التعليق على تفسير القرطبي - سورة ص (04)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

 قال الإمام القرطبي-رحمه الله تعالى: "الْحَادِيَة عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} قَالَ النَّحَّاسُ: فَيُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ كَانَتْ خَطِيئَةَ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ لِأَنَّهُ قَالَ: " لَقَدْ ظَلَمَكَ " مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ بِبَيِّنَةٍ، وَلَا إِقْرَارَ مِنَ الْخَصْمِ، هَلْ كَانَ هَذَا كَذَا أَوْ لَمْ يَكُنْ. فَهَذَا قَوْلٌ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ هَذَا، وَهُوَ حَسَنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى".

لا شك أن هذا أولى مما ذكر في حقه من الإسرائيليات، وهذا وإن كان لا يُظن بداود أنه يحكم بدون بينات ولا إقرار، إلا أنه إن كان على وجه الاشتراط، وإن كان الواقع كما قلت: ف{قَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}، فمثل هذا يقع وإن كان خلاف الأولى لكنه لا إشكال فيه، فهذه خطيئة من هذه الحيثية وهي أولى مما قيل مما سبق في الإسرائيليات التي لا تليق بآحاد المسلمين، فضلاً عن الصالحين، فضلاً عن الأنبياء.

"قال النحاس: فَأَمَّا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَا يُدْفَعُ قَوْلُهُمْ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: مَا زَالَ دَاوُدُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ- عَلَى أَنْ قَالَ لِلرَّجُلِ: انْزِلْ لِي عَنِ امْرَأَتِكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَعَاتَبَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى ذَلِكَ وَنَبَّهَهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِكَبِيرٍ مِنَ الْمَعَاصِي".

يعني هذا الكلام مرتبط بالقصص التي ذكرت من الإسرائيليات إلا أنه لم يزد على أن قال له: انْزِلْ لِي عَنِ امْرَأَتِكَ بدلًا من أن يرسله في بعث يجاهد، ثم يقتل ويجعله في المقدمة من أجل أن يقتل، ومثل هذا لا يليق به، أن يقول له: انْزِلْ لِي عَنِ امْرَأَتِكَ.

"وَمَنْ تَخَطَّى إِلَى غَيْرِ هَذَا فَإِنَّمَا يَأْتِي بِمَا لَا يَصِحُّ عَنْ عَالِمٍ، وَيَلْحَقُهُ فِيهِ إِثْمٌ عَظِيمٌ".

لاشك أن هذا أمر عظيم أن يلصق بالأنبياء ما هم برآء منه، لو ألصق بغيره هذا الكلام مما لم يقع منه فهذا شيء عظيم بلا شك، وإن لم يصل إلى حد قذف صريح، لكنه مع ذلك أمره عظيم، نعم.

"كَذَا قَالَ: فِي كِتَابِ إِعْرَابِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ: فِي كِتَابِ مَعَانِي الْقُرْآنِ لَهُ بِمِثْلِهِ. قَالَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: قَدْ جَاءَتْ أَخْبَارٌ وَقَصَصٌ فِي أَمْرِ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأُورِيَّا، وَأَكْثَرُهَا لَا يَصِحُّ، وَلَا يَتَّصِلُ إِسْنَادُهُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْتَرَأَ عَلَى مِثْلِهَا إِلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِصِحَّتِهَا".

لا يصح إسناده، ومتنه في غاية النكارة.

"وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْتَرَأَ عَلَى مِثْلِهَا إِلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِصِحَّتِهَا. وَأَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَسْرُوقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا زَادَ دَاوُدُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى أَنْ قَالَ: {أَكْفِلْنِيهَا} أَيِ: انْزِلْ لِي عَنْهَا. وَرَوَى الْمِنْهَالُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَا زَادَ دَاوُدُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَنْ قَالَ: {أَكْفِلْنِيهَا} أَيْ: تَحَوَّلْ لِي عَنْهَا وَضُمَّهَا إِلَيَّ.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَهَذَا أَجَلُّ مَا رُوِيَ فِي هَذَا".

يعني أعظم وأشد.

"وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ أَنَّ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَأَلَ أُورِيَّا أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ، كَمَا يَسْأَلُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَنْ يَبِيعَهُ جَارِيَتَهُ، فَنَبَّهَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى ذَلِكَ، وَعَاتَبَهُ لَمَّا كَانَ نَبِيًّا، وَكَانَ لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ، أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَشَاغَلَ بِالدُّنْيَا بِالتَّزَيُّدِ مِنْهَا، فَأَمَّا غَيْرُ هَذَا فَلَا يَنْبَغِي الِاجْتِرَاءُ عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا لَمَّا أَعْجَبَتْهُ أَمَرَ بِتَقْدِيمِ زَوْجِهَا لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا، فَإِنَّ دَاوُدَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَكُنْ لِيُرِيقَ دَمَهُ فِي غَرَضِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ أَنَّ دَاوُدَ قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: انْزِلْ لِي عَنْ أَهْلِكَ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، كَمَا يَطْلُبُ الرَّجُلُ مِنَ الرَّجُلِ الْحَاجَةَ بِرَغْبَةٍ صَادِقَةٍ، كَانَتْ فِي الْأَهْلِ أَوْ فِي الْمَالِ. وَقَدْ قَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِينَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُمَا: إِنَّ لِي زَوْجَتَيْنِ أَنْزِلُ لَكَ عَنْ أَحْسَنِهِمَا، فَقَالَ لَهُ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ".

طالب: سعيد أم سعد؟

سعد بن الربيع، سعد بن الربيع.

 فرق بين القصتين أن يقول شخص لآخر: انزل لي عن أهلك، وبين أن يقول هو: أنزل لك عن أهلي، فرق بين القصتين.

"وَمَا يَجُوزُ فِعْلُهُ ابْتِدَاءً يَجُوزُ طَلَبُهُ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ، وَلَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوَالِ عِصْمَةِ الرَّجُلِ عَنْهَا، وَلَا وِلَادَتُهَا لِسُلَيْمَانَ، فَعَمَّنْ يُرْوَى هَذَا وَيُسْنَدُ؟! وَعَلَى مَنْ فِي نَقْلِهِ يُعْتَمَدُ، وَلَيْسَ يَأْثُرُهُ".

يأثره.

"وَلَيْسَ يَأْثُرُهُ عَنِ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ أَحَدٌ. أَمَّا أَنَّ فِي سُورَةِ (الْأَحْزَابِ) نُكْتَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَاوُدَ قَدْ صَارَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ زَوْجَةً، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} يَعْنِي فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ: تَزْوِيجُ دَاوُدَ الْمَرْأَةَ الَّتِي نَظَرَ إِلَيْهَا، كَمَا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، إِلَّا أَنَّ تَزْوِيجَ زَيْنَبَ كَانَ مِنْ غَيْرِ سُؤَالِ للزَّوْجِ فِي فِرَاقٍ، بَلْ أَمَرَهُ بِالتَّمَسُّكِ بِزَوْجَتِهِ، وَكَانَ تَزْوِيجُ دَاوُدَ لِلْمَرْأَةِ بِسُؤَالِ زَوْجِهَا فِرَاقَهَا. فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَنْقَبَةُ لِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى دَاوُدَ مُضَافَةً إِلَى مَنَاقِبِهِ الْعَلِيَّةِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وَلَكِنْ قَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} تَزْوِيجُ الْأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ.

وَقِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- فُرِضَ لَهُمْ مَا يَمْتَثِلُونَهُ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ. وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ. وَقَدْ رَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- نَكَحَ مِائَةَ امْرَأَةٍ، وَهَذَا نَصُّ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَتْ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ جَارِيَةٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ".

طالب: نص القرآن في داود".

التسعة والتسعون وتكميل المئة.

طالب: النعجة؟

 النعجة نعم. هذا في شرعهم، أما في شرعنا فلا يجوز مثل هذا.

"وَذَكَرَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ فِي أَحْكَامِهِ فِي قَوْلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} الْآيَةَ: ذَكَرَ الْمُحَقِّقُونَ الَّذِينَ يَرَوْنَ تَنْزِيهَ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- عَنِ الْكَبَائِرِ، أَنَّ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ قَدْ أَقْدَمَ عَلَى خِطْبَةِ امْرَأَةٍ قَدْ خَطَبَهَا غَيْرُهُ، يُقَالُ: هُوَ أُورِيَّا، فَمَالَ الْقَوْمُ إِلَى تَزْوِيجِهَا مِنْ دَاوُدَ رَاغِبِينَ فِيهِ، وَزَاهِدِينَ فِي الْخَاطِبِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ دَاوُدُ عَارِفًا، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ فَيَعْدِلَ عَنْ هَذِهِ الرَّغْبَةِ، وَعَنِ الْخِطْبَةِ بِهَا، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، مِنْ حَيْثُ أُعْجِبَ بِهَا إِمَّا وَصْفًا أَوْ مُشَاهَدَةً عَلَى غَيْرِ تَعَمُّدٍ".

