كتاب الجامع من المحرر في الحديث - 26

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "وعن تميم الداري -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «الدين النصيحة» ثلاثًا، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».

 شرعنا في شرح الحديث في درس الأمس، وبقي منه النصيحة لكتاب الله -جل وعلا-: بأن يعظَم ويحترَّم، ويعتقَد بأنه كلام الله حقيقة تكلم به -جل وعلا-، صفة الكلام لله -جل وعلا- ثابتة في النصوص القطعية من الكتاب والسُّنَّة على ما يليق بجلاله وعظمته، نعتقد هذا أنه كلام الله، ونعتقد أيضًا أنه كلامٌ معظَّم، وأن فضله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه، على سائر المتكلمين، ويجب العمل بما جاء فيه من الأوامر والنواهي وغيرها مما احتوى عليه هذا الكتاب العظيم، ولرسوله -عليه الصلاة والسلام-.

 وقلنا في درس الأمس: إن "كتاب" "ورسول" مفرد مضاف، وهو عند أهل العلم يدل على العموم؛ لأن المفرد المضاف يدل على العموم، فالكتاب يطلَق على سائر الكتب المنزلة، ولكل كتاب من هذه الكتب ما يخصه مما بلغنا عنه، ولكل رسول من رسل الله -جل وعلا- ما يخصه مما بلغنا عنه، في كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، فالإيمان بالكتب ركنٌ من أركان الإيمان الستة، والإيمان بالرسل كذلك، نؤمن بهم، ونعتقد أنهم رسل من عند الله -جل وعلا-، أرسلهم إلى أممهم؛ ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، وأنهم أدوا ما عليهم، ونصحوا لأممهم ولرسوله، ونخص كتابنا بما نعرفه عنه تفصيلاً، كما نخص رسولنا بما نعرفه عنه تفصيلاً بما جاء عنه في كتاب الله وسنة نبيه وسنته -عليه الصلاة والسلام-، وننصره في حياته بالجهاد معه، وننصره بعد مماته في العمل بسنته -عليه الصلاة والسلام-، والذبّ عنها.

 ولأئمة المسلمين، وهذا يشمل الأمراء والعلماء، الخلفاء والولاة والعلماء كلهم أئمة، أئمة للمسلمين، ولكلٍّ من الأمراء والعلماء ما يخصه من هذه النصيحة، فنصيحة الأمراء طاعتهم وعدم الخروج عليهم، ونصرهم، والجهاد معهم، وإقامة الجُمَع والأعياد خلفهم، مهما عملوا من المعاصي وأسباب الفسق، والظلم، على ما سيأتي في أحاديث لاحقة إن شاء الله، ما لم يُرَ الكفر البواح، ما داموا يصلون ويقيمون الشعائر.

 على كل حال هم ولاة، ولهم حقوق، وهم ما لم يُرَ الكفر البواح، فنحن ننصرهم، وأيدينا بأيديهم، ولا ننزع يدًا من طاعة، بايعنا رسول الله، حديث عبادة بن الصامت، بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره.

 ولأئمة المسلمين من الأئمة العلماء، يطاعون فيما يفتون به ويبينونه من أحكام الله، المأخوذة من الكتاب والسُّنَّة، وينصحَون أيضًا إذا زلّ أحدهم فإنه يُبيَّن له أن هذه زلة، عليه أن يرجعه عنها، ولا تنتهَك أعراضهم في المجالس؛ بسبب هذه الزلات، النصيحة لهم تبذَل، ويُذكَر لهم الصواب بدليله، وعلى العالم الذي يتبين له خطؤه أن يرجع، أن يرجع عن فتواه، ولا يتعصب لرأيه، فهذا الواجب في حق العلماء أنهم يُحَبون ويُقدرون بقدر خدمتهم لدينهم، ونصحهم لعامة الناس وتوجيههم، ومع ذلك ليسوا بمعصومين، فإنهم يخطئون كغيرهم، وجاء الحديث: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر واحد»، ومعلوم أنه في حق من له النظر والاجتهاد، وليس كل واحد يتصدى للكلام وإفتاء الناس أن يقول: أنا أجتهد سواء أخطأت أو أصبت، إذا كنت لست من أهل النظر ولا الاجتهاد يحرم عليك أن تفتي بغير علم، أما إذا كنت من أهل النظر والاجتهاد، وعرفت المسائل بأدلتها، وحالفك الصواب فإن لك أجرين، من خالف الصواب كان له أجر واحد، وخطؤه مغفور.

