كتاب القضاء من المحرر في الحديث - 04

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعدُ،

فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: "وعن سعيد" وهو ابن أبي عروبة "عن قتادة" وهو ابن دعامة "عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن النبي "، "عن أبيه عن أبي موسى" عن جده أبي موسى.

طالب: .......

"عن" جده "أبي موسى: «أن رجلين اختصما إلى النبي في دابة ليس لواحد منهما بينة، فقضى بها بينهما نصفين»".

 يقول: "رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي، وهذا لفظه، وقال: إسناد هذا الحديث جيد"، وقال بعضهم: بل ضعيف؛ لأنه مضطرب، والاضطراب: أن يُروى الحديث على أوجه مختلفة متساوية. فالإمام النسائي لما روى هذا الحديث قال: "إسناد هذا الحديث جيد"، قلنا في "جيد" مر بنا مرارًا، أن أهل العلم يعبِّرون بهذا عن الصحيح، ولهذا جاء في جامع الترمذي في ثلاثة أحاديث قال: هذا حديث حسن جيد، يعني حديث حسن صحيح. وابن حجر أقر هذا الكلام، وأنهم يريدون بها الصحة، قال: إلا أن -استثنى- إلا أن الجهبذ -وهو النقاد الخبير- لا يعدل عن صحيح إلى جيد إلا لنكتة.

ومنزلة النسائي في هذا الباب وتحريه وتشدده في نقل الرواة معروف، وإن اشتملت سننه على بعض الأحاديث الضعيفة، لكنها أنظف من بقية السنن، السنن الكبرى فيه أحاديث ضعيفة، والصغرى أقل، ومع ذلك أسانيده أنظف من بقية السنن.

على كل حال هو قال: "إسناد هذا الحديث جيد"، وأثبت بعضهم الاضطراب لهذا الحديث، ووجه الاضطراب أنه مروي على أوجه وبألفاظ، قال: ففي رواية سعيد بن أبي بردة من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عنه: "«أن رجلين اختصما في دابة ليس لواحد منهما بينة، فقضى بها بينهما نصفين»". هذا وجه. وفي رواية سعيد من رواية همام عن قتادة: «أن الرجلين بعث كل واحد منهما بشاهد»، في الرواية الأولى: "«ليس لواحد منهما بينة»"، وفي الرواية الثانية في الحديث نفسه: "«أن الرجلين بعث كل واحد منهما بشاهد، فقضى بينهما نصفين»".

قال: وفي رواية النضر بن أنس عن أبي بردة نحو رواية همام، في رواية خلاس من رواية سعيد عن قتادة عنه، ليس فيه أنه جعله بينهما نصفين، وإنما قال: «استهما على اليمين»، يعني احلفا اقترعا أيكم يحلف أنه له، «استهما» يعني: اقترعا، الاستهام: الاقتراع. «على اليمين» أيكما يحلف؟ «ما كان أحبا ذلك أو كرها»، وليس فيه ذكر للشاهد. ففي رواية: «ليس لهما بينة»، وفي رواية: "«جاء كل واحد منهما بشاهد»"، وفي رواية: أمرهما، بالاستهام، بالاقتران. وفي رواية خلاس من رواية أبان العطار عن قتادة عنه: «إذا جاء هذا بشاهد، وهذا بشاهد»، فأنت ترى هذا الاختلاف، فأنت ترى يعني تقرير المخرِّج، فأنت ترى هذا الاختلاف الشديد في لفظ الحديث مما يؤكد ضعفه وأن الرواة اضطربوا فيه اضطرابًا شديدًا.

وبالجملة فالحديث ضعيف، والصواب فيه الإرسال، كما تقدم تفصيله، لكن كل هذا إذا لم يمكن ترجيح بعض الروايات على بعض؛ لأنه من شرط الاضطراب أن يروى الحديث على أوجه مختلفة، الحديث روي على أوجه، وفي هذه الأوجه نوع اختلاف، لكن هل هي متساوية؟ فإذا أمكن ترجيح بعضها على بعض انتفى الاضطراب. والإمام النسائي لما قال: "إسناده جيد" كأنه يرجح هذا الإسناد على غيره، وحينئذ ينتفي الاضطراب الذي ذُكر في الخبر، والحكم فيه له ما يشهد له، قال: "«أن رجلين اختصما إلى النبي في دابة ليس لواحد منهما بينة، فقضى بها بينهما نصفين»".

