شرح كتاب الأربعين النووية (02) - حديث: ((إنما الأعمال بالنيات))

بسم الله الرحمن الرحيم

شرح كتاب الأربعين النووية (2)

حديث: ((إنما الأعمال بالنيات))

الشيخ/ عبد الكريم الخضير

 

المتن:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

قال الإمام النووي -رحمه الله-: عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)). رواه إماما المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما الذين هما أصح الكتب المنصفة.

الشرح:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الأول من الأربعين: "عن أمير المؤمنين"، الإمارة والولاية معروفة، ويراد بهذا المنصب وهو الإمامة العظمى. وكانت ولايته بتولية أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- له، وكان هذا الاختيار بناء على إشارات من خلال نصوص كثيرة في أحاديث التفضيل. فقد جاء تفضيل عمر-رضي الله تعالى عنه- على غيره، ما عدا أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- في نصوص كثيرة، وهذا هو الذي جعل أبا بكر ينص عليه بالخلافة. وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أول من لُقِّب بأمير المؤمنين، ثم توسع الناس في هذا اللقب ذلك حتى أطلقوه على غير الإمام الأعظم، فقالوا مثلًا: "سفيان أمير المؤمنين في الحديث، وأمير المؤمنين في التفسير؛ لأن المسألة مسألة إمارة, وهو رأس في هذا الشأن يتبعه ثلة من المؤمنين والمسلمين, فيكون أميرًا لهم من هذه الحيثية، وإلا فالأصل أنه إذا أطلق إنما ينصرف إلى الإمام الأعظم.

والأمراء الذين كانوا ينيبون عن هذا الإمام الأعظم كانوا يسمونهم في أول الأمر في صدر الإسلام عمالا، فيقال: فلان عامل لعمر على البصرة، وفلان عامل له على كذا, إلى آخره، وعلى كل حال الاختلاف في الاصطلاحات ما لها أثر.

"عن أمير المؤمنين أبي حفص، عمرَ"، هذه كنيته -رضي الله عنه وأرضاه-. (أمير) مجرور بـ(عن)، و"عمر" أيضًا مجرور بدل عن (أمير) أو بيان له وهو ممنوع من الصرف للعلمية والعدل، وقال بعضهم: إنه مصروف؛ لأن (عمر) جمع عمرة، لكن الأكثر على أنه ممنوع من الصرف. "ابن الخطاب -رضي الله عنه- ".  لسنا بحاجة إلى ذكر ترجمة أمير المؤمنين في هذه الدروس المختصرة؛ لأن سيرته كتبت في مجلدات، وأودعت بطون الأسفار, أفاض فيها العلماء إفاضة زائدة، يعني أطالوا في ترجمته فكتبوا في سيرته ومناقبه المجلدات.

"عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: هذا هو أول حديث مخرَّج في صحيح الإمام البخاري، وهو مخرج عند غيره من أهل العلم، ولا يثبت إلا من طريق عمر بن الخطاب، مع أنه جاء في بعض طرقه ما يدل على أن النبي -عليه الصلاة والسلام- خطب به، وعمر -رضي الله عنه- خطب به على المنبر.

ولم يصح عن عمر -رضي الله عنه- إلا من طريق علقمة بن وقاص الليثي، ولم يصح عن علقمة إلا من طريق محمد بن إبراهيم التيمي، ولا يصح عنه إلا عن طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، وعنه انتشر حتى قال بعضهم, ومنهم أبو إسماعيل الهروي، قال: "إنه يروى عن يحيى بن سعيد أكثر من سبعمائة شخص". والحافظ ابن حجر يشكك في هذه النسبة ويقول إنه حرِص على جمع الطرق فلم تبلغ المائة. على كل حال الخبر صحيح, مجمع على صحته, متفق عليه, لا يُنازع في ثبوته، فثبوته قطعي عند أهل العلم، سواء ورد من طريق واحد، أو من طرق متعددة.

هذا الحديث غريب غرابة مطلقة، وهو أول حديث في صحيح البخاري ونظيره أخر حديث فيه وهو حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: ((كلمتان: خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) فهذا الحديث لم يثبت إلا عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وعنه لم يثبت إلا عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير البجلي، وعنه لم يثبت إلا عن عمارة بن القعقاع، وعنه لم يثبت إلا عن محمد بن فضيل, وعنه انتشر، يعني التنظير مطابق بين الحديثين أول حديث وآخر حديث، وكأن البخاري -رحمه الله تعالى- فعله إما لمجرد الاتفاق، يعني حصل اتفاقًا من غير قصد، وإما على سبيل القصد ردا على من زعم اشتراط التعدد, وأنه لا يقبل خبر الواحد إذا تفرد به، بل لا بد أن يأتي الخبر من طرق، فهذا الكلام مردود بأول حديث في الصحيح وآخر حديث فيه, وغيرهما من غرائب الصحيح.

هذا القول يتبناه المعتزلة أن الذي يتفرد بالخبر لا يقبل حتى يتعدد المخرج، وقال به بعض العلماء: إما مطلقًا أو أنه شرط لصحيح البخاري، وأن البخاري لا يخرج إلا الأحاديث التي لها أكثر من راوي. ويومئ إليه كلام الحاكم، وبعض الإشارات تدل عليه من كلام البيهقي، ويتبناه الكرماني شارح البخاري، وكأن كلام ابن العربي في حديث أبي هريرة: ((هو الطهور ماؤه)) يدل عليه، قال: "لم يخرجه البخاري؛ لأنه لم يرد إلا عن أبي هريرة". لكن هذا الكلام ليس بصحيح، عندنا أدلة عملية ترده، الصنعاني في نظم النخبة لما ذكر العزيز قال:

وليس شرطًا للصحيح فاعلمِ
 

 

وقد رمي من قال بالتوهم
 

وفي بعض النسخ:

وليس شرطًا للصحيح فاعلم
 

 

وقيل شرط وهو قول الحاكمِ
 

على كل حال هذا القول ضعيف لا يلتفت إليه.

"قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول" (سمعت) هذه صيغة الأداء لمن تحمل بطريق السماع من لفظ الشيخ التي هي الأصل في الراوية، ولو قال حدثني، أو أخبرني، أو عن النبي -عليه الصلاة والسلام- لدَلَّ على مقصود, لكن هذه أصرحها، "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول" يعني سمعه بدون واسطة، وعمر -رضي الله عنه- كان يتناوب في العلم مع جاره، فجاره يخبره بما صدر عن النبي-عليه الصلاة والسلام-، وهو يخبر جاره في اليوم الذي يليه وهكذا، لكن هذا الحديث مما سمعه من النبي-عليه الصلاة والسلام- من دون واسطة.

يقول: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" حال كونه "يقول: ((إنما الأعمال بالنيات))". ((إنما)) هي الكافة والمكفوفة، وهي أداة حصر تحصر الحكم في المذكور، وتنفيه عما عداه, يعني بمنطوقها حصر للحكم فيما ذكر، وفي مفهومها نفي له عما عداه.

((إنما الأعمال))، ((أل)) هذه للجنس، أي جنس الأعمال بالنيات، فإذا قلنا: إنها جنسية، قلنا: تشمل الأعمال التي يتعبد بها، والأعمال التي لا يتعبد بها. كيف تكون جميع الأعمال بالنيات ومنها ما لا يتعبد به؟

قالوا: هي مصححة للأعمال المتعبد بها، وضامنة للثواب في الأعمال التي لا يتعبد بها في أمور العبادات، وأمور العادات.

 فبالنسبة لأمور العبادات النية مصححة والعبادات لا تصح إلا بالنية.

وأما بالنسبة لأمور العادات فإنما الثواب يرتب عليها إذا قصد بها وجه الله -تعالى-.

ويدخل في الأعمال الأعمال البدنية، والأعمال القلبية، وعمل اللسان الذي هو القول، ويدخل فيها أيضًا الترك، فالترك عمل.

لئن قعدنا والنبي يعمل
 

 

فذاك منا العمل المضلِلُ
 

فالترك عمل، لكن أهل العلم لا يشترطون لإزالة النجاسة نية، ولا يشترطون لسداد الديون والبراءة منها نية. نعم لا تشترط نية لتصحيح ذلك، لكن ترتيب الثواب عليه لا بد له من نية. إذا دفع المبلغ الذي في ذمته لزيد من غير قصد فلا ينوي بذلك شيئا إلا أنه ليسلم من شره ومطالبته, تبرأ ذمته، لكن إذا قصد بذلك أن هذا عقد وعهد والله -جل وعلا- أمر بالوفاء بالعقود والعهود يؤجر على امتثال هذا الأمر. فالنية لا شك أن لها مدخلا في كل شيء، في كل عمل، عمل البدن، وعمل الجوارح، وعمل اللسان، وعمل القلب وما أشبه ذلك، فكلها لا بد فيها من نية، لا بد فيها من إخلاص لله -جل وعلا-، فالنية شرط لصحة كل عبادة.

وهناك شرط آخر وهو المتابعة: ولا بد أن يكون العمل خالصًا لوجه الله -جل وعلا-، وصوابًا على سنة النبي -عليه الصلاة والسلام-، فهما شرطان للقبول. وبعضهم يكتفي بالمتابعة عن اشتراط الإخلاص؛ لأن العمل الذي ليس بخالص لله -جل وعلا- لم يتحقق فيه شرط المتابعة، لكن لا بد من التنصيص على الإخلاص واستحضار النية لأهميتها؛ لأن لو لم تذكر في كل مجال، واكتفي بالشرط الثاني لغفل المكلف عنها، وظن أن مجرد المتابعة في الظاهر يكفي، وهذا لا يقول به أحد من أهل العلم.

يقول: ((إنما الأعمال بالنيات))، هذا حصر، وجاء في بعض الروايات: ((لا عمل إلا بنية))، فالنفي والإثبات مثل الحصر بـ(إنما)، فهما من أساليب الحصر. وهذا يدل على أن الذي لم ينوِ بعمله النية الصالحة الخالصة لله -جل وعلا- فهذا لم يعمل. قد يقول قائل: إنه عَمل، فكيف تنفى حقيقة عمل وهو موجود؟ نقول العمل الذي لا يقبل وجوده مثل عدمه, كما في قوا النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((صلِّ فإنك لم تصلِّ)). لو قال قائل: "إنه صلى ركعتين"، فلو قال: "صليت", لما قال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "فإنك لم تصل" لكان كلامه غير مقبول؛ لأن النفي هنا إنما هو للحقيقة الشرعية، وأما مجرد الصورة في الظاهر، إذا لم توافق ما جاء عن الله وعن رسوله فليس لها حكم ووجودها مثل عدمها؛ ولذا قال: ((صلِّ فإنك لم تصلِّ)). وسواء كان الخلل في النية، أم في المتابعة، قد يكون المسيء مخلصًا لله -جل وعلا- لما كبَّر وصلى، لكن شرط المتابعة اختل فوجود هذا العمل مثل عدمه؛ ولذا صح نفيه. والذي يصلي بدون نية، والذي يتوضأ بدون نية، والذي يصوم بدون نية, فعمله هذا ليس بصيام, ولا بصلاة, ولا بوضوء شرعي؛ لأن العمل الشرعي إنما هو ما اقترن بالنية؛ ولذا قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الأعمال بالنيات)).

