التعليق على تفسير القرطبي - سورة السجدة (01)

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

 قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: تفسير سورة السجدة: "وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، غَيْرَ ثَلَاثِ آيَاتٍ نَزَلَت بِالْمَدِينَةِ؛ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا}[السجدة:18] تَمَامُ ثَلَاثِ آيَاتٍ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: إِلَّا خَمْسَ آيَاتٍ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ}[السجدة:16] إِلَى قَوْلِه: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}[السجدة:20]. وَهِيَ ثَلَاثُونَ آيَةٍ. وَقِيلَ: تِسْعٌ وَعِشْرُونَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاة الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ {الم تَنزِيلُ} السَّجْدَةَ. و{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}[الإنسان:1] الْحَدِيثَ». وَخَرَّجَ الدَّارِمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ: {الم تَنزِيلُ} السَّجْدَةَ. وَ{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}[الملك:1]».

 قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: اقْرَءُوا الْمُنْجِيَةَ، وَهِيَ {الم تَنزِيلُ}، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَقْرَؤُهَا، مَا يَقْرَأُ شَيْئًا غَيْرَهَا، وَكَانَ كَثِيرَ الْخَطَايَا، فَنَشَرَتْ جَنَاحَهَا عَلَيْهِ وَقَالَتْ: رَبِّ اغْفِرْ لَهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ مِنْ قِرَاءَتِي، فَشَفَّعَهَا الرَّبُّ فِيهِ وَقَالَ: اكْتُبُوا لَهُ بِكُلِ خَطِيئَةٍ حَسَنَةً، وَارْفَعُوا لَهُ دَرَجَة".

مخرّج؟

طالب: .....................

ماذا يقول؟

طالب: قال: أخرجه الترمذي والدارمي والحاكم من حديث جابر، فيه ليث بن أبي سليم ضعيف، قال الترمذي: ورواه ابن أبي الزبير، قال: وقلتُ لأبي الزبير: أسمعته من جابر؟ قال: لا لم أسمعه منه، إنما سمعته من صفوان أو ابن صفوان، وذكر الحاكم مثل هذا، وسكت الذهبي عن الحديث.

هذا حديث جابر، حديث جابر ضعيف، لكن الذي بعده كلام الدارمي؟

طالب: الذي قبله خالد بن معدان.

خالد بن معدان الذي بعده.

طالب: الأول صحيح أخرجه مسلم وأخرجه أبو داود.

انتهينا من الأول فكان يقرأ هذا معروف، لكن الدارمي عنده خبران: خبر له، وخبر جابر، والثاني خالد بن معدان قال: اقْرَءُوا الْمُنْجِيَةَ، مخرج؟

طالب: .....................

أين؟ هل مع أحد طبعة الرشد؟

طالب: .....................

نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

 "قوله تعالى: {الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:1-2]. قَوْلُهُ تَعَالَى: {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ}، الْإِجْمَاعُ عَلَى رَفْعِ {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ}، وَلَوْ كَانَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَصْدَرِ لَجَازَ، كَمَا قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيم}. وَ{تَنْزِيلُ} رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ، {لَا رَيْبَ فِيهِ}. أَوْ خَبَرٌ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ هَذَا {تَنْزِيلُ}، أَوِ الْمَتْلُوُّ {تَنْزِيلُ}".

النصب على المصدرية ظاهر، لكن الرفع يحتاج إلى تأويل، إما أن يكون مرفوعًا بالابتداء، وخبره {لَا رَيْبَ فِيهِ}، أو يكون {لَا رَيْبَ فِيهِ} حال، و{مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هو الخبر، وهذا أظهر، نعم.

"أَوْ هَذِهِ الْحُرُوفُ {تَنْزِيلُ}. وَدَلَّتْ: {الم} عَلَى ذِكْرِ الْحُرُوفِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ {لَا رَيْبَ فِيهِ} فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْكِتَابِ، وَ{مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الْخَبَرَ. قَالَ مَكِّيُّ: وَهُوَ أَحْسَنُهَا".

طالب: ابن أبي طالب؟

مكي بن أبي طالب القيسي نعم، له كتاب في الإعراب مجلدين مطبوع.

"وَمَعْنَى {لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لَا شَكَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَيْسَ بِسِحْرٍ وَلَا شِعْرٍ وَلَا كَهَانَةٍ وَلَا أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِين.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} هَذِهِ {أَمْ} الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي تُقَدَّرُ بِبَلْ وَأَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ بَلْ أَيَقُولُونَ. وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى خُرُوجٍ مِنْ حَدِيثٍ إِلَى حَدِيثٍ، فَإِنَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَثْبَتَ أَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا رَيْبَ فِيهِ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أَيِ افْتَعَلَهُ وَاخْتَلَقَهُ.

بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ كَذَّبَهُمْ فِي دَعْوَى الِافْتِرَاءِ {لِتُنْذِرَ قَوْمًا} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي قُرَيْشًا، كَانُوا أُمَّةً أُمِّيَّةً لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَ{لِتُنْذِرَ} مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهَا فَلَا يُوقَفُ عَلَى مِنْ رَبِّكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: أَنْزَلَهُ {لِتُنْذِرَ قَوْمًا}، فَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى مِنْ رَبِّكَ. وَ{مَا} فِي قَوْلِهِ {مَا أَتَاهُمْ} نَفْيٌ. {مِنْ نَذِيرٍ} صِلَةٌ. ونذير في محل الرفع".

صلة يعني يقصد من، من صلة يتلطفون في التعبير، وقصدهم بها أنها زائدة، لكن صيانة القرآن عن مثل هذا اللفظ متعين، يعني زائدة من حيث الإعراب بحيث لو حُذفت ما تأثر الكلام؛ إلا أنها من حيث المعني مؤكدة للنفي، و{أَمْ} في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} قال: هذه (أم المنقطعة) التي تُقَّدر ببل، وليست (أم العاطفة)؛ لأن أم العاطفة إنما يعطف بها بعد همزة التسوية {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ}[يس:10]، وإذا لم يتقدمها همزة تسوية، فإنها تكون منقطعة، تُقدر ببل.

 وأم بها اعطف إثر همز التسوية            أو همزة عن لفظ أي مغنية

 و{مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} إذا قلنا: إن من هذه الصلة فنذير يكون فاعل أتى {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} على التقدير.

"وَ{نَذِيرٍ} فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، وَهُوَ الْمُعَلِّمُ الْمُخِّوفُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَوْمِ أَهْلُ الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: كَانَتِ الْحُجَّةُ ثَابِتَةً لِلَّهِ – عز وجَلَّ- عَلَيْهِمْ بِإِنْذَارِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الرُّسُلِ وَإِنْ لَمْ يَرَوْا رَسُولًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى".

بدليل أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «إن أبي وأباك في النارِ» دليل على أنه بلغهم ما تقوم به الحجة عليهم.

 وعلى كل حال {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء:15]، الذي لم تبلغه الحجة هذا لا يُعذَّب، وإنما يُمتحَن على القول الصحيح، وأما الذي بلغته الحجة سواء كان من أهل الفترة، أو من غيرهم فإن هذا يُعذّب.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}[السجدة:4]، عَرَّفَهُمْ كَمَالَ قُدْرَتِهِ لِيَسْمَعُوا الْقُرْآنَ وَيَتَأَمَّلُوهُ. وَمَعْنَى: خَلَقَ أَبْدَعَ وَأَوْجَدَ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَبَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا.

{فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ إِلَى آخِرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْيَوْمَ مِنَ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي سِتَّةِ آلَافِ سَنَةٍ، أَيْ فِي مُدَّةِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ. {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} تَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ وَالْبَقَرَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَذَكَرْنَا مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي (الْكِتَابِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى)".

وهذه من الآيات السبع الدالة على أن الله –جل وعلا- مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، كما يليق بجلاله وعظمته.

"وَلَيْسَتْ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ؛ وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ".

يعني هل كان الاستواء قبل خلق السموات والأرض أو بعده؟ هذا محل النظر في (ثم) إن كانت ثم على بابها كان خلق السموات والأرض وما بينهما قبل أن يستوي على العرش، لكن الدليل دل على أنه استوى على العرش قبل الخلق،  {كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}[هود:7].

"{مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ}؛ أَيْ مَا لِلْكَافِرِينَ مِنْ وَلِيٍّ يَمْنَعُ مِنْ عَذَابِهِمْ وَلَا شَفِيعٍ. وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الْمَوْضِعِ".

الموضع موضع ولي موضعها الرفع، ومن هذه الصلة كسابقتها، فيكون التقدير "ما لكم من دونه وليٌ ولا شفيعٌ"، فيكون معطوفًا على موضع ولي.