والحديث الذي يليه: "وروى أبو داود من حديث همام عن قتادة بإسناده: «أن رجلين ادعيا بعيرًا على عهد النبي ، فبعث كل واحد منهما شاهدين، فقسمه النبي بينهما نصفين»".

المقصود أن المدعيين إذا استويا، إذا استوت دعواهما بالبينة أو بعدمها، سواء جاء كل واحد منهما بشاهدين متماثلين، أو بشاهد واحد لكل واحد منهما واحد متماثلين، أو بدون شاهد. فما الذي يصنعه القاضي؟ في الحديث الموجود عندنا: أنه قضى أو "«قسمه النبي بينهما نصفين»".

اختصم اثنان عند علي بن أبي طالب في نعل، هذا يقول: نعلي، وجاء بخمسة شهود، والثاني يقول: نعلي، وجاء بشاهدين. البعير يمكن قسمته، يعطى كل واحد نصفًا، لكن النعل كل واحد يعطى نعلًا؟

ما الذي صنعه علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ تعالى عنهُ-؟

قال: يباع النعل ويعطى، ويقسم، تقسم قيمته سبعة أقسام، فيعطى صاحب الشهود الخمسة خمسة أسهم، وصاحب الشاهدين يعطى سهمين. وعلى هذا إذا استوت البينات هل نقول: تساقطت، فلا بينة كأنه لم توجد أصلاً؟ يعني إذا استوت الأدلة في مسألة شرعية، فما الحكم؟ استوت الأدلة من كل وجه، ما موقف المجتهد؟

طالب: التوقف.

التوقف؛ لأنه ليس له أن يرجّح بغير مرجح. الآن استوت البينات وجودًا وعدمًا، إما أنه لا يوجد بينة أصلاً ليس لواحد منهما بينة، أو يوجد بينة، لكنها متكافئة من كل وجه.

في الرواية الأولى: "«فقضى بينهما نصفين»"، وفي الثانية: "«فبعث كل واحد منهما بشاهدين، فقسمه النبي بينهما نصفين»"، فإذا استوت البينات وجودًا أو عدمًا، وأمكنت القسمة، فإن العين المدعاة تُقسم بينهما نصفين.

طيب، مضت مسألة الاستهام وهو الاقتراع، ما يقال: تقام قرعة، فمن خرجت له يأخذ العين المدَّعاة على ضوء ما جاء سابقًا.

على كل حال جاء النص بهذا وبهذا، والقاضي له أن يجتهد في هذا الأمر. وإن قال بعضهم: إن القسمة أقرب إلى العدل، وكونه يُقرع بينهما ويأخذه واحد كاملاً والثاني لا يأخذ شيئًا، والقرعة شرعية جاءت بها النصوص من الكتاب والسنة، فهي معتبرة، ولا يقال: هذا ظلم، النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- إذا أراد أن يسافر أقرع بين نسائه، فمن خرجت له القرعة سافر بها. نقول: هل ظلم الأخريات؟ ما ظلم الأخريات؛ لأن القرعة وسيلة شرعية.

وهنا قسمها نصفين، فالقاضي له أن يجتهد إذا رأى من علامات الصدق على أحدهما، ودلت القرائن على صدقهما، فله أن يشدد في الضغط على الثاني حتى يبين له ما يتبين به الحق. وإذا كانوا متساويين من كل جهة، فإن رأى أن المصلحة في القرعة، وأنها تحل الإشكال، وأنها حكم شرعي، وأما القسمة فكأنها من باب الصلح. والقضاء الشرعي والقضاة مفتوح لهم باب الاجتهاد إذا كانوا أهلاً للاجتهاد.

