التعليق على تفسير القرطبي - سورة هود (09)

"{إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] قَالَ النَّحَّاسُ: الصِّرَاطُ فِي اللُّغَةِ الْمِنْهَاجُ الْوَاضِحُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذُهُمْ إِلَّا بِالْحَقِّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا خَلَلَ فِي تَدْبِيرِهِ، وَلَا تَفَاوُتَ فِي خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} ٌ[هود:57] فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ، فَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّونُ، وَالْأَصْلُ تَتَوَلَّوْا، فَحُذِفَتِ التَّاءُ؛ لِاجْتِمَاعِ تَاءَيْنِ".

لأن هنا الفعل {فَإِنْ تَوَلَّوْا} ٌ[هود:57] يحتمل أن يكون ماضيًا، ويحتمل أن يكون مضارعًا، وهنا المراد به المضارع، تولوا يعني تتولوا، وهو مجزوم بإن، على أنه فعل الشرط.

طالب:.........

 الفعل تولى ماضٍ، والمضارع؟

يتولى، نعم يتولى. وإذا أُسند إلى المخاطب صار تتولى، فلما حُذفت إحدى التاءين من أول المضارع أشبه الماضي. وحذفت النون للجازم، فطابق الماضي، فيحتمل أن يكون المعنى فإن تولوا فيما مضى فقد أبلغتكم، وهذا ليس هو المراد، وإن تتولوا يعني في المستقبل فقد أبلغتكم، أقمت عليكم الحجة، وبينت لكم ما أرسلت به، وحينئذٍ تكون التبعة عليكم.

"{فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} [هود:57] بِمَعْنَى قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ، {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [هود:57] أَيْ يُهْلِكُكُمْ وَيَخْلُقُ مَنْ هُوَ أَطْوَعُ لَهُ مِنْكُمْ يُوَحِّدُونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ. "وَيَسْتَخْلِفُ" مَقْطُوعٌ مِمَّا قَبْلَهُ فَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ؛ أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا يَجِبُ فِيمَا بَعْدَ الْفَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} [هود:57]، وَرُوِيَ عَنْ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ {وَيَسْتَخْلِفْ} بِالْجَزْمِ حَمْلًا عَلَى مَوْضِعِ الْفَاءِ وَمَا بَعْدَهَا، مِثْلُ: {وَيَذَرهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف:186]".

يذرهم بالجزم.

"مِثْلُ: {وَيَذَرهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف:186]".

يعني يستخلف معطوفة على إيش؟ أبلغتكم؟

طالب: ...

ويستخلف، أو استئناف؟ الواو استئنافية وليست عاطفة، وتكون الجملة {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} [هود:57]، ثم يُستأنف فقال: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [هود:57]. يعني هناك ارتباط بين التولي والاستخلاف؟

طالب: ...

تقديره؟

طالب: فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويهلكم الله ثم يستخلف قومًا غيركم، يعني توليكم يكون سبب إهلاككم، ويأتي الله -سبحانه وتعالى- بقومٍ يحبهم.

يعني أطوع له منكم.

طالب: نعم.

وعلى هذا المتجه الجزم أم الرفع يا شيخ؟

طالب: إلى هنا أقف يا شيخ.

الرفع على إيش؟ والجزم على إيش؟

طالب: الرفع يمكن على العطف.

على عطف إيش؟

طالب: عطف على الجملة نفسها.

الرفع على الاستئناف، الرفع على الاستئناف، فتكون الواو استئنافية، ليست عاطفية، ويكون الفعل مقطوعًا مما قبله، وحينئذٍ يرتفع، أو يكون معطوف على ما يجب فيما بعد الفاء فقد أبلغتكم.

جواب الشرط؟

طالب:.........

 أين جواب الشرط؟

طالب:.........

مدخول الفاء. وباعتبار الجواب فعلًا ماضيًا، لا يؤثر فيه الجازم لفظًا، لا يؤثر فيه الشرط لفظًا، لكن ما يُعطف عليه.

طالب: ...

نعم يُعطف على محله أم على لفظه؟

طالب: على محله.

إن عُطف على محله تجزمه، ونقول: أو معطوف على ما يجب فيما بعد الفاء من قوله: فقد أبلغتكم، وروي عن حفص عن عاصم: ويستخلف بالجزم حملًا على موضع الفاء وما بعدها؛ لأن الفاء وما بعدها جواب الشرط، والأصل في جواب الشرط أنه مجزوم، هذا الأصل فيه، فيكون جزمه حملًا على موضع جواب الشرط.

طالب: ....

نعم. ماذا فيها؟

طالب:.........

غير معروفة، غير معروفة.

طالب: ....

غير مشهورة نعم.

طالب:.........

ماذا تقول يا أبا عبد الله؟

طالب:.........

هذه هي القراءة المعروفة؟ الجزم؟ لا. نعم يمكن من غير طريق حفص عن عاصم، لكن من طريق غير المشهور.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} [هود:57] أَيْ بِتَوَلِّيكُمْ وَإِعْرَاضِكُمْ. {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود:57] أَيْ لِكُلِّ شَيْءٍ حَافِظٌ. "عَلَى" بِمَعْنَى اللَّامِ ، فَهُوَ يَحْفَظُنِي مِنْ أَنْ تَنَالُونِي بِسُوءٍ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود:58] أَيْ عَذَابُنَا بِهَلَاكِ عَادٍ {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [هود:58]؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَنْجُو إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ. قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولُ اللَّهِ؟! قَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ». وَقِيلَ: مَعْنَى بِرَحْمَةٍ مِنَّا، بِأَنْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْهُدَى الَّذِي هُوَ رَحْمَةٌ. وَكَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ. وَقِيلَ: ثَلَاثَةُ آلَافٍ".

 هؤلاء الذين آمنوا من الجمع الغفير ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف.  

"{وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود:58] أَيْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: هُوَ الرِّيحُ الْعَقِيمُ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي "الذَّارِيَاتِ" وَغَيْرِهَا وَسَيَأْتِي. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ: وَالْعَذَابُ الَّذِي يَتَوَعَّدُ بِهِ النَّبِيَّ أُمَّتُهُ إِذَا حَضَرَ يُنَجِّي اللَّهُ مِنْهُ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ، نَعَمْ! لَا يَبْعُدُ أَنْ يَبْتَلِيَ اللَّهُ نَبِيًّا وَقَوْمَهُ فَيَعُمُّهُمْ بِبَلَاءٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ عُقُوبَةً لِلْكَافِرِينَ، وَتَمْحِيصًا لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا تَوَعَّدَهُمُ النَّبِيُّ بِهِ".