"{أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} فِي قُدْرَتِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُنْزِلُ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ. وَقِيلَ: يُنْزِلُ الْوَحْيَ مَعَ جِبْرِيلَ. وَرَوَى عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ قَالَ: يُدَبِّرُ أَمْرَ الدُّنْيَا أَرْبَعَةٌ: جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ، وَإِسْرَافِيلُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. فَأَمَّا جِبْرِيلُ فَمُوكَلٌ بِالرِّيَاحِ وَالْجُنُودِ. وَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَمُوكَلٌ بِالْقَطْرِ وَالْمَاءِ. وَأَمَّا مَلَكُ الْمَوْتِ فَمُوكَلٌ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ. وَأَمَّا إِسْرَافِيلُ فَهُوَ يَنْزِلُ بِالْأَمْرِ عَلَيْهِمْ.

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْعَرْشَ مَوْضِعُ التَّدْبِيرِ، كَمَا أَنَّ مَا دُونَ الْعَرْشِ مَوْضِعُ التَّفْصِيلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ}[الرعد:2]. وَمَا دُونَ السَّمَاوَاتِ مَوْضِعُ التَّصْرِيفِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا}[الفرقان:50]".

طالب: العرش موضع التدبير؟

الله -جل وعلا- هو الذي يدبِّر، وهو مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، وهو الذي يدبِّر من فوق عرشه –جل وعلا-، وعلى كل حال هذه الآيات التي يستدل بها لا تدل على المطلوب الذي رمى إليه، واختصاص كل مكان من هذه الأماكن بشيءٍ يختص به، كما ذكر أن العرش للتدبير، وما دون العرش للتفصيل، وما دون السماء للتصريف، فالتدبير من الله –جل وعلا- لما تحته في ملكه الذي لا يخرج منه شيء يدبره، وكذلك التفصيل يفصِّل –جل وعلا- بأمره ووحيه ما يريده من قضاء، وقدر، وتشريع، وتكليف، وغير ذلك.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5]، قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: هُوَ جِبْرِيلُ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ بَعْدَ نُزُولِهِ بِالْوَحْيِ. وقال النَّقَّاشُ: هُوَ الْمَلَكُ الَّذِي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا أَخْبَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ تَصْعَدُ إِلَيْهِ مَعَ حَمَلَتِهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ ابْنُ شَجَرَةَ.

{فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}. وَقِيلَ: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أَيْ يَرْجِعُ ذَلِكَ الْأَمْرُ وَالتَّدْبِيرُ إِلَيْهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَعَلَى الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَالْكِنَايَةُ فِي يَعْرُجُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَلَكِ، وَلَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ؛ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنَ الْمَعْنَى، وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي سَأَلَ سَائِلٌ قَوْلُهُ: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}[المعارج:4]. وَالضَّمِيرُ فِي إِلَيْهِ يَعُودُ عَلَى السَّمَاءِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُذَكِّرُهَا أَوْ عَلَى مَكَانِ الْمَلَكِ".

{يَعْرُجُ إِلَيْهِ} يعني إلى الرب -جل وعلا- يعرج إليه الضمير يعود إلى الرب -جل وعلا-، وكون الملك يعرج {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ}، يعرج بما أُمر بتدبيره فقد يقول قائل: إذا كان العروج مقداره ألف سنة، فكم يعرج يعني في مدته من مرة؟ كم يحمل مما يعرج به؟ {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}؛ يعني مقدار هذا اليوم بالنسبة لغير الملك في عددكم ألف سنة، لكن بالنسبة للملك في يوم واحد؛ لأن الله -جل وعلا- أعطى الملك من القدره ما يجعله يختصر هذه المدة في يوم واحد، لكن هو في تقديركم المسافة التي يقطعها الملك في يوم واحد، لا تقطع إلا بألف سنة.

طالب: .....................

نعم؟

طالب: في آية المعارج خمسين..

وخمسين وهذه تتفاوت أيضًا.

طالب: ...........

على كل حال هي مواقف، ملائكة تعرج بهذه السرعة وملائكة تعرج بأقل.

"أَوْ عَلَى مَكَانِ الْمَلَكِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ، أَوْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَقَرَّهُ فِيهِ، وَإِذَا رَجَعَتْ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ رَجَعَتْ إِلَى السَّمَاءِ، أَيْ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَإِنَّهُ إِلَيْهَا يَرْتَفِعُ مَا يُصْعَدُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ وَمِنْهَا يَنْزِلُ مَا يُهْبَطُ بِهِ إِلَيْهَا، ثَبَتَ مَعْنَى ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ".

الكلام هذا كله هروب من إثبات الجهة، هروب من إثبات الجهة، وإلا فكما قال الله –جل وعلا- {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}[الأعراف:54] هو على عرشه مستوٍ عليه، بائن من خلقه فوق سبع سماوات ما محتاج مثل هذا الكلام.

"وَالْهَاءُ فِي {مِقْدَارِهِ} رَاجِعَةٌ إِلَى التَّدْبِيرِ، وَالْمَعْنَى: كَانَ مِقْدَارُ ذَلِكَ التَّدْبِيرِ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا، أَيْ يَقْضِي أَمْرَ كُلِّ شَيْءٍ لِأَلْفِ سَنَةٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يُلْقِيهِ إِلَى مَلَائِكَتِهِ، فَإِذَا مَضَتْ قَضَى لِأَلْفِ سَنَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَدًا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: الْهَاءُ لِلْعُرُوجِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يُدَبِّرُ أَمْرَ الدُّنْيَا إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرُ فَيَحْكُمُ فِيهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ.

وَقِيلَ: الْمَعْنَى يُدَبِّرُ أَمْرَ الشَّمْسِ فِي طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا وَرُجُوعِهَا إِلَى مَوْضِعِهَا مِنَ الطُّلُوعِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ فِي الْمَسَافَةِ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى كَانَ مِقْدَارُهُ لَوْ سَارَهُ غَيْرُ الْمَلَكِ أَلْفَ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ النُّزُولَ خَمْسُمِائَةٍ، وَالصُّعُودَ خَمْسُمِائَةٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَهُوَ مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. أَيْ أَنَّ جِبْرِيلَ لِسُرْعَةِ سَيْرِهِ يَقْطَعُ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِكُمْ، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ الْمَلَكَ يَصْعَدُ فِي يَوْمٍ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ. وَعَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ الْمَلَكَ يَنْزِلُ وَيَصْعَدُ فِي يَوْمٍ مِقْدَارُهُ أَلْفُ سَنَةٍ، فَيَكُونُ مِقْدَارُ نُزُولِهِ خَمْسمِائَةِ سَنَةٍ، وَمِقْدَارُ صُعُودِهِ خَمْسمِائَةٍ عَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: النُّزُولُ أَلْفُ سَنَةٍ، وَالصُّعُودُ أَلْفُ سَنَةٍ".

نعم؛ لأن المذكور العروج {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ}، العروج فقط ألف سنة من غير تعرُّض للنزول.

"مِمَّا تَعُدُّونَ" أَيْ مِمَّا تَحْسُبُونَ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَهَذَا الْيَوْمُ عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانٍ يَتَقَدَّرُ بِأَلْفِ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الْعَالَمِ، وَلَيْسَ بِيَوْمٍ يَسْتَوْعِبُ نَهَارًا بَيْنَ لَيْلَتَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عِنْدَ اللَّهِ. وَالْعَرَبُ قَدْ تُعَبِّرُ عَنْ مُدَّةِ الْعَصْرِ بِالْيَوْمِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

يَوْمَانِ يَوْمُ مُقَامَاتٍ وَأَنْدِيَةٍ

وَيَوْمُ سَيْرٍ إِلَى الْأَعْدَاءِ تَأْوِيبُ

وَلَيْسَ يُرِيدُ يَوْمَيْنِ مَخْصُوصَيْنِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ زَمَانَهُمْ يَنْقَسِمُ شَطْرَيْنِ، فَعَبَّرَ عَنْ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّطْرَيْنِ بِيَوْمٍ.

وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: يُعْرَجُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقُرِئ: (يَعُدُّونَ) بِالْيَاءِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فَمُشْكِلٌ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ سَأَلَ عَبْدُ اللَّهَ بْنُ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيُّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَعَنْ قَوْلِهِ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فَقَالَ: أَيَّامٌ سَمَّاهَا سُبْحَانَهُ، وَمَا أَدْرِي مَا هِيَ؟ فَأَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ فِيهَا مَا لَا أَعْلَمُ".

يعني هذا ابن عباس حبر الأمة ترجمان القرآن توقف في مثل هذا، ولو سئل عنها أحد طلاب العلم اليوم لأجاب، ومن الطرائف أن أحدهم سُئل عن معنى آية، فأجاب بجوابٍ، والآية فيها أقوال تبلغ العشرة، وليس منها ما ذكره. يعني لو أصاب واحدًا من العشرة قلنا: لا بأس، ولكن ولا واحد منها، والله المستعان.