يعني كأنه يقول: إن الأصل أنه إذا خطب، وهو في هذا المقام أن يسأل: هل خُطبت من قبل؟ هل تقدم أحد لخطبتها؟ ثم يقف، لكن لما كانت قد أعجبته قبل ذلك ما سأل، هذا وإن كان أخف مما قيل قبل إلا أنه أيضًا لا يلزم أن يسأل هل خطبت أو لم تخطب؟ يتقدم، فإن كانت قد خُطبت من قبل ذُكر لها ذلك وإلا فلا شيء عليه؛ لأن الممنوع أن يخطب على خطبة أخيه بعد علمه بذلك، أما إذا لم يعلم فلا شيء عليه.

"وَقَدْ كَانَ لِدَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ النِّسَاءِ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ، وَذَلِكَ الْخَاطِبُ لَا امْرَأَةَ لَهُ، فَنَبَّهَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا فَعَلَ بِمَا كَانَ مِنْ تُسَوُّرِ الْمَلَكَيْنِ، وَمَا أَوْرَدَاهُ مِنَ التَّمْثِيلِ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيضِ، لِكَيْ يَفْهَمَ مِنْ ذَلِكَ مَوْقِعَ الْعَتْبِ فَيَعْدِلَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَيَسْتَغْفِرَ رَبَّهُ مِنْ هَذِهِ الصَّغِيرَةِ. الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} فِيهِ الْفَتْوَى فِي النَّازِلَةِ بَعْدَ السَّمَاعِ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَقَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنَ الْآخَرِ بِظَاهِرِ هَذَا الْقَوْلِ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ، وَلَا فِي مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِلْبَشَرِ. وَإِنَّمَا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ ادَّعَى وَالْآخَرَ سَلَّمَ فِي الدَّعْوَى، فَوَقَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتْوَى. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا جَلَسَ إِلَيْكَ الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِ لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الْآخَرِ»".

خرجه؟

طالب: قال أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وقد قال ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعثه قاضيًا إلى اليمن.

طالب: هناك تخريج ثانٍ.

ماذا يقول؟

 حسن، أخرجه الحاكم من حديث علي، وصححه، ووافقه الذهبي، وفي الإسناد شريك بن عبد الله ساء حفظه لما تولى القضاء، لكن الحديث له شواهد يتقوى بها.

هو قطعة من حديث وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي لما بعثه إلى اليمن.

"وَقِيلَ: إِنَّ دَاوُدَ لَمْ يَقْضِ لِلْآخَرِ حَتَّى اعْتَرَفَ صَاحِبُهُ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ: لَقَدْ ظَلَمَكَ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِتَعْيِينِ مَا يُمْكِنُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ.

قُلْتُ: ذَكَرَ هَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ الْقُشَيْرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَوْلُهُ: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ الْخَصْمِ مُشْكِلٌ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا قَالَ هَذَا بَعْدَ مُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ الْآخَرِ وَبَعْدَ اعْتِرَافِهِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ رِوَايَتُهُ، فَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ قَرَائِنِ الْحَالِ، أَوْ أَرَادَ لَقَدْ ظَلَمَكَ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا تَقُولُ، فَسَكَّتَهُ بِهَذَا وَصَبَّرَهُ إِلَى أَنْ يَسْأَلَ خَصْمَهُ. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ مِنْ شَرْعِهِمُ التَّعْوِيلُ عَلَى قَوْلِ الْمُدَّعِي عِنْدَ سُكُوتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ إِنْكَارٌ بِالْقَوْلِ.

وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي كِتَابِ مِنْهَاجِ الدِّينِ لَهُ".

المنهاج في شعب الإيمان مطبوع لأبي عبد الله الحليمي ثلاث مجلدات، وهو أصل شعب الإيمان للبيهقي هو أصله.

"وَمِمَّا جَاءَ فِي شُكْرِ النِّعْمَةِ الْمُنْتَظَرَةِ إِذَا حَضَرَتْ، أَوْ كَانَتْ خَافِيَةً فَظَهَرَتِ: السُّجُودُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَحُسْنُ مَآبٍ}. أَخْبَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: أَنَّهُ سَمِعَ قَوْلَ الْمُتَظَلِّمِ مِنَ الْخَصْمَيْنِ، وَلَمْ يُخْبِرْ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ الْآخَرَ، وإِنَّمَا حَكَى أَنَّهُ ظَلَمَهُ، فَكَانَ ظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمُتَكَلِّمِ مَخَائِلَ الضَّعْفِ وَالْهَضِيمَةِ، فَحَمَلَ أَمْرَهُ عَلَى أَنَّهُ مَظْلُومٌ كَمَا يَقُولُ، وَدَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى أَلَّا يَسْأَلَ الْخَصْمَ. فَقَالَ لَهُ مُسْتَعْجِلًا: لَقَدْ ظَلَمَكَ مَعَ إِمْكَانِ أَنَّهُ لَوْ سَأَلَهُ لَكَانَ".

يعني النظر إلى مخائل الضعف والهضيمة كأنه عمل بالقرائن، كأنه عمل بالقرائن، يعني لو كانت القرائن قوية فقد تنزل منزلة البينات والدلائل عند بعض أهل العلم، إذا كانت قوية قريبة من هذه البينات.

"مَعَ إِمْكَانِ أَنَّهُ لَوْ سَأَلَهُ لَكَانَ يَقُولُ: كَانَتْ لِي مِائَةُ نَعْجَةٍ وَلَا شَيْءَ لِهَذَا، فَسَرَقَ مِنِّي هَذِهِ النَّعْجَةَ، فَلَمَّا وَجَدْتُهَا عِنْدَهُ قُلْتُ لَهُ: ارْدُدْهَا، وَمَا قُلْتُ لَهُ: أَكْفِلْنِيهَا، وَعَلِمَ أَنِّي مَرَافِعُهُ إِلَيْكَ، فَجَرَّنِي قَبْلَ أَنْ أَجُرَّهُ، وَجَاءَكَ مُتَظَلِّمًا مِنْ قَبْلِ أَنْ أُحْضِرَهُ؛ لِتَظُنَّ أَنَّهُ هُوَ الْمُحِقُّ، وَأَنِّي أَنَا الظَّالِمُ. وَلَمَّا تَكَلَّمَ دَاوُدُ بِمَا حَمَلَتْهُ الْعَجَلَةُ عَلَيْهِ، عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَلَّاهُ وَنَفْسَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهُوَ الْفِتْنَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَنْ تَقْصِيرٍ مِنْهُ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، وَخَرَّ رَاكِعًا لِلَّهِ تَعَالَى شُكْرًا عَلَى أَنْ عَصَمَهُ، بِأَنِ اقْتَصَرَ عَلَى تَظْلِيمِ الْمَشْكُوِّ، وَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا مِنَ انْتِهَارٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، مِمَّا يَلِيقُ بِمَنْ تُصَوّرَ فِي الْقَلْبِ أَنَّهُ ظَالِمٌ، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ يُعَاتِبُهُ، فَقَالَ: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، فَبَانَ بِمَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ، الَّتِي تَوَخَّاهُ بِهَا بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ، أَنَّ خَطِيئَتَهُ إِنَّمَا كَانَتِ التَّقْصِيرَ فِي الْحُكْمِ، وَالْمُبَادَرَةَ إِلَى تَظْلِيمِ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ ظُلْمُهُ. ثُمَّ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: سَجَدَهَا دَاوُدُ شُكْرًا، وَسَجَدَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اتِّبَاعًا، فَثَبَتَ أَنَّ السُّجُودَ لِلشُّكْرِ سُنَّةٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ-. {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} أَيْ: بِسُؤَالِهِ نَعْجَتَكَ، فَأَضَافَ الْمَصْدَرَ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَأَلْقَى الْهَاءَ مِنَ السُّؤَالِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} أَيْ مِنْ دُعَائِهِ الْخَيْرَ.

الثَّالِثَةَ عَشْرَة: قَوْلُهُ تَعَالَى".

فيما يتعلق بالسجد وهل هي من عزائم السنة أو سجدة شكر؟ وهل هي من السنن سجدة شكر مفردة أو أنه هناك صلاة الشكر؟ لأنه تقدم الركوع: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}[ص:24] كما سيأتي في كلام أهل العلم؛ منهم من يقول: إن السجود للشكر سجدة مفردة كسجدة التلاوة، وحكمها هو حكمها، وما يقال فيها يقال فيها، ومنهم من يقول: إنه لا يجوز سجدة مفردة للشكر، وإنما لا بد أن يتقدمها ما يتقدم في الركعة الكاملة من الركوع، ولذا قال: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}[ص:24]، ما قال: ساجدًا.

