شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الصوم (عام 1427 هـ) - 04

 

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

 

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسَلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم.

إلى حلقةٍ جديدة في شرح كتاب الصوم من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

بدايةً يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الأخوة المُستمعين.

المقدم: تبقّى معنا مجموعة من الأحكام، كنا توقفنا عند إجابة الأئمة، وعدتم أن تستكملوا الجواب عن الأحناف، أحسن الله إليكم، في حديث ابن عباس.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فقد مضى الكلام فيما يتعلق بحديث ابن عباس من حيث بيان الحكم، وأن الجمهور لم يعملوا به، وأجابوا عنه بأجوبة، وأنه وجد من يعمل به مُطلقًا في جميع ما يجب على المُكلَّف من صيام، وأن الحنابلة خصوه بالنذر، وأن ما وجب بأصل الشرع لا يقبل النيابة، وما أوجبه الإنسان على نفسه فإنه يقبل النيابة، وتقدَّم الكلام في هذا.

إذًا لماذا خالف الأئمة هذا الحديث مع أنه صحيح ومُخرَّج في البخاري وليس لأحدٍ كلام؟

عرفنا جواب الشافعية وأجوبة المالكية، وبقي عندنا جواب الحنفية.

الحنفية، يقول ابن حجر: اعتلوا لعدم القول بهذين الحديثين بما روي عن عائشة: أنها سُئلت عن امرأةٍ ماتت وعليها صوم، قالت: يُطعَمُ عنها.

وعن عائشة قالت: لا تصوموا عن موتاكم، وأطعموا عنهم [أخرجه البيهقي]. وبما روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال في رجلٍ مات وعليه صوم رمضان، قال: يُطعَم عنه ثلاثون مسكينًا [أخرجه عبد الرزاق]. وروى النسائي عن ابن عباس قال: لا يصوم أحدٌ عن أحد.

أولاً: ما يُروى عن عائشة وعن ابن عباس الصواب أنه موقوف عليهما، والموقوف لا يُعارض به الثابت عن النبي- عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه هو الأسوة والقدوة، وكون الصحابي يُخالف مرويه- يعني: رأيه يختلف عن مرويه- المُقرر عند أهل العلم: أن العبرة بما روى لا بما رأى.

قالوا: فلما أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ما روياه، دلَّ ذلك على أن العمل على خلاف ما روياه.

وهذه قاعدةٌ لهم معروفة، يقول ابن حجر: إلا أن الآثار المذكورة عن عائشة وابن عباس- رضي الله عنهما- فيها مقال، وليس فيها ما يمنع الصيام إلا الأثر الذي عن عائشة وهو ضعيفٌ جدًّا.

لكن الإجمال في خبر عائشة: أنها سُئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم، قالت: يُطعَم عنها. الصوم هذا مُجمَل، ويحتمل أن يكون من رمضان.

وقولها أيضًا: لا تصوموا عن موتاكم، وأطعموا عنهم، فيما وجب بأصل الشرع.

وأيضًا قول ابن عباس في رجلٍ مات وعليه صوم رمضان، واضح، قال: يُطعَم عنه ثلاثون مسكينًا. وهذا لا يُعارض حمل حديث أو حديثي الباب على صوم النذر.

والراجح: أن المُعتبَر ما رواهُ الصحابي، الراوي، لا ما رآه؛ لاحتمال أن يُخالف ذلك الاجتهاد. ومستنده فيه لم يتحقق، ولا يلزم من ذلك ضعف الحديث عنده.

يعني احتمال أنه أفتى بخلافه لمعارضٍ راجح عنده، ولا يلزم من ذلك ضعف الحديث عنده؛ لأن المُقرر عند أهل العلم أن عمل العالم بالحديث لا يقتضي قوته، كما أن عمله بخلافه أو فتواه بخلافه لا يقتضي ضعفه.

فإنما يعمل به لما يسنده ويعضده، أو يتركه ويُخالفه لما يُعارضه. هذا مُقرر عند أهل العلم.

والراجح: أن المُعتبَر ما رواه لا ما رآه؛ لاحتمال أن يُخالف ذلك اجتهاده ومستنده فيه لم يتحقق. يعني إن تحقق عنده، لم يتحقق لغيره.

ولا يلزم من ذلك ضعف الحديث عنده، وإذا تحققت صحة الحديث لم يُترَك المُحقق للمظنون، والمسألة مشهورةٌ في الأصول.