طالب: .....................

يعني هذا جرأة على كلام الله. 

"ثُمَّ سُئِلَ عَنْهَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ لِلسَّائِلِ: هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ اتَّقَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا وَهُوَ أَعْلَمُ مِنِّي. ثُمَّ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: إِنَّ آيَةَ سَأَلَ سَائِلٌ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ فِي صُعُوبَتِهِ عَلَى الْكُفَّارِ كَخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالْعَرَبُ تَصِفُ أَيَّامَ الْمَكْرُوهِ بِالطُّولِ وَأَيَّامَ السُّرُورِ بِالْقِصَرِ. قَالَ:

وَيَوْمٌ كَظِلِّ الرُّمْحِ قَصَّرَ طُولَهُ

دَمُ الزِّقِّ عَنَّا وَاصْطِفَاقُ الْمَزَاهِرِ"

 صار شربًا وسماعًا فيصير قصيرًا عليهم، لكن تكاليف لا شك أن هذه يصير طويلًا عليهم، والله المستعان كما يقول الشاعر:

أيام إقباله كاليوم في قصر

ويوم إدباره في الطول كالحجج

كأنها سنين، ولا شك أن الرخاء، والصحة، والغنى، وعدم المكدّرات، وعدم المنغّصات، هذه تمر أيامها بسرعة، بخلاف أيام الشدة فإنها تكون طويلة.

"وَقِيلَ: إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيهِ أَيَّامٌ، فَمِنْهُ مَا مِقْدَارُهُ أَلْفُ سَنَةٍ وَمِنْهُ مَا مِقْدَارُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقِيلَ: أَوْقَاتُ الْقِيَامَةِ مُخْتَلِفَةٌ، فَيُعَذَّبُ الْكَافِرُ بِجِنْسٍ مِنَ الْعَذَابِ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى جِنْسٍ آخَرَ مُدَّتُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقِيلَ: مَوَاقِفُ الْقِيَامَةِ خَمْسُونَ مَوْقِفًا، كُلُّ مَوْقِفٍ أَلْفَ سَنَةٍ. فَمَعْنَى: يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ أَيْ مِقْدَارُ وَقْتٍ، أَوْ مَوْقِفٍ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: الْيَوْمُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْوَقْتِ، فَالْمَعْنَى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي وَقْتٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَفِي وَقْتٍ آخَرَ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَعَنْ وَهْبِ بْنُ مُنَبِّهٍ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قَالَ: مَا بَيْنَ أَسْفَلِ الْأَرْضِ إِلَى الْعَرْشِ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} أَرَادَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى الَّتِي فِيهَا جِبْرِيلُ. يَقُولُ تَعَالَى: يَسِيرُ جِبْرِيلُ وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ مَقَامِهِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: {إِلَيْهِ} يَعْنِي إِلَى الْمَكَانِ".

وكل هذا من الحيد والميل عن إثبات الجهة، جهة العلو لله -جل وعلا- وإلا تعرج الملائكة والروح إليه، تعرج الملائكة وجبريل إليه، يقول: إلى سدرة المنتهى، أو إلى جبريل وجبريل يعرج معهم الروح وجبريل. نعم عروجهم من الله -جل وعلا-.

"وَقَوْلُهُ: {إِلَيْهِ} يَعْنِي إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَعْرُجُوا إِلَيْهِ. وَهَذَا كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الصافات:99]، أَرَادَ أَرْضَ الشَّامِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ}[النساء:100] أَيْ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَتَانِي مَلَكٌ مِنْ رَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ- بِرِسَالَةٍ ثُمَّ رَفَعَ رِجْلَهُ فَوَضَعَهَا فَوْقَ السَّمَاءِ وَالْأُخْرَى عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَرْفَعْهَا بَعْدُ»".

مخرج هذا؟

طالب:..........

ماذا يقول؟

طالب: .....................

على كل حال القدرة الإلهية فوق ذلك كله، لكن الكلام على ثبوت الخبر.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}[السجدة:6]؛ أَيْ عَلِمَ مَا غَابَ عَنِ الْخَلْقِ وَمَا حَضَرَهُمْ. وَ{ذَلِكَ} بِمَعْنَى أَنَا. حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ. وَفِي الْكَلَامِ مَعْنَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، أَيْ أَخْلِصُوا أَفْعَالَكُمْ وَأَقْوَالَكُمْ فَإِنِّي أُجَازِي عَلَيْهَا".

نعم، ما ظهر منها وما بطن لا بد أن تكون خالصة لله –جل وعلا-؛ لأنها لا تخفى عليه.

طالب:..........

نعم.

طالب: .....................

أكيد أن الساعة  أو القيامة العظمى.

طالب:.........

نعم.

طالب: .....................

الغالب أن من يقول مثل هذا الكلام هم الكفار، هم الذين يحتجون بهذا؛ بمعنى أنه لم يترك لهم فرصة لينظروا ويتدبروا، { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ}[فاطر:37]، هم يقولون: عشية أو ضحاها، ما استطعنا أن نتأمل ونتفكر. وعلى كل حال الدنيا بطولها بالنسبة إلى الآخرة كلها كلا شيء.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}[السجدة:7] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ: {خَلْقَهُ} بِإِسْكَانِ اللَّامِ. وَفَتَحَهَا الْبَاقُونَ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ طَلَبًا لِسُهُولَتِهَا. وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ فِي مَوْضِعِ خَفْضِ نَعْت لِـ{شَيْءٍ}. وَالْمَعْنَى عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَحْكَمَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، أَيْ جَاءَ بِهِ عَلَى مَا أَرَادَ، لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ إِرَادَتِهِ.

وَقَوْلٌ آخَرُ: إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى خَالِقِهِ. وَمَنْ أَسْكَنَ اللَّامَ فَهُوَ مَصْدَرٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} يَدُلُّ عَلَى: خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقًا، فَهُوَ مِثْلُ: صُنْعَ اللَّهِ وَكِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. وَعِنْدَ غَيْرِهِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ {كُلَّ}، أَيِ الَّذِي أَحْسَنَ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ. وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ عِنْدِ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَى: أَحْسَنَ أَفْهَمَ وَأَعْلَمَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، أَيْ أَفْهَمَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَالْمَعْنَى: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقًا".

يعني التمييز، والتفسير عند الأولين عند المتقدمين هو التمييز عند المتأخرين، وهو تمييز محول عن المفعول.

"وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَالْمَعْنَى: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ فِي خَلْقِهِ. وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَحْسَنَ أَيْ أَتْقَنَ وَأَحْكَمَ، فَهُوَ {أَحْسَنَ} مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ لِمَقَاصِدِهِ الَّتِي أُرِيدَ لَهَا. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: لَيْسَتِ اسْتُ الْقِرْدِ بِحَسَنَةٍ، وَلَكِنَّهَا مُتْقَنَةٌ مُحْكَمَةٌ".

يعني من حيث الجمال ليست جميلة، لكنها محكمة ومتقنة.

"وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قَالَ: أَتْقَنَهُ. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلقَهُ}؛ أَيْ لَمْ يَخْلُقِ الْإِنْسَانَ عَلَى خَلْقِ الْبَهِيمَةِ، وَلَا خَلَقَ الْبَهِيمَةَ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ. وَيَجُوزُ: خَلْقُهُ بِالرَّفْعِ، عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ خَلْقُهُ. وَقِيلَ: هُوَ عُمُومٌ فِي اللَّفْظِ خُصُوصٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْمَعْنَى: حَسَّنَ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ حَسَنٍ. وَقِيلَ: هُوَ عُمُومٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، أَيْ جَعَلَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ حَسَنًا حَتَّى جَعَلَ الْكَلْبَ فِي خَلْقِهِ حَسَنًا".

لا شك أن أصل العموم، الذي أحسن كل شيء خلقه كل شيء، الأصل هذا العموم، لكن إذا نظرنا إلى الواقع وجدنا من خلق الله –جل وعلا- ما هو حسن، ومنها هو أحسن، ومنها ما هو دون، ومنها ما هو قبيح، كما قالوا: في است القرد فيها الشيء القبيح، لكنه بالنسبة لمثله في موضعه حسن، نعم الحسن والقبح إذا نظرناه، وأنه مسألةٌ نسبية فلا شك أنه يتفاوت، لكن إذا نظرنا إلى كل شيءٍ على حدة، وجدنا أن هذا الخلق من الله -جل وعلا- لا يمكن أن يُؤتى بأحسن منه في موضعه، وبين جنسه.

"وَقِيلَ: هُوَ عُمُومٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، أَيْ جَعَلَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ حَسَنًا، حَتَّى جَعَلَ الْكَلْبَ فِي خَلْقِهِ حَسَنًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي اسْتِ الْقِرْدِ حَسَنَةٌ".