إذا لم يكن هذا العذاب مما توعدهم النبي به. أما إذا توعدهم النبي بعذاب فالعذاب يخصهم، وينجو منه النبي، وإلا إذا عمه معهم، فما ميزته عليهم؟

إذا توعدهم، لكن قد يأتي العذاب بغتة على أمةٍ استحقت هذا العذاب، وحلت بها عقوبة الرب- جل وعلا-، وحينئذٍ يعم الصالح والطالح، ثم يبعثون على نياتهم، يُبعثون على نياتهم، فإذا نزلت العقوبة عمَّت، إذا كثر الخبث، وضعف الإنكار، فإن العقوبة تعُمَّ، فإذا عمَّت شملت، مع أنه نص على أنه يُنجي الذين ينهون عن السوء، ويأخذ الذين ظلموا بعذابٍ بئيس -نسأل الله العافية-، وقد يكون من مصلحة هذا الآمر الناهي أن يموت مع قومه ثم يُبعث على نيته، ومصيره غير مصيرهم. كما جاء في حديث القوم الذين يُخسف بهم وفيهم أُناس ليس معهم، وفيهم الباعة، وفيهم وفيهم قال: يعمهم ثم يبعثون على نياتهم.

 وعلى كل حال قد يموت الإنسان، قد يموت بأجله لأي سبب؛ قد يموت بهدم، قد يموت بغرق، قد يموت بحرق، يموت بعقوبة عمَّت الناس فيموت معهم ويُبعث على نيته، وإن كان صالحًا مُصلحًا، لكن لا يُمكن أن يتواعدهم بعذاب من عند الله بأمر الله -سبحانه وتعالى- ثم يشمله هذا العذاب؛ لأنه حينئذٍ لا يكون له ميزة عليهم، في بادئ الأمر يحذرهم العقوبة، ويقع فيها، فلا يقع فيما حذرهم منه، لا يقع فيما حذرهم منه، كما دلت القصص؛ قصص الأنبياء أنهم أنجاهم الله مما حل بأممهم، كما نجا نوحًا وهودًا وصالحًا وموسى وقومه وهكذا، -والله المستعان-.

طالب: ....

ما يلزم؛ لأنه ليس عن وحي حين أخبرهم، ليس عن الوحي، وكونه يهدد بشيء ما عنده منه خبر إلا نصوص عامة بعد، ويجزم بأن هؤلاء يأتيهم نوع من عذاب معين، ليس له ذلك، ليس له أن يجزم أن هؤلاء سيخسف بهم، ليس له أن يجزم أنهم يُغرقون، أنهم يُحرقون، لا، هذا توقيفي، هذا يحتاج إلى نص؛ لأنه خبر غيبي للمستقبل.

طالب: .....

أن يحذرهم بخبرٍ صادق جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن لم يكن في الحقيقة ينطبق عليهم، على كلٍّ الإنذار والتحذير مطلوب، لكن بالعمومات، ما ينص على أنهم هم المقصودون بذلك، لا ينص على أنهم المرادون بالنص، لا، يحتاج لتوقيف.

طالب: ...

لا.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتِلْكَ عَادٌ} [هود:59] ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ لَا يَصْرِفُ "عَادًا" فَيَجْعَلُهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ، {جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [هود:59] أَيْ كَذَّبُوا بِالْمُعْجِزَاتِ وَأَنْكَرُوهَا، {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} [هود:59] يَعْنِي هُودًا وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِمْ مِنَ الرُّسُلِ سِوَاهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون:51] يَعْنِي النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِهِ رَسُولٌ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا جَمَعَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا وَاحِدًا فَقَدْ كَفَرَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ. وَقِيلَ: عَصَوْا هُودًا وَالرُّسُلَ قَبْلَهُ، وَكَانُوا بِحَيْثُ لَوْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أَلْفُ رَسُولٍ لَجَحَدُوا الْكُلَّ".

لأن من يجحد واحدًا يجحد الجميع؛ لأن دينهم واحد، الأنبياء دينهم واحد، فإذا كذب واحدًا فقد كذب الجميع، وإذا عصى واحدًا فقد عصى الجميع.

"{وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود:59] أَيِ اتَّبَعَ سُقَّاطُهُمْ رُؤَسَاءَهُمْ. وَالْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ. وَالْعَنِيدُ الطَّاغِي الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ وَلَا يُذْعِنُ لَهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْعَنِيدُ وَالْعَنُودُ وَالْعَانِدُ وَالْمُعَانِدُ الْمُعَارِضُ بِالْخِلَافِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْعِرْقِ الَّذِي يَنْفَجِرُ بِالدَّمِ: عَانِدٌ".

المعارض بالخلاف يعني بلا حجة، يعني مجرد عناد، تقول: الحق كذا يقول: لا، كذا. طيب دليلك؟ حجتك؟ ما عنده لا دليل ولا حجة ولا برهن. هذا عند.

"وَقَالَ الرَّاجِزُ: إِنِّي كَبِيرٌ لَا أُطِيقُ الْعُنَّدَا

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً أَيْ أُلْحِقُوهَا} [هود:60] {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود:60] أَيْ وَأُتْبِعُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَالتَّمَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، {أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} [هود:60] قَالَ الْفَرَّاءً: أَيْ كَفَرُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ، قَالَ: وَيُقَالُ كَفَرْتُهُ، وَكَفَرْتُ بِهِ، مِثْلُ شَكَرْتُهُ، وَشَكَرْتُ لَهُ، {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود:60] أَيْ لَا زَالُوا مُبْعَدِينَ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَالْبُعْدُ الْهَلَاكُ، وَالْبُعْدُ التَّبَاعُدُ مِنَ الْخَيْرِ. يُقَالُ: بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْدًا إِذَا تَأَخَّرَ وَتَبَاعَدَ. وَبَعِدَ يَبْعَدُ بَعَدًا إِذَا هَلَكَ، قَالَ:

            لَا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ                  سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةِ الْجُزْرِ


وَقَالَ النَّابِغَةُ:

         فَلَا تَبْعَدَنْ إِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْهَلٌ                    وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا بِهِ الْحَالُ زَائِلُ"

{كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود:95]، كما بعِدت يستشكل الناس مثل هذا اللفظ، لماذا ما قال: بعُدت؟ بعِد، لا يعرف أن هناك فرقًا بين بعِد وبعُد، بعُد يبعد بعدًا إذا تأخر وتباعد. البعودة في مكانه. وبعِد يبعدُ بعدًا إذا هلك. {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود:95] يعني كما هلكت ثمود، وليس معناه أنها أبعدت من مكانه انتقلت إلى مكان بعيد، نعم ففرق بين بعَد وبعد. نعم

     لا يبعدن قومي الذين هم                             سم العداة وآفة الجزر

يمدح قومه. سم العداة يعني يقتلون العداة؛ لشجاعتهم، وشدة بأسهم. وآفة الجزر يعني لكرمهم. نعم.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61] فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ} [هود:61] أَيْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ "أَخَاهُمْ" أَيْ فِي النَّسَبِ صَالِحًا، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَإِلَى ثَمُودٍ بِالتَّنْوِينِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ. وَاخْتَلَفَ سَائِرُ الْقُرَّاءِ فِيهِ فَصَرَفُوهُ فِي مَوْضِعٍ وَلَمْ يَصْرِفُوهُ فِي مَوْضِعٍ. وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ لَوْلَا مُخَالَفَةُ السَّوَادِ لَكَانَ".