حُجة ابن عباس وعائشة في مخالفة الحديثين، إن صحَّ عنهما ما نُسِبَ إليهما، فليست واضحة لنا لكي نُعارض بها ما ثبت في الصحيح. لنتبع قواعد الترجيح المعروفة عند الأئمة، وعلى كل حال ليس منها شيءٌ في الصحيح، ووجود المُعارض في الصحيح وما يُعارضه خارجه، يكفي للترجيح.

أيضًا معارضة الموقوف للمرفوع، معروف أن العبرة بالمرفوع لا بالموقوف.

في شرح ابن بطَّال يقول: ذهب الكوفيون والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ إلى أنه واجبٌ أن يُطعَم عنه من رأس ماله.

الآن تقرر عندهم أنه ما فيه صيام.

المقدم: نعم.

ذهب الكوفيون والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ إلى أنه واجبٌ أن يُطعَم عنه من رأس ماله.

الآن وضع الإمام أحمد مع الشافعي ومع الكوفيين، مع أنه يختلف معهم على ما تقدَّم، وقال: إلى أنه واجبٌ أن يُطعَم عنه من رأس ماله وإن لم يوصِ. يعني يصح عطف الإمام أحمد على الشافعي؟ يصح في رمضان، يُطعَم عنه في صيام رمضان، إذا كان عليه صوم من رمضان.

وينفرد الإمام أحمد بالنذر، أنه يُصام عنه.

ففيما لا يدخله النيابة يُطعَم عنه. وهؤلاء يقولون به مُطلقًا، يقول: إلى أنه واجبٌ أن يُطعَم عنه من رأس ماله وإن لم يوص، إلا أبا حنيفة فإنه قال: يُسقِط عنه ذلك الموت. يعني فكما أنه ارتفع تكليفه بالصيام، إذًا يرتفع تكليفه بالبدل.

وقال مالك: الإطعام غير واجب على الورثة، إلا أن يوصي بذلك إليهم، فيكون في ثُلثه.

فإن قال من أوجب الإطعام: إن النبي- صلى الله عليه وسلم- شبهه بالدين، قيل: هو حُجةٌ لنا؛ لأنه قال: أفأقضيه عنها؟ ونحن نقول: قضاؤوه أن يُطعِم عن كل يومٍ مُسكينًا. وقوله: «أرأيت لو كان عليها دين، أكنتِ قاضيته؟» إنما سأله هل كنت تفعل أو كنتِ تفعلين ذلك، تفعل باعتبار أن حديث الباب: رجل.

المقدم: السائل.

تفعل ذلك تطوعًا؟ لأنه لا يجب عليه أن يقضي دين أمه إذا لم يكن لها تركة، فكذلك لا يلزمه أن يصوم ولا يلزمه أن يُطعِم.

واضح الاستدلال؟

فإن قال من أوجب الإطعام: إن النبي- صلى الله عليه وسلم- شبهه بالدين، قيل: هو حُجةٌ لنا، يعني أنه لا يلزم القضاء؛ لأن مالكًا يقول: الإطعام غير واجبٍ على الورثة، ابن بطَّال مالكي، يقول مالك: الإطعام غير واجبٍ على الورثة إلا أن يوصي بذلك عليهم، فيكون في ثُلثه.

يقول ابن بطَّال: فإن قال من أوجب الإطعام، يعني كالكوفيين والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور.

فإن قال من أوجب الإطعام: إن النبي- صلى الله عليه وسلم- شبهه بالدين، قيل: هو حُجةٌ لنا؛ لأنه قال: أفأقضيه عنها؟ ونحن نقول: قضاؤوه أن يُطعِم عن كل يومٍ مُسكينًا. وقوله: «أرأيت لو كان عليها دين، أكنت قاضيه؟» إنما سأله هل كنت تفعل ذلك تطوعًا؛ لأنه لا يجب عليه أن يُقضى دين أمه إذا لم يكن لها تركة.

الآن، من أوجب، رأى الإيجاب في مال الميت. ومن نفى، نفاه عن الورثة.

فالوجوب في مال الميت لا يتعارض مع عدم إيجابه على الورثة، وهو أيضًا هذا دين في ذمته، والديون إنما يُقضى بها قبل الوصاية وقبل الإرث، هذا دين، دين الله أحق. فمادام ثبت أنه دين، فهو أحق بالقضاء من دين المخلوق. والديون عمومًا مُتعلقة بالتركة، من الحقوق المُتعلقة بالتركة، أولها: مؤونة التجهيز، ثمَّ الدين المُتعلِّق بعين التركة، الذي هو برهن.

الديون المُطلقة التي منها: الكفارات، الوصايا، الإرث. هذه خمسة.

فهذا دينٌ مُطلق، لا يتعلَّق بعين التركة، لكنه مُتعلِّق بالتركة كغيره من الديون.