وهناك قتادة يقول: حسنة، وابن عباس وعكرمة ليست بحسنة، وهذا يرجع إلى ما ذكرنا من الأمر إما أن يطلق عليه الحكم النسبي، أو الحكم المطلق، فإذا نظرنا إليه بالنسبة إلى غيره فليست بحسنة، وإذا نظرنا إليها بمفردها وبين قومها فهي حسنةً متقنة.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ}[السجدة:7]؛ يَعْنِي آدَمَ. {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}[السجدة:8] تَقَدَّمَ فِي (الْمُؤْمِنُونَ) وَغَيْرِهَا. وقَالَ الزَّجَّاجُ: {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} ضَعِيفٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَهِينٌ لَا خَطَرَ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ. {ثُمَّ سَوَّاهُ} رَجَعَ إِلَى آدَمً، أَيْ سَوَّى خَلْقَهُ، {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ}[السجدة:9]، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى ذُرِّيَّتِهِ فَقَالَ: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ}. وَقِيلَ: ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَاءَ الْمَهِينَ خَلْقًا مُعْتَدِلًا، وَرَكَّبَ فِيهِ الرُّوحَ، وَأَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مِنْ فِعْلِهِ وَخَلْقِهِ، كَمَا أَضَافَ الْعَبْدَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (عَبْدِي). وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالنَّفْخِ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ فِي جِنْسِ الرِّيحِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا مُبَيَّنًا فِي (النِّسَاءِ) وَغَيْرِهَا. {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}؛ أَيْ ثُمَّ أَنْتُمْ لَا تَشْكُرُونَ بَلْ تَكْفُرُونَ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ}[السجدة:10]، هَذَا قَوْلُ مُنْكِرِي الْبَعْثِ، أَيْ هَلَكْنَا وَبَطَلْنَا وَصِرْنَا تُرَابًا. وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: ضَلَّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ إِذَا ذَهَبَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلشَّيْءِ".

المقبور بعد سنين متطاولة إذا نُبش قبره لم يوجد فيه شيء اختلط بالتراب، وصار من نوع التراب، ورجع إلى أصله، وضللنا يعني ضعنا، ضاعت أجسادنا في التراب، {أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}؛ أي إذا ضعنا ضللنا في التراب، ولم يبقَ لنا شيء متميز يمكن أن يُعرف به، فكيف نبعث؟! صرنا نوعًا من أنواع التراب، ونوعًا من أنواع ما تحويه الأرض مما يكسوها، يستبعدون ويستغربون معنى العجز عجز الذنب هذا لا تأكله الأرض، كما هو معروف، ولا يفنى، ويبقى أن الله -جل وعلا- يقول للأجزاء اجتمعي فتجتمع، بكلمة، كما في حديث الشاك في القدرة الحديث الصحيح: « لإنْ قدر اللهُ عليَّ ليُعذِّبني عذابًا ماعذَّبه أحدًا، فإذا مِتُّ فأحرِقوني، ثم ذروني في الهواء» صار رمادًا يذر الهواء ليتخلص من عذاب الله، وهذا شك في قدرة الله -جل وعلا- على جمعه، مع أنه معه التوحيد لم يعمل عملاً قط غير التوحيد، كما جاء في المسند، فكان معه توحيد والشك في القدرة والشك في صفة ثابتة كفر بلا شك، لكنه كما قرر جمع من أهل العلم أنه وصل إلى حالٍ من الذهول، وشدة الخوف ما يرفع عنه التكليف، يعني كأنه لا يعقل في هذه اللحظة، ولذلك عذر، والله المستعان.

طالب: .....................

نعم.

طالب: كلمة حسن الأصل استخدامها للإتقان أم للحسن والوضاءة؟

على كل حال هي تطلق على الإحكام، وعلى الجمال.

طالب:............

هو إذا نظرنا إليه من ناحيتين، من ناحية الحسن النسبي، والجمال النسبي، والقبح النسبي، فهذا موجود بلا شك، نعم موجود بلا شك، وجاء لفظ القبيح حتى في أفعال الله -جل وعلا- باعتبار النسبة، يعني مثل: {ليس لنا مثل السوء} من خلال هذا نعرف أن الكلب قبيح، وتصرفه قبيح؛ لأن الصورة المجتمعة من الكلب وما يفعله كله قبيح، هذا مثل السوء، هذا إذا نظرنا إليه بالنسبة لغيره من المخلوقات، لكن إذا نظرنا إليه في جنسه وجدناه أنه جنس أراده الله -جل وعلا- على هذه الصفة، وخرج على إرادة الله -جل وعلا- فهو محكم متقن.

"وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: ضَلَّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ إِذَا ذَهَبَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلشَّيْءِ غَلَبَ عَلَيْهِ غيره حَتَّى خَفِيَ فِيهِ أَثَرُهُ: قَدْ ضَلَّ. قَالَ الْأَخْطَلُ:

كُنْتَ الْقَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ

مُزْبِدٍ قَذْفَ الْأَتِيِّ بِهِ فَضَلَّ ضَلَالًا

وَقَالَ قُطْرُبٌ: مَعْنَى ضَلَلْنَا غِبْنَا فِي الْأَرْضِ".

طالب: الأني أم الأتي؟

الأتي.

طالب: بالتاء؟

بالتاء نعم.

أتي فعيل بمعنى فاعل، أتي فعيل بمعنى فاعل، يعني الأتي الذي جاء به.

"وَقَالَ قُطْرُبٌ: مَعْنَى ضَلَلْنَا غِبْنَا فِي الْأَرْضِ. وَأَنْشَدَ قَوْلَ النَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ:

فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ

وَغُودِرَ بِالْجَوْلَانِ حَزْمٌ وَنَائِلُ

 وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ: (ضَلِلْنَا) بِكَسْرِ اللَّامِ، وَهِيَ لُغَةٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَقَدْ ضَللْتُ أَضِلُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي}[سبأ:50]. فَهَذِهِ لُغَةُ نَجْدٍ وَهِيَ الْفَصِيحَةُ. وَأَهْلُ الْعَالِيَةِ يَقُولُونَ: (ضَلِلْتُ) -بِكَسْرِ اللَّامِ- أَضَلُّ. وَهُوَ ضَالٌّ تَالٌّ، وَهِيَ الضَّلَالَةُ وَالتَّلَالَةُ".

التال والتلالة، هذا يسمونه إتباعًا، يتبعون اللفظة لفظة أخرى على زنتها، وإن لم تكن في معناها يؤكدون بها لمجرد الوزن؛ ضالٌ تالٌ، ضلالةَ تلالةَ، ثقةٌ تقة، ضعيفُ نعيف، إلى غير ذلك معروف فيه كتاب لأبي الطيب الحلبي اللغوي، كتاب اسمه الإتباع، كتاب نافع في بابه أفضل ما ألف.

"وَأَضَلَّهُ أَيْ أَضَاعَهُ وَأَهْلَكَهُ. يُقَالُ: أُضِلَّ الْمَيِّتَ إِذَا دُفِنَ. قَالَ:

فَآبَ مُضِلُّوهُ
 

 الْبَيْتَ.

قال ابْنُ السِّكِّيتِ: أَضْلَلْتُ بَعِيرِي إِذَا ذَهَبَ مِنْكَ. وَضَلَلْتُ الْمَسْجِدَ وَالدَّارَ: إِذَا لَمْ تَعْرِفَ مَوْضِعَهُمَا. وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ مُقِيمٍ لَا يُهْتَدَى لَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَعَلِّي أَضِلُّ اللَّهَ» يُرِيدُ أَضِلُّ عَنْهُ، أَيْ أَخْفَى عَلَيْهِ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} أَيْ خَفِينَا. وَأَضَلَّهُ اللَّهُ فَضَلَّ، تَقُولُ: إِنَّكَ تَهْدِي الضَّالَّ وَلَا تَهْدِي الْمُتَضَالَّ".

الضال الذي يريد الهداية تهديه، لكن الذي لا يريدها يعرف الطريق، ويتضال عنه، ويتغافل عنه فهذا لا يمكن هدايته.

 خبر «لَعَلِّي أَضِلُّ اللَّهَ» مخرج؟

طالب: .....................

لعله من طرق حديث، ومن ألفاظ حديث الذي شك في القدرة.

طالب: ذكر ابن الأثير في النهاية على أنه بعض حديث الرجل الذي قال لأولاده: فإذا مت...

من ألفاظ حديث الشك في القدرة، خرجه؟

طالب: أجراه بهذا اللفظ في كتب الحديث.

نعم، فيه شيء عندك؟

طالب: .....................

"وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْحَسَنُ: (صَلَلْنَا) بِالصَّادِ، أَيْ أَنْتَنَّا. وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. قال النَّحَّاسُ: وَلَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ بصَلَلْنَا، وَلَكِنْ يُقَالُ: صَلَّ اللَّحْمُ وَأَصَلَّ، وَخَمَّ وَأَخَمَّ إِذَا أَنْتَنَ. قال الْجَوْهَرِيُّ: صَلَّ اللَّحْمُ يَصِلُّ -بِالْكَسْرِ- صُلُولًا، أَيْ أَنْتَنَ، مَطْبُوخًا كَانَ أَوْ نِيئًا. قَالَ الْحُطَيْئَةُ:

ذَاكَ فَتًى يَبْذُلُ ذَا قِدْرِهِ.

لَا يُفْسِدُ اللَّحْمَ لَدَيْهِ الصُّلُولُ

وَأَصَلَّ مِثْلُهُ".

لأنه لا يجلس عنده، يبذله لغيره فلا يجلس حتى يتغير وينتن.

 "{إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أَيْ نُخْلَقُ بَعْدَ ذَلِكَ خَلْقًا جَدِيدًا؟ وَيُقْرَأُ: أَئِنَّا. قال النَّحَّاسُ: وَفِي هَذَا سُؤَالٌ صَعْبٌ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ، يُقَالُ: مَا الْعَامِلُ فِي (إِذَا)؟ وَ(إِنَّ) لَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا. وَالسُّؤَالُ فِي الِاسْتِفْهَامِ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ هذا مَا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْمَلَ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ (إِنَّ)، كَيْفَ وَقَدِ اجْتَمَعَا؟

فَالْجَوَابُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: (إِنَّا) أَنَّ الْعَامِلَ ضَلَلْنَا، وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: (أَئِنَّا) أَنَّ الْعَامِلَ مُضْمَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنُبْعَثُ إِذَا مِتْنَا.

وَفِيهِ أَيْضًا سُؤَالٌ آخَرُ، يُقَالُ: أَيْنَ جَوَابُ (إِذَا) عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ؟ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ بَعْدَهَا فِعْلًا مَاضِيًا، فَلِذَلِكَ جَازَ هَذَا.

{بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ جُحُودُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْإِعَادَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِقُدْرَتِهِ؛ وَلَكِنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى : {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}[السجدة:11].

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} لَمَّا ذَكَرَ اسْتِبْعَادَهُمْ لِلْبَعْثِ ذَكَرَ تَوَفِّيهِمْ، وَأَنَّهُ يُعِيدُهُمْ. يَتَوَفَّاكُمْ مِنْ تَوَفَّى الْعَدَدَ وَالشَّيْءَ إِذَا اسْتَوْفَاهُ وَقَبَضَهُ جَمِيعًا. يُقَالُ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ".

يعني قبضه وافيًا. قبضه وافيًا.

"يُقَالُ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ أَيِ اسْتَوْفَى رُوحَهُ ثُمَّ قَبَضَهُ. وَتَوَفَّيْتُ مَالِيَ مِنْ فُلَانٍ أَيِ اسْتَوْفَيْتُهُ. مَلَكُ الْمَوْتِ وَاسْمُهُ عِزْرَائِيلُ، وَمَعْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي (الْبَقَرَةِ). وَتَصَرُّفُهُ كُلُّهُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِخَلْقِهِ وَاخْتِرَاعِهِ. وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ الْبَهَائِمَ كُلَّهَا يَتَوَفَّى اللَّهُ أَرْوَاحَهَا دُونَ مَلَكِ الْمَوْتِ كَأَنَّهُ يُعْدِمُ حَيَاتَهَا»، ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ".

تسمية ملك الموت بعِزْرَائِيلُ يثبت فيه خبر، أم ما يثبت فيه خبر؟

طالب: لم يثبت فيه خبر.

نعم. ما يعرف فيه خبر ثابت ملزم. يأتي في كتب أشراط الساعة، وكتب القيامة، وكتب اليوم الآخر، لكن ما يثبت فيه خبر ملزم.

حديث «أَنَّ الْبَهَائِمَ كُلَّهَا يَتَوَفَّى اللَّهُ أَرْوَاحَهَا دُونَ مَلَكِ الْمَوْتِ» خرجه؟

طالب: نعم.

ماذا يقول؟

طالب: ذكره أيضًا في التذكره عن ابن عطية، ولم يجده ابن عطيه مخرجًا، فالظاهر أنه لا يصح ولو صح..

على كل حال التوفي {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ}[الزمر:42]، {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} ولا معارضة بينهما؛ لأن الله -جل وعلا- هو القابض للأرواح حقيقةً، وهو الذي يتوفاها، وهو الآمر بقبض أرواحها، والفعل كما يُنسب للآمر به يُنسب لمباشره، الملائكة، والملك يباشرون قبض الأرواح {يتوفنهم}، {توفته رسلنا}، {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ}؛ لأنهم باشروه، والله -جل وعلا- هو الذي يقبض الأرواح، والذي يأمر بقبضها، وله الأمر كله أوله وآخره.

طالب: .....................

نعم؟

طالب:........

ماذا يقول؟

طالب:........

إما ملك الموت {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} نعم. {الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}، ولو أراد أن لكل شخص ملكًا يقبض روحه لجمع الملائكة كما جمع المتوفين؛ لأنه تكون القسمة أفرادًا كل واحد له ملك، لكن السياق يدل على أنه واحد.

"قُلْتُ: وَقَدْ رُوِيَ خِلَافُهُ، وَأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ يَتَوَفَّى أَرْوَاحَ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ حَتَّى الْبُرْغُوثَ وَالْبَعُوضَةَ. رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ عِنْدَ رَأْسِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ارْفُقْ بِصَاحِبِي فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ. فَقَالَ مَلَكُ الْمَوْتِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: يَا مُحَمَّدُ، طِبْ نَفْسًا، وَقَرَّ عَيْنًا، فَإِنِّي بِكُلِ مُؤْمِنٍ رَفِيقٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مَدَرٍ وَلَا شَعْرٍ فِي بَرٍّ وَلَا بَحْرٍ إِلَّا وَأَنَا أَتَصَفَّحُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، حَتَّى لَأَنَا أَعْرَفُ بِصَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ. وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، لَوْ أَنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَقْبِضَ رُوحَ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرْتُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الْآمِرُ بِقَبْضِهَا»".

مخرج؟

طالب: هو ضعيف جدًّا، ذكره المصنف تبعًا للماوردي معضلًا...

واضح ضعفه واضح.

"قَالَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يَتَصَفَّحُهُمْ عِنْدَ مَوَاقِيتِ الصَّلَوَاتِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ الصَّفَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ حَامِدٌ الْمِصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْعَلَّافُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُهَيْرٍ الْكِلَابِيُّ قَالَ: حَضَرْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ: أَبَا عَبْدَ اللَّهِ، الْبَرَاغِيثُ أَمَلَكُ الْمَوْتِ يَقْبِضُ أَرْوَاحَهَا؟ قَالَ: فَأَطْرَقَ مَالِكٌ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ: أَلَهَا أَنْفُسٌ؟ قَالَ: نَعَمْ . قَالَ: مَلَكُ الْمَوْتِ يَقْبِضُ أَرْوَاحَهَا، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}[الزمر:42].

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْحَدِيثَ: وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي بَنِي آدَمَ، إِلَّا أَنَّهُ نَوْعٌ شَرُفَ بِتَصَرُّفِ مَلَكٍ وَمَلَائِكَةٍ مَعَهُ فِي قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ. فَخَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مَلَكَ الْمَوْتِ، وَخَلَقَ عَلَى يَدَيْهِ قَبْضَ الْأَرْوَاحِ، وَاسْتِلَالَهَا مِنَ الْأَجْسَامِ وَإِخْرَاجَهَا مِنْهَا. وَخَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى جُنْدًا يَكُونُونَ مَعَهُ يَعْمَلُونَ عَمَلَهُ بِأَمْرِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ}[الأنفال:50]، وَقَالَ تَعَالَى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلنَا}[الأنعام:61]، وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي (الْأَنْعَامِ). وَالْبَارِئُ خَالِقُ الْكُلِّ، الْفَاعِلُ حَقِيقَةً لِكُلِّ فِعْلٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}[الزمر:42]. {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}[الملك:2]، {يُحْيِي وَيُمِيتُ}. فَمَلَكُ الْمَوْتِ يَقْبِضُ، وَالْأَعْوَانُ يُعَالِجُونَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُزْهِقُ الرُّوحَ. وَهَذَا هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيِ وَالْأَحَادِيثِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَلَكُ الْمَوْتِ مُتَوَلِّيَ ذَلِكَ بِالْوَسَاطَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ أُضِيفَ التَّوَفِّي إِلَيْهِ، كَمَا أُضِيفَ الْخَلْقُ لِلْمَلَكِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي (الْحَجِّ).