على كل حال هو قابل للتأويل، القبائل والأماكن يُمكن صرفها، ويمكن منعها، فإذا أُريد بها المذكر صُرفت. وإذا أريد بها المؤنث مُنعت، فإن أردت الحي صرفت، وإن أردت القبيلة منعت، إن أردت المكان في البُلدان صرفت، وإن أردت البقعة منعت، ما لم يضف إلى ذلك مانعٌ ثالث من موانع الصرف كأن يكون علمًا مؤنثًا أعجميًّا مثلًا  حمص، حمص فيه ثلاث علل؛ حمص، علم مؤنث، وأعجمي.

طالب:.........

ساكن الوسط يخفف، كونه ساكن الوسط نعم، مثل: مصر مثلًا، ومثل: هند كونه ساكن الوسط يقتضي أن يُعرب، هذا لو كان عربيًّا، فيه العلمية والتأنيث فقط ثم صار ساكن الوسط يُعرب، لكن إذا كان فيه ثلاث علل، فسكون الوسط يُقابل العلل الثلاثة، أو يُقابل علة واحدة؟

طالب:...

وتبقى علتان فيستمر ممنوعًا من الصرف.

طالب: ...

أو كونه ثلاثي ساكن الوسط يجعله خفيفًا على اللسان فيُصرف؟

طالب: ....

يعني هل كونه خفيفًا ثلاثيًّا ساكن الوسط مُقابل للعلل الثلاث؟

طالب: ....

يقوى على رفع الثلاثة، أو يرفع واحدة، ويبقى اثنتان؟

 يعني إذ كان ممنوعًا من الصرف لعلتين فالأمر سهل، يرفع واحدة ويبقى واحدة، ما مشكلة، يُصرف. لكن إذا كان فيه ثلاث علل تقتضي منعه من الصرف، ثم خف على اللسان بأن كان ثُلاثيًّا ساكن الوسط فهل يقوى هذا السبب على رفع العلل الثلاث أو على رفع ثنتين أو واحدة فقط؟

طالب: ...

انظر العين يا أبا عبد الله، حديث هرقل، نحن منتظروك يا أبا عبد الله.

طالب: نعم.

نحن منتظروك إلى أن تجيء به.

الأول، المجلد الأول فوق، حديث هرقل يا أبا عبد الله.

سم يا شيخ.

"وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ لَوْلَا مُخَالَفَةُ السَّوَادِ لَكَانَ الْوَجْهُ تَرْكَ الصَّرْفِ".

ترك الصرف، يعني منعه من الصرف؛ الأغلب منعه من الصرف، والخلاف يطول في كثير من الكلمات في الصرف وعدمه؛ نظرًا إلى أصله، فعفان، وحسان، وأبان، كانت من الحس أو الحسن، من العفة أو من العفن، من الإبانة أو من الآباء، كلها مما يُصرف أو يمنع، وعلى كل حال قالوا في أبان، من منع أبان فهو أتان، وإن كان ابن مالك الإمام المعروف المشهور يمنع من الصرف.

 وعلى كل حال يختلفون في مثل هذا في تحقق هذه العلل وعدم تحققها.

 حمص، حديث هرقل يا أبا عبد الله أوله، أنت ما تجده أول الحديث، الحديث طويل، الإعراب.

 ضعيف الإسناد؟

طالب:.........

لا، الإعراب؟

من بعد اختلاف الروايات.

طالب:.........

 بعد الصرف تجده، الإعراب.

طالب:.........

حمص حمص تجاوزها كلها.

طالب:.........

حمص نعم.

يقول: حمص مفتوح يعني إلى حمصَ في موضع الجر؛ لأنه غير منصف للعالمية والتأنيث والعُجمة، وقال بعضهم: يعني من؟

طالب:.........

 ابن حجر.

وقال بعضهم: يحتمل أن يجوز صرفه، قلت: لا يحتمل أصلًا؛ لأن هذا القائل أنما غره فيما قاله سكون وسط حمص فإن ما لا ينصرف أذا سُكن أوسطه يكون في غاية الخفة، وذلك يقاوم أحد السببين، فيبقى الاسم بسبب واحد فيجوز صرفه، ولكن هذا فيما إذا كمان الاسم فيه علتان فبسكون الأوسط يبقى بسببٍ واحد، وأما إذا كانت فيه ثلاث علل مثل ماه وجور فإنه لا ينصرف ألبتة؛ لأنه بعد مقاومة سكونه أحد الأسباب يبقى سببان، وحمص كما ذكرنا فيه ثلاث علل فافهم.

طالب: ....

أربعة وتسعين.

طالب: يا شيخ إذا قال: بعضهم في سائر الكتاب.

الغالب إن قال بعضهم: ورد عليه فهو ابن حجر.

طالب: الحق فيم؟

الله أعلم، عندك المحاكمة، حاكم بينهم، افصل بينهم.

طالب: ....

نعم.

"إِذْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ التَّأْنِيثُ. قَالَ النَّحَّاسُ: الَّذِي قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- مِنْ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ التَّأْنِيثُ كَلَامٌ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ ثَمُودًا يُقَالُ لَهُ: حَيٌّ ، وَيُقَالُ: لَهُ قَبِيلَةٌ".

مثل: قريش، تميم. المقصود أن ليس كونه مؤنثًا بأغلب من كونه مذكرًا، وإنما هو احتمالان، نعم.

"وَلَيْسَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْقَبِيلَةَ، بَلِ الْأَمْرُ عَلَى ضِدِّ مَا قَالَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ. وَالْأَجْوَدُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ فِيمَا لَمْ يَقُلْ فِيهِ".

يُقَلْ.

 "فِيمَا لَمْ يُقَلْ فِيهِ: بَنُو فُلَانٍ الصَّرْفُ، نَحْو قُرَيْشٍ وَثَقِيفٍ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، وَكَذَلِكَ ثَمُودُ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّذْكِيرُ الْأَصْلُ، وَكَانَ يَقَعُ لَهُ مُذَكَّرٌ وَمُؤَنَّثٌ كَانَ الْأَصْلُ الْأَخَفُّ أَوْلَى. وَالتَّأْنِيثُ جَيِّدٌ بَالِغٌ حَسَنٌ. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ فِي التَّأْنِيثِ:

 غَلَبَ الْمَسَامِيحَ الْوَلِيدُ سَمَاحَةً                وَكَفَى قُرَيْشَ الْمُعْضِلَاتِ وَسَادَهَا".

منع قريش من الصرف. نعم.

"الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:61] تَقَدَّمَ. {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [هود:61] أَيِ ابْتَدَأَ خَلْقكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ أَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي "الْبَقَرَةِ" وَ "الْأَنْعَامِ" وَهُمْ مِنْهُ، وَقِيلَ: أَنْشَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ".

لكن قوله: وكفى قريش المعضلات وسادها، قريشَ نعرف أن لغة ربيعة حتى في الإعراب يفتحون من غير تنوين، يفتحون الكلمة من غير تنوين، فإن كان ربعة من ربيعة فلا إشكال، فلا يقتضي أن يكون ممنوعًا، وعليه قال: سمعتُ أنس بن مالك، وإلا فالأصل سمعت أنسًا بن مالك، فعلى لغة ربيعة ينصب بدون تنوين كما هنا.

طالب: ....

نعم.

طالب:.........

 لا في النصب، هنا ما فيه تنوين.

"وَلَا يَجُوزُ إِدْغَامُ الْهَاءِ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْهَاءِ مِنْ "هُوَ" إِلَّا عَلَى لُغَةِ مَنْ حَذَفَ الْوَاوَ فِي الْإِدْرَاجِ.

{وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61] أَيْ جَعَلَكُمْ عُمَّارَهَا وَسُكَّانَهَا. قَالَ مُجَاهِدُ: وَمَعْنَى اسْتَعْمَرَكُمْ أَعْمَرَكُمْ، مِنْ قَوْلِهِ: أَعْمَرَ فُلَانٌ فُلَانًا دَارَهُ، فَهِيَ لَهُ عُمْرَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَسْكَنَكُمْ فِيهَا، وَعَلَى هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ تَكُونُ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ، مِثْلَ اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَطَالَ أَعْمَارَكُمْ، وَكَانَتْ أَعْمَارُهُمْ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى أَلْفٍ".

يعني بدلًا من أن أعمار أمة محمد من ستين إلى سبعين. هؤلاء من ثلاثمائة إلى ألف. والله المستعان. نعم.

" وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعَاشَكُمْ فِيهَا".

وطول العمر ليس بميزة، يعني طول العمر ليس بميزة، إن لم يُصرف في طاعة الله، يُفترض أن شخصًا عاش أكثر من مائة سنة غافلًا ولاهيًا، وما استعمله في طاعة الله، بل في معاصي، فمثل هذا وبال عليه، «شركم من طال عمره وساء عمله»، أو عاش في حياته فقيرًا مريضًا، فمثل هذا إن لم يصحبه دين وصبر واحتساب فالحياة وبال عليه، إن لم يصحبه دين وصبر واحتساب، يرجو ثواب ذلك عند ربه، وإلا صار هذا الفقر وهذه الأمراض نعمة، منحة وليست محنة.

على كل حال العمر ظرف وإناء، وقيمته فيما يوضع فيه، ويومٌ يمضي من غير فائدة خسارة، ليس من عمر الإنسان، والعبرةُ بالأعمال، وما يُودع في هذه الخزائن، قد عرفنا وعرف غيرنا من عُمّر، ومر في هذه الدنيا، وعبر ولم يُذكر، ومن عاش المدة القصيرة اليسيرة وذُكر بالخير، والعبرةُ بالذكر الحسن، {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} [الشعراء:84]، فالنووي -رحمه الله- مات عن خمسة وأربعين عامًا وملأ الدنيا علمًا، في كل مسجد من مساجد المسلمين على مدى كم؟ طالب:.........

على أكثر من سبعة قرون ونصف في مساجد المسلمين يُقال: قال -رحمه الله تعالى-، قال -رحمه الله-، وهناك من عاش أكثر من ذلك فما ذُكر بشيء، وأسوأ منه من يُذكر بشر -نسأل الله العافية-، والله المستعان.

 وأسوأ من ذلك من تعيش سيئاته بعده، ووزر من اقتدى به عليه، «من في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها»، وبعكسه وضده من سن سنة سيئة -نسأل الله العافية-، فمثل هذا حياته وبال عليه، فلا نقول: ليت أعمارنا مثل أعمارهم، يعيشون ألفًا، ويستأنسون، وينبسطون، ليس أكيدًا أننهم ينبسطون، ماذا وراء الدنيا إلا الشقاء؟! إذا ما استغلت في طاعة الله -والله المستعان-.

"وقال: زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَمَرَكُمْ بِعِمَارَةِ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِيهَا مِنْ بِنَاءِ مَسَاكِنَ، وَغَرْسِ أَشْجَارٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَلْهَمَكُمْ عِمَارَتَهَا مِنَ الْحَرْثِ وَالْغَرْسِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ وَغَيْرِهَا".

الأصل في السين والتاء أنها للطلب، استعمركم أي: طلب منكم عمارتها، عمارة الأرض، هذا الأصل في السين والتاء، وقد تأتي غير مُراد بها حقيقتها، كما تأتي في الاعتقاد، استسهلت كذا يعني اعتقدته سهلًا، استصعبته يعني اعتقدته صعبًا، وغير ذلك.

"الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ: الِاسْتِعْمَارُ طَلَبُ الْعِمَارَةِ".

كم أن الاستشفاء طلب الشفاء، والاستسقاء طلب السُقية. وهكذا.

"وَالطَّلَبُ الْمُطْلَقُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْوُجُوبِ، وقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ :تَأْتِي كَلِمَةُ اسْتَفْعَلَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا، اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى طَلَبِ الْفِعْلِ فقوله".

كقوله.

 "كَقَوْلِهِ: اسْتَحْمَلْتُهُ أَيْ طَلَبْتُ مِنْهُ حُمْلَانًا، وَبِمَعْنَى اعْتَقَدَ، كَقَوْلِهِمُ: اسْتَسْهَلْتُ هَذَا الْأَمْرَ اعْتَقَدْتُهُ سَهْلًا، أَوْ وَجَدْتُهُ سَهْلًا، وَاسْتَعْظَمْتُهُ أَيِ اعْتَقَدْتُهُ عَظِيمًا وَوَجَدْتُهُ، وَمِنْهُ اسْتَفْعَلْتُ بِمَعْنَى أَصَبْتُ، كَقَوْلِهِمُ: اسْتَجَدْتُهُ أَيْ أَصَبْتُهُ جَيِّدًا: وَمِنْهَا بِمَعْنَى فَعَلَ، كَقَوْلِهِ: قَرَّ فِي الْمَكَانِ وَاسْتَقَرَّ، وَقَالُوا: وَقَوْلُهُ: {يَسْتَهْزِئُونَ} وَ{يَسْتَسْخِرُونَ} مِنْهُ".

من هذا أي السين والتاء ليس معناهما الطلب، يستهزئون يعني يهزؤون، يستسخرون يعني يسخرون وهكذا.

"فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61] خَلَقَكُمْ لِعِمَارَتِهَا، لَا عَلَى مَعْنَى اسْتَجَدْتُهُ وَاسْتَسْهَلْتُهُ، أَيْ أَصَبْتُهُ جَيِّدًا وَسَهْلًا، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ فِي الْخَالِقِ، فَيَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ خَلَقَ؛ لِأَنَّهُ الْفَائِدَةُ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الشَّيْءِ بِفَائِدَتِهِ مَجَازًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ طَلَبٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِمَارَتِهَا، فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ، أَمَّا أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ".

طلبٌ من الله تعالى لعمارتها، يعني الله -سبحانه وتعالى- يطلب من الخلق أن يعمروها، الذي يعمر الديار هو الله -سبحانه وتعالى-، لكن السبب المباشر لهذه العمارة هم الخلق، فلا وجه لاستحالة ذلك.

"أَمَّا أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ اسْتَدْعَى عِمَارَتَهَا فَإِنَّهُ جَاءَ بِلَفْظِ اسْتَفْعَلَ، وَهُوَ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ إِذَا كَانَ أَمْرًا، وَطَلَبٌ لِلْفِعْلِ إِذَا كَانَ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى رَغْبَةً".

يعني سؤال ودعاء، كما تقول: اللهم اغفر لي؛ اغفر لي، هذا الأصل فيه أنه فعل أمر، لكن الفعل من الأدنى للأعلى دعاء، ومن القرين لقرينه التماس، ومن الأعلى إلى الأدنى طلب وأمر.

"قُلْتُ: لَمْ يُذْكَرِ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ، مِثْلَ قَوْلِهِ: {اسْتَوْقَدَ} [البقرة:17] بِمَعْنَى أَوْقَدَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهِيَ: الرَّابِعَةُ: وَيَكُونُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى الْإِسْكَانِ وَالْعُمْرَى، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي "الْبَقَرَةِ " فِي السُّكْنَى وَالرُّقْبَى.

وَأَمَّا الْعُمْرَى فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَمْلِيكٌ لِمَنَافِعِ الرَّقَبَةِ حَيَاةَ الْمُعْمَرِ مُدَّةَ عُمْرِهِ".

حياة المُعمر؛ِ إذا أسكنه بيته وقال: لك عمرك أو هي لك عمرى، أسكنه البيت وقال: هي لك عمرة أو الدابة وما أشبه ذلك، فإن قال: هي لك عمرى، فالمقصود به مدة عمره، أو إن قال: لك ولعقبك عمرى فهي لا تعود للمعمر على خلاف في ذلك بين أهل العلم.

"فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عَقِبًا فَمَاتَ الْمُعْمَرُ رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا أَوْ لِوَرَثَتِهِ، هَذَا قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَيَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْبَقَرَةِ" حُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّهَا تَمْلِيكُ الرَّقَبَةِ وَمَنَافِعِهَا وَهِيَ هِبَةٌ مَبْتُولَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِمَا وَالثَّوْرِيِّ".

هبةٌ مبتولة يعني مستمرة، مبتولة يعني مستمرة ودائمة وثابتة.

"وَالْحَسَنِ بْنِ حَيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ، قَالُوا: مَنْ أَعْمَرَ رَجُلًا شَيْئًا حَيَاتَهُ فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ رَقَبَتَهَا، وَشَرْطُ الْمُعْطِي الْحَيَاةَ وَالْعُمْرَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: الْعُمْرَى جَائِزَةٌ وَالْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ".

فعلى هذا لو قال: وهبت هذا البيت عمرك يعني مدة عمرك تستمر ولو مات ولورثته من بعده، فتقييده بالعمر لاغٍ، والعمرة جائزة، ولمن وهبت له.

لكن هل فيها في الحديث ما يُعارض أنها تعود بموته؟ وهبه إياها هبةً مؤقتة، يستفيد منها مدة حياته، وهي جائزة مدة الحياة، العمرة جائزة مدة الحياة، والعمرة لمن وهبت له مدة الحياة ما فيه ما يمنع، المسلمون على شروطهم. وهبه أن ينتفع بهذا الكتاب مدة حياته، فإذا مات رجع إلى الواهب أو إلى ورثته إن كان مات، ما الذي يمنع؟ إنه متفضل {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91].

طالب: ...

كيف؟

طالب: ....

هو مالك للمنفعة، ما دام عطية مؤقتة، موقتة، مردودة، فهو مالك للمنفعة فقط.

طالب: ....

إذا قال لك: هذا البيت مدة عمرك، ما العرف؟ العرف يعرفون إن مت يرجع، لكن الذي يُشكل: العمرة جائزة، يعني نافذة، والعمرة لمن وهبت له، ما الذي يمنع أنها جائزة لمن وهبت له في حياته بهذا القيد. أو تُحمل هذه النصوص على عمرة دائمة له ولعقبه.

طالب: ....

من إيش؟

طالب: ......

معروف أنه إذا قال: حياتك، حدد.

طالب: إذا طرأ على الموهوب شيء؟

إذا طرأ على الموهوب، يعني هو بيت مثلًا وانهدم إذا أراد أن يستفيد بقية حياته عمره، وإلا ما يكمل، نقول: ما يلزم صاحبه أن يعمره له، وهبه هذا البيت يعني مدة انتفاعه به، إن أراد أن يستفيد منه عمره فلا بأس، إن أراد أن يعيده إلى صاحبه يقول: خلاص، والله دورت غيره أنسب.

طالب: ...

أو ثُمِّن مثلًا، نعم أو ثمن مثلًا لمصلحة عامة وثُمن، يصطلحون على ذلك، إن اشتري له مكانه بيت يسكنه مدة عمره فلا بأس، يصطلحون مثل الأجرة الدائمة أو شبه الدائمة، يسمونها الصُّبرة.

طالب: .......

يؤجر بيتًا مدة مائة سنة، كل سنة كان يؤجر بريال، بريالين، خمسة، عشرة، مائة سنة، ثم تأتي المصلحة العامة شارع أو مرفق من المرافق العامة، فيهدم هذا البيت، يُثمن بمبالغ، نعم لا بُد أن يصطلحوا على شيء، أو يشترطوا من هذه القيمة ما يكون امتدادًا للعين المهدومة.

"الثَّالِثُ: إِنْ قَالَ عُمْرَكَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْعَقِبَ كَانَ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ قَالَ: لِعَقِبِكَ كَانَ كَالْقَوْلِ الثَّانِي".

يعني مركب من القولين، القول الثالث مركب من القولين.

"وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنُ أَبِي ذِئْبِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ؛ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْمُوَطَّأِ. وَالْمَعْرُوفُ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْمُعْمِرِ".

كالقول الأول. نعم.