 ((بالنيات)) جمع نية، والنية يعرِّفونها: بالقصد والعزم. ويقولون في كتب اللغة: "النية في اللغة: القصد"، حتى الشراح يقولون هذا يقال: نواك الله بخير، أي: قصدك به. وهل هذا الكلام يحتاج إلى دليل؛ لأنه مما يضاف إلى الله -جل وعلا-، أو لا يحتاج إلى دليل؟ يعني لماذا لا نقول نواك زيد بخير مثلًا، أي: قصدك، وما يضاف إلى المخلوق لا يحتاج إلى دليل، إلا إذا كان زيد من الناس معلوما بذاته فحينئذ نحتاج إلى مطابقة هذا الخبر للواقع كي يكون صدقًا. إذا قلنا: نواك الله بخير، أي: قصدك, هل نحتاج إلى نص أن مثل هذا المسند، يمكن يسند إلى الله -جل وعلا-؛ لأن الأسماء والصفات توقيفية وهذا لا يخالف فيه أحد, أو لا نحتاج لأن هذا إخبار ودائرة الإخبار أوسع؟

نعم دائرة الإخبار أوسع، ولذا يرددونها في الشروح من غير نكير.

((إنما الأعمال بالنيات)) ولا بد من تقدير يتعلق به الجار والمجرور الذي هو قوله ((بالنيات)). الذي يشترط وجود النية لأي عمل من الأعمال يقدر الصحة، فيكون التقدير: "إنما صحة الأعمال بالنيات"، أو "إنما الأعمال تصح بالنيات" وهكذا، وذلك على أن (أل) في الأعمال هي العهدية فتقتصر على الأعمال التي يتعبد بها لله -جل وعلا-, وعلى هذا لا شك أن مثل هذا شرط صحة. أما الذي لا يجعل النية شرطا وإنما يجعلها مكملة، فهذا يمكن أن يندرج عنده في (أل) في الأعمال ما ذكرنا، وهو أن الأعمال إذا كانت شرعية فلا تصح إلا بالنيات، وإذا كانت عادية فلا يثاب عليها إلا بالنيات، فيتجه القول بأنها تصح بالنيات إذا كانت أعمالًا تعبدية, أو تكمل -يتم ثوابها- بالنيات إذا كانت أعمالًا عادية.

((وإنما لكل امرئ ما نوى)) هذا أيضًا حصر، والحصر عند أهل العلم ينقسم إلى: حصر حقيقي, وحصر إضافي.

فقولنا: "لا إله إلا الله"، معناه: لا معبود بحق إلا الله -جل وعلا- فهذا حصر حقيقي؛ لأنه لا يخرج عن هذا الحصر أحد. وهناك حصر إضافي مثل قوله -تعالى-: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ} [(7) سورة الرعد]، فهو إضافي؛ لأن له -عليه الصلاة والسلام- صفاتٍ أخرى غير النذارة، وكذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((إنما الربا في النسيئة))، وقول أحدهم: "إنما الشاعر حسان", فهذا يسمونه حصر إضافي للاهتمام والعناية بشأن من حصر الوصف فيه وإن وجد غيره، فالنبي-عليه الصلاة والسلام- له صفات أخرى غير النذارة كالبشارة مثلًا، وله أوصاف كثيرة جدًا مذكورة في شمائله -عليه الصلاة والسلام-، وهناك شعراء كثر غير حسان.

((وإنما لكل امرئ ما نوى))، يعني يحصل له أجرُ ما نواه من عمله، ومفهومه أن الذي لا ينويه لا يحصل له أجره، فمثلًا أنت في طريقك إلى المسجد لتؤدي الصلاة، وفي طريقك مريض تزوره في الله، خرجت من بيتك لا ينهزك إلا الصلاة فقط، لكن لما وازنت البيت الذي فيه المريض قلت: فرصة الآن باقي على الصلاة ربع ساعة أمر وأزور هذا المريض، أنت من بيتك ما نهزك إلا الصلاة فليس لك إلا أجر الصلاة من بيتك، لكن زيارة المريض هذه التي طرأت لها أجرها منذ طرأت عليك وقصدتها وأما قبل ذلك فلا. أو مثلا في المسجد جنائز يصلى عليها بعد الصلاة، خرجت إلى المسجد تعرف هذا المسجد وأنه يصلى فيه على الجنائز، وخرجت من بيتك بقصد الصلاة الفريضة، والصلاة على الجنائز تؤجر على الأمرين، وهذه النية من بيتك، وصلاة الجنازة إذا صليت عليها ثبت لك أجرها. فهل يستوى شخص ذهب إلى المسجد للصلاة فقط، وشخص ذهب إلى الصلاة، وصلاة الجنازة معًا، وخص هذا المسجد؛ لأنه تصلى فيه الجنائز؟ نقول: هذا أجره عظيم، ولكن من خرج إلى الجامع الذي تصلى فيه على الجنائز له أجر نية الصلاة، وأجر نية صلاة الجنازة، لكن ليس له أجر الجنازة إلا إذا صلى على الجنازة فيؤجر على النية الصالحة؛ لخروجه للصلاة الجنازة. لكن قدر أن ما في جنازة هل نقول: له قيراط؟ لا ليس له قيراط، إنما له أجر القصد والنية الدافعة لخروجه إلى هذا المسجد الذي تصلى فيه على الجنائز، مع أجر الصلاة حينما خرج من بيته قاصدًا الصلاة، فصار عمل من الأعمال يحقق هدفين في آن واحد. وهذا بخلاف من لم تخطر له الجنازة على باله وخرج لا ينهزه إلا الصلاة, فله أجر الصلاة، إن وجد جنازة وصلى عليها فله قيراط وإن لم يقصدها من بيته، لكن هناك فروق بين هذه المقاصد.

فخلاصة الكلام أنك إذا ما نويت إلا الصلاة ما لك إلا أجر الصلاة، وإذا نويت أجر الصلاة والصلاة على الجنازة بناء على احتمال قوي أنه توجد جنائز في هذا المسجد فلك أجر قصد الصلاة على الجنازة ولو لم توجد جنازة، لكن لا نقول لك قيراط المرتب على الصلاة على الجنازة، هذا مفاد قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((وإنما لكل امرئ ما نوى)).