وَقد رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الدُّنْيَا بَيْنَ يَدَيْ مَلَكِ الْمَوْتِ كَالطَّسْتِ بَيْنَ يَدَيِ الْإِنْسَانِ يَأْخُذُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ.

وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي (كِتَابِ التَّذْكِرَةِ). وَرُوِيَ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَمَّا وَكَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ قَالَ: رَبِّ جَعَلْتِنِي أُذْكَرُ بِسُوءٍ، وَيَشْتُمُنِي بَنُو آدَمَ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: (إِنِّي أَجْعَلُ لِلْمَوْتِ عِلَلًا وَأَسْبَابًا مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ يَنْسُبُونَ الْمَوْتَ إِلَيْهَا، فَلَا يَذْكُرُكَ أَحَدٌ إِلَّا بِخَيْرٍ). وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي التَّذْكِرَةِ مُسْتَوْفًى-، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَدْعُو الْأَرْوَاحَ فَتَجِيئُهُ وَيَقْبِضُهَا، ثُمَّ يُسَلِّمُهَا إِلَى مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ أَوِ الْعَذَابِ- بِمَا فِيهِ شِفَاءٌ لِمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ".

على كل حال لا إشكال في كون التوفي وقبض الأرواح كله بيد الله -جل وعلا-، وكونه يأمر الملك ليقبض الروح، لا يخرجه عن كونه هو المتوفي، ولكون الملك هو المباشر، وهو المأمور، قد يُنسب إليه، فالفعل يُنسب إلى مباشره وإلى آمره والمختص به؛ يعني فيه أمثلة الناس العادية يقال: "أمر الأمير"، ويقال: "فعل الأمير"، "الأمير حفر بئرًا" يمكن أن الأمير يحفر بئرًا؟ لكنه أمر بحفره فنُسبت إليه، وجميع الأعمال التي تُنسب للكبار ما يباشرونها بأنفسهم، إنما يأمرون بها والله المستعان هذا ظاهر.

"الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {وُكِّلَ بِكُمْ}".

يعني من اللفظ، لكن هل دلالة اللفظ في الآية هي دلالة الوكالة التي استُدل بها عليها؟ وكل بكم هل هو وكل بكم أم وكل عليكم؟ والله المستعان. على كل حال اللفظ أصل المادة موجود فيه، لكن دلالة اللفظ على المراد هو محل النظر.

"أَيْ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا أُخِذَ مِنْ لَفْظِهِ لَا مِنْ مَعْنَاهُ".

يعني هل الله -جل وعلا- حينما وكله، وكل ملك الموت بقبض الأرواح هل هذه الوكالة بمعنى وكالة بني آدم لا يحتاج إلى الوكالة إلا إذا احتاج من يعينه ويساعده، والله -جل وعلا- غنيٌ عن ذلك، فليس هذه الوكالة من جنس وكالة بني آدم.

"وَلَوِ اطَّرَدَ ذَلِكَ لَقُلْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعراف:159]: إِنَّهَا نِيَابَةٌ عَنِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَوَكَالَةٌ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ، وَلَقُلْنَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} إِنَّهُ وَكَالَةٌ".

وكالةً من الله -جل وعلا- للأغنياء؛ لأن مال الغني الذي بيده ليس له {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[النور:33]، فهو وكيل عن الله -جل وعلا- يتصرف في هذا المال بالضوابط الشرعية. نعم.

"فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَمِنَ الرِّزْقَ لِكُلِّ دَابَّةٍ، وَخَصَّ الْأَغْنِيَاءَ بِالْأَغْذِيَةِ، وَأَوْعَزَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّ رِزْقَ الْفُقَرَاءِ عِنْدَهُمْ، وَأَمَرَ بِتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِمْ مِقْدَارًا مَعْلُومًا فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ، دَبَّرَهُ بِعِلْمِهِ، وَأَنْفَذَهُ مِنْ حُكْمِهِ، وَقَدَّرَهُ بِحِكْمَتِهِ. وَالْأَحْكَامُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَلْفَاظِ إِلَّا أَنْ تَرِدَ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا الْأَصْلِيَّةِ فِي مَقَاصِدِهَا الْمَطْلُوبَةِ، فَإِنْ ظَهَرَتْ فِي غَيْرِ مَقْصِدِهَا لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ مَعْلُومُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التوبة:111]، وَلَا يُقَالُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُبَايَعَةِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصِدَيْنِ مُخْتَلِفَانِ".

نعم؛ لأن البيع بمثل هذه الصورة بيع منافع، والشراء من الله -جل وعلا- لعبده المؤمن إنما هو فيه إزهاق الروح. نعم "الشهادة".

"أَمَّا إِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْمَعَانِي فَيُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَأْخُذُ الْحَقَّ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ قَسْرًا دُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ فِعْلٌ، أَوْ يَرْتَبِطَ بِهِ رِضًا إِذَا وُجِدَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى : {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}[السجدة:12]، ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمُخَاطَبَةُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".

المجرمون مبتدأ، وناكسو رءوسهم خبر.

"وَالْمُخَاطَبَةُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُخَاطَبَةٌ لِأُمَّتِهِ. وَالْمَعْنَى: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ مُنْكِرِي الْبَعْثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَأَيْتَ الْعَجَبَ. وَمَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ غَيْرُ هَذَا، وَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ لِلْمُجْرِمِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ".

الذي يظهر أن أبا العباس هو شيخه أبو العباس القرطبي هو الذي يظهر.

"وَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ لِلْمُجْرِمِ {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} لَنَدِمْتَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ. نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ، أَيْ مِنَ النَّدَمِ وَالْخِزْيِ وَالْحُزْنِ وَالذُّلِّ وَالْغَمِّ".

كأنه يرى أن مثل هذا اللفظ لا يصلح أن يواجه به المستقيم، وإنما يواجه به المجرم الذي إذا ذُكِّر بمصير مثله ارتدع، ولا مانع أيضًا أن يُذكر به المستقيم؛ ليثبت على استقامته، والذي جعل القرطبي ينحو إلى هذا المنحى عن أبى العباس أن مثل هذا الكلام لا يمكن أن يقال لشخص مستقيم، {وَلَوْ تَرَى} يا محمد، {إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ}؛ لأنه ليس بمجرم، وإنما يستفيد من هذا الكلام المجرم؛ لئلا يصير مصيره بألا يكون مصيرهم مثل مصير المجرمين أولئك، فيرتدع عن إجرامه، لكن لا يمنع أن يستفيد من مثل هذا الأسلوب المسلم البر، والصالح، والفاجر يستفيد منه المجرم يرتدع، والصالح التقي يستمر على صلاحه وتقواه، ويخشى من سوء العاقبة، فيحرص على أسباب الثبات.

"عِنْدَ رَبِّهِمْ؛ أَيْ عِنْدَ مُحَاسَبَةِ رَبِّهِمْ وَجَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ. {رَبَّنَا}، أَيْ يَقُولُونَ رَبَّنَا. {أَبْصَرْنَا}، أَيْ أَبْصَرْنَا مَا كُنَّا نُكَذِّبُ. وَ{سَمِعْنَا} مَا كُنَّا نُنْكِرُ. وَقِيلَ: أَبْصَرْنَا صِدْقَ وَعِيدِكَ. وَسَمِعْنَا تَصْدِيقَ رُسُلِكَ. أَبْصَرُوا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْبَصَرُ، وَسَمِعُوا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ السَّمْعُ. {فَارْجِعْنَا}؛ أَيْ إِلَى الدُّنْيَا. {نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} أَيْ مُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ، قَالَهُ النَّقَّاشُ. وَقِيلَ: مُصَدِّقُونَ بِالَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ حَقٌّ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[الأنعام:28]".

وهذا يدل على أن الله –جل وعلا- يعلم ما لم يكن، لو كان كيف يكون، لو ردوا لعادوا، هذا لن يكون، لكن الله -جل وعلا- يعلم ما وراء هذا الرد لو كان، لو قدّر أنه يكون يعرف أنهم يعودون لما كانوا عليه.

"وَقِيلَ: مَعْنَى {إِنَّا مُوقِنُونَ} أَيْ قَدْ زَالَتْ عَنَّا الشُّكُوكُ الْآنَ، وَكَانُوا يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ فِي الدُّنْيَا؛ وَلَكِنْ لَمْ يَكُونُوا يَتَدَبَّرُونَ، وَكَانُوا كَمَنْ لَا يُبْصِرُ وَلَا يَسْمَعُ، فَلَمَّا تَنَبَّهُوا فِي الْآخِرَةِ صَارُوا حِينَئِذٍ كَأَنَّهُمْ سَمِعُوا وَأَبْصَرُوا. وَقِيلَ: أَيْ رَبَّنَا لَكَ الْحُجَّةُ، فَقَدْ أَبْصَرْنَا رُسُلَكَ وَعَجَائِبَ خَلْقِكَ فِي الدُّنْيَا، وَسَمِعْنَا كَلَامَهُمْ فَلَا حُجَّةَ لَنَا. فَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ طَلَبُوا أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لِيُؤْمِنُوا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}[السجدة:13]. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: لَمَّا قَالُوا: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} رَدَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}".