"إِذَا انْقَرَضَ عَقِبَ الْمُعْمَرِ، إِنْ كَانَ الْمُعْمِرُ حَيًّا، وَإِلَّا فَإِلَى مَنْ كَانَ حَيًّا مِنْ وَرَثَتِهِ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِمِيرَاثِهِ. وَلَا يَمْلِكُ الْمُعْمَرُ بِلَفْظِ الْعُمْرَى عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ رَقَبَةَ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ بِلَفْظِ الْعُمْرَى الْمَنْفَعَةَ دُونَ الرَّقَبَةِ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْحَبْسِ أَيْضًا:"

يعني الوقف. نعم.

"إِذَا حُبِسَ عَلَى رَجُلٍ وَعَقِبِهِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ".

هذا وقف لا يرجع إليه، خرج من يده.

"وَإِنْ حُبِسَ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ حَيَاتَهُ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْعُمْرَى قِيَاسًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُوَطَّأِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ رَجُلًا عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَقَالَ: قَدْ أَعْطَيْتُكَهَا وَعَقِبَكَ مَا بَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدٌ فَإِنَّهَا لِمَنْ أُعْطِيَهَا، وَأَنَّهَا لَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ». وَعَنْهُ قَالَ: إِنَّ الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا، قَالَ مَعْمَرٌ: وَبِذَلِكَ كَانَ الزُّهْرِيُّ يُفْتِي.

 قُلْتُ: مَعْنَى الْقُرْآنِ يَجْرِي مَعَ أَهْلِ الْقَوْلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ} [هود:61] بِمَعْنَى أَعْمَرَكُمْ، فَأَعْمَرَ الرَّجُلَ الصَّالِحَ فِيهَا مُدَّةَ حَيَاتِهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ بِالذِّكْرِ الْجَمِيلِ وَالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، وَبِالْعَكْسِ الرَّجُلُ الْفَاجِرُ، فَالدُّنْيَا ظَرْفٌ لَهُمَا حَيَاةً وَمَوْتًا. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ يَجْرِي مَجْرَى الْعَقِبِ. وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84]، أَيْ ثَنَاءً حَسَنًا. وَقِيلَ: هُوَ مُحَمَّد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قَالَ: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77]. وَقَالَ: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113]".

يعني دلالة الآية على القول الثاني {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61] يعني طلب منكم عمارتها لتكون لكم ولعقبكم ولمن شاء الله من بعدكم، لكن هل هذه بمعنى ما فُرع عليها؟ يعني من سبق إلى مُباح فأمره، مَلكه له ولعقبه صار ملكًا له، بخلاف من جاءه من ملك غيره، ممن هو مملوك لغيره، وهذا الغير له أن يتصرف في هذا الملك بما شاء، ثم أعطاه إياه مدة محددة. لو قال: تسكن هذا البيت سنة، سنتين، عشر سنين، فما مفهومه؟ مفهومه أنه يرجع بعد هذه المدة. إذا قال: مدة عمرك مفهومه أنه يعود لصاحبه بعد وفاته.

 فرق بين أن تكون الهبة والعطية من الله -سبحانه وتعالى- حيث لا تعود، اللهم إلا إن ارتد وصار ماله فيئًا يؤخذ منه إلى بيت المال، هذه مسألة أخرى. مالك الأرض ومالك المالك، مالك المعمور ومالك العامر، فرقٌ بين حقوق العباد المبنية على المشاحة، وحقوق الخالق المبنية على المسامحة، فتفريع هذا على تلك فيها ما فيها، كون الآية تدل على القول الثاني فيه بُعدٌ شديد؛ لأن العمرة لا ترجع؛ لأن الله تعالى قال: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]، والله -سبحانه وتعالى- لا يرجع إذا عمرها، لا. نقول: هذا فيه بُعد، فيه سعةٌ في الخطو.

 وقد يُقال: إن الثناء الحسن يجري لأجل مجرى العقب، الثناء الحسن امتداد للعمر.

 عمر الفتى ذكره لا طول مدته           والذكر للإنسانِ عُمرٌ ثاني

 هذا واضح، الشخص الذي مات ووراءه علم يُنتفع به، هذا ما مات في الحقيقة؛ لأن معنى الحياة: الحياة التي يُستفاد منها، وهذه يُستفاد منها، وعمله دائم، عمله يجري، وإن كان في قبره، لكن الذي لا يجري له عمل وهو بين الأحياء، هذا حي أم ميت؟ هذا ميت، والذي يذكر الله -سبحانه وتعالى- هذا هو الحي، والذي لا يذكر الله هو الميت، كالبيت الخرب، وإن كان يمشي بين الناس، ويزاحم الناس، ويطالب الناس، ويُمازح الناس، هذا لا دليل على حياته. نعم.

طالب: .....

نعم

طالب: ...

القول الأول والثاني. القول الأول: أنها ترجع. والثاني: لا ترجع. والثالث مركب من القولين، الثالث مُركب من القولين.

طالب: ....

نعم.

طالب:.........

هو الظاهري، ولا تنافي بينه وبين الحديثين.    

"الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَغْفِرُوهُ} [هود:61] أَيْ سَلُوهُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:61] أَيِ ارْجِعُوا إِلَى عِبَادَتِهِ، {إِنَّ رَبِّي قَرِيبُ} [هود:61] أَيْ قَرِيبُ الْإِجَابَةِ لِمَنْ دَعَاهُ. وَقَدْ مَضَى فِي "الْبَقَرَةِ" عِنْدَ قَوْلِهِ: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي} [البقرة:186] الْقَوْلُ فِيهِ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود:62] أَيْ كُنَّا نَرْجُو أَنْ تَكُونَ فِينَا سَيِّدًا قَبْلَ هَذَا، أَيْ قَبْلَ دَعْوَتِكَ النُّبُوَّةَ. وَقِيلَ: كَانَ صَالِحٌ يَعِيبُ آلِهَتَهُمْ وَيَشْنَؤُهَا، وَكَانُوا يَرْجُونَ رُجُوعَهُ إِلَى دِينِهِمْ، فَلَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ قَالُوا".

يأملون في الرجل، ويعلقون عليه أمالًا، ثم -على حد زعمهم- خابت آمالهم لما أُرسل من قبل الله -سبحانه وتعالى-، قبل أن يدعوهم كانوا يتوقعون أن يصير سيدًا، كنا نرجو أن تكون فينا سيدًا قبل هذا، هذا انتكاس الفطر، أي: قبل دعوتك للنبوة، كانوا يتوقعونه شيئًا، ثم صار على حد زعمهم لا شيء، لكن في الحقيقة هم المفلسون، هم الذين لا شيء في الحقيقة.

"فَلَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ قَالُوا: انْقَطَعَ رَجَاؤُنَا مِنْكَ، {أَتَنْهَانَا} [هود:62] اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ. {أَنْ نَعْبُدَ} [هود:62] أَيْ عَنْ أَنْ نَعْبُدَ {مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:62] فَأَنْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ} [هود:62] وَفِي سُورَةِ "إِبْرَاهِيمَ" وَ"وَإِنَّا" وَالْأَصْلُ وَإِنَّنَا، فَاسْتُثْقِلَ ثَلَاثُ نُونَاتٍ فَأُسْقِطَ الثَّالِثَةُ".