فيجب أن يُقضى من مال الميت قبل الوصايا، كدين المخلوق، بل أوجب وأهم.

وقوله: «أرأيت لو كان عليها دينٌ، أكنتَ قاضيه؟» إنما سأله: هل كنت تفعل ذلك تطوعًا؟ يعني إن كان من تلقاء نفسك، فأنت تتطوَّع؛ لأنه لا يجب عليه أن يقضي دين والده ولا والدته إذا لم يترك وفاءً. وعلى كل حال، سداد الدين لا شك أنه من أبر البر، وتخليص لذمة الميت من أعظم البرِّ.

إنما سأله هل كنت تفعل ذلك تطوعًا؛ لأنه لا يجب عليه أن يقضي دين أمه إذا لم يكن لها تركة.

نعم، لا يجب عليه. لكن لو كان لها تركة، لوجَب أن يُقضى منها.

وهذا الحديث أخرجه الإمام البخاري- رحمه الله تعالى- في ((كتاب الصوم)) في الترجمة السابقة، باب من مات وعليه صوم.

قال محمد بن عبد الرحيم: حدثنا معاوية بن عمرٍ، قال: حدثنا زائدةٌ عن الأعمش عن مُسلمٍ البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباسٍ- رضي الله عنهما- قال: جاء رجلٌ إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، الحديث.

والحديث خرَّجه الإمام مُسلمٌ أيضًا، فهو مُتفقٌ عليه.

المقدم: أحسنَ الله إليكم. نُذكِّر فقط، أشرتم- أحسنَ الله إليكم- في حلقاتٍ ماضية عندما كنا نتحدث عن حديث ابن أبي أوفى، أشرتم لتنبيه المُستمعين الكرام تصحيح النسخة التي بين أيدينا (1956)، قلتم: الحديث (1955) أن هذا خطأ، وأنا سجلتها قبل أكثر من أربعين أو خمسين حلقة من الآن.

صحيح.

المقدم: لازال كما هو، يعني التنبيه (1956) بالنسبة لحديث باب متى يحل فطر الصائم، الباب الذي يليه هو (1955). ذكرتم لنا أن الحديث: فهو يُفطِر ما تيسَّر له من الماء أو غيره.

نعم؛ لأن الحديث (56) في الأصل.

المقدم: فهو يفطر بما تيسر.

على كل حال هو نفسه (55) و(56)، لكن الترجمة التي وضع لها (56) متى يحل فطر الصائم؟

وترجمة (56) بابٌ يُفطر بما تيسَّر من الماء وغيره، فهو أُتي من هذه الحيثية. يعني لو ترجم له بالترجمة الثانية، ما فيه إشكال. لكن الواقع تحت ما ترجم به (55) لا (56).

المقدم: حديث ابن أبي أوفى وقول النبي- صلى الله عليه وسلم- «انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا» تقدَّمَ قَرِيبًا وَقال فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: «إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ.

نعم، تقدَّم الحديث، حيث ابن أبي أوفى، وتمامه المُختصر (921) وهو في الأصل (1941) الموضع الأول.

عَن ابْنَ أَبِي أَوْفَى- رضي الله عنهما- قال: كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في سفر، فقال لرجلٍ: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا»، قال: يا رسول الله، الشمس. قَالَ: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لنا» أو اجدح لي «انزل فاجدح لي» قال: يا رسول الله، الشمس. قَالَ: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي» قال: يا رسول الله، الشمس. قَالَ: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي» فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ فَشَرِبَ ثُمَّ رَمَى بِيَدِهِ هَاهُنَا ثُمَّ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ»

وراوي الحديث: عبد الله بن أبي أوفى، علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي، أبو إبراهيم وقيل: أبو محمد، تقدَّمت ترجمته، وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة. ولطول العهد، لا مانع أن نذكر بعض مناقبه.

هو أبو محمد ويُقال: أبو معاوية، شَهِد بيعة الرضوان، مات سنة ستٍ أو سبعٍ أو ثمان وثمانين، يقول الفلَّاس: هو آخرُ من مات بالكوفة من الصحابة.

والحديث ذكرناه في ترجمةٍ سابقة، باب الصوم في السفر والإفطار.

فقوله: كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في سفر، في رواية مُسلم: كنا في سفرٍ في شهر رمضان.

«انْزِلْ فَاجْدَحْ»  يعني هذه كلمة غريبة، نُذكِّر بها.

قال النووي: هو بجيمٍ ثمَّ حاءٍ مُهملة، وهو خلط الشيء بغيرهِ، والمُراد هنا خلط السويق بالماء وتحريكه حتى يستوي.

