كتاب الحدود من المحرر في الحديث - 03

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين، وبارك لنا في شيخنا، وبارك في عِلمه وعمله.

قال الإمام ابن عبد الهادي –يرحمه الله تعالى-: "باب حد القذف".

"عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: سمعت أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ» متفقٌ عليه، وقال النسائي: هذا حديثٌ جيد.

وعن عائشة –رضي الله عنها- قالت: لما نزل عذري قام النبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، فذكر ذلك وتلا القرآن، فلمَّا نزل أمر برجلين وامرأة، فضُرِبوا حدَّهم. رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من حديث ابن إسحاق".

 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أما بعد:

فيقول المؤلف –رحمه الله تعالى- في كتاب "الحدود"، وهذا هو الباب الثاني من أبواب هذا الكتاب، وقد مضى باب حد الزنا، وثنَّى المؤلف –رحمه الله تعالى- بباب حد القذف؛ لِما له من علاقةٍ بالزنا؛ لأن القذف في اللغة هو الرَّمي، وفي اصطلاح أهل العلم: اصطلاح المتشرعة والشرع: قذف المحصنة والمحصن بالزنا واللواط؛ لأن حكم اللوطي حكم الزاني عند أهل العلم، فمن قذف محصنةً -والقذف قذف المحصنات الغافلات المؤمنات- من الموبقات السبع –نسأل الله العافية-، وفي حكمها قذف الرجل المحصن المؤمن الغافل العفيف البعيد عن هذه الأمور شأنه عظيم، وأمره خطير، فرُتِّب عليه الحد، ورُتِّب عليه الوعيد الشديد باللعن، وجاء في حديثٍ فيه كلامٌ لأهل العلم «أن قذف محصنة يُحبط عمل ستين سنة»، والحديث ضعيف، لكن الأمر ليس بالسهل، فالقذف من كبائر الذنوب، ومن الموبقات السبع.

 وبعض الناس تعود أن يُطلق لسانه في الخلق، وقد لا يكون في أول أمره مما يتعاطى، هذا الأمر الخطير، لكنه يتساهل في أول الأمر بإطلاق العنان للسان، فيقع في الغيبة والكلام في أعراضهم، وقد يقع في النميمة، ثُم بعد ذلك السيئة تقول: أختي..أختي، فيجره ذلك إلى أن يقذف بالزنا أو باللواط أو ما أشبه ذلك.

وبعض الناس يُطلق الكلام بناءً على غلبة ظنه، وهذا أمرٌ لا يجوز في حقوق العباد لابد من اليقين ولاسيما في هذا الباب الذي يترتب عليه ما يترتب.

"باب حد القذف" حد القذف ثابت بالكتاب والسُّنَّة، وإجماع أهل العلم في الجملة، فحدُّه ثمانون جلدة {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] فرُتِّب على القذف ثلاثة أمور:

الأول: الجلد ثمانين جلدة.

الأمر الثاني: ردُّ الشهادة أبدًا.

الأمر الثالث: الحكم عليهم بالفسق.

ثُم قال –جلَّ وعلا-: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5] وهذا الاستثناء مُتعقبٌ لثلاث جُمل، فهل يعود هذا الاستثناء إلى جميعها، أو إلى بعضها لاسيما الأخير؛ لأنه أقرب مذكور؟ أما الأول فلا يتناوله الاستثناء إجماعًا، بل يتحتم جلده ثمانين جلدة، ولو تاب.

الأمر الثاني: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4] إذا تاب القاذف، هل تُقبل شهادته أو لا تُقبل؟ الله –جلَّ وعلا- يقول: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، ومقتضى التأبيد أنه يستمر لا تُقبل شهادتهم، ثُم جاء الاستثناء {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5]، وقبول الشهادة له ارتباطٌ بالعدالة، وردُّ الشهادة له ارتباطٌ بالفسق {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]، والاستثناء في قوله– جلَّ وعلا-: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5] بالاتفاق يعود إلى الأخير لا يعود إلى الأول بالاتفاق، ويعود إلى الأخير اتفاقًا، ويرتفع عنه حينئذٍ الوصف.