نفترض أن معلما يعلم الناس الخير وقصد نفع الأخوة الحاضرين، هذا له أجره بهذا القصد وبهذه النية، لكن لو استحضر نية من ينتفع بهؤلاء الحاضرين يؤجر عليها وإلا ما يؤجر؟ يؤجر عليها؛ وذلك أن فضل الله واسع. فاستحضار مثل هذه الأمور، ومثل هذا الجمل حقيقة يفتح آفاقًا وأبوابًا للأجور مما لا يخطر على بال، يعني لو أن شيخا مثلًا قال: "والله ما أنا بجالسٍ من أجل طالب واحد حضر عندي"، نقول له: "استحضر نية نفع هذا الطالب ومن ينتفع به، وقد يتسلسل الأمر إلى قيام الساعة وأجورك ماشية".

هذه فائدة قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((وإنما لكل امرئ ما نوى))، فليس لك من عملك إلا ما نويت.

((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله)) وهذه الجملة حذفت من الموضع الأول من صحيح البخاري، ، والحافظ ابن حجر يرجح أن البخاري هو الذي حذفها لا شيخه الحُميدي، وبعضهم يقول: الحميدي. لكن لماذا حذف البخاري هذه الجملة ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله)), حذفها من أول موضع، وذكرها في المواضع الأخرى؟ فلم يحذفها لعلة قادحة فيها، لأنه أثبتها في مواضع أخرى، فقالوا: إن البخاري لم يذكر مقدمة لكتابه فجعل حديث (الأعمال بالنيات) كالمقدمة؛ لأنه يؤلف في علم وأي علم! وحي السنة، هذا العمل عبادة محضة تحتاج إلى نية، فأراد أن يبين أن العمل هذا الذي يكون من العبادات يحتاج إلى نية، لكن حذف قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله)) لئلا يظن به أنه زكى عمله بهذه الجملة، بينما ذكرها في مواضع أخرى, ولا إشكال في ذكرها هناك، لكن الآن وهو يضع هذا الحديث كالمقدمة لكتابه ليبين أن الإخلاص لا بد منه في جميع الأعمال، وحذف هذه الجملة لئلا يظن به أنه زكى نفسه، وجزم لنفسه بأن هجرته إلى الله ورسوله، وعمله خالص لوجهه، فتركه.

((من كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله))، الجزاء هو نفس الشرط. هذا صحيح أو ليس بصحيح؟ يعني يصح أن أقول: "من قام قام، من أكل أكل، من شرب شرب"؟ لا يجوز أن يتطابق الشرط مع الجزاء؛ لأن الجملة "من قام قام" ما تفيد شيئًا، وبعد ذلك ماذا يستفيد السامع من قولنا: "من قام قام، من جلس جلس" وهل لهذا الكلام فائدة؟ وهذا يجوز إذا قدرنا في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله)) نية وقصدًا، ((فهجرته إلى الله ورسوله)) ثوابًا وأجرًا, فاختلف الجزاء عن الشرط، وحينئذٍ يستقيم الكلام. ((من كانت هجرته إلى الله ورسوله))، يعني مخلصًا في ذلك لله -جل وعلا-، مهاجرًا إلى رسوله من مكة إلى المدينة ((فهجرته إلى الله ورسوله)).

((الهجرة)): عمل شرعي، وأصلها في اللغة: الترك. وفي الاصطلاح: "الانتقال من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام"، وهي واجبة وحكمها باقٍ إلى قيام الساعة. أما حديث: ((لا هجرة بعد الفتح)) فإنما المراد به من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام، أما البقاء بدار الكفر، والإقامة بدار الكفر فلا تجوز بحال ولا يعفى عن أحد مستطيع، أما الذي لا يستطيع الحيلة فإنه معذور؛ لقول الله -تعالى -: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [(98) سورة النساء], فنص على الذي لا يستطيع, فمثله {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [(286) سورة البقرة]. لكن المستطيع القادر على الهجرة يجب عليه أن يهاجر، وذلك لعظم أمر البقاء بين ظهراني الكفار. كم من إنسان انحرف؟ كم من شخص ارتد؟ كم من إنسان ابتلي وامتحن حتى صرف عن دينه؟ وأما ما يحصل لذراري المسلمين في بلاد الكفر فحَدِّثْ ولا حرج، والوقائع التي تنقل عنهم يندى لها الجبين، ويعتصر لها القلب ألمًا.

شخص من أصل لبناني مسلم يعرض بنته الوحيدة الصغيرة على شيخ كبير زائر، يريد أن يزوجه إياها، فقال له: ما الذي دعاك إلى أن تعرض هذه البنت في سن ما قبل العشرين على شخص يقرب من الستين، ما الذي حملك على ذلك؟ قال: أنت تسافر إلى بلاد المسلمين، وتعيش بنتي في بلاد المسلمين؛ وذلك أني جئت ومعي خمسة من الزملاء وسكنا في هذه البلاد, قبل خمسين سنة، فمات أولئك، وارتد أولادهم، وبناتهم تنصروا، وأنا خائف على هذه البنت.

مسائل التربية والتعليم في بلاد الكفر كارثة يعني فيما يذكر، ولذلك عظم أمر الهجرة وشأنها في الإسلام.

وقد برأ المعصوم من كل مسلم
 

 

يقيم بدار الكفر غير مصارم
 

المقصود أن الهجرة حكمها معروف وهي باقية إلى قيام الساعة.

((ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها))، يعني يقصد بذلك شيئًا من حطام الدنيا.

((أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)) في الجملة الأولى قال: ((من كنت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله))، فكرر ذلك تعظيمًا لشأن هذه الهجرة إلى الله ورسوله.

أما في الجملة الثانية قال: ((من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها أو ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه))، ما قال: "إلى دنيا أو "إلى امرأة" فلم يكرر مثل الجملة الأولى تحقيرًا لشأن الهدف والقصد من هذه الهجرة.

قد يقول قائل: إن الشخص إذا ضاقت به المسالك في بلده، وضاقت عليه أسباب المعيشة، وانتقل إلى بلد آخر من أجل الدنيا، من أجل أن يكتسب مالًا يعيش به يُذَمُّ أو لا يذم؟

أو شخص ماتت زوجته، أو بحث عن زوجة فلم يجد فقيل له: إن في البلد الفلاني تجد، فسافر من أجل أن يتزوج يلام أو لا يلام؟ لا يلام.

