائِكِ} يعني السرر في الحجال، واحدها أريكة، مثل: "سفينة وسفائن"، قال الشاعر:

كأن احمرار الورد فوق غصونه
 

بوقت الضحى في روضه المتضاحك
  

خدود عذارى قد خجلن من الحيا
 

تهادين بالريحان فوق الأرائك
  

وفي الخبر عن أبي سعيد الخدري قال النَّبِيُ -صلى الله عليه وسلم-: «إن أهل الجنة كلما جامعوا نساءهم عدن أبكارًا». وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إن الرجل من أهل الجنة ليعانق الحوراء سبعين سنة، لا يملُّها ولا تملُّه، كلما أتاها وجدها بكرًا، وكلما رجع إليها عادت إليه شهوته، فيجامعها بقوة سبعين رجلاً، لا يكون بينهما مني، يأتي من غير مني منه ولا منها".

قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ}[يس:57]. ابتداء وخبر. {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} الدال الثانية مبدلة من تاء، لأنه يفتعلون، من "دعا".

تاء الافتعال معروف أنها تُقلب دالًا كما هنا، وقد تقلب صادًا، الاصطفاء.

"من "دعا" أي: من دعا بشيء أعطيه. قاله أبو عبيدة، فمعنى: {يَدَّعُونَ} يتمنون، من الدعاء. وقيل: المعنى أن من ادعى منهم شيئًا فهو له؛ لأن الله تعالى قد طبعهم على ألا يدعي منهم أحد إلا ما يجمل ويحسن أن يدعيه. وقال يحيى بن سَلَّام: {يَدَّعُونَ} يشتهون. وقال ابن عباس "يسألون". والمعنى متقارب. قال ابن الأنباري: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} وقف حسن، ثم تبتدئ: {سَلامٌ} على معنى ذلك لهم سلام. ويجوز أن يرفع "السلام" على معنى ولهم ما يدعون مسلم خالص. فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على {مَا يَدَّعُونَ}. وقال الزجاج: {سَلامٌ} مرفوع على البدل من {مَا} أي: ولهم أن يسلم الله عليهم، وهذا مُنَى أهل الجنة.
وروى من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- قال: «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب تعالى قد اطَّلع عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}، فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركاته عليهم في ديارهم»، ذكره الثعلبي والقشيري. ومعناه ثابت في صحيح مسلم، وقد بيناه في [يونس] عند قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[يونس: 26]".

نعم، أعظم نعيم لأهل الجنة هو التلذذ بالنظر إلى وجهه الكريم- عزَّ وجلَّ-.

"ويجوز أن تكون {مَا} نكرة، و {سَلامٌ} نعتًا لها، أي ولهم ما يدَّعون مسلم. ويجوز أن تكون {مَا} رفع بالابتداء، و{سَلامٌ} خبر عنها، وعلى هذه الوجوه لا يوقف على {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ}".

في قوله سابقًا: إنهم مطبوعون على ألا يدعي منهم أحد إلا ما يجمل ويحسن أن يدعيه"، لأنه سُمِعَ في الدنيا مَنْ يتمنى أن يوجد هذا الشيء في الجنة، يعني أهل الإبل يتمنى بعضهم أن تكون هذه الإبل وأرواثها في الجنة، وأهل كل صنعة يتمنون أن تكون صناعتهم التي ألفوها في الجنة، أما بالنسبة للجنة ففيها نُجُب العقيان، ليست نُجُب اللحم والدم والصوف والروث، يعني فيها شيء ما يخطر على البال، يعني ما خطر على قلب بشر، فهم مطبوعون على ألا يدعوا مثل هذه الأمور، كما قال المؤلف -رحمه الله-: "لأن الله -تعالى- قد طبعهم على ألا يدعي منهم أحد إلا ما يجمل ويحسن أن يدعيه"؛ لأن بعضهم تمنى أن يوجد شيء غير مناسب وغير لائق، لا يناسب ولا يليق، لكنهم في النهاية يطبعون؛ لأنه يتبين لهم أن ما كان يتمنونه ليس بشيء في الحقيقة عندما يوجد في الجنة.

 يعني: تجد مثلاً طالب العلم يقول: ليت هناك كتب نستفيد ونراجع، خلاص انتهى التكليف، الكتب من أجل ماذا؟ أن تتعبد على بصيرة، هذا إذا كنت على الجادة، ولو في الجنة خلاص انقطع التكليف.