ثم قال -رَحِمَهُ اللهُ-: "وعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ تعالى عنهُ- قال: قال رسول الله «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم»". نسأل الله العافية، من هم؟ "«رجل على فضل ماء بالفلاة»"، في البراري والقفار عنده ماء، فمر به محتاج ومنعه، يعني في البلدان والقرى والأمصار الأمر أسهل، إن ما أعطاه هذا أعطاه هذا، إن ما وجد من يعطيه وجد من يبيعه. لكن "«بالفلاة»" إما أن يعطيه وإما أن يموت من العطش.

"«رجل على فضل ماء»"، "«فضل ماء»" زائد عن حاجته.

"«على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل»"، من جاء يستقي منه أو يشرب قال: دونك، بالسلاح يمنعه.

"«يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر»"، "«بعد العصر»" يعني بعد صلاة العصر، وهذا من باب التغليظ؛ لأن الوقت فاضل، وأقسم الله به: {وَالْعَصْرِ}  [العصر: 1]، وصلاة العصر هي الصلاة الوسطى، فلها شأن.

"«ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر»"، في تفسير سورة العصر عند الألوسي وهو في الأصل عند الرازي نقلاً عن الرازي، يقول: جاءت امرأة تصيح في أسواق المدينة تسأل عن النبي فدُلت عليه، فقالت: إنها شربت الخمر، وزنت، وجاءت بولد فقتلته؟ فقال لها النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، بحسب الرواية: «لعلك لم تصلي العصر». الحديث باطل لا أصل له، ولذا يقول الألوسي: تفرد بذكره الإمام، من يعني؟ الرازي، تفرد بذكره أي لا يوجد في أي كتاب من كتب العلم إلا عند الرازي. يقول: تفرد بذكره الإمام. يقول الألوسي: ولعمري أنه إمام في معرفة ما لا يعرفه أهل الحديث. مدح أم ذم؟

طالب: ذم.

ذم شديد، الذي يعرف شيئًا لا يعرفه أهل الحديث ما هو؟ ما الذي لا يعرفه أهل الحديث؟ الموضوع المكذوب على النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-.

والشاهد: تعظيم شأن صلاة العصر، والنصوص الواردة فيها لا يحتاج معها إلى مثل ما ذكره الرازي ونقله الألوسي، لا يحتاج: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}  [البقرة: 238]، ففيه العصر، و«من صلى البردين دخل الجنة»، والملائكة تجتمع في صلاة الصبح وفي صلاة العصر... وهكذا.

المقصود وهنا فيه ما يدل على عظمة هذا الوقت وتعظيمه: "«رجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر، فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا»"، اشترى هذه السلعة بألف، يقول للزبون الذي يريد الشراء، أقسم بالله بعد العصر أنه اشتراها بألف. "«لأخذها بكذا وكذا، فصدقه وهو على غير ذلك»"، "«وهو»" كاذب، اشتراها بسبعمائة أو ثمانمائة، فقال: ما دام اشتريتها بألف أنا أعطيك مكسب ألف ومائة، خذ ألفًا ومائة، بناءً على صدقه، وهو أنه اشتراها بألف؛ لأنه ما كل الناس يعرفون الأثمان بدقة، وبعضهم لو عرف الثمن وهو محتاج لهذه السلعة ولا يجدها عند غيره يشتريها ويصدقه.

"«ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف بالله ؛لأخذها وكذا، فصدقه، وهو على غير ذلك»". هو اشتراها بسبعمائة/ وأقسم أنه اشتراها بألف، كثير من الناس إذا قال البائع: اشتريتها بكذا، كثير من الناس لم يسمها بأقل من ذلك، فإذا كان كاذبًا ثم تبين للمشتري الكذب يثبت له الخيار أم ما يثبت؟ يثبت له الخيار ويسمى خيار؟

طالب: .......

التخبير، خيار التخبير بالثمن، إذا قال له: اشتريت بكذا وهو كاذب، اشترى، قال: بألف وأخذها منه بمكسب مائة أو أقل أو أكثر ثم ذهب ووجدها في السوق بأقل من ذلك، فتبين أن هذا الكاذب اشتراها بأقل مما في السوق أو بمثل ما فيه السوق، يثبت له الخيار ويسمى عند أهل العلم خيار التخبير بالثمن.