"الثَّالِثَةَ عَشْرَة: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} يُقَالُ: خَلِيطٌ وَخُلَطَاءُ، وَلَا يُقَالُ: طَوِيلٌ وَطُوَلَاءُ؛ لِثِقَلِ الْحَرَكَةِ فِي الْوَاوِ. وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا الْأَصْحَابُ. الثَّانِي أَنَّهُمَا الشُّرَكَاءُ. قُلْتُ: إِطْلَاقُ الْخُلَطَاءِ عَلَى الشُّرَكَاءِ فِيهِ بُعْدٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِفَةِ الْخُلَطَاءِ".

نعم، إطلاق الخلطاء على الشركاء فيه بعد؛ لأنه مال واحد، يشتركان في مال واحد، وليست خلطة، إنما هي شركة في مالٍ واحدٍ، وأما الخلطة فهي في مالين يكونان لرجلين إلا أنهما يختلطان ويشتركان في أمور تنفعهما في الزكاة، وقد تضرهما الخلطة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

طالب:...

أنهما الأصحاب.

طالب:...

 ممكن، لكن قد يكونا شركاء وليسا بأصحاب والعكس.

"فَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ أَنْ يَأْتِيَ كُلَّ وَاحِدٍ بِغَنَمِهِ فَيَجْمَعَهُمَا رَاعٍ وَاحِدٌ وَالدَّلْوُ وَالْمَرَاحُ. وَقَالَ طَاوُسٌ وَعَطَاءٌ: لَا يَكُونُ الْخُلَطَاءُ إِلَّا الشُّرَكَاءَ. وَهَذَا خِلَافَ الْخَبَرِ".

كل هذا من أجل ما جاء وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية؛ لأن الخلطة تُصيِّر المالين كالمال الواحد، الخلطة بالنسبة للزكاة تُصيِّر المالين كالمال الواحد، لو أن شخصًا عنده عشرين رأسًا من الغنم، والثاني عنده عشرون، وجب فيها زكاة بالخلطة، ولو تفرقا ما وجب عليهم شيء، ولو أن شخصًا عنده أربعون والثاني عنده أربعون وجب فيها شاة واحدة، ولو افترقا لوجب على كل واحد منهما شاة، فإذا وجدت الخلطة صيَّرت المالين كلمال الواحد؛ ولذا لا يجوز أن يجمع بين متفرق أو يفرق بين مجتمع من أجل الزكاة والتحايل على إسقاطها.

"وَهَذَا خِلَافَ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ»، وَرُوِيَ: «فَإِنَّهُمَا يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ». وَلَا مَوْضِعَ لِتَرَادِّ الْفَضْلِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، فَاعْلَمْهُ. وَأَحْكَامُ الْخُلْطَةِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَجَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَا يَرَوْنَ الصَّدَقَةَ عَلَى مَنْ لَيْسَ فِي حِصَّتِهِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ وَاللَّيْثُ وَجَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ: إِذَا كَانَ فِي جَمِيعِهَا مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ أُخِذَتْ مِنْهُمُ الزَّكَاةُ".

إذا كان في جميعهما مثل ما قلنا: إذا وجد عند شخص عشرون، ووجد عند آخر عشرون، واختلط مالهما بالضوابط المعروفة عند أهل العلم فإنه يجب عليهما شاة بينهما بالسوية، كل واحد عليه نصفها، ولو افترقا ما صار على واحد منهما شيء، والخلطة تنفع في تخفيف الزكاة، وتنفع أيضًا الفقراء في زيادتها في بعض الصور.

"قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ أَخَذَ الْمُصَّدِّقُ بِهَذَا تَرَادَّوْا بَيْنَهُمْ لِلِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَتَكُونُ كَحُكْمِ حَاكِمٍ اخْتُلِفَ فِيهِ".

ويرفع الخلاف حينئذ، ويتعين العمل به.

"الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أَيْ يَتَعَدَّى وَيَظْلِمُ. {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فَإِنَّهُمْ لَا يَظْلِمُونَ أَحَدًا. {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} يَعْنِي الصَّالِحِينَ، أَيْ: وَقَلِيلٌ هُمْ، فَ"مَا" زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى الَّذِينَ، وَتَقْدِيرُهُ: وَقَلِيلٌ الَّذِينَ هُمْ. وَسَمِعَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَجُلًا يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِكَ الْقَلِيلِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا هَذَا الدُّعَاءُ. فَقَالَ: أَرَدْتُ قَوْلَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} فَقَالَ عُمَرُ: كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْكَ يَا عُمَرُ!".

ولو أراد أيضًا أن يكون من الشاكرين: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ:13]، فله وجه.

"الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} أَيِ ابْتَلَيْنَاهُ. وَظَنَّ مَعْنَاهُ أَيْقَنَ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَالْفَرَّاءُ: ظَنَّ بِمَعْنَى أَيْقَنَ، إِلَّا أَنَّ الْفَرَّاءَ شَرَحَهُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْمُعَايَنِ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ إِلَّا بِمَعْنَى الْيَقِينِ".

هذا من حيث الظن الاصطلاحي لا يكون في المعاين أصلًا، يعني ما تقول: أظن هذا كرسي وأنت تراه، أنت تجزم وتتيقن أنه كرسي؛ لأن الظن هو الاحتمال الراجح، تظن بناءً على خبر يغلب عليك أنه صادق، وأما بالنسبة لما يدرك بالحواس فاليقين، وهنا المراد به اليقين، وكما في قوله -جل وعلا-: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ}[البقرة:46]؛ فالظن يأتي ويراد به اليقين.

يأتي ويراد به اليقين، ويأتي بمعنى الاحتمال الراجح، ويأتي بمعنى الشك، ويأتي بما هو دون ذلك إلى أن يصل إلى أكذب الحديث: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»، يعني ليست حقيقته واحدة، ومرتبته متساوية.

"وَالْقِرَاءَةُ "فَتَنَّاهُ" بِتَشْدِيدِ النُّونِ دُونَ التَّاءِ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "فَتَّنَّاهُ" بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَالنُّونِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ السَّمَيْقَعِ: "فَتَنَاهُ" بِتَخْفِيفِهِمَا. وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ دَخَلَا عَلَى دَاوُدَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قِيلَ: لَمَّا قَضَى دَاوُدُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ، نَظَرَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَضَحِكَ فَلَمْ يَفْطِنْ دَاوُدُ، فَأَحَبَّا أَنْ يَعْرِفَهُمَا، فَصَعِدَا إِلَى السَّمَاءِ حِيَالَ وَجْهِهِ، فَعَلِمَ دَاوُدُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَاهُ بِذَلِكَ، وَنَبَّهَهُ عَلَى مَا ابْتَلَاهُ.

 قُلْتُ: وَلَيْسَ فِي الْقِرَآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَضَاءِ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ، وَبِهَا اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الْقَضَاءِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، لَمَا أَقَرَّهُمْ دَاوُدُ عَلَى ذَلِكَ".

سبب المنع عند الشافعية أن القضاء قد يترتب عليه شيء من اللغط والأصوات، ارتفاع الأصوات، وقد يقال فيه الباطل، فيُنزّه المسجد عن مثل هذا، لكن قد يكون القضاء مع إسكات من رفع صوته، وزجر من تطاول على غيره، وتعدّى وظلم، وحينئذٍ لا يمنع من القضاء فيه كما أنه لا يمنع من التقاضي، وفي الصحيح تقاضى ابن أبي حدرد مع شخص آخر، فأشار النبي -عليه الصلاة والسلام- له أن يضع الشطر، فالتقاضي موجود.

"وَيَقُولُ: انْصَرِفَا إِلَى مَوْضِعِ الْقَضَاءِ. وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْخُلَفَاءُ يَقْضُونَ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: الْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ".

يعني متوارث من النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى وقته، وإلى وقت قريب والقضاء بالمسجد، لقلة القضاء وندرته، لقلة القضاء وندرته، وتجد العالم يدرس، يُقرأ عليه الدرس، ومع ذلك يقضي في الخصومة بينهم وينصرفون بالكلام، تنتهي القضية بالكلام.

"وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: الْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ يَعْنِي فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ فِي رَحْبَتِهِ، لِيَصِلَ إِلَيْهِ الضَّعِيفُ وَالْمُشْرِكُ وَالْحَائِضُ، وَلَا يُقِيمَ فِيهِ الْحُدُودَ".

لا تقام الحدود في المسجد؛ لما يترتب عليه أن يخرج منه بعض النجاسات، أو تصرف لا يفعل بالمسجد.

 "وَلَا بَأْسَ بِخَفِيفِ الْأَدَبِ. وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ: يَقْضِي فِي مَنْزِلِهِ وَأَيْنَ أَحَبَّ.

السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَانَ الْخُلَفَاءُ يَقْضُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَقْضَى مُعَاوِيَةُ. قَالَ مَالِكٌ: وَيَنْبَغِي لِلْقُضَاةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَا يُسْتَقْضَى حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِآثَارِ مَنْ مَضَى، مُسْتَشِيرًا لِذَوِي الرَّأْيِ، حَلِيمًا نَزِهًا. قَالَ: وَيَكُونُ وَرِعًا. قَالَ مَالِكٌ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا كَثِيرَ التَّحَذُّرِ مِنَ الْحِيَلِ".