 وبعضهم يتمنى أن عنده مثل هذا الخيل، حتى بعضهم يتمنى مثل هذا الحمار الذي عنده، لكنهم كما قال: "مطبوعون على ألا يدعي منهم أحدٌ إلا ما يجمل ويحسن أن يدعيه"؛ لأنه إذا دخلوا الجنة انتهت تلك الأماني التي تمنوها، وجدوها لا شيء بالنسبة لما في الجنة.

طالب:.....

الأماني كثيرة، يعني كلٌّ يتمنى العمل الذي يتاح له في الدنيا.

طالب:.....

في لحظة أو في ساعة كما جاء، لكن ليس من جنس النبات الذي عندنا.

طالب:.....

طيب ما الجواب؟

طالب: الجواب جواب عام.

«فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت»، يكفي هذا.

طالب: كاتب يكتب كتابات إسلامية، وقف عند: {وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}[الواقعة:17.الإنسان:19]، فقال: هذا دليل على أن في الجنة أمورًا محرمة في الدنيا، مثل الزنا واللواط.

هذا خواطر شيطانية، رأيت الرد عليه؟ يعني كما استدل بعضهم بوطء المرأة في الدبر بقول لوط: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي}[هود:78]. يعرفون أنهم ما يبغون القبل، فيستعملون على الجهة التي يريدون، كلام باطل، هذه خواطر شيطانية أُلقيت على لسان بعض المفتونين، ورُدَّ عليها، والله نسيت الراد والمردود عليه، لكن قرأته قديمًا.

"وفي قراءة ابن مسعود: {سلامًا} يكون مصدرًا، وإن شئت في موضع الحال، أي: ولهم ما يدعون ذا سلام، أو سلامة، أو مسلمًا، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على {يَدَّعُونَ}. وقرأ محمد بن كعب القرظي: "سِلْمٌ" على الاستئناف كأنه قال: ذلك سِلْمٌ لهم لا يتنازعون فيه. ويكون: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} تامًا. ويجوز أن يكون {سَلامٌ} بدلًا من قوله: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ}، وخبر {مَا يَدَّعُونَ} {لَهُمْ} ويجوز أن يكون {سَلامٌ} خبرًا آخر، ويكون معنى الكلام أنه لهم خالص من غير منازع فيه. {قَوْلًا} مصدر على معنى قال الله ذلك قولًا. أو بقوله قولًا، ودل على الفعل المحذوف لفظ مصدره. ويجوز أن يكون المعنى: ولهم ما يدعون قولًا، أي: عِدَةٌ من الله. فعلى هذا المذهب الثاني لا يحسن الوقف على {يَدَّعُونَ}.
وقال السجستاني: "الوقف على قوله:
{سَلامٌ} تام"، وهذا خطأ؛ لأن القول خارج مما قبله.

قوله تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ}".

يعني القول مرتب عليه، وإذا وقفَ على {سَلامٌ} قطع عنه.

"قوله تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}[يس:59]. ويقال: تميَّزوا، وامَّازوا، وامَّتازوا، بمعنى، ومزته فانماز وامتاز، وميزته فتميز. أي: يقال لهم هذا عند الوقوف للسؤال حين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة، أي: اخرجوا من جملتهم. قال قتادة: "عزلوا عن كل خير". وقال الضحاك: "يمتاز المجرمون بعضهم من بعض، فيمتاز اليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة". وعنه أيضًا: "إن لكل فرقة في النار بيتًا تدخل فيه ويرد بابه، فيكون فيه أبدًا لا تَرَى لا تُرَى". وقال داود بن الجراح: "فيمتاز المسلمون من المجرمين، إلا أصحاب الأهواء فيكونون مع المجرمين".
بحسب قوة المخالفة، وقوة البدعة وضعفها، هناك البدع المغلظة المخرجة من الملة فهذه معروف حكمها، وأنها كالحكم على الكفار، هناك مَنْ ابتدع بدعة لا تخرج عن دائرة الإسلام فهؤلاء يعذب أصحابها ثُمَّ يخرجون من النار كعصاة الموحدين.

طالب:...

علَّق عليها؟

طالب: .....

 داود بن الجراح آخر شيء قبل الآية، قبلها بسطر.

طالب:.....

محتمل، نعم.

"قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ}[يس:60]. العهد هنا بمعنى الوصية، أي: ألم أوصكم وأبلغكم على ألسنة الرسل. {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} أي: لا تطيعوه في معصيتي. قال الكسائي: {لَا} للنهي.

قوله تعالى: {وَأَنِ اعْبُدُونِي}[يس:61]. بكسر النون على الأصل، ومن ضم كره كسرةً بعدها ضمة. {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي: عبادتي دين قويم.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ}[يس:62]. أي: أغوى {جِبِلًّا كَثِيرًا} أي: خلقًا كثيرًا، قاله مجاهد. وقال قتادة: "جموعًا كثيرة". وقال الكلبي: "أممًا كثيرة"، والمعنى واحد. وقرأ أهل المدينة، وعاصم: "جِبِلًّا" بكسر الجيم والباء. وأبو عمرو، وابن عامر: "جُبْلًّا" بضم الجيم وإسكان الباء. والباقون: "جُبُلًّا" بضم الجيم والباء وتخفيف اللام، وشدَّدها الحسن، وابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وعبد الله بن عبيد، والنضر بن أنس. وقرأ أبو يحيى، والأشهب العقيلي: "جِبْلا" بكسر الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام. فهذه خمس قراءات. قال المهدوي والثعلبي: "وكلها لغات بمعنى: الخلق".

وقال النحاس: "أبينها القراءة الأولى، والدليل على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن قرءوا: {وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:184]. فيكون "جِبِلًّا" جمع جبلة والاشتقاق فيه كله واحد. وإنما هو من جبل الله -عزَّ وجلَّ- الخلق أي خلقهم. وقد ذكرت قراءة سادسة وهي: "ولقد أضل منكم جيلاً كثيرًا" بالياء. وحُكِيَ عن الضحاك: أن الجيل الواحد عشرة آلاف، والكثير ما لا يحصيه إلا الله -عزَّ وجلَّ-، ذكره الماوردي.

{أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} عداوته وتعلموا أن الواجب طاعة الله.

{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون}[يس:63]. أي: تقول لهم خزنة جهنم: هذه جهنم التي وعدتم فكذبتم بها. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا كان يوم القيامة جمع الله الإنس والجن والأولين والآخرين في صعيد واحد، ثم أشرف عنق من النار على الخلائق فأحاط بهم، ثم ينادي منادٍ: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}، فحينئذٍ تجثو الأمم على ركبها وتضع كل ذات حمل حملها، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد».

مخَرَّج؟

طالب: قال: ضعيف، أخرجه الطبري بإسناده، عن إسماعيل بن رافع عمن حدثه، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة مرفوعًا، وإسناده ضعيف؛ لجهالة شيخ إسماعيل بن رافع.

"قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]. في صحيح مسلم: عن أنس بن مالك قال: «كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضحك فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيختم على فيه فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يُخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدًا لكنَّ وسحقًا فعنكنَّ كنت أناضل». خرَّجه أيضًا من حديث أبي هريرة، وفيه: «ثم يقال له: الآن نبعث شاهدًا عليك، ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي! فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي؛ فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك لِيُعْذِرَ من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه». وخرَّج الترمذي عن معاوية بن حيدة عن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ذكره قال: «وأشار بيده إلى الشام فقال: من هاهنا إلى هاهنا تحشرون ركبانًا ومشاة، وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفِدَام، توفون سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمهم على الله، وإن أول ما يُعْرِبُ عن أحدكم فخذه»، وفي رواية أخرى: «فخذه وكفه»، الفِدَامُ مصفاة الكوز والإبريق، قاله الليث. قال أبو عبيد: "يعني أنهم منعوا الكلام حتى تكلم أفخاذهم، فشبه ذلك بالفِدَامِ؛ الذي يُجْعَل على الإبريق.

 ثم قيل في سبب الختم أربعة أوجه: أحدها: لأنهم قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}[الأنعام:23]. فختم الله على أفواههم حتى نطقت جوارحهم، قاله أبو موسى الأشعري.

الثاني: ليعرفهم أهل الموقف فيتميزون منهم، قاله ابن زياد.

الثالث: لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الحجة من إقرار الناطق لخروجه مخرج الإعجاز، وإن كان يومًا لا يحتاج إلى إعجاز.

 الرابع: ليعلم".