«ولأئمة المسلمين وعامتهم» العامة نصحهم واضح؛ لأنهم بصدد أن يُوجَّهوا إلى الخير وما يرضي الله -جل وعلا- وتكثر فيهم المخالفات؛ لأنهم عامة لا يعرفون العلم، بحيث يعملون بأدلة ونصوص، تخفى عليهم هذه الأمور، فهم يعملون، ويغلب فيهم الصواب المُتَلَقَّى من شيوخهم بقولهم وعملهم، ويحصل منهم؛ لأنهم ليسوا أهلًا للنظر، والنظر في الأدلة يكثر منهم الخطأ، وحينئذٍ يوجهون إلى الصواب، وهذا نصحهم، هذا نصحهم، والمعتدي منهم يكف عن عدوانه، وهذا نصح له، وهذا نصر له، في الحديث: «انصر أخاك ظالما أو مظلومًا»، ظالمًا أو مظلومًا، قالوا: هذا إذا كان مظلومًا، فكيف ننصره إذا كان ظالمًا؟ قال: «تكفه عن الظلم»، تكفه عن الظلم بيدك إن استطعت، وإلا بنصحك وتوجيهك فهذا من نصح عامة المسلمين.

قال -رحمه الله-: "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء»".

بدأ الإسلام في أول الأمر وفي بداية دعوته -عليه الصلاة والسلام- غريبًا، لم يتابعه ولم يستجب له إلا القليل النادر، فهذه غربة لا شك، ثم أخذ يكثر وينتشر، لا سيما بعد أن أُمر بالجهاد، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، أُمروا بالهجرة، وانتصر الحق، وظهر، ولما أُذن بالجهاد قاتل النبي -عليه الصلاة والسلام- بمن معه من الصحابة المشركين، ودخلوا في دين الله أفواجًا، فكثُر المسلمون، ثم لما حصل الجهاد للبلدان المجاورة والدول المجاورة من الفرس والروم كثر الدخول في الإسلام، وانتفت حينئذٍ الغربة، التي تعني القلة في الأتباع، «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا» في آخر الأمر يقل الأتباع، ويقل من هم على الحق والصواب، قد يوجد في المسلمين كثرة، لكن كثرة لا تنفع، «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها» قالوا: أمن قلة يا رسول الله؟ قال: «لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل»، هذا الغثاء وجوده مثل عدمه، العبرة بمن كان على الحق. من يستحق النصر من الله -جل وعلا-.

 وسيعود غريبًا، يعني في آخر الزمان تجد الملايين مئات الملايين، بل المليار وزيادة كلهم يقولون هم مسلمون، ويشهدون أن لا إله إلا الله، ومع ذلك يأتون بما ينقض هذه الشهادة من عبادة غير الله، وصرف أنواع العبادة لغير الله -جل وعلا-، فهؤلاء وإن انتسبوا إلى الإسلام فلا شك أنهم إذا أتوا بالناقض خرجوا من الإسلام.

 وعلى كل حال وجود من ينتسب إلى الإسلام بكثرة مع وجود الشرك فيهم، ووجود المنكرات والمعاصي، وقلة المتمسكين بالحق، الغربة هذه تعني قلة المتمسكين بالحق، كما جاء في حديث أبي داود: العامل في آخر الزمان له أجر خمسين، له أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله منا أو منهم؟ قال: «منكم» لماذا؟ لقلة الناصر والمعين، وكثرة المخذِّل، والذي يقف في وجهك وفي وجه ما تدعو إليه، يكثرون في آخر الزمان، ويقل الغرباء، وسيعود غريبًا كما بدأ، يرجع غريبًا، لكن هل يعود التمثيل في النهاية تمثيل النهاية بالبداية تمام المطابقة تقتضي أنه يعود، بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، بدأ غريبًا ثم انتشر، وقوي، فهل يكون كذلك في آخر الزمان؟

طالب: .........

نعم؟

طالب: .........

جاء في الحديث: وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دَخَن» لن يكون كما بدأ لن تكون قوة الإسلام في آخر الزمان كقوته في أول الزمان، وهذا أمر معروف، لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه، نسأل الله العافية. وشواهد الأحوال تدل على ذلك، أمة الإسلام كثرة كاثرة وأمة قاهرة، لكن كما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام-.

طالب:...

نعم؟

طالب: .........