والخلاف في عودِه إلى الجملة الثانية، هل تُقبل شهادته أو يتحتم ردُّها؟ خلافٌ بين أهل العلم، والذي يؤيد قبول الشهادة ارتباط رد الشهادة بالفسق {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] ارتباط رد الشهادة بوصف الفسق، وقد ارتفع عنه الوصف اتفاقًا، فإذا ارتفع الوصف قُبِلت شهادته؛ ولهذا المُرجَّح أنه تُقبل شهادته، ويرتفع عنه الوصف بالفسق، وأما جلده فهو مُتحتم؛ لأنه من حقوق العباد التي لا تُسقطها التوبة.

"عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: سمعت أبا القاسم" هذه كُنية النَّبي –صلى الله عليه وسلم- هذه كُنيته -عليه الصلاة والسلام-.                

"سمعت أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-" وقد جاء النهي عن تكنية من اسمه محمد بأبي القاسم، يعني: الجمع بين الاسم والكُنية «تَسَمُّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكَنُّوا بِكُنْيَتِي» قالوا: السبب في ذلك أن رجلاً دعاه قال: يا محمد، فالتفت كل من اسمه محمد، ثُم قال: يا أبا القاسم، فالتفت من كُنيته أبو القاسم، فجاء النهي عن الجمع بينهما.

"سمعت أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم- يقول" يعني: حال كونه يقول: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، مما يدل على أنه لا يُقام عليه الحد في الدنيا، تقدَّم الحديث «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ, فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ, وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا, ثُمَّ إِذا زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ, وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا, ثُمَّ إِذا زَنَتِ» قال: في الثَّالِثَةَ أو الرَّابعة: «فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بضفير» في حد الزنا يُقيم عليها الحد، وهنا المستحق للحد السيد «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ» من المُلاك، من السيد «يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» لماذا؟ قالوا: إنه في الغالب لا يقذف مملوكه إلا وهو صادق؛ لأنه إذا قذف مملوكه وهو كاذب -وبهذا يستحق إقامة الحد لو كان غير مملوكه لو قذفه- إذا قذفه نزلت قيمته، ويلزمه أن يُقيم عليه حدُّ الزنا، ثُم تنزل قيمته، فهو متضررٌ بذلك -أعني السيد متضرر بذلك- ولذا يجعله هذا الضرر اللاحق به يتحرى، ولا يقذف إلا عن صدق وبينة إنه مستحقٌ للقذف. «يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» حد القذف؛ لأنه الأصل أن يُقام عليه الحد في الدنيا، ولكن مادام المقذوف مملوكًا له، والمظنون به أن يتحرى في قذفه؛ لئلا يتضرر، فرُفِع عنه هذا الأمر، فإن كان كاذبًا أُقيم عليه الحد يوم القيامة.

«إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ» يعني: يكون زانيًا بالفعل "متفقٌ عليه" الحديث متفقٌ عليه في الصحيحين في البخاري ومسلم، "وقال النسائي: هذا حديثٌ جيد" يعني: قد يقول قائل: مادام الحديث متفقًا عليه، هل نحتاج إلى قول النسائي هذا حديثٌ جيد؟ أولاً: الإمام النسائي من الجهابذة نَقاد خبير، وصاحب تحرٍّ وتثبُّت، فكونه يقول كلامًا يوافق كلام الشيخين يُستفاد منه في الجملة، وإلا يُمكن أن يُقال: لماذا لا نكتفي بالبخاري مادام الحديث في البخاري، لماذا نذكر مسلمًا؟ وهكذا تتسلسل، "قول النسائي: هذا حديثٌ جيد" وجيد عند أهل العلم كما قرره ابن حجر وغيره بمعنى: صحيح، وحَكم الترمذي في جامعه على ثلاثة أحاديث قال في كل واحدٍ منها: هذا حسنٌ جيد، يعني: في مقابل حسن صحيح. حسنٌ جيد كأنه قال: حسنٌ صحيح.