مادام الأمر مربوطًا بمشيئة الله -جل وعلا- فالذي لن يشاء لكم الهداية في الأول لن يشاء لكم الهداية في الآخر.

 "يَقُولُ: لَوْ شِئْتُ لَهَدَيْتُ النَّاسَ جَمِيعًا فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} الْآيَةَ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي (رَقَائِقِهِ) فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ".

ولم يجبرهم على سلوك ما يضُرهم، لكنه ركَّب فيهم من حرية الاختيار ما يجعلهم يختارون الصراط، أو الطريق المائل الجائر عن الطريق المستقيم، فهدى الله –جل وعلا- جميع الخلق {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:10]، طريق الحق وطريق الضلال، وجعل فيهم حرية الاختيار، ما يجعله يختار طريق الهدى، أو طريق الضلال، فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير، ما أجبر أحدًا نعم مشيئة الخلق، وحريتهم، واختيارهم تابع لمشيئة الله –جل وعلا-، لكن فيهم ما يقيم عليهم الحجة من الاختيار، فالله –جل وعلا- لم يجبر أحدًا على الكفر، وإنما طلب الإيمان من كل أحد، وبين له السبيل، ووضح له الطريق، ثم اختار غير هذا الطريق، فيتحمل مسئولية انحرافه عن الصراط المستقيم.

 والقول الوسط في هذا هو قول " أهل السنة والجماعة" أن العبد له حرية واختيار، وأنها تابعة لمشيئة الله –جل وعلا- وإرادته.

خلاف "القدرية" النفاة الذين يقولون: إن العبد يخلق فعله، ولا علاقة لله –جل وعلا- بأفعال مخلوقيه، فأثبتوا مع الله -جل وعلا- خالقًا آخر، يعني العبد له الحرية التامة التي لا ترتبط بإرادة الله -جل وعلا-، فقد يريد الله منه الإيمان ويكفر، وقد يريد منه الكفر فيؤمن؛ لأن مشيئته وحريته مستقلة. بخلاف قول "الجبرية" الطرف الثاني يقولون: لا فرق بين حركة الإنسان، وحركة الشجر، ولا فرق بين يد المرتعش ويد السليم؛ لأن المرتعش من مرض مسلوب الحرية والإرادة، وكذلك السليم مسلوب الحرية والإرادة، لكن هل يمكن أن يمشي مثل هذا الكلام على عقل؟

لماذا يعالج هذا المرتعش مادامت حركته كلها لا إرادية سواء كان سليمًا أو مريضًا؟ وهل فيه أحد من الناس حاول أن يرمي حجرًا فلم يستطع، أو حاول أن يقوم مع أن لديه القدرة على القيام فلم يستطع؟ جاهد نفسه ليقوم للصلاة فوجد رجليه لا تحملانه للمسجد؟ يعني من حيث الصحة هو سليم يقوم، لو أراد أي مكان ذهب إليه، ثم بعد ذلك إذا قيل له: اذهب إلى المسجد قال: إرادة الله– جل وعلا- ما شاء الله –جل وعلا- أني أصلي. كذاب أنت، ماذا يدريك أنه ما شاء؟ اذهب إلى المسجد وصلِّ، وشف إذا شاء أو ما شاء، يعني تحكم على شيء قبل وقوعه؟

 وعلى كل حال المذهبان أعني مذهب القدرية الذين يبالغون في نفي القدر، وأن الأمر أنف، وأن الله –جل وعلا- لا يعلم الأشياء حتى تكون، ولا اختيار له، ولا حرية، ولا تصرف في أفعال المخلوقين، بل المخلوقون يستقلون بأفعالهم ويخلقونها، فهذا قول في غاية الضلال، قول عظيم وابن عمر لما ذُكر له هذا القول قال: لو أنَّ أحَدَهم أنفَق مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما تقبل منه حتى يؤمن بالقدر، فالإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان.

يقابلهم الجبرية الذين يقولون: العبد مجبور على كل تصرفاته، ليس معنى أنه يُكتب عليه في قبل أن يخلق يكتب عليه ما سيفعله، ثم بعد ذلك يعذب عليه وهو مجبورٌ عليه نقول: لا، ليس بمختار وليس بحرٍّ حرية كاملة، ومشيئته لا يستقل بها، بل تابع لمشيئة الله –جل وعلا-، ومع ذلك له حرية يتصرف، ويفعل ما يريد، في إطار ما أراده الله -جل وعلا- {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}[الانفال:17]، نفى عنه الرمي استقلالاً، وأثبت له الرمي بحريةٍ وإرادة، لكنها تابعة لإرادة الله -جل وعلا- والمعنى ما أصبت إذ حذفت، ولكن الله –جل وعلا- هو الذي أصاب، لو أن أحدًا أخذ حجرًا ليرميه على غرض، أو على هدف إن أصابه فالله –جل وعلا- شاء له هذه الإصابة، وإن لم يصيبه فقد رمى، أثبت له الرمي، والواقع يثبت أنه يرمي، لكن الإصابة هي التي بيد الله –جل وعلا-.

"وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي (التَّذْكِرَةِ). قال النَّحَّاسُ: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} فِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا. وَالْآخَرُ: أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ لَوْ شِئْنَا لَرَدَدْنَاهُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَالْمِحْنَةِ كَمَا سَأَلُوا، {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}[السجدة:13]، أَيْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأُعَذِّبَنَّ مَنْ عَصَانِي بِنَارِ جَهَنَّمَ. وَعَلِمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ لَوْ رَدَّهُمْ لَعَادُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}. وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ مَعْنَاهَا خَلْقُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْقَلْبِ. وَتَأْوِيلُ الْمُعْتَزِلَةِ: وَلَوْ شِئْنَا لَأَكْرَهْنَاهُمْ عَلَى الْهِدَايَةِ".

خلق المعرفة بالقلب هذا من تعبير الأشاعر الذين يجعلون الاستطاعة مقارنة للفعل، وأنه قبل إرادة الفعل لا يستطيعون.  

"وَتَأْوِيلُ الْمُعْتَزِلَةِ: وَلَوْ شِئْنَا لَأَكْرَهْنَاهُمْ عَلَى الْهِدَايَةِ بِإِظْهَارِ الْآيَاتِ الْهَائِلَةِ، لَكِنْ لَا يَحْسُنُ مِنْهُ فِعْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ الْغَرَضَ الْمُجْرَى بِالتَّكْلِيفِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الثَّوَابُ الَّذِي لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بِمَا يَفْعَلُهُ الْمُكَلَّفُ بِاخْتِيَارِهِ.

وَقَالَتِ الْإِمَامِيَّةُ فِي تَأْوِيلِهَا: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ هُدَاهَا إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يُعَاقِبْ أَحَدًا، لَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْهُ أَنَّهُ يَمْلَأُ جَهَنَّمَ، فَلَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا هِدَايَةُ الْكُلِّ إِلَيْهَا، قَالُوا: بَلِ الْوَاجِبُ هِدَايَةُ الْمَعْصُومِينَ".

يعني من أئمتهم، الواجب هداية المعصومين من أئمتهم الاثنى عشر.

"فَأَمَّا مَنْ لَهُ ذَنْبٌ فَجَائِزٌ هِدَايَتُهُ إِلَى النَّارِ جَزَاءً عَلَى أَفْعَالِهِ. وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ مَنْعٌ؛ لِقَطْعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُدَاهَا إِلَى الْإِيمَانِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِمْ فِي هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ.

وَأَقْرَبُ مَا لَهُمْ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: فَقَدْ بَطَلَ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى طَرِيقِ الْإِلْجَاءِ وَالْإِجْبَارِ وَالْإِكْرَاهِ، فَصَارَ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى مَذْهَبِ الْجَبْرِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ رَذْلٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّ الْمُهْتَدِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هَدَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ حَتَّى يَصِحَّ التَّكْلِيفُ، فَمَنْ شَاءَ آمَنَ وَأَطَاعَ اخْتِيَارًا لَا جَبْرًا".

معروف عن الإمامية الشيعة الرافضة الإمامية الاثنى عشرية أنهم قدرية، يعني يوافقون المعتزلة على نفي القدر، ورد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- من هدي السنة النبوية في رد، أو في نقل كلام الشيعة القدرية.