من إتمام الحجة عليهم، من إتمام الحجة عليهم، وغاير بين الأيدي والأرجل، فجعل الأيدي تتكلم، والأرجل تشهد؛ لبعد الأرجل عن مناط التكليف الذي هو القلب، كأنها أجنبية تدلي بشهادتها.

"الرابع: ليعلم أن أعضاءه التي كانت أعوانًا في حق نفسه صارت عليه شهودًا في حق ربه. فإن قيل: لم قال: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} فجعل ما كان من اليد كلامًا، وما كان من الرجل شهادة؟

قيل: إن اليد مباشرة لعمله والرجل حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما قال أو فعل، فلذلك عبَّر عما صدر من الأيدي بالقول، وعما صدر من الأرجل بالشهادة".

يعني اجتمع الأمران الاعتراف والشهادة، الاعتراف والشهادة.

"وقد روي عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل اليسرى». ذكره الماوردي والمهدوي. وقال أبو موسى الأشعري: "إني لأحسب أن أول ما ينطق منه فخذه اليمنى"، ذكره المهدوي أيضًا. قال الماوردي: "فاحتمل أن يكون تقدم الفخذ بالكلام على سائر الأعضاء؛ لأن لذة معاصيه يدركها بحواسه التي هي في الشطر الأسفل منها الفخذ، فجاز لقربه منها أن يتقدم في الشهادة عليها". قال: "وتقدمت اليسرى؛ لأن الشهوة في ميامن الأعضاء أقوى منها في مياسرها، فلذلك تقدمت اليسرى على اليمنى؛ لقلة شهوتها".

 قلت: أو بالعكس لغلبة الشهوة، أو كلاهما معًا والكف، فإن بمجموع ذلك يكون تمام الشهوة واللذة. والله أعلم".

الحديث المرفوع الذي ذكره: «أول عظم من الإنسان يتكلم». ماذا قال عنه؟

طالب: قال: أخرجه الطبري وأحمد، كما في المجمع من حديث عقبة بن عامر، وقال الهيثمي: "رواه الطبراني، وإسنادهما لأحمد والطبراني جيد، انتهى كلامه". والظاهر أن له علة، فقد قال ابن كثير في تفسيره: وجوَّده الإمام أحمد"، ثُمَّ ساق إسناده عن شريح بن عبيد عمن حدّثه عن عقبة بن عامر. انتهى كلامه.

فيه جهالة، فيه جهالة.

طالب: "ومراد ابن كثير بقوله: "جوَّده أحمد"، أي بيَّن علته، وهي جهالة شيخ شريح بن عبيد، والله أعلم".

يعني ينتبه لمثل هذا، إذا قال: جوَّده، والمراد أنه بيَّن علته بوضوح، لا أنه ذكر إسناده أنه جيد، يختلف هذا عن هذا.

قال..... حسن لغيره دون قوله ......

"قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ}[يس:66]. حكى الكسائي: "طمس يطمس ويطمس". والمطموس والطميس عند أهل اللغة: الأعمى الذي ليس في عينيه شق. قال ابن عباس: "المعنى لأعميناهم عن الهدى، فلا يهتدون أبدًا إلى طريق الحق". وقال الحسن، والسدي: "المعنى لتركناهم عميًا يترددون". فالمعنى: لأعميناهم فلا يبصرون طريقًا إلى تصرفهم في منازلهم ولا غيرها. وهذا اختيار الطبري.

 وقوله: {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} أي: استبقوا الطريق ليجوزوا {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} أي: فمن أين يبصرون؟ وقال عطاء، ومقاتل، وقتادة، وروي عن ابن عباس: "ولو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم، وأعميناهم عن غيهم، وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى، فاهتدوا وأبصروا رشدهم، وتبادروا إلى طريق الآخرة". ثم قال: {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} ولم نفعل ذلك بهم، أي فكيف يهتدون وعين الهدى مطموسة، على الضلال باقية. وقد روي عن عبد الله بن سلام في تأويل هذه الآية غير ما تقدم، وتأولها على أنها في يوم القيامة. وقال: "إذا كان يوم القيامة ومُدَّ الصراط، نادى منادٍ: ليقم محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمته، فيقومون بَرُّهم وفاجرهم يتبعونه ليجوزوا الصراط، فإذا صاروا عليه طمس الله أعين فجارهم، فاستبقوا الصراط فمن أين يبصرونه حتى يجاوزوه. ثم ينادي منادٍ: ليقم عيسى صلى الله عليه وسلم- وأمته، فيقوم فيتبعونه بَرُّهم وفاجرهم، فيكون سبيلهم تلك السبيل، وكذا سائر الأنبياء -عليهم السلام-. ذكره النحاس، وقد كتبناه في التذكرة بمعناه حسب ما ذكره ابن المبارك في رقائقه. وذكره القشيري. وقال ابن عباس -رضي الله عنه-: "أخذ الأسود بن الأسود حجرًا ومعه جماعة من بني مخزوم ليطرحه على النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، فطمس الله على بصره، وألصق الحجر بيده، فما أبصره ولا اهتدى، ونزلت الآية فيه".