يقول الحافظ ابن حجر: هي بمنزلة الصحيح، لكن الجهبذ لا يعدل عن كلمة صحيح إلا لنكتة، وعلى كل حال الحديث متفقٌ عليه مُخرَّجٌ في الصحيحين، فجاز القنطرة، «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا» أو باللواط فإنه «يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يعني: إذا لم يكن صادقًا في قذفه «إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ» يعني: زانيًا بالفعل أو عمِل عمل قوم لوط بالفعل.

"وقال النسائي: هذا حديثُ جيد".

الحديث الثاني: "وعن عائشة –رضي الله عنها- قالت: لما نزل عذري" تعني: براءتها مما قذفها به أهل الإفك. في أوائل سورة النور بعد الكلام على الزنا وحكم الزُّناة، والقذف واللعان ذُكِرت آيات تُبرئ عائشة نزلت من فوق سبع سموات في آياتٍ تُتلى إلى يوم القيامة.

تقول: "لما نزل عذري" نزلت براءتها من السماء "قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، فذكر ذلك" ذكر القصة. "وتلا القرآن" الذي يُبرئها من فوق سبع سموات، "فلمَّا نزل أمر برجلين" وهما: حسان بن ثابت، ومُسطح بن أثاثة، "وامرأة" هي: حمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش، "فضُرِبوا حدَّهم" هؤلاء؛ لأنهم تكلموا بصراحة.

والحديث مُتكلَّمٌ فيه عند أهل العلم؛ ولذا يقول المؤلف –رحمه الله تعالى-: "رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من حديث ابن إسحاق" ابن اسحاق حديثه حسن إذا صرَّح بالتحديث، وأكثر الطرق عن ابن إسحاق ليس فيها تصريح، وقد ورد تصريحه بالتحديث من طريق راوٍ ضعيف؛ ولذا بعضهم يُضعِّف الحديث، وبعضهم يقول: لتعدد طرقه قد يرتقي إلى الحسن لغيره؛ ولذا "قال الترمذي: حديثُ حسنٌ غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن إسحاق".

حسان –رضي الله عنه- هو الذي مدح عائشة:

حَصَانٌ رَزَانٌ لا تُزَنّ بِرِيبَةٍ

 

 

وتُصْبِحُ غَرْثَى من لحومِ الغوَافِلِ

 

هو الذي مدح عائشة بهذا –رضي الله عن الجميع- وعلى كل حال كونه وقعت منه هذه الهفوة إن ثبت الخبر، فالحدود كفارات.

وأما حمنة فكانت تتحدث وتقذف، وهذا شأن الأتباع. زينب بنت جحش هي التي تقارب عائشة وتنافسها في الحظوة عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم- تقول: "هي التي تُساميني" (تُقاربني) والمنافس الأصل أنه هو الذي يحاول التخفيف من قيمة منافسه –هذا الأصل-، لكن الدِّين حماها، وهذه عادة الكبار تجد الأئمة وإن كان بينهم خلاف في الاجتهاد، لكن لا يكون بينهم ما يصل إلى القلوب بحيث يتكلمون في أعراض بعض أبدًا، إنما يقع هذا من الأتباع، والشاهد حديث الباب، يعني حمنة تكلمت في عائشة، فتجد الأتباع يتحمسون للانتصار لمتبوعيهم أكثر من المتبوعين أنفسهم؛ لأن المتبوعين في الغالب علماء كبار يحميهم الدِّين والعلم، وأما الأتباع– هذا في كل شيء في كل النواحي الدِّينية والدُّنيوية إذا اختلف اثنان وصار لهذا تبع، ولهذا تبع، تجد هؤلاء الأتباع يتحارشون شيخنا كذا، وشيخكم كذا.

 وهذا كثير لاسيما الآن في وسائل التواصل تجد القدح في أهل العلم؛ لا لشيء إلا لأنه قيل كلمة: فلان أعلم من فلان، ثُم تجد أتباع فلان يقعون في فلان، ثُم أولئك يزيدون وهكذا، فهذا في الغالب من الأتباع، وأما الكبار فلا يقع منهم ذلك، يرد بعضهم على بعض، يختلفون في الاجتهاد، ويُبينون الحق، لكن مع ذلك إذ وقع بين الصحابة اختلاف في كثيرٍ من المسائل العلمية، لكن هذا الاختلاف لا يصل إلى القلوب.