لأن النون المشددة عبارة عن نونين، ثم النون الثالثة فأسقطت أحدى هذه النونات، واقتصر على المشددة.

"{مِمَّا تَدْعُونَا} [هود:62] الْخِطَابُ لِصَالِح، وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ تَدْعُونَنَا؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلرُّسُلِ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ-. {إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62] مِنْ أَرَبْتُهُ فَأَنَا أُرِيبُهُ إِذَا فَعَلْتُ".

إذا فعلتَ.

"إذا فعلتَ بِهِ فِعْلًا يُوجِبُ لَدَيْهِ الرِّيبَةَ. قَالَ الْهُذَلِيُّ:

         كُنْتُ إِذَا أَتَوْتُهُ مِنْ غَيْبٍ                           يَشُمُّ عِطْفِي وَيَبُزُّ ثَوْبِي


كَأَنَّمَا أَرَبْتُهُ بِرَيْبٍ".

الأفصح أن تكون الشين مفتوحة (يشَمُ).

 فعل مضارع يلي لم كيشم.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} [هود:63] تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِ نُوحٍ، {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} [هود:63] اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ، أَيْ لَا يَنْصُرُنِي مِنْهُ إِنْ عَصَيْتُهُ أَحَدٌ، {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود:63] أَيْ تَضْلِيل وَإِبْعَاد".

 تَضْلِيلٍ وَإِبْعَادٍ.

"تَضْلِيلٍ وَإِبْعَادٍ مِنَ الْخَيْرِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَالتَّخْسِيرُ لَهُمْ لَا لَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَأَنَّهُ قَالَ: غَيْرَ تَخْسِيرٍ لَكُمْ لَا لِي. وَقِيلَ: الْمَعْنَى (مَا تَزِيدُونَنِي بِاحْتِجَاجِكُمْ بِدِينِ آبَائِكُمْ غَيْرَ بَصِيرَةٍ بِخَسَارَتِكُمْ)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} [هود:64] ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ {لَكُمْ آيَةً} [هود:64] نُصِبَ عَلَى الْحَالِ".

هذه مبتدأ وناقة خبر، آية يعني حال كونها آية منصوب على الحال.

"وَالْعَامِلُ مَعْنَى الْإِشَارَةِ أَوِ التَّنْبِيهِ فِي هَذِهِ. وَإِنَّمَا قِيلَ: نَاقَةُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا لَهُمْ مِنْ جَبَلٍ"

معنى الإشارة يعني صاحب الحال {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [هود:64]، العامل يعني صاحب الحال ناقة الله آيةً، أو هذه ناقة الله فيكون صاحب الحال المبتدأ أو الخبر؟

طالب: ....

نعم، لا بد أن يكون الصاحب المبتدأ؛ لأن المبتدأ يُخبر عنه، وتُبين هيئته، الخبر ارتباطه واعتماده على المبتدأ، هو تابع له.

 "وَإِنَّمَا قِيلَ: نَاقَةُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا لَهُمْ مِنْ جَبَلٍ -عَلَى مَا طَلَبُوا- عَلَى أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ. وَقِيلَ: أَخْرَجَهَا مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ مُنْفَرِدَةٍ فِي نَاحِيَةِ الْحِجْرِ يُقَالُ لَهَا: الْكَاثِبَةُ، فَلَمَّا خَرَجَتِ النَّاقَةُ -عَلَى مَا طَلَبُوا- قَالَ لَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَالِحٌ :{هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [هود:64]، {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ} [هود:64] أَمْرٌ وَجَوَابُهُ، وَحُذِفَتِ النُّونُ مِنْ فَذَرُوهَا".

مثل ما تقدم {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ} [هود:64] يعني أن تذروها تأكل جواب طلب مقدر، أو هو جواب الشرط مجزوم.

"فَذَرُوهَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ. وَلَا يُقَالُ: وَذَرَ وَلَا وَاذِرَ إِلَّا شَاذًّا".

يعني ذر ويذر مستعمل الفعل الأمر والمضارع مستعمل، لكن وزر فلان وازر يعني تارك هذا أُميت ومثله ودع، يدعُ مستعمل، دع أمر مستعمل، وودع المصدر مستعمل، لكن ودع أميت؛ أميت ماضيه؛ اكتفاء بتركه، مثل وذر وأما قراءة: {ما ودعك ربك} ما تركك، فهي قراءة شاذة، دع، «دع ما يريبك»، «من لم يدع قول الزور»، «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات»، هذه مستعملة، أما البعض فقد أُميت كما هنا.

"وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِ "تَرَكَ". وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا كَانَتِ الْوَاوُ ثَقِيلَةً، وَكَانَ فِي الْكَلَامِ فِعْلٌ بِمَعْنَاهُ لَا وَاوَ فِيهِ أَلْغَوْهُ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ رَفْعُ تَأْكُلُ عَلَى الْحَالِ وَالِاسْتِئْنَافُ، {وَلَا تَمَسُّوهَا} [هود:64] جَزْمٌ بِالنَّهْيِ، {بِسُوءٍ} [هود:64]، قَالَ الْفَرَّاءُ بِعَقْرٍ، {فَيَأْخُذَكُمْ} [هود:64] جَوَابُ النَّهْيِ. {عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود:64] أَيْ قَرِيبٌ مِنْ عَقْرِهَا.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود:65] فِيهِ مَسْأَلَتَانِ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَعَقَرُوهَا} [هود:65] إِنَّمَا عَقَرَهَا بَعْضُهُمْ، وَأُضِيفَ إِلَى الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِرِضَا الْبَاقِينَ".

فهم شركاء، فهم شركاء لهذا الأشقى؛ لأنهم راضين بفعله فهم شركاء له.

"وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي عَقْرِهَا فِي "الْأَعْرَافِ". وَيَأْتِي أَيْضًا {فَقَالَ تَمَتَّعُوا} [هود:65] أَيْ قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ تَمَتَّعُوا، أَيْ بِنِعَمِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- قَبْلَ الْعَذَابِ. {فِي دَارِكُمْ} [هود:65] أَيْ فِي بَلَدِكُمْ، وَلَوْ أَرَادَ الْمَنْزِلَ لَقَالَ فِي دُورِكُمْ. وَقِيلَ: أَيْ يَتَمَتَّعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فِي دَارِهِ وَمَسْكَنِهِ، كَقَوْلِهِ: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر:67]. أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ طِفْلًا. وَعَبَّرَ عَنِ التَّمَتُّعِ بِالْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَتَلَذَّذُ، وَلَا يَتَمَتَّعُ بِشَيْءٍ، فَعُقِرَتْ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَأَقَامُوا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَالْجُمْعَةِ وَالسَّبْتِ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْأَحَدِ. وَإِنَّمَا أَقَامُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لِأَنَّ الْفَصِيلَ رَغَا ثَلَاثًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي "الْأَعْرَافِ" فَاصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ احْمَرَّتْ فِي الثَّانِي، ثُمَّ اسْوَدَّتْ فِي الثَّالِثِ، وَهَلَكُوا فِي الرَّابِعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْأَعْرَافِ".