والمطموس هو الذي لا يكون بين جفنيه شق، مأخوذ من طمس الريح الأثر، قاله الأخفش والقتبي.

قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ}[يس:67]، المسخ: تبديل الخلقة وقلبها حجرًا أو جمادًا أو بهيمة. قال الحسن: "أي: لأقعدناهم فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ولا يرجعوا وراءهم"، وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر، وقد يكون المسخ تبديل صورة الإنسان بهيمة، ثم تلك البهيمة لا تعقل موضعًا تقصده فتتحير".

كما حصل لأصحاب السبت أن مُسخوا قردة وخنازير، كما يحصل المسخ في آخر هذه الأمة، كما جاءت في ذلك الأخبار، لكن أعظم منه مسخ القلوب، الذي يمسخ الإنسان وهو لا يشعر، ويزعم ويدعي لنفسه أنه خير الناس أو أفضل الناس، ومع ذلك لا يعرف حلالًا من حرام، وإن علَّم الناس، وإن أفتاهم، وإن تصدَّر، لكن العبرة بما يوافق الحق.

"وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر، وقد يكون المسخ تبديل صورة الإنسان بهيمة، ثم تلك البهيمة لا تعقل موضعًا تقصده فتتحير، فلا تُقْبِل ولا تُدْبِر. وعن ابن عباس -رضي الله عنه- "المعنى: لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم". وقيل: المعنى لو نشاء لمسخناهم في المكان الذي اجترءوا فيه على المعصية".

ذكر ابن القيم رحمه الله في [إغاثة اللهفان] أنه يكون في آخر الزمان الرجلان يمشيان إلى معصية، فيمسخ أحدهما خنزيرًا، فيمضي الآخر إلى معصيته، -نسأل الله العافية-.

"وقال ابن سلام: "هذا كله يوم القيامة يطمس الله تعالى أعينهم على الصراط". وقرأ الحسن، والسلمي، وزر بن حبيش، وعاصم في رواية أبي بكر: "مكاناتهم" على الجمع، والباقون بالتوحيد: وقرأ أبو حيوة: "فما استطاعوا مَضيًا" بفتح الميم. و"المضي" بضم الميم: مصدر يمضي مضيًا إذا ذهب، قوله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ}[يس:68]. قرأ عاصم، وحمزة: {نُنَكِّسْهُ} بضم النون الأولى وتشديد الكاف من التنكيس. والباقون "نَنْكُسه" بفتح النون الأولى وضم الكاف، من نكست الشيء أنكسه نكسًا".

أنكسه، أنكسه نكسًا.

" قلبته على رأسه فانتكس. قال قتادة: "المعنى: أنه يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا".

الذي هو أرذل العمر، يرد إلى أرذل العمر.

"وقال سفيان في قول تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} إذا بلغ ثمانين سنة تغير جسمه وضعفت قوته. قال الشاعر:

من عاش أخلقت الأيام جدته
 

وخانه ثقتاه السمع والبصر
  

ثم قال الآخر:

إن الثمانين وبُلِّغْتُها
 

قد أحوجت سمعي إلى ترجمان"
  

نعم.

"فطول العمر يصير الشباب هرمًا، والقوة ضعفًا، والزيادة نقصًا، وهذا هو الغالب. وقد تعوَّذ -صلى الله عليه وسلم-: «من أن يرد إلى أرذل العمر». وقد مضى في [النحل:70] بيانه. {أَفَلا يَعْقِلُونَ} أن من فعل هذا بكم قادر على بعثكم. وقرأ نافع، وابن ذكوان: {تعقلون} بالتاء.
والباقون بالياء".

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.