هذا بالإمكان المطلوب من القضاة، العدد قليل في كل بلد واحد كما كان هذا الأمر في السابق، لكن إذا احتيج إلى أعدادًا هائلةً من القضاة لكثرة المشاكل والقضايا والحيل بين الناس، وأمور لا تنتهي، فكثيرٌ من الشروط لا يتسنى تحققها، وإذا كان الأمر كذلك فلا مانع من النزول على حسب مستوى الناس، والقاضي من بلده وابن بيئته وابن أصله، لا يطلب من القضاة في القرن الخامس عشر كما يطلب من القضاة في القرن الأول أو الثاني، لا يمكن، كما أنه لا يطلب أيضًا من الولاة مثل ذلك، حيثما تكونوا يولّ عليكم؛ لأنهم يذكرون في شروط القضاء وفي شروط الولاية وفي شروط كذا أمور يتعذر تحققها في كثير من الأحوال، فإذا كان الناس بحاجة إلى ألوف مؤلفة من القضاة، فكيف يتسنى تحقيق مثل هذه الشروط؟ لكن على الإمام أن يتحرى، أن يتحرى من يقيم الحق بين الناس يتحلى بالورع.

طالب:...

ساحته التي بالخارج التي تدخلها الحائض خارج السور.

طالب:...

لا لا خارج السور، ما كان خارج السور ليس له حكم المسجد.

"قَالَ مَالِكٌ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا كَثِيرَ التَّحَذُّرِ مِنَ الْحِيَلِ، وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالشُّرُوطِ، عَارِفًا بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ".

لأنه قد يشتمل كلام المدعي والمدعى عليه ما يتغير معناه والمقصود منه تبعًا لتغير إعرابه.

"فَإِنَّ الْأَحْكَامَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ وَالدَّعَاوَى وَالْإِقْرَارَاتِ وَالشَّهَادَاتِ وَالشُّرُوطِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ حُقُوقَ الْمَحْكُومِ لَهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ إِنْجَازِ الْحُكْمِ لِلْمَطْلُوبِ: أَبَقِيَتْ لَكَ حُجَّةٌ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا، حَكَمَ عَلَيْهِ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ حُجَّةً بَعْدَ إِنْفَاذِ حُكْمِهِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِمَا لَهُ وَجْهٌ أَوْ بَيِّنَةٌ. وَأَحْكَامُ الْقَضَاءِ وَالْقُضَاةِ فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ مَذْكُورَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ".

هناك كتب ألفت في القضاء والقضاة شروطهم، وذكر شيء من قضائهم ونوادرهم وطرائفهم. نعم.

"الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الذَّنْبِ الَّذِي اسْتَغْفَرَ مِنْهُ عَلَى أَقْوَالٍ سِتَّةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى الْمَرْأَةِ حَتَّى شَبِعَ مِنْهَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّمَا كَانَتْ فِتْنَتُهُ النَّظْرَةَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَلَمْ يَتَعَمَّدْ دَاوُدُ النَّظَرَ إِلَى الْمَرْأَةِ لَكِنَّهُ عَاوَدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا، فَصَارَتِ الْأُولَى لَهُ وَالثَّانِيَةُ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَغْزَى زَوْجَهَا فِي حَمَلَةِ التَّابُوتِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ نَوَى إِنْ مَاتَ زَوْجُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ أُورِيَّا كَانَ خَطَبَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ، فَلَمَّا غَابَ خَطَبَهَا دَاوُدُ فَزُوِّجَتْ مِنْهُ لِجَلَالَتِهِ، فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ أُورِيَّا. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَى دَاوُدَ إِذْ لَمْ يَتْرُكْهَا لِخَاطِبِهَا. وَقَدْ كَانَ عِنْدَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً. الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَمْ يَجْزَعْ عَلَى قَتْلِ أُورِيَّا، كَمَا كَانَ يَجْزَعُ عَلَى مَنْ هَلَكَ مِنَ الْجُنْدِ، ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ; لِأَنَّ ذُنُوبَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْ صَغُرَتْ فَهِيَ  عَظِيمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ".

الأوجه الخمسة المذكورة كلها متعلقة ومرتبة على ما ذكر من القصص الباطلة في هذه القصة. نعم، لكن لو أن شخصًا من طلاب العلم عنده نسخ من كتاب، ورأى نسخة تُباع في السوق، وفيه طالب علم يحتاج إليها، ليس عنده نسخة، فأراد أن يشتريها نسخة عاشرة، وهذا طالب ما عنده شيء، فهل يأثم أم ما يأثم؟

طالب:...

نعم.

طالب:...

لا، يريدها، طالب علم جالس عنده يزايد فيها.

طالب:...

 يعني إذا كان لها مزية على غيرها مما عنده، وإن لم يكن لها مزية؟

طالب:...

أو نقول: إن السلع كلها قد تتشابه إلا النساء، يعني قد يرى امرأة ولو كانت رقم مئة لها من المزايا ما ليس من مزايا التسعة والتسعين، بينما الكتب لاسيما المطبوعات ليس لبعضها على بعض مزية، فعوتب، كل هذا بناءً على الأوجه المذكورة، ويمكن أن يفرع عليها، لا أن تجعل هذه أصل في المسألة، وإنما تنبه على مسائل أخرى، يعني المسألة هذه ما ثبتت، وإن كان المنصوص عليها ما فيه إشكال قطعي أن هذا له تسع وتسعون نعجة، {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا}[ص:23]، يعني أراد ضم هذه الواحدة إلى التسع والتسعين؛ ليكون مئة، بغض النظر عما كان عند داود -عليه السلام- من النساء، وضم امرأة أوريا أو ما شابه ذلك، مما جاء عن الإسرائيليات، لكن هذه تنبه على مسائل كثيرة، تنبه مثل ما قلنا، شخص عنده عشرة أكياس من الأرز مثلًا، وقالوا: إن الأرز مثلًا نادر، أو انقطع، أو شيء من هذا، ووجد كيسًا يباع، وجد كيسًا يباع، وفيه واحد بحاجته، فهل نقول: إنه لا يجوز لك أن تشتريه، وأن تضمه إلى ما عندك، وعليك أن تؤثر به غيرك، أو نقول: أحل الله البيع، ومادام حال الضرورة لها أحكامها، ولكن المسألة فيها شيء إلى الآن ما انقطع، ولا اشتدت الحاجة إليه، لا شك أن الإيثار في مثل هذا مطلوب، وقد مدح الله الأنصار به: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر:9]، هذا ما عنده خصاصة أصلًا، فهذا الإيثار متعين عليه، وأما الإثم فلا يكون إلا في حالة الاضطرار.

"السَّادِسُ: أَنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنَ الْآخَرِ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنَ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَلِكَ تَعْرِيضُ زَوْجِهَا لِلْقَتْلِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ نَظَرَ إِلَيْهَا حَتَّى شَبِعَ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدِي بِحَالٍ; لِأَنَّ طُمُوحَ النَّظَرِ لَا يَلِيقُ بِالْأَوْلِيَاءِ الْمُتَجَرِّدِينَ لِلْعِبَادَةِ، فَكَيْفَ بِالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ هُمْ وَسَائِطُ اللَّهِ الْمُكَاشَفُونَ بِالْغَيْبِ؟!

وَحَكَى السُّدِّيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَوْ سَمِعْتُ رَجُلًا يَذْكُرُ أَنَّ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَارَفَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ مُحَرَّمًا لَجَلَدْتُهُ سِتِّينَ وَمِائَةً؛ لِأَنَّ حَدَّ قَاذِفِ النَّاسِ ثَمَانُونَ، وَحَدَّ قَاذِفِ الْأَنْبِيَاءِ سِتُّونَ وَمِائَةٌ. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ أَيْضًا.

قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَقَالَ الْحَارِثُ".

في قصة الإفك النبي -عليه الصلاة والسلام- لما نزلت براءة عائشة حد رجلين وامرأة حدهما الحد ثمانين، وما زاد على ذلك، وإن كان القذف ليس للنبي -عليه الصلاة والسلام-، وإنما هو لأهله.

"قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَقَالَ الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ عَنْ عَلِيٍّ: مَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثِ دَاوُدَ عَلَى مَا تَرْوِيهِ الْقُصَّاصُ مُعْتَقِدًا جَلَدْتُهُ حَدَّيْنِ، لِعِظَمِ مَا ارْتَكَبَ بِرَمْيِ مَنْ قَدْ رَفَعَ اللَّهُ مَحَلَّهُ، وَارْتَضَاهُ مِنْ خَلْقِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَحُجَّةً لِلْمُجْتَهِدِينَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَصِحَّ عَنْ عَلِيٍّ".