السياق عندنا في الحديث سياق ذم بلا شك؛ لأنه جعل في مقابل الهجرة إلى الله ورسوله، لكن متى يتجه الذم بالنسبة لمن هاجر من أجل الدنيا، أو هاجر من أجل امرأة يتزوجها؟

فالذي يجد زوجة في في بلده في المدينة مثلا، وقال: أنا أذهب إلى الشام وأتزوج، أو إلى مصر وأتزوج وأبقى هناك، وهذا محقق في بلده أو نفترض بلادا مستوية؛ كي لا ندخل في من ترك بلدًا فاضلًا إلى بلد مفضول، فالذي يجد زوجة في الشام وسافر إلى مصر وتزوج، وهو محقق في بلده، يلام وإلا ما يلام ؟ ما يلام, لكن يلام إذا أظهر للناس وأبدى لهم أن هذه الهجرة لله ورسوله. فمثلا هو من سكان نجد، أو مصر، أو الشام، وقال: أنا والله أريد أن أجاور في المسجد الحرام، المضاعفات مائة ألف صلاة، والجنائز، وهو في حقيقة أمره إنما هاجر؛ لأن الأعمال التجارية متاحة بشكل أكبر في مكة، أو لأن امرأة أعجبته ولن توافق على الزواج به حتى يسكن مكة مثلًا، وسافر، وقال: والله أنا أريد أن أجاور, ما بقي من العمر يكفي ما مضى، والصلاة بمائة ألف صلاة، وصار يظهر هذا في المجالس. نعم مثله يذم ويلام.

ونظير ذلك مثال: يمكن أني قلته لكم أكثر من مرة، يأتي قبيل آذان المغرب بنصف ساعة ومعه الكيس فيه التمر والقهوة والماء، ثم بعد ذلك يدخل المسجد قبل آذان المغرب يوم الاثنين بنصف ساعة، ويأتي يفل السماط ويضع التمر والقهوة والشاي ويجهز أموره، حتى إذا أذن قال: بسم الله، وأكل من التمر، وشرب من القهوة وهو ما صام. فالأكل في هذا الوقت ليس بممنوع، وليس بممنوع في المسجد، لكنه أظهر للناس أنه صائم فيذم ويلام. فإذا أظهر للناس خلاف الواقع لا شك أنه يذم؛ ولذا سيقت الهجرة إلى الدنيا أو إلى المرأة التي يتزوجها مساق الذم.

((من كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)). يذكر في هذا المقام حديث مهاجر أم قيس، وهو عند الطبراني كما قال الحافظ ابن حجر بسند جيد: أن رجلًا هاجر من أجل امرأة تدعى أم قيس، لم تقبل به زوجًا حتى هاجر فكان يسمى مهاجر أم قيس. وبعض العلماء لدلالته أو لوجود ما يدل عليه في الحديث يجعله سببًا لورود الحديث، وابن حجر يقول: لا أعرف أن الحديث أورد بسبب هذه القصة.

أم سلمة قالت لأبي سلمة: "لا أتزوجك حتى تسلم، فإذا أسلمت لا أريد مهرًا". كانت هي مسلمة ولم يسلم بعد فأسلم وتزوجها. هل يقال: إن هذا أسلم من أجل أم سلمة فيذم بهذا أولا يذم؟ إذا هاجر بسبب امرأة يلام ويذم، فكيف إذا أسلم بسبب امرأة؟

هناك ملحظ دقيق، يعني لو قدِّر أنه أسلم وعقد عليها فمات، إنما أسلم من أجل الزواج بها فمات مباشرة، قلنا: إنه إنما أسلم من أجلها، لكن إذا طال به العمر، وحسن إسلامه، ووقر الإيمان في قلبه انتهت المسألة. هكذا قضية الإسلام فمثل: المؤلفة قلوبهم كثير منهم يسلم من أجل المال، ثم بعد ذلك يحسن إسلامه وتصلح حاله، لا شك أن مثل هذا حكمه ما آل إليه الأمر، ولو انتهى أمره بمجرد الدخول بالإسلام لا شك أنه يلام؛ لأنه إنما أسلم طمعًا ولكنه حسن إسلامه بعد ذلك، وأبلى في الإسلام بلاءًا حسنًا، وعاش عيشة إسلامية سعيدة.

وهل يعني هذا أنه لو مات فإسلامه غير صحيح؟

نقول: لا, بل إسلامه صحيح، لكن يلام يعني أنه ليس مثل من أسلم رغبة. والأمر يرجع إليه إن كان دخوله في الإسلام لمجرد الزواج دون أي قصد للدين، هذا لا شك أن في إسلامه نظر، وهذا أمر خفي بينه وبين ربه، لكن ما دام طال به العمر وحسن إسلامه، كثير من المؤلفة قلوبهم حسن إسلامهم، أسلموا رغبة في المال أو رهبة من السيف، ثم بعد ذلك حسن إسلامهم، ورسخت أقدامهم، وباشر الإيمان بشاشة قلوبهم فصلحت أحوالهم.

يقول المؤلف -رحمه الله-: "رواه أماما المحدثين"، بلا نزاع البخاري ومسلم إماما المحدثين. وهل لذاتهما، أو لكتابيهما، أو لهما معًا؟ يعني إذا نظرنا إليهما مجردين، فنظرنا إلى البخاري ومنزلته بين أهل الحديث بغض النظر عن كتابه ونظرنا إلى مسلم بمفرده.

هل نقول: إن البخاري أعلم الأمة بالحديث، إمام الأمة في الحديث ما يوجد أعلم منه، ومسلم كذلك؟ أو بالنظر إلى كتابيهما؟ لاشك أنهما إمامان، وإماما هدى لا شك في هذا، لكن هل نقول: إنهما إماما المحدثين بمعنى أنهما أعلم أهل الأرض بالحديث؟

أما البخاري فصحيح، يعني ما سطره في كتابه، وما نُقل عنه بالأسانيد الصحيحة يدل على رسوخه في ذلك.