في ضعف، في ضعف، وضعف من جميع النواحي كما ترون، وإن كان الأمة فيها قوة من جميع النواحي القوة المادية، فيها قوة، لكن مع ذلك إذا ضعفت القوة المعنوية تبعها كل شيء، إذا ضعف التعلق بالله -جل وعلا- تبعه كل شيء، ولذلك تجدون في بعض البلدان يحصل عليهم ما يحصل من الكبوات والنكبات وكذا، ثم يلتفتون إلى الشرق والغرب، مرة يقولون: يا شرق، ومرة يا غرب، لو تعلقوا بالله -جل وعلا- وعبدوه حق عبادته ما احتاجوا إلى أحد.

طالب:...

ماذا؟

طالب: .........

بلا شك، لا وجود لهم بغير الدين، لا وجود لهم بغيره ولا قوة لهم بغير دين، بغير التمسك بدين الله، التمسك بدين الله هو مصدر القوة {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7].

 على كل حال يقول: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى» طوبى فرح، قرة عين، وغير ذلك من غبطة وكرامة وقيل: طوبى شجرة في الجنة، «للغرباء» جاء تفسيرهم في أحاديث أخرى، «الذين يَصلُحُون إذا فسد الناس»، وجاء: «يُصلِحُون ما أفسد الناس»، يصلحون ما أفسد الناس، وجاء: «هم النُّزَّاع من القبائل» يعني يوجد في القبائل أفراد يحملون هذا الوصف، يتمسكون بالدين، ويسلكون المنهج الصحيح الرباني، المأثور عن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وعن صحابته الكرام، ولا يحيدون عنهم يمنة أو يسرة، طوبى للغرباء، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يَصلُحون إذا فسد الناس»، وقيل في رواية: «يُصلِحُون ما أفسد الناس»، الصلاح وحده مطلوب، لكن فوق ذلك الإصلاح، قال: وهم مصلحون ما قال: وهم صالحون، فالإصلاح هو الذي عليه المعول، وهو الذي يستمر فيه الخير، أما أن كل إنسان يصلح يجلس في بيته فهذا في أوقات الفتن المدلهمة التي لا يتبين فيها الحق، للإنسان أن يعتزل بل تُطلَب منه العزلة، ويكون صالحًا في نفسه، ويسعى في إصلاح من يستطيع إصلاحه.

"وعنه -رضي الله عنه-" أي عن أبي هريرة، "عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «والذي نفسي بيده»".

 والذي نفسي بيده، يكثر النبي -عليه الصلاة والسلام- من القسم بهذا، والذي نفسي بيده. والنفس هي الروح، و"بيده" فيه إثبات اليد لله -جل وعلا- على ما يليق بجلاله وعظمته، وكثيرٌ من الشُّرَّاح يقول: والذي نفسي بيده: روحي في تصرفه، روحي في تصرفه، دلالة الأولى في اللفظ أن اليد ثابتة لله -جل وعلا- على ما يليق بجلاله وعظمته، والثاني تفسير باللازم، ومن حيث المعنى صحيح، ليس أحد روحه ليست في تصرف الله -جل وعلا-، لكن إذا قالها من لا يثبت الصفات قلنا: قال ذلك فرارًا من إثبات الصفة، وإلا فالمعنى صحيح، والحق الثابت أن لله- جل وعلا- يدين تليقان بجلاله وعظمته.

«والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة»، يعني من أمة الدعوة، من أمة الدعوة، يعني من وُجِد بعد بعثته -عليه الصلاة والسلام- إلى قيام الساعة، هؤلاء من استجاب منهم يقال: أمة الإجابة، ومن لم يستجب يقال: أمة الدعوة، والمقصود في الحديث أمة الدعوة؛ لأنه قال: «يهودي ولا نصراني» اليهود والنصارى ليسوا من أمة الإجابة، ليسوا من أمة الإجابة، وإن كانوا من أمة الدعوة، فيلزمهم الدخول في الإسلام وغيرهم من طوائف الكفار، واليهود والنصارى لا شك أنهم كفار، {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1]، وعطف المشركين عليهم جعل بعض أهل العلم لا يطلق المشركين على أهل الكتاب.

وهذه مسألة خلافية بين أهل العلم، بيّنها الحافظ ابن رجب -رحمه الله- قال: فيهم شرك، وليسوا بمشركين، وكونهم كفارًا هذا محل إجماع بين أهل العلم، لا يُشَك فيه.