لا شك أن الحارث الأعور ضعيف، ضعيف جدًّا، متروك بل كذَّبه بعضهم.

طالب:..

ردة يجب قتله، الذي يقذف قذفًا صريحًا ردة.

"فَإِنْ قِيلَ: فَمَا حُكْمُهُ عِنْدَكُمْ؟ قُلْنَا: أَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ نَبِيًّا زَنَى فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، وَأَمَّا مَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ مَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ النَّظَرِ وَالْمُلَامَسَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ نَقْلُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ صَمَّمَ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ فِيهِ وَنَسَبَهُ إِلَيْهِ قَتَلْتُهُ، فَإِنَّهُ يُنَاقِضُ التَّعْزِيرَ الْمَأْمُورَ بِهِ".

التعزير المراد به التوقير والتعظيم.

 "فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى امْرَأَةٍ تَغْتَسِلُ عُرْيَانَةً، فَلَمَّا رَأَتْهُ أَسْبَلَتْ شَعْرَهَا فَسَتَرَتْ جَسَدَهَا، فَهَذَا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهِ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ النَّظْرَةَ الْأُولَى تَكْشِفُ الْمَنْظُورَ إِلَيْهِ وَلَا يَأْثَمُ النَّاظِرُ بِهَا، فَأَمَّا النَّظْرَةُ الثَّانِيَةُ فَلَا أَصْلَ لَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ".

يعني لا أصل لها في هذه القصة؛ لأنها أضفت إلى معصوم وهي محرمة، والمعصوم لا يقارف المحرم.

"وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ نَوَى إِنْ مَاتَ زَوْجُهَا تَزَوَّجَهَا، فَلَا شَيْءَ فِيهِ إِذْ لَمْ يُعَرِّضْهُ لِلْمَوْتِ".

يعني مثل هذا ملحق بحديث النفس، هذا ملحق بحديث النفس ولو تكرر في النفس ما لم يعزم. نعم.

"وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أُورِيَّا فَبَاطِلٌ يَرُدُّهُ الْقُرْآنُ وَالْآثَارُ التَّفْسِيرِيَّةُ كُلُّهَا. وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ الْحَمَامَةَ أَتَتْ فَوَقَعَتْ قَرِيبًا مِنْ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهِيَ مِنْ ذَهَبٍ، فَلَمَّا رَآهَا أَعْجَبَتْهُ فَقَامَ لِيَأْخُذَهَا فَكَانَتْ قُرْبَ يَدِهِ، ثُمَّ صَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ طَارَتْ وَاتَّبَعَهَا بِبَصَرِهِ فَوَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ وَهِيَ تَغْتَسِلُ وَلَهَا شَعْرٌ طَوِيلٌ، فَبَلَغَنِي أَنَّهُ أَقَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجِدًا حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ مِنْ دُمُوعِ عَيْنِهِ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَمَّا قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الطَّائِرَ دَرَجَ عِنْدَهُ فَهَمَّ بِأَخْذِهِ وَاتَّبَعَهُ، فَهَذَا لَا يُنَاقِضُ الْعِبَادَةَ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ فِعْلُهُ، لَاسِيَّمَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَطَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ، وَإِنَّمَا اتَّبَعَ الطَّيْرَ لِذَاتِهِ لَا لِجَمَالِهِ، فَإِنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا ذِكْرُهُمْ لِحُسْنِ الطَّائِرِ خَرْقٌ فِي الْجَهَالَةِ".

نعم؛ لأنه لا أثر له، لأنه لو ثبتت القصة قيل: إنه يريد الطائر؛ ليستفيد منه؛ ليأكله، وأما كونه جميل، أو غير جميل فهذا لا يليق بالمقام، فإضافته إلى القصة جهالة، قد تلتفت همم بعض الناس، أو كثير من الناس إلى جماله وحسنه، لكن ليس هذا من مقاصد مثل هذا.

"أَمَّا أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ طَائِرًا مِنْ ذَهَبٍ فَاتَّبَعَهُ لِيَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ: «إِنَّ أَيُّوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَحْثِي مِنْهُ وَيَجْعَلُ فِي ثَوْبِهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: "يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ" قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ وَلَكِنْ لَا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ». وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَهَمَّ دَاوُدُ بِأَنْ يَأْخُذَهُ؛ لِيَدْفَعَهُ إِلَى ابْنٍ لَهُ صَغِيرً فَطَارَ وَوَقَعَ عَلَى كُوَّةِ الْبَيْتِ، وَقَالَهُ الثَّعْلَبِيُّ أَيْضًا وَقَدْ تَقَدَّمَ.

 التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} أَيْ خَرَّ سَاجِدًا، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ السُّجُودِ بِالرُّكُوعِ".

نعم كما هنا، وقد يُعبر بالعكس بالسجود عن الركوع: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}[البقرة:58]، يعني ركوعًا، «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح»، وفي صحيح مسلم: «من أدرك سجدة»، قال الراوي: والسجدة إنما هي الركعة، تطلق السجدة ويراد بها الركعة والعكس كما هنا.

"قَالَ الشَّاعِرُ:

فَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ رَاكِعًا
 

وَتَابَ إِلَى اللَّهِ مِنْ كُلِّ ذَنْبِ
  

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّكُوعِ هَاهُنَا السُّجُودُ".

ولذا لا يقول أحد بأن قارئ سورة ص إذا وصل إلى هذه الآية يركع لا يسجد، فالمراد بالركوع هنا السجود، فإذا قرأها سجد، على خلاف بينهم هل هي من العزائم أو لا، يأتي ذكره.

"فَإِنَّ السُّجُودَ هُوَ الْمَيْلُ، وَالرُّكُوعُ هُوَ الِانْحِنَاءُ، وَأَحَدُهُمَا يَدْخُلُ عَلَى الْآخَرِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ بِهَيْئَتِهِ، ثُمَّ جَاءَ هَذَا عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، فَسُمِّيَ السُّجُودُ رُكُوعًا وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَكَانَ رُكُوعُهُمْ سُجُودًا. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ سُجُودُهُمْ رُكُوعًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فَوَقَعَ مِنْ رُكُوعِهِ سَاجِدًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. أَيْ: لَمَّا أَحَسَّ بِالْأَمْرِ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، ثُمَّ وَقَعَ مِنَ الرُّكُوعِ إِلَى السُّجُودِ؛ لِاشْتِمَالِهِمَا جَمِيعًا عَلَى الِانْحِنَاءِ. وَأَنَابَ أَيْ: تَابَ مِنْ خَطِيئَتِهِ وَرَجَعَ إِلَى اللَّهِ".

طالب:..

بهيئتها التفصيلية الله أعلم، لكن فيها ركوع وسجود، الصلاة كلها فيها ركوع وسجود.

"وَقَالَ الْحسينُ بْنُ الْفَضْلِ: سَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ وَهُوَ الْوَالِي، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَخَرَّ رَاكِعًا}، فَهَلْ يُقَالُ لِلرَّاكِعِ خَرَّ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَمَا مَعْنَى الْآيَةِ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهَا فَخَرَّ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَاكِعًا أَيْ: سَجَدَ.

الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ: وَاخْتُلِفَ فِي سَجْدَةِ دَاوُدَ، هَلْ هِيَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ أَمْ لَا؟ فَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخِدْرَيُّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرَ قَرَأَ بِهَا فَتَشَزَّنَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".

تشزن يعني تأهبوا وتهيئوا للسجود، فبين لهم النبي -عليه الصلاة والسلام- حكمها.

"فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَشَزَّنْتُمْ لِلسُّجُودِ، وَنَزَلَ وَسَجَدَ» وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ. وَفِيَّ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "ص" لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ الْقُرْآنِ".

وهذا هو المعروف عند الحنابلة أنها ليست من عزائم السجود، فهي سجدة شكر، ولو سجدها المصلي في صلاته بطلت صلاته، مبطلة للصلاة؛ لأنها ليست من عزائم السجود، وأما خارج الصلاة فالأمر فيه سعة، ومن أهل العلم من يرى أنها لما سجدها النبي -عليه الصلاة والسلام- فهي سجدة، فإذا ثبتت بفعله شرعت في الصلاة وخارج الصلاة.

طالب: والراجح؟

وكأنها طالما ثبتت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- فهي سجدة.

"وَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْجُدُ فِيهَا. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: "ص" تَوْبَةُ نَبِيٍّ، وَلَا يُسْجَدُ فِيهَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيِّ، وَنَبِيُّكُمْ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مَوْضِعَ سُجُودٍ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَجَدَ فِيهَا فَسَجَدْنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ. وَمَعْنَى السُّجُودِ أَنَّ دَاوُدَ سَجَدَ خَاضِعًا لِرَبِّهِ، مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ. تَائِبًا مِنْ خَطِيئَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ أَحَدٌ فِيهَا فَلْيَسْجُدْ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ بِحُرْمَةِ دَاوُدَ الَّذِي اتَّبَعَهُ".