أما مسلم فهو إمام بلا نزاع، لكن كونه أعلم من غيره بهذه الصناعة، فكتابه ثاني الكتب المصنفة بلا نزاع أيضًا -عند من يعتد بقوله من أهل العلم-، وإن جعله بعضهم هو الأول، لكن يبقى أن الإمام مسلم له أنداد، وله نظراء من كبار المحدثين من الأئمة. فالنظر في هذه الإمامة بالنظر إلى الكتابين، مع أن إمامتهما مجزوم بها للبخاري ولمسلم. لكن قولنا: "إماما المحدثين" هل معناه أنهما أعلم الناس بالحديث؟

فإذا نظرنا إلى الحفظ فالبخاري يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث ليس بصحيح، مع أنه يوجد من يحفظ سبعمائة ألف حديث.

إذا نظرنا في العلل الإمام البخاري إمام في العلل، لكن أيضًا هناك أئمة: علي بن المديني إمام، أبو حاتم إمام، يحيى بن معين وغيرهم أئمة كبار، ومن باب أولى الإمام مسلم، وهذا يدلنا على فضل التأليف.

لو أقول لمجموعة من الطلاب: من يذكر لي اسم ابن واره الرباعي، وما منزلته بين أهل الحديث؟ إمام جبل كبير ليس بالسهل، لكن التأليف خلّد ذكر الإمامين، وجعلهما في كل وقت، وفي كل حين، وفي كل بلد يقال عنهما: "قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-، قال الإمام مسلم -رحمه الله تعالى-"، لكن من يقول ابن واره -رحمه الله-, إلا إذا ورد ذكره في كتب أهل العلم؟ فهذا يدل على أن للتأليف شأنًا، وهو الذي يخلِّد الرجال إذا كان نابعًا من إخلاص لله -جل وعلا-، فأول من يستفيد من المؤلَّف المؤلِّف؛ ولذا يقول الإمام مسلم في مقدمة صحيحه: "وإذا عزم لي تمامه فأول من يستفيد منه أنا".

فالمؤلف أول من يستفيد من تأليفه، ولو لم يستفيد من تأليفه إلا أنه يقال فيه: "قال -رحمه الله تعالى-، قال -رحمه الله تعالى-"، إضافة إلى أن كتابيهما هداية الناس ودلالتهم, وإرشادهم إلى الحق، فكم من إنسان على مر القرون استفاد من صحيح البخاري؟ وكم من عالم وإمام استفاد أي فائدة من صحيح مسلم؟ فلا شك أن التأليف له شأن عظيم.

تدخل معرض الكتب أسبوعًا كاملًا، تتردد عليه, فما تجد من يقول: "فلان -رحمه الله-", وهو من الأئمة الكبار سواء كان من المتقدمين أو من المعاصرين. ولنا شيوخ لم يؤلفوا فما يُعرَفون، يعرفهم طلابهم، وطلاب طلابهم، وجيل جيلين ثم ينتهون. وبمقابل هناك شباب من طلاب العلم ألَّفوا ويقال: "ما شاء الله هذا كتاب فلان -جزاه الله خيرًا- الله يوفقه، ما شاء الله كان", والناس تمر وتمشي وتقلِّب وكل يدعوا له، فضلًا عمن يقرأ ويستفيد من هذا الكتاب وينتفع به، ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله.

وليس معنى هذا أن الإنسان يبادر بالتنصيف قبل أن يتأهل، أو يصنِّف ليقال مكثر، أو مؤلف, فهذا -نسأل الله العافية- وبال على صاحبه، وهذا يدخل دخولًا أوليًا في الحديث الذي معنا.

طالب العلم إذا كان يطلب العلم ليقال: طالب علم، أو ليقال: عالم، هذا من أخسر الناس صفقة

ومن يكن ليقول الناس يطلبه
 

 

أخسر بصفقته في موقف الندم
 

فعلى الإنسان أن يطلب العلم مخلصًا في ذلك لله -جل وعلا-، وعليه أيضًا أن يعلم متى تأهل، وأن يؤلف متى تأهل، ولا يكون قصده إلا ما يقربه إلى الله -جل وعلا-، ما يتقرب به إلى الله -جل وعلا- مخلصًا في ذلك.

"إماما المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة البخاري".

محمد مرفوع على أنه وصف، أو بدل، أو بيان كل هذا صحيح؛ لأنها تابع لما قبلها "ابنُ إسماعيلَ" (ابن) مضاف و(إسماعيل) مضاف إليه مجرورة ممنوع من الصرف، و(ابن) الثانية تابعة لإسماعيل، وإسماعيل مجرورة فـ(ابنِ) مجرورة كذلك، و(إبراهيم) مضاف إليه ممنوع من الصرف والذي بعده تابع له مجرور وهكذا, ففي الموضع الأول ترفع, أو تنصب, أو تجر حسب العوامل الداخلة على المتبوع، وفي الموضع الثاني يكون مجرورة باستمرار؛ لأنها تابعة لما قبلها وهو مضاف إليه، فابن الأولى مضاف إلى الاسم الثاني، اللهم إلا في بعض الأسماء التي ينسب فيها الرجل إلى أبيه ثم يوصف وصفًا أخر ومثاله: عبد الله بنُ أبي بنُ سلول, فـ(ابن) الثانية محله الرفع؛ لأنه وصف لـ(عبد الله) وهو مرفوع، وليست وصفا لأبي الثانية. وكذلك (عبد الله بنُ عباسٍ ابنُ عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) لكن لو قلت (ابنِ عبد المطلب) مكان (ابنُ عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) لَجُرَّت لأنها تصير تابعة لما قبلها باستمرار.