 «يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار»، فاليهود والنصارى إذا ماتوا على اليهودية والنصرانية فهم من أهل النار، فهم من أهل النار، أما من أسلم منهم فله أجران، كما جاء في الحديث، فلهم أجران، «رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي» فهو يُعطى الأجر على إيمانه بنبيه وعمله بشريعته أول الأمر، ثم إيمانه بمحمد -عليه الصلاة والسلام- والعمل بشريعته.

«ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار»، الجنة حرام على من مات مشركًا، على من مات مشركًا. 

"وعن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له»".

 خلع يده من طاعة ولي الأمر، طاعة ولي الأمر الذي ثبتت له البيعة، سواء باشر البيعة بنفسه أو كان تبعًا لمن بايع؛ لأن بعض الناس يقول: والله أنا ما بايعت، ما خلعت يدي من طاعة، نقول: أنت مبايع، بايع أهل الحل والعقد، وثبتت الإمامة لهذا الرجل فأنت مبايع له شئت أم أبيت، فلا يجوز لك أن تخلع يدك من طاعة، من طاعته.

 «من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له» يعني لا عذر له، لا عذر له، في فعله هذا في خلعه ليس له حجة ماذا يقول؟

حجته قد يقول: أنا والله ما بايعت، ما بايعت، لكن هل يلزم في جميع أفراد الأمة أن يبايعوا؟ لا، إذا بايع أهل الحل والعقد خلاص ثبتت الإمامة لهذا الرجل، وثبتت ولايته على المسلمين، وحرم الخروج عليه بأي شكل من الأشكال، وإثارة الناس عليه، كل هذا محرم في شريعة الإسلام، وسبب هذا التحريم الآثار المترتبة على ذلك من سفك الدماء، وانتهاك الأعراض، ونهب الأموال، ولا نحتاج إلى تدليل وتعليل وشواهد الأحوال عن يميننا وعن شمالنا، حصلت من شخص واحد إثارة وبلبلة وقلقلة، وانظر العواقب والآثار المترتبة عليه سفك داء مئات الألوف من المسلمين، وانتهاك الأعراض.

 في العام الماضي يستفتي أهل جهة من الجهات، يستفتون هل يجوز قتل البنات خشية من انتهاك الأعراض؟ وصل الحد إلى هذا الأمر؟ بسبب شخص أو أشخاص، نسأل الله العافية، انظر مصداق الحديث، انظر كم انتُهِكَ من عرض، كم سُلِب من مال، كم أُرِيقَ من دماء، في بعض البلدان يصل إلى المليون، القتل، وانتهاك الأعراض حدِّث ولا حرج. وأنت الآن آمن مطمئن إذا أذَّن تطلع تصلي وتعود بلا أي إثارة، قد يخرج الإنسان ليصلي فلا يرجع، فلا يرجع، قبل ثلاثين سنة طالب عندنا في أصول الدين أفريقي سألني قال: لي زميل نصراني، زميل نصراني دعوته إلى الإسلام فوقر الإيمان في قلبه، فذهبنا إلى شيخ من الشيوخ؛ ليسلم على يديه، ذهبنا إلى الشيخ فقال: الآن الأذان باقي ربع ساعة، دعوني حتى أتجهز للصلاة وأصلي، وتأتون بعد ذلك، يقول: خرجنا من عنده فهناك إطلاق نار فقُتل الرجل ولم ينطق بالشهادتين، يعني وقر الإيمان في قلبه، وما نطق بالشهادتين، يعني حكمه في الدنيا أنه ما أسلم «أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله»، لكن في الآخرة الله يتولاه، الله يتولاه.

فالله المستعان.

الشاهد أنه خرج ليسلم ورجع قُتل، تصور أن أقل الأحوال أقل ما يقال في الموضوع: أنت آمن ومطمئن، هذا أنا أقول أقل ما يقال، لا قتل ولا انتهاك عرض ولا شيء، تطلع وتدخل آمن، تدخل الصرافة، البطاقة في الصرافة ما تطلع لك دراهم ما وضعك؟ هذا من أقل ما يقال، فكيف بإزهاق الأرواح؟ مئات الألوف، وانتهاك الأعراض، يدخل عليك الداخل في بيتك، ويفعل ما يشاء، اقرؤوا في تاريخ الأندلس في الجزء السادس من نفح الطيب مثلاً، النصارى ماذا فعلوا؟ خلعوا الأبواب، أبواب المسلمين؛ ليدخلوا عليهم متى شاؤوا، ووصل الأمر بالمسلمين أن يستفتوا من علماء المغرب كيف يصلون وهم لا يستطيعون أن يتوضؤوا ولا يركعوا ولا يسجدوا، الأبواب مخلوعة، لو رآهم العدو يصلون قتلهم، قال: أفتاهم من أفتاهم بأن يضع يستند إلى جدار ويضع يديه وراء ظهره ويمسح الجدار خفية، ويشير بطرفه للركوع والسجود، قارن بين وضعنا في بلادنا- ولله الحمد والمنة- وهذه الأوضاع.