يعني بحرمة إتباعه، بحرمة إتباعه لداود الذي أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يقتدي به، أن يقتدي به، وهذا المقصود، أما التوسل بحرمة فلان أوعلان ولو كان من أعظم الناس جاهًا لا يجوز.

"وَسَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا أَمْ لَا؟ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ أُمَّةٍ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

علق عليه الشيخ؟

طالب:...

الأصل أن يعلق؛ لأن اللفظ موهم.

"الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: قَوْلُهُ: وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ، فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ لِلشُّكْرِ مُفْرَدًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ مَعَهُ الرُّكُوعَ".

لكن من يقول بقول الحنابلة أنها سجدة شكر، وأنها مبطلة للصلاة، وصلى خلف إمام وسجد الإمام، هل يسجد أم يستمر واقفًا؟ فرق بين كونها مبطلة وبين كونها لا تشرع، لكنها لا تبطل، والحنابلة يرونها مبطلة للصلاة، ولذلك لا يسجدون ولو كانوا خلف الإمام، يستمر واقفًا حتى يقوم الإمام؛ لأن هذا مؤثر في الصلاة البطلان، وفرق بين أن يكون بين راجح ومرجوح، وبين فاضل ومفضول، وفي فعل مستحب وتركه، في ترك مكروه أو فعله            ، مثل هذا نقول: الخلاف شر، لكن ما يبطل الصلاة، نقول: الخلاف شر؟

طالب:..

لا هو عنده مستقر، الراجح عنده أن هذا يبطل الصلاة.

طالب: «إنما جعل الإمام ليؤتم به».

ما يلزم هذا للتنبيه فيما شرع، لكن لو ما رفع يده لا ترفع يدك؟

طالب: لكن الدليل ظني الذي استدلوا به على بطلان.

هذا استقر عندهم وترجح عندهم أنه مبطل للصلاة، ما ينازعون في هذا في كونه مبطلًا، ولذا نقول من رأى هذا القول هل يتابع أو لا يتابع؟

طالب:..

لا هذه مسألة أخرى، هذه مسألة الخلاف فيها قوي، وأدلتها ظاهرة، حتى الحنابلة يتابعون، والشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته إلى أهل مكة قال: ونتابع الشافعي في قنوته في صلاة الفجر، وفي جهره بالبسملة، لكن لا نتابع الحنفي في تركه الطمأنينة. فالشيء المبطل للصلاة يختلف عن الأمر غير المبطل للصلاة، نعم ورأينا من فقهائهم من لا يسجد، يقف حتى يقوم الإمام من سجدته، وعلى كل حال مادام سجدها النبي -عليه الصلاة والسلام- فلتسجد على أي حال.

"وَإِنَّمَا الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِرَكْعَتَيْنِ شُكْرًا، فَأَمَّا سَجْدَةٌ مُفْرَدَةٌ فَلَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْبِشَارَاتِ كَانَتْ تَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَئِمَّةَ بَعْدَهُ، فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ سَجَدَ شُكْرًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَفْعُولًا لَهُمْ لَنُقِلَ نَقْلًا مُتَظَاهِرًا؛ لِحَاجَةِ الْعَامَّةِ إِلَى جَوَازِهِ وَكَوْنِهِ قُرْبَةً".

الآن في الصلاة في الحرم يسجد أم ما يسجد الإمام؟

طالب: بعضهم يسجد، وبعضهم يترك.

الذي يترك كان يسجد؛ لأنه وجد من لم يتابعه ممن يُشار إليه صار فيه إحراج، يعني نقل على الملأ أنه ظل واقفًا، بعدها ما سجد.

طالب:...

هذه لا أصل لها، لا أصل لها، وأنا ما أتابع.

"قُلْتُ: وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى يَوْمَ بُشِّرَ بِرَأْسِ أَبِي جَهْلٍ رَكْعَتَيْنِ»".

طالب:..

ضعيف نعم.

"وَخَرَّجَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يَسُرُّهُ - أَوْ يُسَرُّ بِهِ - خَرَّ سَاجِدًا شُكْرًا لِلَّهِ». وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ".

طالب: قال: أخرجه ابن ماجه وأبو داود والترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث بكار بن عبد العزيز..

نعم عامة أهل العلم يعبرون بسجود الشكر، ولا يعبرون بصلاة الشكر.

طالب:..

معروف السجود، من أهل العلم من لا يرى أن هناك سجدة شكر أصلًا، يقول: الصلاة شكر، صل ركعتين ما فيه شيء اسمه سجدة شكر، والجمهور على أنها سجدة شكر مثل سجدة التلاوة يتقرب بسجدة واحدة.

طالب:..

على الخلاف في كونه صلاة أو ليست بصلاة، على الخلاف في كون سجدة التلاوة والشكر صلاة أو ليست بصلاة، الذي يقول: صلاة يفتتحها بالتكبير ويختتمها بالتسليم، هذا الذي يقول: صلاة، والذي يقول: ليست بصلاة لا يُشترط لها الشروط فيسجد بدون طهارة ولا يكبر ولا يسلم ولا شيء.

طالب: ولو كان لغير القبلة؟

ولو كان لغير القبلة، هذا معروف عن ابن عمر أنه سجد على غير طهارة. عند الحنابلة سجدة الشكر وسجدة التلاوة كلها صلاة يُشترط لها ما يُشترط للصلاة؛ يكبر في أولها وفي آخرها ويسلم، وتُشترط لها جميع الشروط، ولا تُفعل في أوقات النهي، وعند جمع من أهل العلم، بل هم الأكثر أنها ليست بصلاة. ولم يرجح شيخ الإسلام ابن تيمية.

طالب: الحنابلة عندهم دليل على هذا الأمر؟

صورتها صورة الصلاة ما فيه شيء يُسمى سجودًا إلا في الصلاة، وفي الحديث: «مفتاحها التكبير تحريمها التكبير وتحليلها التسليم» فهي صلاة.

"الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لِلْغَيْرِ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ يَسْتَتِرُ بِشَجَرَةٍ وَهُوَ يَقْرَأُ: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ سَجَدَ وَسَجَدَتْ مَعَهُ الشَّجَرَةُ، فَسَمِعَهَا وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعْظِمْ لِي بِهَذِهِ السَّجْدَةِ أَجْرًا، وَارْزُقْنِي بِهَا شُكْرًا.

قُلْتُ: خَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، كَأَنِّي أُصَلِّي إِلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ، فَقَرَأْتُ السَّجْدَةَ فَسَجَدْتُ فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي، فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ: اللَّهُمَّ احْطُطْ بِهَا عَنِّي وِزْرًا، وَاكْتُبْ لِي بِهَا أَجْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَرَأَ "السَّجْدَةَ" فَسَجَدَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ مِثْلَ الَّذِي أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ». ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُنِي فِي النَّوْمِ كَأَنِّي تَحْتَ شَجَرَةٍ، وَالشَّجَرَةُ تَقْرَأُ "ص" فَلَمَّا بَلَغَتِ السَّجْدَةَ سَجَدَتْ فِيهَا، فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ فِي سُجُودِهَا: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا أَجْرًا، وَحُطَّ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَارْزُقْنِي بِهَا شُكْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَ مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ سَجْدَتَهُ. فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَفَسَجَدْتَ أَنْتَ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ فَقُلْتُ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: لَقَدْ كُنْتَ أَحَقَّ بِالسُّجُودِ مِنَ الشَّجَرَةِ». ثُمَّ قَرَأَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "ص" حَتَّى بَلَغَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، ثُمَّ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَتِ الشَّجَرَةُ".

خرجه؟

طالب: ........

نعم التخريج، ما خرج شيئًا؟ حديث الشجرة كلها من أوله إلى آخره.

طالب: الأول أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان وابن خزيمة والحاكم ووافقه الذهبي وهو من حديث ابن عباس..

يتقوى بالذي قبله، والأخير؟

طالب: هذا الأخير.

الصحيحة تشمل الصحيح والحسن، وهو يتقوى بما بعده.

"الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} أَيْ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَنْبَهُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} تَامٌّ، ثُمَّ تَبْتَدِئُ {وَإِنَّ لَهُ} وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى فَغَفَرْنَا لَهُ ثُمَّ تَبْتَدِئُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ كَقَوْلِهِ: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ دَاوُدَ سَجَدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى نَبَتَ الْمَرْعَى حَوْلَ وَجْهِهِ وَغَمَرَ رَأْسَهُ فَنُودِيَ: أَجَائِعٌ فَتُطْعَمُ، أَوْ أَعَارٍ فَتُكْسَى، فَنَحَبَ نَحْبَةً هَاجَ الْمَرْعَى مِنْ حَرِّ جَوْفِهِ، فَغُفِرَ لَهُ وَسُتِرَ بِهَا".