 "بردزبة" اسم أعجمي، والمغيرة هذا أسلم على يد اليمان الجعفي، فقيل للبخاري: "الجعفي مولاهم" يعني بالولاء؛ لأن جده المغيرة أسلم على يد اليمان الجعفي جد عبد الله بن محمد الـمُسندي شيخ البخاري، فالجد أسلم على يد الجد. والبخاري نسبة إلى بخارى ولد بها، ومات بقرية يقال لها: خرتنك سنة ست وخمسين ومائتين.

وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري: قشير قبيلة معروفة عربية. وأما بالنسبة للإمام البخاري فليس بعربي، إنما نسبته إلى جعف بالولاء، ونسبة مسلم إلى قشير صلبية "القشيري النيسابوري".

"في صحيحيهما" تجدون أحيانًا من يقول: "في صحيحهما" فأيهما أولى وأدق؟ فهما: صحيحان لمؤلفين اثنين، وإذا قلنا: "صحيحهما" فكتاب واحد اشتركا في تأليفه الاثنان. فكأنه كتاب واحد اسمه الصحيح اشتركا في تأليفه البخاري ومسلم, وهذا واضح. إذا وجدت مسألة بحثها مؤلف في كتاب له مستقل، وآخر في كتاب مستقل قلتَ: بحثها فلان، وفلان في كتابيهما، لكن إذا اشتركا في تأليف كتاب واحد، قلت: بحث فلان وفلان في كتابهما، فالصحيح أن يقال: صحيحيهما.

إنما يكون الجمع والتثنية في المضاف، مثل ما تقول: طلاب الجامعة، فالجمع يكون للمضاف، ما يكون للمضاف إليه، إلا إذا كان المضاف إليه أيضًا مجموعًا، وقد يجمع المضاف ويثنى المضاف إليه, كما في قول الله -تعالى- {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [(4) سورة التحريم] وهما قلبان فقط، ومع ذلك جمع المضاف وثنى المضاف إليه. فهل يصح أن نقول: "في صحاحهما" نجمع المضاف مثل ما قال الله -عز وجل-: {قُلُوبُكُمَا} ؟

فـ(قلوب) جمع مضاف إلى مثنى، وهنا مثنى مضاف إلى مثنى، لكن هل نقول: إن الأفصح كما جاء في القرآن أن نقول: "في صحيحيهما"؟ لا شك أن تعبير المؤلف أدق باعتبار أنه يكشف عن الحقيقة بدقة، لكن لو قيل في صحاحهما ألمس أن لكل واحد منهما أكثر من كتاب في الصحيح. بخلاف الآية, فهل في المرأتين أكثر من قلبين؟ وليس للامرأتين إلا القلبين، كما قال -تعالى-: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [(4) سورة الأحزاب], فكل واحدة لها قلب.

فالتنظير غير مطابق لأفصح الكلام أن نقول في صحاحهما أو في صحيحيهما.

ابن هشام يقول في السياق عن أسماء الفعل (هلم, وصه): "هما اسما فعلين". فالعلماء يطلقون قواعد نظرية، ويقعِّدون على أساس أنها أغلبية وقد يخالفونها، وإلا ابن هشام هو الذي يقرر أن الجمع والتثنية للمضاف، وهو الذي قال: اسما فعلين، فثنى المضاف والمضاف إليه، لا سيما وأن الفعل لا يتعدد مثل: تعدد البخاري ومسلم هنا.

"في صحيحيهما الذين هما أصح الكتب المصنفة"، يعني لو قال: أصح الكتب بدون المصنفة، لزم أن يقول: "بعد كتاب الله -جل وعلا-"، لكن لما ذكر المصنفة انتهى الإشكال. هل يمكن أن نقول المصحف مصنف؟ لا، ولذلك خرج القرآن بالوصف المصنفة، فلا نحتاج أن نستثنيه فهما أصح الكتب المصنفة التي ألفها البشر، وإن كان جلُّ ما فيها من كلام النبوة، وكلام النبوة وحي، كما قال -تعالى-: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [(3- 4) سورة النجم].

فهما أصح الكتب بالإجماع، والمفاضلة بين الصحيحين مسألة معروفة، والجمهور على أن البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد؛ ولذا يوصى طالب العلم أن يكون ديدنه ومحور بحثه البخاري، ويضيف إليهما ما في الكتب الأخرى من الزوائد، وينظر من وافقه من الأئمة, فيضيف إليه صحيح مسلم، ويضيف أبا داود، ثم بعد إذا كمل صحيح البخاري يكون لديه حصيلة ورصيد كبير من سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- من أصح الكتب.

ثم بعد ذلك صحيح مسلم، وكثير من أهل العلم يُعنى بمسلم أكثر من البخاري باعتبار أن خدمته أسهل، يعني معاناة صحيح مسلم أسهل من معاناة صحيح البخاري، البخاري يفرق الأحاديث، الحديث الواحد في سبعة مواضع كما هنا، وقد يزيد إلى عشرين موضعًا، فحديث جمل عن جابر -رضي الله عنه- خرجه البخاري في أكثر من عشرين موضعًا. فجمع شتات هذه المواضيع لا شك أنه فيه كَلَفة على طالب العلم، وإن كانت الخدمات الموجودة في خدمة الأطراف ميسرة.