على كل حال مسطح بن أُثاثة قريبٌ لأبي بكر، وأبو بكر والد عائشة –رضي الله عن الجميع- لَمَّا قال مسطح ما قال، وكان يُنفق عليه أبو بكر، حلف ألا يُنفق عليه، فأنزل الله –جلَّ وعلا-: {وَلَا يَأْتَلِ} [النور:22] يعني: لا يحلف {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} [النور:22] أبو بكر الذي أثر فيه {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] بعد اليمين الذي قطعها على نفسه ألا يُنفق على مسطح أثر فيه قول الله –جلَّ وعلا-: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] قال: بلى أحب أن يغفر الله، فأعاد النفقة.

فهؤلاء الثلاثة حُفِظ عنهم القذف، إن صح الخبر فهو قذفٌ صريح، وإن لم يصح الخبر فالكلام عنهم محفوظ، قد يكون صريحًا أو غير صريح. المقصود أن النَّبي –عليه الصلاة والسلام- سمع الخبر من جمع من المسلمين المؤمنين، ومن المنافقين أكثر {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} [النور:11] من المنافقين عبد الله بن أُبي بن سلول {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11]، نسأل الله العافية.    

قد يقول قائل: لماذا يُحد هؤلاء ويُترك {الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} [النور:11]؟ هناك إجابات ذكر منها ابن القيم عددًا منها: أن الحدود كفارات، وهؤلاء لا تُكفر ذنوبهم الحدود؛ لأن المنافق كافر في الحقيقة، ويفعل ويقول أشياء تقتضي خلوده في النار، بل في الدرك الأسفل من النار، فسواءٌ أُقيم عليه الحد أو لم يُقم عليه لا يستفيد ولا ينتفع بذلك.

منهم من يقول: إن هؤلاء لا يُصرِّحون يأتون بالقضية أو بالقصة بأساليب تُفهِم السامع ولا تلزمهم بشيء، بأساليب ماكرة كما هي عادتهم {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] بأساليب ماكرة لا تُلزمهم الحد، بل بتعريض وكنايات، ويستوشون الأخبار ويجمعونها، ويبثونها في الناس من غير أن يثبت عنهم ما يوجب الحد إلى غير ذلك مما قيل في حق هؤلاء.

ثُم قال -رحمه الله-..

اقرأ

قال –رحمه الله-: "بَاب حد السَّرقَة"

"عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «لعن الله السَّارِق يسرق الْبَيْضَة فتُقطع يَده، وَيسْرق الْحبل فيُقطع يَده»

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  قطع في مجنٍ ثمنه ثلاثة دراهم. متفقٌ عليهما.

وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لَا تُقطع يَد السَّارِق إِلَّا فِي ربع دِينَار فَصَاعِدًا».

وعنها –رضي الله عنها-: أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يُكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالوا: ومن يجترأ عليه إلا أسامة حِب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكلمه أسامة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَتَشفع فِي حد من حُدُود الله؟!» ثمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ: «أَيهَا النَّاس إِنَّمَا أهلك الَّذين قبلكُمْ، أَنهم كَانُوا إِذا سرق فيهم الشريف تَرَكُوهُ، وَإِذا سرق فيهم الضَّعِيف أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَد، وَايْم الله لَو أَن فَاطِمَة بنت مُحَمَّد سرقت لَقطعت يَدهَا» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ لمُسلم.

وله: كانت امرأةٌ مخزوميةٌ تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقطع يدها.

وعن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَيْسَ عَلَى خائنٍ وَلَا منتهبٍ وَلَا مختلسٍ قطع» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والنسائي، والترمذي وصححه، وقد أُعِل.