هاج يعني اصفر وتبعثر من حر جوفه، يعني شواه حر جوفه كما تشوي الشمس المحرقة، وهذا كله من الأخبار التي نُقلت عن الإسرائيليات.

"فَقَالَ: يَا رَبِّ هَذَا ذَنْبِي فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَدْ غَفَرْتَهُ، وَكَيْفَ بِفُلَانٍ وَكَذَا وَكَذَا رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، تَرَكْتُ أَوْلَادَهُمْ أَيْتَامًا، وَنِسَاءَهُمْ أَرَامِلَ؟ قَالَ: يَا دَاوُدُ لَا يُجَاوِزُنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظُلْمٌ، أُمَكِّنُهُ مِنْكَ ثُمَّ أَسْتَوْهِبُكَ مِنْهُ بِثَوَابِ الْجَنَّةِ. قَالَ: يَا رَبِّ هَكَذَا تَكُونُ الْمَغْفِرَةُ الْهَيِّنَةُ. ثُمَّ قِيلَ: يَا دَاوُدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ. فَذَهَبَ لِيَرْفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا بِهِ قَدْ نَشِبَ فِي الْأَرْضِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَاقْتَلَعَهُ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا يُقْتَلَعُ مِنَ الشَّجَرَةِ صَمْغُهَا. رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ جَابِرٍ عَنْ عَطَاءٍ. قَالَ الْوَلِيدُ: وَأَخْبَرَنِي مُنِيرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: فَلَزِقَ مَوَاضِعُ مَسَاجِدِهِ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ فَرْوَةِ وَجْهِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ. قَالَ الْوَلِيدُ قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: فَكَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ هَذَا شَرَابِي دُمُوعِي، وَهَذَا طَعَامِي فِي رَمَادٍ بَيْنَ يَدَيَّ. فِي رِوَايَةٍ: إِنَّهُ سَجَدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَّا لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، فَبَكَى حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ مِنْ دُمُوعِهِ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ   -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ دَاوُدَ مَكَثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجِدًا حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ مِنْ دُمُوعِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَكَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ جَبِينِهِ وَهُوَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: يَا رَبِّ، دَاوُدُ زَلَّ زَلَّةً بَعُدَ بِهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، رَبِّ إِنْ لَمْ تَرْحَمْ  ضَعْفَ دَاوُدَ وَتَغْفِرْ ذَنْبَهُ جَعَلْتَ ذَنْبَهُ حَدِيثًا فِي الْخَلْقِ مِنْ بَعْدِهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً: يَا دَاوُدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ الْهَمَّ الَّذِي هَمَمْتَ بِهِ».

خرجه؟

طالب: قال: أخرجه الطبري والثعلبي في عرائس المجالس، والبغوي في تفسيره من حديث أنس، وسلف قسم منه، وهو حديث ضعيف.

من حديث أبي هريرة.

طالب: لم أر من عزاه لأبي هريرة.

يعني من حديث أنس، ومع ذلك ضعيف، وهو بالإسرائيليات أشبه.

"وَقَالَ وَهْبٌ: إِنَّ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- نُودِيَ إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكَ. فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: لِمَ لَا تَرْفَعُ رَأْسَكَ وَرَبُّكُ قَدْ غَفَرَ لَكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ وَأَنْتَ لَا تَظْلِمُ أَحَدًا. فَقَالَ اللَّهُ لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ إِلَى دَاوُدَ فَقُلْ لَهُ يَذْهَبُ إِلَى قَبْرِ أُورِيَّا فَيَتَحَلَّلُ مِنْهُ، فَأَنَا أُسْمِعُهُ نِدَاءَهُ. فَلَبِسَ دَاوُدُ الْمُسُوحَ وَجَلَسَ عِنْدَ قَبْرِ أُورِيَّا وَنَادَى: يَا أُورِيَّا، فَقَالَ: لَبَّيْكَ! مَنْ هَذَا الَّذِي قَطَعَ عَلَيَّ لَذَّتِي وَأَيْقَظَنِي؟ فَقَالَ: أَنَا أَخُوكَ دَاوُدُ، أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَنِي فِي حِلٍّ، فَإِنِّي عَرَّضْتُكَ قد لِلْقَتْلِ. قَالَ: عَرَّضْتَنِي لِلْجَنَّةِ فَأَنْتَ فِي حِلٍّ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: كَانَ دَاوُدُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَعْدَ الْخَطِيئَةِ لَا يُجَالِسُ إِلَّا الْخَاطِئِينَ، وَيَقُولُ: تَعَالَوْا إِلَى دَاوُدَ الْخَطَّاءِ، وَلَا يَشْرَبُ شَرَابًا إِلَّا مَزَجَهُ بِدُمُوعِ عَيْنَيْهِ. وَكَانَ يَجْعَلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ الْيَابِسَ فِي قَصْعَةٍ فَلَا يَزَالُ يَبْكِي حَتَّى يَبْتَلَّ بِدُمُوعِهِ، وَكَانَ يَذُرُّ عَلَيْهِ الرَّمَادَ وَالْمِلْحَ فَيَأْكُلُ وَيَقُولُ: هَذَا أَكْلُ الْخَاطِئِينَ. وَكَانَ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ يَقُومُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَصُومُ نِصْفَ الدَّهْرِ. ثُمَّ صَامَ بَعْدَهُ الدَّهْرَ كُلَّهُ، وَقَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ. وَقَالَ: يَا رَبِّ اجْعَلْ خَطِيئَتِي فِي كَفِّي، فَصَارَتْ خَطِيئَتُهُ مَنْقُوشَةً فِي كَفِّهِ. فَكَانَ لَا يَبْسُطُهَا لِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ وَلَا شَيْءٍ إِلَّا رَآهَا فَأَبْكَتْهُ، وَإِنْ كَانَ لَيُؤْتَى بِالْقَدَحِ ثُلُثَاهُ مَاءٌ، فَإِذَا تَنَاوَلَهُ أَبْصَرَ خَطِيئَتَهُ فَمَا يَضَعُهُ عَنْ شَفَتِهِ حَتَّى يُفِيضَ مِنْ دُمُوعِهِ.

وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ عَيْنَيْ دَاوُدَ مَثَلُ الْقِرْبَتَيْنِ تَنْطِفَانِ، وَلَقَدْ خَدَّدَ الدُّمُوعُ فِي وَجْهِ دَاوُدَ خَدِيدَ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ». قَالَ الْوَلِيدُ: وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ أَنَّهُ كَانَ فِي قَوْلِ دَاوُدَ إِذْ هُوَ خُلُوٌّ مِنَ الْخَطِيئَةِ شِدَّةَ قَوْلِهِ فِي الْخَطَّائِينَ أنْ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تَغْفِرْ لِلْخَطَّائِينَ. ثُمَّ صَارَ إِلَى أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ رَبِّ اغْفِرْ لِلْخَاطِئِينَ لِكَيْ تَغْفِرَ لِدَاوُدَ مَعَهُمْ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ. إِلَهِي خَرَجْتُ أَسْأَلُ أَطِبَّاءَ عِبَادِكَ أَنْ يُدَاوُوا خَطِيئَتِي، فَكُلُّهُمْ عَلَيْكَ يَدُلُّنِي. إِلَهِي أَخْطَأْتُ خَطِيئَةً قَدْ خِفْتُ أَنْ تَجْعَلَ حَصَادَهَا عَذَابَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ لَمْ تَغْفِرْهَا، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ. إِلَهِي إِذَا ذَكَرْتُ خَطِيئَتِي ضَاقَتِ الْأَرْضُ بِرَحْبِهَا عَلَيَّ، وَإِذَا ذَكَرْتُ رَحْمَتَكَ ارْتَدَّ إِلَيَّ رُوحِي.

 وَفِي الْخَبَرِ: أَنَّ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ إِذَا عَلَا الْمِنْبَرَ رَفَعَ يَمِينَهُ فَاسْتَقْبَلَ بِهَا النَّاسَ لِيُرِيَهُمْ نَقْشَ خَطِيئَتِهِ، فَكَانَ يُنَادِي: إِلَهِي إِذَا ذَكَرْتُ خَطِيئَتِي ضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِرَحْبِهَا، وَإِذَا ذَكَرْتُ رَحْمَتَكَ ارْتَدَّ إِلَيَّ رُوحِي، رَبِّ اغْفِرْ لِلْخَاطِئِينَ كَيْ تَغْفِرَ لِدَاوُدَ مَعَهُمْ. وَكَانَ يَقْعُدُ عَلَى سَبْعَةِ أَفْرِشَةٍ مِنَ اللِّيفِ مَحْشُوَّةٍ بِالرَّمَادِ، فَكَانَتْ تَسْتَنْقِعُ دُمُوعُهُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ حَتَّى تَنْفُذَ مِنَ الْأَفْرِشَةِ كُلِّهَا. وَكَانَ إِذَا كَانَ يَوْمُ نَوْحِهِ نَادَى مُنَادِيهِ فِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ وَعَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَأَفْوَاهِ الْغِيرَانِ: أَلَا إِنَّ هَذَا يَوْمُ نَوْحِ دَاوُدَ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْكِيَ عَلَى ذَنْبِهِ فَلْيَأْتِ دَاوُدَ فَيُسْعِدَهُ، فَيَهْبِطُ السُّيَّاحُ مِنَ الْغِيرَانِ وَالْأَوْدِيَةِ، وَتَرْتَجُّ الْأَصْوَاتُ حَوْلَ مِنْبَرِهِ".