نسأل الله العافية، فليعتبر وليتعظ من يُبارز ويحارب الله -سبحانه وتعالى- علنًا، ويجاهر بمعصيته، وليستحي من يزاول المعاصي سواء في السر أو العلن؛ لأن نهايته وعاقبته كعاقبة غيره، ليس بين الله وبين أحد نسب، إنما من أطاعه أثابه، ومن عصاه عذبه، والله المستعان. نعم.

"الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا بِإِرْجَاءِ اللَّهِ الْعَذَابَ عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا لَمْ يُجْمِعْ عَلَى إِقَامَةِ أَرْبَعِ لَيَالٍ قَصَرَ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامَ خَارِجَةٌ عَنْ حُكْمِ الْإِقَامَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "النِّسَاءِ" مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا".

نعم، كاستدلال غيرهم بنهي المهاجر عن الإقامة بمكة فوق ثلاث، قالوا: لأن الثلاث ليست إقامة، فدل على أن ما فوق الثلاث إقامة، فمن أزمع وعقد النية على البقاء في بلد أربعة أيام فليس له أن يترخص عند جمهور العلماء.

طالب: ....

هذا أضبط للناس وأحوط، القول الثاني مطلق ما ينتهي بشيء.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65] أَيْ غَيْرُ كَذِبٍ. وَقِيلَ: غَيْرُ مَكْذُوبٍ فِيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود:66] أَيْ عَذَابُنَا. {نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [هود:66] تَقَدَّمَ. {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود:66] أَيْ وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، أَيْ مِنْ فَضِيحَتِهِ وَذِلَّتِهِ. وَقِيلَ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ، أَيْ نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ. وَلَا يَجُوزُ زِيَادَتُهَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ يَجُوزُ زِيَادَتُهَا مَعَ "لَمَّا" وَ"حَتَّى" لَا غَيْرَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ: يَوْمَئِذٍ، بِالنَّصْبِ. والْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ عَلَى إِضَافَةِ يَوْمٍ إِلَى إِذْ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَ {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود:66]، أَدْغَمَ الْيَاءَ فِي الْيَاءِ، وَأَضَافَ، وَكَسَرَ الْمِيمَ فِي يَوْمِئِذٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: الَّذِي يَرْوِيهِ النَّحْوِيُّونَ: مِثْلُ سِيبَوَيْهِ وَمَنْ قَارَبَهُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو فِي مِثْلِ هَذَا: الْإِخْفَاءُ، فَأَمَّا الْإِدْغَامُ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ يَلْتَقِي سَاكِنَانِ، وَلَا يَجُوزُ كَسْرُ الزَّايِ".

قال أبو حاتم: من أبو حاتم؟

طالب: السجستاني.

هذه قراءة. حدثنا أبو زيد عن أبي عمرو، وأبو زيد من هو؟

طالب: .....

كلهم بالكنى أبو حاتم عن أبي زيد عن أبي عمرو.

طالب: .....

نعم يا أخوان؟ أن القراء؟

طالب: .....

ما في القراء أبو عمرو؟

طالب:...

وأبو زيد.

طالب: ...

لأن المسألة فيها تداخل بين القراءة واللغة، ويعتني اللغويون بالقراءات أكثر من غيرهم، فأبو زيد هو الأنصاري، وأبو حاتم السجستاني، وهذا يروي عن هذا، وذاك يروي عن ذاك، نعم.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود:67] أَيْ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ صِيحَ بِهِمْ فَمَاتُوا، وَذُكِّرَ؛ لِأَنَّ الصَّيْحَةَ وَالصِّيَاحَ وَاحِدٌ. قِيلَ: صَيْحَةُ جِبْرِيلَ. وَقِيلَ: صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فِيهَا صَوْتُ كُلِّ صَاعِقَةٍ، وَصَوْتُ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ، فَتَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ وَمَاتُوا. وَقَالَ هُنَا: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَة} [هود:67]، وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف:78]، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاكَ".

يُذكر في واحد قبل ثلاثة أيام أو أربعة لما نزل رعد شديد وصواعق كان هناك واحد يتكلم بالجوال فأصيب.

طالب: ...

نعم، أصيب، والآن هو في العناية المركزة، والله المستعان. فما أهون الخلق على الله عند أدنى سبب، عجيب.

طالب: ....

ما أهون الخلق على الله، المتكبر المتجبر المتغرطس إذا سمع مثل هذه الأصوات عرف الحقيقة، والله المستعان.

"وَفِي التَّفْسِيرِ: أَنَّهُمْ لَمَّا أَيْقَنُوا بِالْعَذَابِ قَالَ بَعْضُهمْ لِبَعْضٍ مَا مَقَامُكُمْ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْأَمْرُ بَغْتَةً؟! قَالُوا: فَمَا نَصْنَعُ؟ فَأَخَذُوا سُيُوفَهُمْ وَرِمَاحَهُمْ وَعِدَدَهُمْ، وَكَانُوا فِيمَا يُقَالُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ قَبِيلَةٍ، فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، فَوَقَفُوا عَلَى الطُّرُقِ وَالْفِجَاجِ، زَعَمُوا يُلَاقُونَ الْعَذَابَ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِالشَّمْسِ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِحَرِّهَا، فَأَدْنَاهَا مِنْ رُءُوسِهِمْ فَاشْتَوَتْ أَيْدِيهِمْ، وَتَدَلَّتْ أَلْسِنَتُهُمْ عَلَى صُدُورِهِمْ مِنَ الْعَطَشِ، وَمَاتَ كُلُّ مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْبَهَائِمِ. وَجَعَلَ الْمَاءُ يَتَفَوَّرُ مِنْ تِلْكَ الْعُيُونِ مِنْ غَلَيَانِهِ حَتَّى يَبْلُغَ السَّمَاءَ، لَا يَسْقُطُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَهْلَكَهُ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهِ، فَمَا زَالُوا كَذَلِكَ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ أَلَّا يَقْبِضَ أَرْوَاحَهُمْ تَعْذِيبًا لَهُمْ إِلَى أَنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَصِيحَ بِهِمْ فَأُهْلِكُوا. {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:67] أَيْ سَاقِطِينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، قَدْ لَصِقُوا بِالتُّرَابِ كَالطَّيْرِ إِذَا جَثَمَتْ. {أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} [هود:68] تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ".

اللهم صلى على محمد وعلى آله.

"