والمِجدَحُ بكسرِ الميم: عودٌ مُجتمع الرأس، ليُساط به الأشربة. وقد يكون له ثلاث شُعَب.

متى يحلُّ فطر الصائم؟

الشاهد في قوله: «إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قد أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ».

المقدم: هذا على اعتبار أن هذا الحديث في باب متى يحلُ فطر الصائم؟ بنفس اللفظ الذي أورده المُختصِر.

هو وارد في الترجمتين.

المقدم: بنفس الألفاظ؟ وإنما الخلاف في الرقم يا شيخ؟

نعم، متى يحلُّ فطر الصائم؟ هو مُترجم به هكذا، ومُترجم به أيضًا: يُفطِر بما تيسَّر.

المقدم: بنفس اللفظ؟ حديث ابن أبي أوفى قال: «انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا» تقدَّمَ، ثمَّ قال: «إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ.

هذا (56)، هذه لفظة (56). لكن عليه أن يُعدِّل الترجمة، بابٌ يُفطِر بما تيسَّر من الماء أو غيره. فيكون الخلل في الترجمة.

المقدم: نعم، وهذا الذي أشرنا إليه.

والذي يهمُنا من الحديث ما يُطابق الترجمة.

المقدم: أنت تعتمد أي ترجمة الآن يا شيخ حتى نكون معك؟ يعني أنت تريدنا أن نسمع من باب متى يحلُّ فطر الصائم أم ...؟

نعم، هذا الأصل؛ لأنه قبل الترجمة الثانية. متى يحلُّ فطر الصائم، الذي هو (55) متى يحلُّ فطر الصائم. وترجمة البخاري أيضًا: وأفطر أبو سعيدٍ الخدري حين غاب قُرص الشمس.

أما قوله: يُفطِر بما تيَّسر من الماء أو غيره.

المقدم: نعم، التي هي (56).

حقيقةً، كون الذي يوقع في مثل هذا الإشكال التصرُّف.

المقدم: الذي ذكرناه أكثر من مرة.

التصرُّف، يعني إدخال التراجم، والأصل ما فيه تراجم. فهذا يوجد شيئًا من الاضطراب وإلا لو ترك الحديث بلا ترجمة، ربطناه بالترجمتين. ففي قوله: متى يحلُّ فطر الصائم؟ يتعلَّق بقوله: «إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ»، ويُفطر بما تيَّسر من الماء.

المقدم: قال «انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا».

وعرفنا أن الجدح: خلطُ الماء بغيره، يُفطِر بما تيَّسر من الماء أو غيره.

فالمطابقة ظاهرة للحديث، مطابقة الحديث للترجمتين ظاهرة.

قوله- عليه الصلاة السلام- : «إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا» أي: من جهة المشرق.

قال العيني: فإن قلت: ما الحكمة، هذا كله تقدَّم لكن نحتاج للتذكير فقط.

قال العيني: فإن قلت: ما الحكمة في قوله «إِذَا أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا»، وفي لفظ مُسلم: «إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قد أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا»، وفي لفظ الترمذي عن عُمَر بن الخطاب: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلَ وَأَدْبَرَّ النْهار وغَرَبَتْ الشَمْسُ فَقَد أَفْطَرَ الصائِم» والإقبال والإدبار والغروب مُتلازمة.

إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغربت الشمس، يحتاج إلى هذا كله؟

المقدم: كلها واحدة؟

واحدة، دلالتها على شيءٍ واحد، والإقبال والإدبار والغروب مُتلازمة؛ لأنه لا يُقبِل الليل إلا إذا أدبر النهار. ولا يُدبِر النهار إلا إذا غربت الشمس.

أجاب القاضي عياض في ((إكمال المُعْلِم)) بأنه قد لا يتفق مُشاهدة عين الغروب، ويُشاهد هجوم الظُلمة حتى يُتيقَّن الغروب بذلك، فيحلُّ الإفطار؛ لأن بعض الناس يرى هذا، وبعضهم لا يرى هذا.

يقول العيني: قال شيخنا، يعني الحافظ العراقي، الظاهر إن أُريد أحد هذه الأمور، فإنه يُعرَف انقضاء النهار برؤية بعضها. ويؤيده اقتصاره في حديث ابن أبي أوفى على إقبال الليل فقط. وقد يكون الغيم في المشرق دون المغرب، وعكسه، فقد يُشاهدُ مغيب الشمس، فلا يُحتاج معه إلى أمرٍ آخر.