وعن أبي أمية المخزومي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوتي بلصٍ قد اعترف اعترافًا ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «مَا إخالك سرقت؟» قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثًا، فأمر به فقُطع، وجيء به، فقال: النَّبي –صلى الله عليه وسلم-: «اسْتغْفر الله وتُب إِلَيْهِ» فقال: أستغفر الله وأتوب إليه. فقال: «اللَّهُمَّ تب عَلَيْهِ» ثَلَاثًا. رواه أحمد، وأبو داود وهذا لفظه، والنسائي، وابن ماجه.

وعن رافعٍ بن خديج –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لَا قطع فِي ثَمَرٍ وَلَا كثر» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي، وأبو حاتم البُستي، ورجاله رجال الصحيحين.

وعن المِسور بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن عوفٍ –رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا يُغرَّم صَاحب سَرقَةٍ إِذا أُقيم عَلَيْهِ الْحَد» رواه النسائي وقال: هذا مرسلٌ وليس بثابت، وقال أبو حاتمٍ: حديثٌ منكرٌ وهو مرسل، وتكلم فيه ابن عبد البَر، والبيهقي وغيرهما".

يقول المؤلف –رحمه الله تعالى-: "باب حد السرقة" السرقة أخذ المال الذي يبلغ النِّصاب خُفية لا علانية، ويكون المال مُحرزًا في حِرز؛ لأنه إذا أخذه علانية صار مُنتهبًا، وإذا لم يبلغ النِّصاب فسيأتي أنه لا قطع إلا في ربع دينارٍ فصاعدًا، وأن يكون من حِرز، وسيأتي الكلام في الشروط عبر شرح الأحاديث، إن شاء الله تعالى.

قال –رحمه الله-: "عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «لعن الله السَّارِق يسرق الْبَيْضَة».

 اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وما فيه لعن مُصنَّفٌ عند أهل العلم من الكبائر.

"عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لعن الله السَّارِق»" الجنس، واللعن على العموم يختلف عن تنزيله على الأفراد، ما تقول لسارق: لعنك الله، ولا تلعن متبرجةً بعينها، ولمَّا لُعِن الشَّارب بعينه نهاه النبي -عليه الصلاة والسلام- وقال: «لا تكن عونًا للشيطان على أخيك»، على كل حال اللعن المُجمل لا يعني لعن الأفراد، «لعن الله السَّارِق» يعني: جنس السارق، الجنس لا سارق بعينه.

وهذا يردنا إلى الباب السابق قذف الجنس أو الجمع هل يأخذ حكم قذف الفرد، بدلاً من أن يقول: فلان زنا أو فلانة زنت، يقول: أهل البلد الفلاني زُناة، فهل يُحتاج في مثل هذا أن يُحد حد القذف، كما لو قذف شخصًا بعينه أو يكون الأمر أشد أو يكون الأمر أخف؟ بعض العلماء يقولون: لا يُحد وإن عُزِّر؛ لأن دعواه مقرونة بما يُكذبها، فلا يُمكن أن يُصدَّق بأن أهل البلد كلهم زُناة، وإذا بطل في بعضهم بطل في البعض الآخر، وبعضهم يقول: يستحق التعزير، وقذف الجماعة أعظم من قذف الواحد.

إذا قذف مجموعةً يشملهم وصفٌ شرعي يُمدَحون به، بعضهم يُطلق لسانه في أهل الخير عمومًا في أهل الحسبة مثلاً في جملتهم، أو في التحفيظ مُعلمين ومتعلمين، وهم ليسوا بمعصومين، قد يحصل من بعضهم الهفوة، ولكن العادة والسُّنَّة جرت من أمثال هؤلاء المنافقين أنهم يُعممون الأحكام في أهل الخير؛ ولذا قال قائلهم:

لقد بَاعَ شَهْرٌ دينَهُ بِخَرِيطةٍ

 

 

فمَنْ يَأمَنْ القُراءَ بعدكَ يا شَهْرُ

 

كل القراء غير مأمونين، وهو واحد إن ثبتت القصة.