 اقرؤوا في التاريخ تروا العبر والتاريخ كما يقال يعيد نفسه، يعيد نفسه، انظروا إلى ما فعل تيمور في دمشق لما دخلها سنة ثمانمائة وثلاثة، ماذا صنع بالناس؟

صحيح أن الجرائم البشعة التي ترتكب في وقتنا ساعد على بشاعتها وسائل الإعلام، نراها بأعيننا كأننا نشاهد، كأننا حضور، أولئك ما عندهم وسائل إعلام لكن اقرأ في التاريخ، تجد نفس الذي يحصل الآن حصل مثله وأضعافه في السابق.

 ابن الأثير في الكامل ذكر أن التتري يمر على الفئام من المسلمين وليس معه سلاح واحد، يقول: قفوا حتى آتي بالسلاح فأقتلكم، ويقفون! يقفون حتى يأتي بسلاحه فيقتلهم، وهو واحد، حصل أن تتريًّا مرّ على بضعة عشر رجلاً أظنهم ثمانية عشر وقال: قفوا حتى آتي بسلاحي لأقتلكم، فوقفوا، قال واحد منهم: هو واحد! نحمل عليه إن قتلناه وإلا مقتولين مقتولين، لماذا ننتظر؟ فحملوا عليه فقتلوه، فهذه الأسطورة انكسرت، الذي يوقف المجموعة من المسلمين حتى يأتي العدو بسلاحه فيقتلهم، والسبب؟

البعد عن دين الله، سواء كان في بغداد، في دمشق، في الأندلس، في غيرها من البلدان في القديم والحديث، فلا بد للأمة أن تراجع دينها، وتأخذ بأسباب النصر على العدو، وتترك أسباب الدمار والهلاك الذي يرتكبه بعض الناس، والله المستعان.

أمور تدمي القلب، والحديث فيها يطول لكن علينا جميعًا قد يقول قائل: أنا ما لي سلطة، ما أملك شيئًا، لا أستطيع التغيير ولا التأثير، غيّر نفسك، ابدأ بنفسك، ثم بعد ذلك ابدأ بمن تحت يدك، زوجتك، ولدك، بنتك، أختك، أخوك، جارك، ثم ينتشر الخير لو فعل كل واحد منا مثل هذا الفعل خلاص قُضي على الفساد، انتهى، لكن المشكلة أنه كثير من مجالس المسلمين وبعض طلاب العلم مع الأسف مجرد تلاوم، وفي النهاية لا نستطيع أن نفعل شيئًا، أو كلام مثل هذا الكلام الذي أقوله ولا وراءه عمل، كذلك، «من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له» يعني لا عذر له.  

"«ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»" بمعنى أنه لا بد أن تبايع، لا بد أن تبايع إن لم تبايع فميتتك جاهلية، ما معنى أبايع وأنا لا أصل إلى المكان الذي فيه البيعة؟ مثل ما قيل سابقًا، ترضى وتسلِّم بهذا الذي بويع له من قِبل أهل الحل والعقد وتعتقده إمامًا، وتعتقد أنه لا يجوز الخروج عليه، وتنصره إذا احتاج إليك.

"وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»، «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»".

 الأخير، البيعة ثبتت للأول، والآخر لم تثبت له البيعة، فيقتَل، بعد أن تبذل الأسباب إلى كفّه عن مطلبه؛ لأنه إذا لم يندفع إلا بالقتل -كما قال أهل العلم- يقتَل، نقل بعضهم الإجماع على أنه لا ينعقد لخليفتين بيعة سواء تباعدوا أو تقاربوا، لكن عمل الأمة بعد الخلافة الراشدة يعني في الأندلس وفي غيرها من الأصقاع البعيدة جدًّا بويع لأكثر من خليفة، ومشت الأمور، وانعقد الاتفاق على ذلك، ولم يجوِّزوا الخروج على الآخِر إذا كان بعيدًا في إقليم مستقل، كما هو حاصل من القرن أواخر القرن الأول إلى يومنا هذا.