طالب:..........

ماذا؟

طالب:.............

هو كلامهم ما هو من كل وجه باطل، لكنه في أصله باطل، يعني ما يجب هداية أحد إلا المعصومين، وأما الباقية فيجوز هدايتهم، أو عدم هدايتهم؟

"فَمَنْ شَاءَ آمَنَ وَأَطَاعَ اخْتِيَارًا لَا جَبْرًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}، وَقَالَ: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}. ثُمَّ عَقَّبَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}. فَوَقَعَ إِيمَانُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَشِيئَتِهِمْ، وَنَفَى أَنْ يَشَاءُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَلِهَذَا فَرَّطَتِ الْمُجْبِرَةُ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ هِدَايَتَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ مقرونةٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى".

يعني الأصول فيها معذوقة أو معذوق.

"لَمَّا رَأَوْا أَنَّ هِدَايَتَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ مقرونةٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالُوا: الْخَلْقُ مَجْبُورُونَ فِي طَاعَتِهِمْ كُلِّهَا، الْتِفَاتًا إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. وَفَرَّطَتِ الْقَدَرِيَّةِ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ هِدَايَتَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ مقرون بِمَشِيئَةِ الْعِبَادِ".

لو أجريت على لفظها.

معذوق؟

معذوق. نعم

"وَفَرَّطَتِ الْقَدَرِيَّةِ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ هِدَايَتَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ معذوق بِمَشِيئَةِ الْعِبَادِ، فَقَالُوا: الْخَلْقُ خَالِقُونَ لِأَفْعَالِهِمُ، الْتِفَاتًا مِنْهُمْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}[التكوير:28]. وَمَذْهَبُنَا هُوَ الِاقْتِصَادُ فِي الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ بَيْنَ مَذْهَبَيِ الْمُجْبِرَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ".

يعني لا إفراط ولا تفريط فالدين في جميع أبوابه بين الغالي والجافي.

"وَهُوَ مَذْهَبٌ بَيْنَ مَذْهَبَيِ الْمُجْبِرَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا. وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ قَالُوا: نَحْنُ نُفَرِّقُ بَيْنَ مَا اضْطُرِرْنَا إِلَيْهِ وَبَيْنَ مَا اخْتَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّا نُدْرِكُ تَفْرِقَةً بَيْنَ حَرَكَةِ الِارْتِعَاشِ الْوَاقِعَةِ فِي يَدِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ مُحَاوَلَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَلَا مَقْرُونَةً بِقُدْرَتِهِ، وَبَيْنَ حَرَكَةِ الِاخْتِيَارِ إِذَا حَرَّكَ يَدَهُ حَرَكَةً مُمَاثِلَةً لِحَرَكَةِ الِارْتِعَاشِ، وَمَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَرَكَتَيْنِ: حَرَكَةِ الِارْتِعَاشِ وَحَرَكَةِ الِاخْتِيَارِ، وَهُمَا مَوْجُودَتَانِ فِي ذَاتِهِ وَمَحْسُوسَتَانِ فِي يَدِهِ بِمُشَاهَدَتِهِ وَإِدْرَاكِ حَاسَّتِهِ- فَهُوَ مَعْتُوهٌ فِي عَقْلِهِ وَمُخْتَلٌّ فِي حِسِّهِ، وَخَارِجٌ مِنْ حِزْبِ الْعُقَلَاءِ. وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، وَهُوَ طَرِيقٌ بَيْنَ طَرِيقَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ.

كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ وَلَا تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصَدَ
  

وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ اخْتَارَ أَهْلُ النَّظَرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ سَمَّوْا هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ كَسْبًا".

يعني بين منزلة النفي قدر، وبين الإجبار منزلة بين المنزلتين؛ ولا يعني أنها موافقة لقول المعتزلة في كون مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، لكن التوسط في جميع أبواب الدين لا شك أنه بين منزلتي الغلو الإفراط والتفريط.

"وَأَخَذُوا هَذِهِ التَّسْمِيَةَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}[البقرة:286].

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}[السجدة:14] فِيهِ قَوْلَانِ:

 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ النِّسْيَانِ الَّذِي لَا ذِكْرَ مَعَهُ، أَيْ لَمْ يَعْمَلُوا لِهَذَا الْيَوْمِ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ النَّاسِينَ. وَالْآخَرُ: أَنَّ نَسِيتُمْ بِمَا تَرَكْتُمْ، وَكَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ. وَاحْتَجَّ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ}، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى تَرَكَ أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَخْبَرَ عَنْ إِبْلِيسَ أَنَّهُ قَالَ: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ فَلَوْ كَانَ آدَمُ نَاسِيًا لَكَانَ قَدْ ذَكَّرَهُ. وَأَنْشَدَ [النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ]:

كَأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ جَنْبِ صَفْحَتِهِ

سَفُّودُ شَرْبٍ نَسُوهُ عِنْدَ مُفْتَأَدِ 

أَيْ تَرَكُوهُ. وَلَوْ كَانَ مِنَ النِّسْيَانِ".

لو كان من النسيان لما ذكّره إبليس، ما ذكره ليعمل ما أُمر به يتركه ناسيًا فلا يعمل ما ذكر به، لكنه من الترك.

"أَيْ تَرَكُوهُ. وَلَوْ كَانَ مِنَ النِّسْيَانِ لَكَانَ قَدْ عَمِلُوا بِهِ مَرَّةً. قَالَ الضَّحَّاكُ: نَسِيتُمْ أَيْ تَرَكْتُمْ أَمْرِي. يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: أَيْ تَرَكْتُمُ الْإِيمَانَ بِالْبَعْثِ فِي هَذَا الْيَوْمِ. نَسِينَاكُمْ تَرَكْنَاكُمْ مِنَ الْخَيْرِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وقال مُجَاهِدٌ: تَرَكْنَاكُمْ فِي الْعَذَابِ.

وَفِي اسْتِئْنَافِ قَوْلِهِ: {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} وَبِنَاءِ الْفِعْلِ عَلَى (إِنَّ) وَاسْمِهَا تَشْدِيدٌ فِي الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ. وَالْمَعْنَى: فَذُوقُوا هَذَا، أَيْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ نَكْسِ الرُّءُوسِ وَالْخِزْيِ وَالْغَمِّ؛ بِسَبَبِ نِسْيَانِ اللَّهِ. أَوْ ذُوقُوا الْعَذَابَ الْمُخَلَّدَ، وَهُوَ الدَّائِمُ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لَهُ فِي جَهَنَّمَ. {بما كنتم تعملون} يعني في الدنيا من المعاصي، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالذَّوْقِ عَمَّا يَطْرَأُ عَلَى النَّفْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَطْعُومًا؛ لِإِحْسَاسِهَا بِهِ كَإِحْسَاسِهَا بِذَوْقِ الْمَطْعُومِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:

فَذُقْ هَجْرَهَا إِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّهَا

فَسَادٌ أَلَا يَا رُبَّمَا كَذَبَ الزَّعْمُ

قال الْجَوْهَرِيُّ: وَذُقْتَ مَا عِنْدَ فُلَانٍ، أَيْ خَبَرْتَهُ. وَذُقْتَ الْقَوْسَ إِذَا جَذَبْتَ وَتَرَهَا لِتَنْظُرَ مَا شِدَّتُهَا. وَأَذَاقَهُ اللَّهُ وَبَالَ أَمْرِهِ. قَالَ طُفَيْلٌ:

فَذُوقُوا كَمَا ذُقْنَا غَدَاةَ مُحَجِّرٍ

مِنَ الْغَيْظِ فِي أَكْبَادِنَا وَالتَّحَوُّبِ

وَتَذَوَّقْتَهُ أَيْ ذُقْتَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَأَمْرٌ مُسْتَذَاقٌ أَيْ مُجَرَّبٌ مَعْلُومٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:

وَعَهْدُ الْغَانِيَاتِ كَعَهْدِ قَيْنٍ

وَنَتْ عَنْهُ الْجَعَائِلُ مُسْتَذَاقِ

وَالذَّوَّاقُ: الْمَلُولُ".

الذي لا يصبر على حال، ينتقل من شيءٍ إلى آخر، ومنه الذواق الذي يتزوج ويطلق.

 في قوله: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ} النسيان بمعنى الذهول، وغياب شيء عن البال، لا يمكن إطلاقه على الله -جل وعلا-؛ لأنه نفاه عن نفسه {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}[مريم:64]، لكنه من باب المشاكلة، والمجانسة في التعبير، حينما تركوا أوامر الله –جل وعلا-، تركهم في العذاب، وليس معنى أنه نسيهم نسيناكم، أنه غفل عنهم، أو غابوا عن باله، وعزبوا عن ذهنه. لا أبدًا. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}.

 والله أعلم.

 وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.