فمَنْ يَأمَنْ القُراءَ بعدكَ يا شَهْرُ

 

وقد يحصل هذا -على سبيل الافتراض- من  بعض المنتسبين إلى رجال الحسبة خطأ فيلوكه المنافقون على أن جميع أهل الحسبة هكذا، وقد يحصل من بعض طلاب أو مدرسي حلقات تحفيظ القرآن خطأ فيلوكه المنافقون على أنهم كلهم هكذا كما قيل: "فمَنْ يَأمَنْ القُراءَ" كل القراء هكذا في هذا البيت، ولاشك أن الذي يُعمم مثل هذه العمومات في حق من صبغته شرعية، وعداوته له بسببها لا شك أن هذا منافق النفاق الاعتقادي. الذي يقذف رجال الحسبة بسبب ما يقومون به من الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي شرفهم الله به، وشرَّف به هذه الأمة هذا برهانٌ على أن في قلبه مرضًا، وقل مثل هذا فيمن يقذف طلاب الحلقات أو مدرسيها بالجملة، ولا يمتنع أن يوجد الخطأ من واحد أو اثنين أو أفراد كما يحصل من غيرهم.

«لعن الله السَّارِق يسرق الْبَيْضَة فتُقطع يَده» سيأتي أن اليد لا تُقطع إلا في ربع دينارٍ فصاعدًا، البيضة قيمتها أقل بكثير من ربع الدينار مع أن هذا يختلف باختلاف الظروف والأحوال قبل خمسين سنة يقولون: في اليمن عشر دجاجات بريال، والآن البيضة بمئات الريالات، لا شك أن الظروف والأحوال تختلف، في بعض الأحوال ينطبق الحديث على الواقع «لعن الله السَّارِق يسرق الْبَيْضَة» فتكون قيمتها ربع دينار وما يمنع من ذلك.

 ومنهم من يقول: إن المراد بالبيضة الخوذة التي توضع على الرأس لتقي من السلاح، وقيمتها أكثر من ربع دينار، وبعضهم يقولون: هذا الذي ابتدأ بسرقة البيضة واستحق اللعن لاشك أنه سوف يسترسل، وتكون السرقة عادة له حتى يسرق ما يبلغ النِّصاب فتُقطع يده.

«وَيسْرق الْحبل فتُقطع يَده» يُتَصور أن يسرق حبلًا لفة كبيرة تصل ربع دينار فأكثر أو يقولون: حبل السفينة كما قيل في البيضة الخوذة، أو أنه في البداية يسرق حبلاً لا تبلغ قيمته النِّصاب، ثُم بعد ذلك يتدرج في السرقة إلى أن يسرق ما تُقطع به يده.

على كل حال الحديث متفقٌ عليه ولا إشكال فيه، ولا يُمكن أن يُعارض حديث «لَا تُقطع اليد إِلَّا فِي ربع دِينَار فَصَاعِدًا» فلابد من التوفيق والجمع، وبعضهم يقول: إنه حديث محمولٌ على المبالغة، فالسارق الذي خفَّت يده حتى يسرق، صار يسرق الأشياء الصغيرة ويُلعن عليها، لا يلبث أن يتدرج في سرقته حتى يسرق الأشياء التي تُقطع بها يده.

"وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  قطع في مجنٍ" تُرس يُتقى به "ثمنه ثلاثة دراهم".

"قطع في مجنٍ" يعني: في سرقة مجن "ثمنه ثلاثة دراهم". المجن: التُّرس الذي يُتقى به السلاح.

فَكانَ مِجَنّي دونَ مَن كُنتُ أَتَّقي

 

 

ثَلاثُ شُخوصٍ كاعِبانِ وَمُعصِرُ

 

يسمونها دروعًا بشرية، ويتقي بها الثلاثة –الحريم- نساء، المقصود أن المجن ما يُتقى به، وهذا المجن الذي سُرِق في عهده –عليه الصلاة والسلام- "ثمنه ثلاثة دراهم. متفقٌ عليهما.