 قال إمام الحرمين: إذا تباعدت الأقطار فللاحتمال مجال. لكن الواقع العملي، التواتر العملي والتوارث عند المسلمين فيما إذا تباعدت الأقطار ولم يتيسر أن تنضم الأمة تحت لواء خليفة واحد إلا بفتَن وقلاقل وإراقة دماء؛ لأنه قد يعجز الواحد أن يضم الناس كلها، قد لا يتفقون على إمام واحد، فدرءًا للمفاسد الكبرى والكوارث العظمى التي تترتب على المطالبة بكون الأرض يحكمها واحد، خليفة مسلم واحد لا شك أن هذا منذ القِدَم، توارثوا وتواتر العمل والتوارث على وجود أكثر من خليفة في أقطار المسلمين.  

"وعنه -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: «من رأى منكم»" يعني هو عن أبي سعيد، "سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»" سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: «من رأى منكم منكرًا» الأصل في الرؤية أنها الرؤية البصرية، وهناك رؤية يقال لها: رؤية علمية، رؤية علمية، والعلم فيها ينزّل منزلة الرؤية البصرية، فإذا بلغك بطريق صحيح لا تتردد فيه، ولا تشك فيه فكأنك رأيت المنكر، والدليل على ذلك أن الله -جل وعلا- خاطب نبيه -عليه الصلاة والسلام- في أمور بلغته ولم يرها، بلفظ الرؤية، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}[الفيل:1]، ما ثبت بالدليل القطعي ينزَّل منزلة المشاهَد في القطعية، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر:6]، فهذه الرؤية لا شك أنها علمية، بلغته بالأخبار القطعية، فهذه الأخبار تُنَزَّل منزلة المشاهَد، فلا يقول قائل: أنا والله ما رأيت منكرًا، لكن بلغك بطريق قطعي، لو كل إنسان قال ذلك وتُرِك المجال لمن ينظر فقط فلا تقوم الأمور.

 من رأى منكم منكرًا مما ينكَر شرعًا، مما ينكر شرعًا، مما ينكر شرعًا جاء الشرع بإنكاره، «فليغيره بيده» فليغيره بيده، يعني إذا كانت لديه القدرة والاستطاعة على التغيير باليد إذا كان مرتكب المنكر تحت ولايته من سلطان يستطيع التغيير باليد، أو أب يستطيع التغيير باليد في بيته أو ما أشبه ذلك فإنه يلزمه أن يغير بيده. «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع» يعني التغيير باليد، «فبلسانه» فليغيره بلسانه، بلسانه يقول لمرتكب المنكر: اتق الله يا فلان!، هذا محرّم، هذا منكر لا يجوز لك أن ترتكبه، بلسانه، فإن لم يستطع يعني الإنكار بلسانه فبقلبه، يعني يكره المنكر الذي ارتكبه المرتكب، وتبرأ ذمته بذلك، وذلك أضعف الإيمان، أضعف الإيمان يعني أقله ثمرة، الجدوى من التغيير بالقلب لا شك أنها أقل من الجدوى بالتغيير باللسان، والتغيير باللسان أقل جدوى من التغيير باليد، والله المستعان. 

"وعن أبي مسعود" عقبة بن عمرو البدري عقبة بن عمرو البدري أبو مسعود الأنصاري، وانتسب إلى بدر؛ لأنه سكنها، ولم يشهد بدرًا في قول جمهور أهل العلم وإنما سكن بدر فقيل له بدري، والبخاري كأنه يميل إلى أنه شهد بدرًا، والله المستعان.

 "-رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله»، «من دل على خير فله مثل أجر فاعله»".

 وجدت شخصًا يرتكب طريقًا ليس فيه خيرٌ له في دينه ولا في دنياه، أو عليه ضرر أو شر فدللته إلى ما هو أنفع له فلك أجر مثل أجره.