معروف أن الإسعاد، الإسعاد معناه مشاركة النائحة على المصيبة في نوحها، وتشفي بعضهن بعضًا في أمر محرم، نسأل الله السلامة والعافية، ومثل هذا لا يليق بداود -عليه السلام-، كل هذا لا يثبت منه شيء؟

طالب:..

لا يثبت منها شيء، ولا تليق بمقام آحاد الناس فضلًا عن الأنبياء.

"وَتَرْتَجُّ الْأَصْوَاتُ حَوْلَ مِنْبَرِهِ وَالْوُحُوشُ وَالسِّبَاعُ وَالطَّيْرُ عُكَّفٌ".

يعني وجد أثر عن بعض أتباع موسى وعيسى شيء من هذا، ووجد أيضًا في غلاة المتصوفة من هذه الأمة شيء من هذا، لكن هذا خلاف هدي المصطفى -عليه الصلاة والسلام-.

"وَالْوُحُوشُ وَالسِّبَاعُ وَالطَّيْرُ عُكَّفٌ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ حَوْلَ مِنْبَرِهِ، فَإِذَا أَخَذَ فِي الْعَوِيلِ وَالنَّوْحِ، وَأَثَارَتِ الْحُرُقَاتُ مَنَابِعَ دُمُوعِهِ، صَارَتِ الْجَمَاعَةُ ضَجَّةً وَاحِدَةً نَوْحًا وَبُكَاءً، حَتَّى يَمُوتَ حَوْلَ مِنْبَرِهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَمَاتَ دَاوُدُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِيمَا قِيلَ يَوْمَ السَّبْتِ فَجْأَةً، أَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ وَهُوَ يَصْعَدُ فِي مِحْرَابِهِ وَيَنْزِلُ، فَقَالَ: جِئْتُ لِأَقْبِضَ رُوحَكَ. فَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَنْزِلَ أَوْ أَرْتَقِيَ. فَقَالَ: مَا لِي إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ، نَفِدَتِ الْأَيَّامُ وَالشُّهُورُ وَالسُّنُونَ وَالْآثَارُ وَالْأَرْزَاقُ، فَمَا أَنْتَ بِمُؤْثِرٍ بَعْدَهَا أَثَرًا. قَالَ: فَسَجَدَ دَاوُدُ عَلَى مِرْقَاةٍ مِنَ الدَّرَجِ، فَقَبَضَ نَفْسَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ. وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- خَمْسُمِائَةٍ وَتِسْعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: تِسْعٌ وَسَبْعُونَ، وَعَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَأَوْصَى إِلَى ابْنِهِ سُلَيْمَانَ بِالْخِلَافَةِ.

الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى قُرْبَةٌ بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ. وَحُسْنُ مَآبٍ قَالَا: وَاللَّهِ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ يَشْرَبُ الْكَأْسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دَاوُدُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: الزُّلْفَى الدُّنُوُّ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: يُبْعَثُ دَاوُدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَخَطِيئَتُهُ مَنْقُوشَةٌ فِي يَدِهِ: فَإِذَا رَأَى أَهَاوِيلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَمْ يَجِدْ مِنْهَا مُحْرِزًا إِلَّا أَنْ يَلْجَأَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: ثُمَّ يَرَى خَطِيئَتَهُ فَيَقْلَقُ فَيُقَالُ لَهُ: هَاهُنَا، ثُمَّ يَرَى فَيَقْلَقُ فَيُقَالُ لَهُ: هَاهُنَا، ثُمَّ يَرَى فَيَقْلَقُ فَيُقَالُ لَهُ: هَاهُنَا، حَتَّى يَقْرَبَ فَيَسْكُنُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ".

ذكرنا مرارًا أن ما يتفرد به الترمذي الحكيم ضعيف إن لم يكن موضوعًا.

"قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْأَصْبَغِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ مُجَاهِدٍ فَذَكَرَهُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَقَدْ كُنْتُ أَمُرُّ زَمَانًا طَوِيلًا بِهَذِهِ الْآيَاتِ فَلَا يَنْكَشِفُ لِيَ الْمُرَادُ وَالْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} وَالْقِطَّ الصَّحِيفَةُ فِي اللُّغَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَلَا عَلَيْهِمْ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَقَالَ لَهُمْ:«إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ هَذَا كُلَّهُ فِي صَحَائِفِكُمْ تُعْطَوْنَهَا بِشَمَائِلِكُمْ» قَالُوا: رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا أَيْ: صَحِيفَتَنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} فَقَصَ قِصَّةَ خَطِيئَتِهِ إِلَى مُنْتَهَاهَا، فَكُنْتُ أَقُولُ: أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا قَالُوا، وَأَمَرَهُ بِذِكْرِ دَاوُدَ فَأَيُّ شَيْءٍ أُرِيدَ مِنْ هَذَا الذِّكْرِ؟ وَكَيْفَ اتَّصَلَ هَذَا بِذَاكَ؟ فَلَا أَقِفُ عَلَى شَيْءٍ يَسْكُنُ قَلْبِي عَلَيْهِ، حَتَّى هَدَانِي اللَّهُ لَهُ يَوْمًا فَأُلْهِمْتُهُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ أَنْكَرُوا قَوْلَ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ بِشَمَائِلِهِمْ، فِيهَا ذُنُوبُهُمْ وَخَطَايَاهُمُ اسْتِهْزَاءً بِأَمْرِ اللَّهِ، وَقَالُوا: رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ، فَأَوْجَعَهُ ذَلِكَ مِنِ اسْتِهْزَائِهِمْ، فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَقَالَتِهِمْ، وَأَنْ يَذْكُرَ عَبْدَهُ دَاوُدَ، سَأَلَ تَعْجِيلَ خَطِيئَتِهِ أَنْ يَرَاهَا مَنْقُوشَةً فِي كَفِّهِ، فَنَزَلَ بِهِ مَا نَزَلَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَآهَا اضْطَرَبَ وَامْتَلَأَ الْقَدَحُ مِنْ دُمُوعِهِ، وَكَانَ إِذَا رَآهَا بَكَى حَتَّى تَنْفُذَ سَبْعَةَ أَفْرِشَةٍ مِنَ اللِّيفِ مَحْشُوَّةٍ بِالرَّمَادِ، فَإِنَّمَا سَأَلَهَا بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ وَبَعْدَ ضَمَانِ تَبِعَةِ الْخَصْمِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ يَسْتَوْهِبُهُ مِنْهُ، وَهُوَ حَبِيبُهُ وَوَلِيُّهُ وَصَفِيُّهُ، فَرُؤْيَةُ نَقْشِ الْخَطِيئَةِ بِصُورَتِهَا مَعَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ صَنَعَتْ بِهِ هَكَذَا، فَكَيْفَ كَانَ يَحِلُّ بِأَعْدَاءِ اللَّهِ وَبِعُصَاتِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَأَهْلِ خِزْيِهِ، لَوْ عُجِّلَتْ لَهُمْ صَحَائِفُهُمْ فَنَظَرُوا إِلَى صُورَةِ تِلْكَ الْخَطَايَا الَّتِي عَمِلُوهَا عَلَى الْكُفْرِ وَالْجُحُودِ؟ وَمَاذَا يَحِلُّ بِهِمْ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهَا فِي تِلْكَ الصَّحَائِفِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَالَ: {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}؟ فَدَاوُدُ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ- مَعَ الْمَغْفِرَةِ وَالْبُشْرَى وَالْعَطْفِ لَمْ يَقُمْ لِرُؤْيَةِ صُورَتِهَا. وَقَدْ رُوِّينَا فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا رَآهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْقُوشَةً فِي كَفِّهِ قَلِقَ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: هَاهُنَا، ثُمَّ يَرَى فَيَقْلَقُ ثُمَّ يُقَالُ: هَاهُنَا، ثُمَّ يَرَى فَيَقْلَقُ حَتَّى يَقْرَبَ فَيَسْكُنَ».   

اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

هذا آخر الدروس بالنسبة لهذا الفصل، ويستأنف الدرس إن شاء الله في الأسبوع الثاني من الفصل الثاني.

طالب:..

مادام خرج في السنن وحكم عليه أنه حسن يثبت الخبر، وهي رؤيا منام أقرت.

طالب: يوم عاشوراء يا شيخ يوم الجمعة.

ما يصلح، يصام يوم قبله أو بعده.