فيكون البخاري هو الذي يعوَّل عليه، ويعتمد عليه، ويضاف إليه الزوائد من غيره كمسلم، والسنن الأربع وغيرها. بعضهم يقول: "لا نُعنى بمسلم؛ لأنه يجمع لك الحديث الواحد بطرقه في موضع واحد، فيسهل عليك أن تنظر في الحديث، ثم تأتي بما زاده البخاري، وكان العمل عند الحفاظ على هذا يعنون بمسلم، ثم يضيفون إليه زوائد البخاري"، لكن أقول: هذا عكس المطلوب، أهم شيء البخاري لأنه أصح، ثم تضيف إليه. تبقى على صحيح البخاري؛ لأن التراجم فقه، فقه متين، فقه نفيس، وتزيد تضيف إليه ما في الكتب الأخرى، بعضهم يقول: إن مسلم أدق في تحرير العبارات، فتجد مسلمًا يقول: حدثنا فلان وفلان، واللفظ لفلان، البخاري ما يقول مثل هذا الكلام، فلماذا لا نعتني بصحيح مسلم؛ لأنه أدق في تحرير الألفاظ، وأحيانًا يقول، زاد فلان كذا، زاد فلان كذا كلمة أو حرف، يعني بهذا العناية الفائقة؟

البخاري ما يلتفت إلى "حدثنا فلان، وفلان، واللفظ لفلان"، وعُرف بالاستقراء من صنيعه أن اللفظ للأخر منهما للثاني من الاثنين، لكن مسلم يبين بدقة اللفظ لفلان، وفلان وفلان، كلهم عن فلان، واللفظ لفلان، ما يمر حديث وإلا ويقول فيه مثل هذا، إذا اشترك في روايته أكثر من واحد، وإذا لم ينبه فالذي يغلب على الظن أنهما اشتركا في لفظهما اللفظ لهما جميعًا، بدليل أنه ينبه على الدقائق، لماذا لا نعنى بمسلم إذا كان بهذه المثابة، ونضيف إليه زوائد البخاري؟ أنا أقول: تبقى العناية بالبخاري. إذًا مسلم ما له مزية في بيان صاحب اللفظ، مسلم يبين لفظ شيخه الذي حدثه، "حدثنا فلان عن فلان، واللفظ لفلان"، ولكن مسلم كالبخاري يجيز الرواية بالمعنى، فالذي فوق شيخ مسلم يستوي مع ما صنعه البخاري، ليس في بيان مسلم غير أنه يبين لفظ أحد شيخيه، وما عدا ذلك لا يبين ولا يستطيع بيانه، فإنه لم يسمعه ممن فوق الشيخ، فهو يستوي في هذا مع البخاري، وكلهم يشتركون في الراوية بالمعنى فلا مزية لمسلم من هذه الحيثية على البخاري.

ظاهر أو ليس بظاهر؟ يعني مسلم حينما يبين صاحب اللفظ من شيوخه، لكنه لا يستطيع أن يبين صاحب اللفظ في جميع طبقات السند، وإذا بين صاحب اللفظ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وقتيبة بن سعيد واللفظ لقتيبة مثلًا، طيب هذا لفظ قتيبة الذي حدثك به، لكن هل هذا لفظ الرسول-عليه الصلاة والسلام-؟ لا ليس بلفظ الرسول؛ لأن العلماء أجازوا الرواية بالمعنى، فالمسألة مسألة احتمال، ونرجع إلى أنهما مستويان في هذا، يعني كون المسلم يُعنى ببيان لفظ شيخه لا شك أن هذا من دقته وتحريه، ومن حيث الفائدة العملية يدل على أن مسلم ضبط الحديث وأتقنه بدليل على أنه نبه على صاحب اللفظ، لكن لا يدل على أن جميع الرواة أدوه بلفظ النبي -عليه الصلاة والسلام- فينتبه لهذا.

وسمعتُ من يقرر ترجيح صحيح مسلم من هذه الحيثية، وأقول: هذه الحيثية لا تقتضي الترجيح، ما دام مسلم يوافق البخاري، ويوافق على جواز الرواية بالمعنى بشروطها المعروفة عند أهل العلم هم سواء في هذا.

"أصح الكتب المصنفة" هذا أمر متفق عليه، وصحيح البخاري عند الجمهور أصح من صحيح مسلم، وصحيح مسلم يليه ولا واسطة بينهما، وبعض المغاربة مع أبي علي النيسابوري فضلوا صحيح مسلم في نزاع طويل، واستدلالات كثيرة، لكن عامة أهل العلم على ترجيح صحيح البخاري.

أول من صنف في الصـحيـح

ومســلم بــعد وبعض الغرب مع
 

 

محمد وخــــص بـــالــترجيـح

أبي علي فضلوا ذا لو نفع
 

لكنه لم ينفع؛ لأن الصحة مردها إلى صحة الأسانيد واتصالها، وثقة الرواة، ونظافة المتون ولا شك أن البخاري في هذا الباب أدخل، بدليل أن من انتقد -سواء من الرجال من الرواة، أم من الأحاديث- في صحيح مسلم أكثر ممن انتقد في صحيح البخاري.

تشاجر قوم في البخاري ومسلم لدي
فقلت: لقد فاق البخاري صحة

 

 

وقالوا: أي ذين تفضلوا أو تقدموا
وفاق في حسن الصناعة مسلم

 

مسلم يُفَضَّلُ في حسن الصياغة الصناعة، وترتيب المتون والأسانيد -يعني دقة متناهية-، دقة متناهية، يعني صاحب البصيرة يعني من له يد في هذا الشأن، إذا قرأ في صحيح مسلم يذهل حتى أن مسلم -رحمه الله- ذهل في كتاب مواقيت الصلاة من صحيحه في أثناء الكتاب ذكر كلامًا.

ولا يستطاع العلم براحة الجسم؛ لأن هذه أمور: السياق، وترتيب المتون، والأسانيد، وجودة التصرف هذه ما تأتي من فراغ، ما تأتي لشخص إذا صلى العشاء التفت يمينًا وشمالًا, وذهب إلى فلان وعلان وسهر عنده إلى قرب الصباح، ثم صلى الصبح ونام.

ما يأتي العلم بهذه الطريقة، بل يأتي العلم بالسهر عليه، وصرف الجهد، وبذل نفيس الأوقات على العلم، ومعاناة العلم، فعلى طالب العلم أن يعنى بهذا ويهتم به، ويجعل الصحيحين بعد القرآن ديدنه، وتكون دراسته للبخاري، ثم يضم إليه ما زاده الإمام مسلم، ثم ما زاده أبو داود وهكذا، في طريقة شرحناها وبيناها في مناسبات كثيرة من أراد الإفادة منها يرجع إليها.

 

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.