وفي الحديث الذي يليه "وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لَا تُقطع يَد السَّارِق إِلَّا فِي ربع دِينَار فَصَاعِدًا»" الحديث الأول: حديث ابن عمر يُستدل به على أن النِّصاب في السرقة للقطع ثلاثة دراهم، والثاني: حديث عائشة يدل على أن النِّصاب ربع دينار فصاعدًا. في عصره -عليه الصلاة والسلام- هما متفقان ثلاثة دراهم هي ربع دينار؛ لأن صرف الدينار اثنا عشر درهمًا، فلا اختلاف بينهم، لكن إذا اختلف الصرف نزلت قيمة الفضة، فصار الدينار خمسة عشر درهمًا أو ارتفعت الفضة، فصار الدينار عشرة دراهم، فما الذي يُعمل به، هذا سرق ربع دينار، لكنه لا يُساوي إلا درهمين ونصفًا يُقطع أو لا يُقطع؟

منهم من يقول: الأصل الذهب، فإذا بلغ ربع دينار قُطِع ولو لم يُساوِ هذا الربع إلا درهمين فإنه يُقطع؛ لأن حديث عائشة «لَا تُقطع يَد السَّارِق إِلَّا فِي ربع دِينَار فَصَاعِدًا» نص على أن المراد أن ما دون ربع الدينار لا قطع فيه، وأما حديث المجن في حديث ابن عمر "قطع في مجنٍ ثمنه ثلاثة دراهم" جاء في بعض الروايات أن ثمنه عشرة دراهم، فكونه "قطع في مجنٍ ثمنه ثلاثة دراهم" حكاية واقع، وليس فيها حصر، لكن حصل أن اتفق الأمر على قيمة الثلاثة دراهم، وأنها موازية ومُعادلة لربع الدينار؛ لأن الدينار اثنا عشر درهمًا في ذلك الوقت، وقد يزيد وقد ينقص الصرف كما هو الواقع في العملات الحالية، الآن الذهب ترتفع قيمته تنزل، والفضة كذلك، فالتحديد في حديث عائشة جعل جمعٌ من أهل العلم يرون أن الأصل الذهب، وأما الفضة فهي تابعةٌ له.

ومنهم من يرى أن الأصل الفضة، وكون الصرف في عهده –صلى الله عليه وسلم- الدينار اثني عشر درهمًا حتى في الديات قالوا: الدية ألف مثقال من الذهب أو اثنا عشر ألف درهم من الفضة، فعلى هذا من اعتمد هذه الأرقام بالنسبة للذهب والفضة يَرِد عليه ما إذا اختلف الصرف هل المعتبر الذهب أو المعتبر الفضة؟ لاشك أن حديث عائشة في تحديد النِّصاب أقوى من حديث ابن عمر أنه "قطع في مجنٍ ثمنه ثلاثة دراهم".

الحنفية، وسفيان الثوري، وبعض العلماء يرون أن النِّصاب عشرة دراهم، وهذا من باب الاحتياط؛ لأنه إذا اختُلف فيما تقطع به اليد هل هو ثلاثة أو عشرة الاحتياط ليد لمسلم أن يُجعل النِّصاب هو الأعلى، لكن (إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل) فكون المجن قيمته ثلاث دراهم لا شك أنه أصح بكثير؛ لأنه في الصحيحين، وأما قيمة عشرة دراهم ليس بواحدٍ منها.

بعض الملاحدة، والمعري اعترض على الحكم وقال:

يدٌ بِخَمْسِ مِئِين من عَسجدٍ وُديت

 

 

ما بالها تُقطع في ربع دينارِ

 

يعني: ديتها خمسمائة دينار نصف الألف الذي هو الدية الكامل، لها نصف الدية اليد.

ما بالها تُقطع في ربع دينارِ

 

رُدَّ عليه:

عزُّ الأمانة أغلاها وأرخصها

 

 

ذُلّ الخيانة فافهم حكمةَ الباري

 

لا اعتراض على ما شرعه الله –جلَّ وعلا-؛ لأن الأصل في المسلم الاستسلام لِما جاء عن الله، وعن رسوله –عليه الصلاة والسلام- فقال: «لَا تُقطع يَد السَّارِق إِلَّا فِي ربع دِينَار فَصَاعِدًا» يقولون: الفاء تعطف مُقدَّرًا، يعني: فذهب العدد صاعدًا، يعني: أكثر من ربع الدينار.