"«ورجل بايع إمامًا»" على الولاية العامة، بايعه وأعطاه صفقة يمين على ضوء ما جاء في حديث عبادة بن الصامت قال: «بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره على أن نقول -أو نقوم- بالحق لا نخاف في الله لومة لائم»، لكنه "«بايع»"، هذا الأصل: تبايع على السمع والطاعة، فإذا بايعت لزمك ما بايعت عليه.

لكن هذا ما بايع إلا للدنيا: "«لا يبايعه إلا للدنيا»" نسأل الله العافية "«فإن أعطاه منها رضي» أو «وفى»" كما في بعض الروايات "«وإن لم يعطه منها لم يف»". إن أعطاه من الدنيا استمر على البيعة وسمع وأطاع، وإن لم يعطه من هذه الدنيا فلا سمع ولا طاعة في الله. هذا من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، ويشاركه في هذا الوعيد جمع من الناس بلغوا فيما جاء في النصوص تسعة أو عشرة. الحصر هنا: "«ثلاثة لا يكلمهم الله»" يعني الأسلوب حصري أو لا؟ لا، ليس بحصري، يقبل الزيادة؛ ولذا جاء في نصوص بالإضافة على هؤلاء الثلاثة: المنان والمسبل والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، بلغوا عشرة فيما حصره أهل العلم.

في قوله -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- وهو في الصحيح: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة»، وجاء في أحاديث صحيحة زيادة على الثلاثة وصلوا إلى سبعة. ماذا يقال في مثل هذا، إذا كان هذا لا يفيد الحصر، ولا مانع من الزيادة ففي قوله -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة»، وجاء عنه -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- زيادة أربعة فبلغوا سبعة، قالوا: إن هذا على حد علمه في أول الأمر، ثم أُخبر بالزائد بعد ذلك، الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- لا يعلم الغيب، فيتكلم بما يعلم، فإذا أضيف وزيد على ما في علمه من علم الله -جَلَّ وعَلا- يتكلم. وبعض الشراح لم يُوفق، أساء الأدب فقال: في هذا الحصر نظر، نسأل الله العافية، في كلام الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- نظر، والحديث في الصحيحين؟! كأنه يتعامل مع شخص مثله.

على كل حال: "«ثلاثة لا يكلمهم الله»"، هل في هذا إثبات صفة الكلام لله -عزَّ وجلَّ-؟ لأنه جاء بصيغة النفي: "«لا يكلمهم الله يوم القيامة»". لما حُجب هؤلاء بمعصيتهم، يعني في حال الغضب: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}  [المطففين: 15]، قالوا: في هذه الآية إثبات النظر، رؤية الله -جَلَّ وعَلا-؛ لأنهم لما حُجبوا عن رؤيته في حال الغضب دل على أنه يُرى في حال الرضا. وهنا لما مُنعوا أو حرموا كلام الله -جَلَّ وعَلا- في حال الغضب دل على أنه يكلم من شاء في حال الرضا.

"«ولا ينظر إليهم»"، وثبت صفة الكلام وصفة النظر والرؤيا لله -جَلَّ وعَلا-، صفات قطعية متواترة جاءت بها النصوص، واتفق عليها سلف الأمة وأئمتها.

"«ولا يزكيهم»"، يعني لا يطهرهم.

المقصود أن هذه كبائر أم ليست كبائر؟

كبائر؛ لوجود الوعيد الشديد عليها.

والشاهد: "«رجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر، فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه، وهو على غير ذلك»، متفق عليه.

وللبخاري: «ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم»". يعني لو حلف بعد الظهر يستحق هذا الوعيد أم لا؟

طالب: .......

ما فائدة "«بعد العصر»"؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: تعظيم.......

نعم، لكن لو حلف بعد الظهر ارتكب محرمًا، واقتطع بها مال مسلم، غموس، لا شك، لكن هذه الأوصاف الثلاثة والوعيد بالجمل الثلاث خاص بمن حلف بعد العصر.