 قال أهل العلم: فيه فضل تعليم العلم، فيه فضل تعليم العلم؛ لأن المعلم يدل المتعلمين على الخير، فله مثل أجورهم، فله مثل أجورهم، هؤلاء الذين تعلموا علّموا غيرهم، للمعلم الأصلي مثل أجور هؤلاء، وهكذا؛ لأنك دللتهم على الخير، وصرت سببًا في إيصال الخير لغيرهم، ولذا نصّ أهل العلم على أن في الحديث فضل تعليم العلم، أنت علمت عشرة مثلاً، وهؤلاء العشرة علّموا كل واحد عشرة، صاروا مائة، وهكذا، على مر السنين، أو ألّفت مؤلفًا ينتفع به الناس، كل من قرأ في هذا الكتاب لك مثل أجره، واستفاد منه، وبالمقابل من دلّ على شر، من دلّ على شر أو علّم الناس الشر والبدع فعليه مثل أوزارهم، نسأل الله العافية، ويتضاعف هذا بكثرة المتعلمين ومن تعلم منهم، وإذا ألّف كتابًا به بدعة أو يدعو إلى شر أو انحلال أو فتنة فكل من قرأ في هذا الكتاب وتضرر منه فإن عليك مثل وزره، «من سنَّ في الإسلام سنَّة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ في الإسلام سنَّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

طالب:...

مثل ذلك الرسائل، ومثل ذلك الوسائل كلها، يعني أنت تعلّم في المسجد خمسة طلاب، وهذا العلم نُشِر في وسائل الاتصال في المواقع والإنترنت، وصار المنتفعون به مئات، بل ألوفًا فلك مثل أجورهم، ومن تسبب في نشرها له من الأجور ما له، والله المستعان، فضل الله واسع، وهذه الوسائل بما فيها من شرور، ولا يظَن بأهل الفجور خيرًا.

 يقول ابن كثير -رحمه الله-: ومن عظائم الأمور أن يظَن بأهل الفجور خيرًا، يعني أنت تظن بالكفار الذين صنعوا هذه الصنائع أنهم يريدون نشر العلم؟ لا، يريدون نشر ما يريدون، ولكن الله يسرها للمسلمين، وانتفعوا بها، وسخّروها لخدمة العلم والدين، والحمد لله.

"وعن أم سلمة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: «ستكون أمراء»" ستكون أمراء، يعني سيوجد أمراء، وكان هنا تامة يقولون: تامة، تحتاج إلى فاعل، ولا تحتاج إلى اسم وخبر، «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون» يحصل في أعمالهم ما يعرَف من الخير، وما ينكَر من الشر، «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون» وهذا وُجد من القدم من القرون الأولى، «فتعرفون وتنكرون» يعني بعض أفعالهم تكون حسنة على الجادة، وبعض أفعالهم يكون فيه قبيح ينكَر عليهم، «فمن عرف بَرِئ» عرف المعروف، عرف المعروف، وعرف أن هذا معروف وعمل به، وعرف المنكر واجتنبه برئ من إثمه وعقوبته إذا أنكر على حسب قدرته، على حسب المراتب التي تقدمت، «فمن عرف بَرِئ، ومن أنكر سلِم» من أنكر سلِم، أنكر بالمراتب التي تقدَّمت بما يستطيع؛ لأن هذا مقرونٌ بالاستطاعة كما تقدَّم في حديث أبي سعيد.

 «ولكن من رضي وتابع» من رضي وتابع هذا هو الشريك لهم، هذا هو الشريك لهم في آثامهم على منكراتهم، رضي وتابع هناك مرتبة أسوأ من هذه، هناك من يبرر هذه المنكرات ويشرعها، وهذا أعظم إثمًا من الذي مجرد يرضى أو لا يستطيع أن ينكر فيسكت، المسألة مسألة عظيمة، فالغالب أن هؤلاء الأمراء تخفى عليهم الأحكام، تخفى عليهم الأحكام، ووظيفة أهل العلم الذين يبينون لهم المعروف من المنكر، ولكن عليه أن ينتقي البطانة، التي تدله على الخير وتكفه عن الشر.

 «ولكن من رضي وتابع» فقالوا: أفلا نقاتلهم؟ هذا وضعهم يفعلون منكرات، ويفرضونها على الناس، ويؤذون من ينكر عليهم، أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما صلّوا» ما صلّوا، إذا صلى فلا سلطان إلى نزع اليد من طاعته. لا، ما صلّوا، وفي الحديث الآخر: «ما لم تروا كفرًا بواحًا لكم فيه من الله سلطان» إذا لم يوجد الكفر البواح الذي فيه الدليل الواضح ليس الدليل المحتمل، الدليل الواضح الذي لا يُشَك فيه، فلا يقاتَلون.