كتاب الجامع من المحرر في الحديث - 14

... وفي الكتاب الجامع حديث معاوية، كم بقي من الوقت؟

طالب: .......

طيب، حديث معاوية بن أبي سفيان وهو في الصحيحين متفق عليه -رضي الله عنه- (قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين»)، في رواية البخاري: «وإنما أنا قاسم، والله المعطي، ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة».

«من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين»، خير نكرة في سياق الشرط، فتعم جميع أنواع الخير، والإرادة صفة ثابتة لله -جل وعلا- متفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها، وجاءت بها النصوص بالكتاب والسنة.

«من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين»، الفقه هو الفهم، والمراد بالدين جميع أبوابه، ليس المراد به الأحكام على وجه الخصوص، لا، كما هو العرف الجاري عند أهل العلم أن الفقه يطلق على الأحكام من العبادات والمعاملات والمناكحات والجنايات الأربعة المعروفة عند أهل العلم، هذا هو الفقه في مقابله العقيدة، في مقابله الحديث، في مقابله التفسير، ويقابله غيرها من الفنون، يعني عند المقابلة يحمل على هذا، لكن الأصل أن الفقه في الدين جميع الأبواب، في الدين يعني في جميع أبوابه، والفقه الأصل فيه الفهم، {يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 28] يعني يفهموه، و«يفقه» يعني يفهم، و«الدين» مثلما قلنا في جميع أبوابه كما في حديث جبريل لما سأل النبي- عليه الصلاة والسلام- عن الإسلام والإيمان والإحسان قال بعد ذلك: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم»، فالدين شامل لجميع الأبواب.

ومما يؤسف له أن بعض طلاب العلم يهتم بالفقه الذي هو أحكام الفروع ولا يرفع، رأسًا بغيرها من أبواب الدين، كم الإنسان بحاجة ماسة إلى أبواب الإيمان وأبواب العلم وأبواب السير والمغازي والتفسير وأبواب الرقاق والمواعظ، كم الإنسان بحاجة إلى ذلك، الإنسان بحاجة ماسة إلى ذلك، يعني متى حصل الخلل في صفوف المتعلمين إلا بإهمالهم بعض أبواب الدين؟ كتاب الرقاق من صحيح البخاري يتعين على كل طالب علم أن ينظر فيه ويهتم به؛ لأنك عرفت الأحكام، لكن ما الذي يحدوك ويلزمك العمل بهذه الأحكام، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يهتم بهذا الجانب كثيرًا، فتجده إذا ذكر حكمًا بيَّن ما يقتضي الاهتمام به والعمل بشأنه.

 يعني سورة الحج مطلعها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الحج: 1]، ما تجد في المناسك من يشير إلى مثل هذا، يذكرون الأحكام أحكام الحج من الشروط والأركان والواجبات والسنن والمحظورات، ويدخل الطالب ويقرأ ويطلع يعرف كيف يطبق الحج، لكن تحقيق الهدف الذي هو تقوى الله -جل وعلا-: {لِمَنِ اتَّقَى}، تجد الناس في غفلة عنه، {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} يعني يرتفع عنه الإثم، {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} سواء تعجلت أو تقدمت، ما عليك إثم، يرتفع عنك الإثم بشرط: {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]، ما نأخذ أحكامًا جافة ما تلامس القلوب.

فالفقه في الدين يجب أن يكون بجميع أبوابه؛ من أجل أن يصل إلى القلب، ويلج إلى القلب فيتأثر، فيورث خشية الله -سبحانه وتعالى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، تجد بعض العوام أقرب وأسرع دمعة من بعض طلاب العلم، لماذا؟ لوجود الخلل في طريقة التعلم.

«من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين»، مفهومه أن الذي لم يتفقه في الدين أن الله ما أراد به خيرًا، لكن هل هذا المفهوم مراد أو أن هناك واسطة بين من أراد فيه الخير ومن لم يرد به الخير؟ لأنه يوجد في عوام المسلمين ممن لم يتفقه أراد الله به خيرًا في أبواب أخرى، تجده من الأغنياء، ويبذل أمواله في سبيل الله، هذا لا شك أن الله أراد به خيرًا، لم يفقه في الدين، فقهه في هذا الباب وهذا الباب من الدين، وقل مثل هذا فيمن لهم جهود مباركة وطيبة، ولم يتفقهوا في الدين.

 فعلى كل حال كل ميسر لما خلق له. شخص يلازم المسجد في رمضان، ولا يخرج وبيده كتاب الله ليل نهار، يأتيه شخص يقول: هيا بنا إلى البراري التي يجتمع فيها الشباب نوزع مطويات وأشرطة، هذه دعوة، لكن أثقل على هذا من جبل، ولو تقول لهذا: اجلس اقرأ القرآن صار أثقل عليه من جبل، فهذا ميسر لهذا، وهذا ميسر لهذا، ومن مقاصد الشريعة تنوّع العبادات؛ لتغطي كل الاحتياجات تجد إنسانًا ميله إلى التلاوة، وذاك ميله إلى الصلاة، وهذا ميله إلى الإكثار من الحج والعمرة، وذاك إلى الصوم، وهكذا، وتقوم الحياة بهذه الطريقة، وهذا موجود، وكله فقه في الدين، والحمد لله رب العالمين.