"«ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر»"، وهذا من التعظيم بالزمان، التعظيم بالزمان، "«ليقطع بها مال امرئ مسلم»"، وسيأتي بالحديث الذي يليه التعظيم بالمكان.

 ولذا قال: "وعن عبد الله بن نسطاس عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي قال: «من حلف على منبري»" منبر النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، يعني هل لهذا المنبر قيمة تصل إلى هذا الحد، أو أنه حلف في هذا المكان الذي يذكره بصاحب المنبر الذي يحذر من هذه الأمور ولم يتعظ ولم يتذكر؟

"«من حلف على منبري هذا بيمين آثمة فليتبوأ مقعده من النار»"، نسأل الله العافية. النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- على هذا المنبر شدّد في هذه الأمور، وأبدى وأعاد، وذكر الآن جملاً من الوعيد الشديد، وهذا على منبر النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، ولكأن الأمر لا يعنيه.

الآن لو أن شخصين جلسا يغتابان الناس، كونهما في المسجد ما هو بأشد من كونهما في بيت ولَّا في استراحة؟ هاه؟ هذا موطن عبادة أُسس لعبادة، المساجد بُنيت لذكر وإقامة الصلاة، فأنت تستعملها بضد ما بنيت له؟ الغيبة حرام في كل مكان، لكن إذا كانت في ليالي العشر من رمضان مثلاً أو في عرفة أو في الأوقات والأزمان أو الأماكن الفاضلة، أمرها أشد. فهذا من هذا الباب: "«من حلف على منبري هذا بيمين آثمة فليتبوأ مقعده من النار»"، كان النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يخطب إلى جذع يستند إليه، ثم أمر غلامًا لامرأة من الأنصار اسمه ميمون بصناعة المنبر على ثلاث درجات، فكان النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يصعد، فحن الجذع إلى النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- لما تركه وصعد المنبر.

 اللهم صل وسلم وبارك عليه.

"«فليتبوأ مقعده من النار»"، ليتخذ منزلاً وموئلاً يتبوأه من النار، هذا وعيد شديد لمن فعل ذلك، والحديث يدل على أن بعض الأماكن لها من الشرف والتعظيم ما لها؛ لذلك منبره -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- ليس كمنبر غيره، ومع ذلك هو من خشب لا ينفع ولا يضر. ولذا قال عمر في الحجر الأسود الذي جاء فيه أنه يمين الله: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك. النافع والضار هو الله -جَلَّ وعَلا-، ونرى من يتمسح بالمقام مقام إبراهيم، وتمسح بحديد جيء به من مصنع، وكلمت امرأة تتمسح قلت: هذا حديد جيء به من المصنع لا ينفع ولا يضر؟ قالت: عندكم ما ينفع لكن عندنا ينفع! الشكوى إلى الله، ما فيه حل.

وعلى كل حال: جناب التوحيد لا بد من حمايته، لا بد من حماية جناب التوحيد، وسد جميع الشرائع الموصلة للشرك؛ لأن التوحيد رأس المال، والشرك أكبر الكبائر، ولا ينفع معه عمل لا سيما الأكبر.

يقول: "رواه الإمامان مالك وأحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي وأبو حاتم البستي"، "مالك وأحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي".

 الأصل أن يقول: النسائي وابن ماجه؛ لأن النسائي مقدم على ابن ماجه في المنزلة، وإن كان ابن ماجه أقدم في الزمن من النسائي، أقدم من النسائي في الوجود الزمني، وأبو حاتم البستي ابن حبان، وكتابه الصحيح بعد التقاسيم معروف، لكن هو في الترتيب دون هؤلاء من حيث الزمن؛ ولذا قدم الإمامين مالك وأحمد على أصحاب السنن، مع أن العلماء في ترتيب كتب الحديث من حيث المنزلة يقدمون السنن على المسند، (ويعدونها في رتبة) يعني دون السنن، (في رتبة ما جُعل على المسانيد فيدعى الجفلى).

 وبيان ذلك وتفصيله يحتاج إلى وقت.