قوله: «فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» أي: دخل وقت فطرهِ، لا أنه يصير مُفطرًا بغيبوبة الشمس وإن لم يتناول مُفطرًا. يعني إلا بالنية؛ لأنه إذا نوى الإفطار، أفطر.

ومعروف هذه الصيغة، أفطَر، يعني دخل وقت الإفطار. أظلم، دخل في الظلام. أسفر، دخل في الإسفار. أنجد، دخل في نجد. أتهم، وهكذا.

فالصيغة مُطردة.

قال القاضي عياض في ((إكمال المُعْلِم)): إن حُمِلَ على أن المراد به قد صار مُفطرًا، فيكون ذلك دلالةً على أن زمن الليل يستحيل الصوم فيه شرعًا. وقد قال بعضُ العلماء إن الإمساك بعد الغروب لا يجوز، وهو كإمساك يوم الفطر ويوم النحر.

يعني هو مُفطِر مُفْطِر، إذا دخل في وقت الإفطار فقد أفطر.

فقال بعضهم: ذلك جائزٌ وله أجر الصائم. واحتج هؤلاء بأن الأحاديث الواردة في الوصال، التي ذكرها مُسلم، في ألفاظها ما يدلُّ على أن النهي عن ذلك تخفيفٌ ورفق. وفي بعض طُرق مُسلم: نهاهم عن الوصال؛ رحمةً بهم. وفي بعض طرقه: لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال، واصل بهم يومًا ثمَّ يومًا ثمَّ رأوا الهلال. هذا يدلُّ على أن نهيهم عن الوصال؛ رحمةً بهم ورفقًا بهم، يدلُّ على أن الصائم قد يستمر ولو أقبل الليل وأدبر النهار وغربت الشمس، يستمر في صيامه، وإلا لما كان للوصال معنى. إلا أن أفطر يعني دخل وقت الإفطار.

المقدم: هذا المُراد.

النبي- عليه الصلاة والسلام- واصل بهم يومًا ثمَّ يومًا ثمَّ رأوا الهلال، فقال-عليه السلام-: «لو تأخر الهلال، لزدتكم» كالمُنكِّل لهم.

وفي بعض طُرقه: لو مُدَّ لنا الشهر، لواصلنا وصالاً، يدعُ المتعمقون تعمقهم.

وهذا كله يدلُّ على أنه لا يستحيل إمساك الليل شرعًا، ولو كان مُستحيلاً ما واصل بهم- عليه الصلاة والسلام- ولا حملهم على ما لا يحل، ولعاقب من خالف نهيه.

وحكم الوصال تقدَّم.

نُذكِّر بمسألةٍ وقعت ذكرها ابن العربي في ((عارضة الأحوذي))، يعني في رمضان الماضي فينساها المُستمع.

في ((عارضة الأحوذي)) يقول: نزلت ببغداد مسألة، رجلٌ حلف ألا يُفطِر على حار ولا على بارد. فسأل العلماء، فقالوا: هو حانث. فسأل جمال الإسلام أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، إمام الشافعية، فقال: لا شيء عليه؛ لأن النبي- عليه الصلاة والسلام- قد حكم بفطره بدخول الليل، وهو غير حارٍ ولا بارد، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ».

فقال الفقيه أو الإمام أبو بكر بن العربي- رحمه الله-: وهذا فقهٌ صحيح على قول مَن يحمل الأيمان على الألفاظ لا على المقاصد، وهو مذهب الشافعي ورواية مشهورة صحيحة عن مالك، خُرِّج عليها أكثر مسائله. ومتى وجد ثمَّ للحالف مخرج، على مذهب مالك، فإنه إمام الهدى فلا تُخيبوه بحال.

يعني من حلف مثل هذا الحلف، لكن هل يُمكن أن يُقال: إذا كانت الليلة شديدة البرودة أو شديدة الحرارة ما يرد على هذه الفتوى، إذا نظرنا أنه أفطر بمجرد دخول وقت الإفطار. وقد عرفنا أن معنى: أفطر، أي دخل في الوقت، وإن لم يكن مُفطرًا حقيقةً؟

المقدم: أحسنَ الله إليكم، ونكتفي بهذا يا شيخ، بقي شيء في ألفاظ الحديث أو في أحكامه نعد المُستمع به؟

هو تقدَّم بكامله، وشُرِح شرحًا مستوفًى.

المقدم: يعني الحلقة القادمة ستكون حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ- إن شاء الله-؟

إن شاء الله.

المقدم: جزاكم الله خيرًا، وأحسنَ الله إليكم ونفع بعلمكم.

أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب الصوم في كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

لقاؤنا بكم في الحلقة القادمة بإذن الله وأنتم على خير.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.