«يفقه» يعني يفهمه في الدين، وهذا يدل على أهمية الفهم في العلم، وأنه شرط للتحصيل، لكن هو موهبة من الله -جل وعلا-، فالذي لم يرزق الفهم لا ييأس، يكرر، ويكثر السؤال، ويستفهم، ويحرص، ويسلك الطريق، و«من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة»، يعني ولو لم يحصل العلم.

 إضافة إلى الحفظ، الحفظ أيضًا لا بد منه، يعني مع الفهم لا بد من الحفظ، الفهم لا يستقل بنفسه، ولا يستأثر بتحصيل العلم دون الحفظ، وكذلك الحفظ لا يكفي في تحصيل العلم دون الفهم، فلا بد من الأمرين معًا، وكم في أسواق المسلمين من الباعة والتجار ممن هم في الفهم عباقرة، لكن ما يحفظون شيئًا من النصوص، ولا طلبوا علمًا ولا شيئًا، هؤلاء بالنسبة للعلم الشرعي لا قيمة لهم، وبعض الناس يحفظ الكثير من النصوص، ومن أقوال أهل العلم، ومن الكتب، لكن الفهم عنده ضعيف، هذا قد لا يحصل علمًا يعتمد عليه ويستند إليه، لكن قد يحفظ، كما مثل النبي -عليه الصلاة والسلام- الناس بأنواع من الأرض منها قيعان، ومنها أجادب، ومنها ما ينبت الكلأ وينبت الزرع.

على كل حال التنظير مطابق؛ لأن بعض الناس يحفظ ولا يفهم، هذا يحفظ الماء ولا ينبت مثل القيعان، وبعضهم يفهم ولا يحفظ، تجد الماء ينتهي بسرعة، لكن له نتاج، وبعضهم من يجمع الله له بين الأمرين بين الحفظ والفهم، وحينئذٍ ينتفع وينفع الله به.

«من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين، وإنما أنا قاسم والله المعطي»، في البخاري، يعني أنا أحدثكم وأسمعكم، أنا أقسم بينكم بالسوية، ما خصصت أحدًا دون أحد، «والله المعطي» الله الذي يعطي الفقه والفهم، والله الذي يعطي الفهم، والله الذي يعطي الفهم، «والله المعطي» هذا بيد الله- جل وعلا-، مثلما يأتي الشخص الفقير إلى غني ويطلب منه المال، إن أعطاه {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] فالله هو المعطي، وإن منعه فالله ما أعطاه شيئًا، ولا قسم له شيئًا.

«ولا تزال عصابة» طائفة، «من المسلمين يقاتلون على الحق» على الجادة، يجاهدون في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ونصر دينه على من ناوأهم، «يقاتلون على الحق ظاهرين» غالبين منصورين؛ لأنهم نصروا الله، {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7]، على من ناوأهم إلى يوم القيامة، وهم من كان على ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وهذه هي الطائفة المنصورة التي جاء وصفها بأنهم من كان على ما أنا عليه أنا وأصحابي، هذا المقياس الذي يقاس به استقامة الشخص.

اعرض عملك، اعرض قولك، اعرض فعلك، اعرض جميع تصرفاتك على ما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- وعن صحابته -رضوان الله عليهم- مما يدل على أن الاهتمام بما أُثر عن الصحابة في غاية الأهمية لتفسير النصوص وفهم النصوص، بخلاف من يقول- وهذا كثر في الأيام الأخيرة يقول-: لا حاجة لنا بكتاب الله وسنة رسوله، وأما هؤلاء فهم رجال ونحن رجال، الذي عاصر الرسول وعايشه ونظر في مدخله ومخرجه وجميع تصرفاته مثل الذي جاء بعده بقرون كثيرة بعدما بعد العهد واندرس العلم، يقول: هم رجال ونحن رجال! لا والله، وكتاب الله إنما يفسر بكلامه -جل وعلا- وبكلام نبيه -عليه الصلاة والسلام- وبأقوال الصحابة والتابعين، إذا بعد الإنسان عن هذه الأمور ضل.

 ورأينا في تفسير بعض المعاصرين الذين ليست لهم عناية بهذا الأثر، وجدنا أشياء في غاية الضلال يزعمون أنها فهم أوتيه هذا الشخص، لكنه في الحقيقة ضلال، نعم قد يوجد من له عناية بكتاب الله وسنة نبيه وكلام السلف من الصحابة والتابعين قد يوجد له شيء من الفهم يؤتاه استنادًا على ما كان عنده من الفهم، ولذا يقول: «رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب مبلغ أوعى من سامع» كما جاء في الحديث، وهناك اختيارات واستنباطات من بعض العلماء الذين لهم عناية، ما جاء هذا من فراغ، ويكون لهم استنباطات، ويفتح الله عليهم بأشياء هي مستندة إلى ما كان عمن سبق، أما الذي يقطع جذوره، ولا يمد جذوره إلى من تقدم من سلف الأمة وأئمتها فهذا لا بد أن يضل، وكتب المبتدعة طافحة بالشواهد على هذا.

الطائفة المنصورة، الإمام أحمد وغيره يقولون: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم، أهل الحديث والأثر أتباعه -عليه الصلاة والسلام- هؤلاء هم أقرب الناس إلى هذا الوصف؛ لأنهم أهل العناية به وبسيرته وبسنته، فهم الأقرب إلى أن يكونوا على مثل ما كان عليه -عليه الصلاة والسلام-.