شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الصوم (عام 1427 هـ) - 19

 

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

 

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقةٍ جديدة في برنامجكم شرح كتاب ((الصوم)) من كتاب ((التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح)).

مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نُرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحبًا بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المُستمعين.

المقدم: لازلنا في حديث أبي جحيفة في قصة سلمان وأبي الدرداء- رضي الله عنهم جميعًا- توقفنا عند آخر هذا الحديث في ألفاظه، عندما قال له سلمان- رضي الله عنه- من آخر الليل: قُم الآن، فصلَّيا.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،

في الحديث: فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قُم الآن. فلما كان من آخر الليل، أي: عند السَّحَر، وكذا هو في رواية ابن خزيمة. وعند الترمذي: فلما كان عند الصبح، وللدارقطني: فلما كان في وجه الصبح، وكل هذا يدلُّ على أنه قبل انتهاء وقت القيام؛ لأن وقت القيام ينتهي بالسَّحَر، وينتهي بطلوع الصبح. فوقت القيام ينتهي بطلوع الصبح، فإذا طلع الصبح فالكَف عن الصلاة إلا ركعتي الفجر.

قال سلمان- رضي الله عنه-: قُم الآن، قال سلمان لأبي الدرداء: قُم في هذا الوقت، يعني وقت السَّحَر الذي هو قبل طلوع الفجر.

فصليا، في رواية الطبراني: فقاما فتوضآ، ثمَّ ركعا، ثمَّ خرجا إلى الصلاة، فقال له سلمان، مُعللاً صنيعه من تفطيره وتنويمه: إن لربِّك عليك حقًّا، وهو حق العبودية التي من أجلها خُلِق الإنس والجِن، ولنفسك عليك حقًّا، فليست ملكًا لك تتصرف فيها كيفما شئت ولو أضرَّ بها، بل على مراد الله تعالى؛ ولهذا لا يجوز للإنسان أن يُحمِّل نفسه ما لا تُطيق أو ما يضرُّ بها، علمًا بأن إراحة النفس والجسد مع نية التقوي على طاعة الله تعالى عبادة يُتقرَّب بها إلى الله- عزَّ وجلَّ-. النفس ليست ملكًا للإنسان، فلا يجوز له أن يتصرف بها. فإذا اضطر الإنسان، أحيانًا يضطر الإنسان إلى أكل الميتة ويجد نفسه تعاف هذه الميتة، فيؤدي ذلك إلى موته؛ ولذا يقول أهل العلم: يجب عليه أن يأكل.

المقدم: ولو أدى الأكل إلى موته؟

لا، الترك الذي يؤدي إلى الموت، فالمُضطر يأكل من الميتة. أيضًا يأكل من المواد التي لا تضر وإن كانت مُحرمة؛ حفظًا لنفسه. لكن يبقى الموازنة بين أكله ما يؤدي إلى هلاكه وترك الأكل أيضًا يؤدي إلى هلاكه، فعندنا مثلاً: لو أن إنسانًا اضطر إلى أكل، فأداه اجتهاده إلى أن يقطع يده فيأكلها.

المقدم: من الجوع؟

نعم، من الجوع، مُضطر هو، ممكن.

فأهل العلم يقولون: قد يموت بقطع يده، وحينئذٍ لا يجوز له أن يأكل. لكن من الوقائع التي حصلت: شخص لدغته حيَّة في أصبعه، في صحراء ولا وسيلة نقل ولا مستشفى ولا علاج ولا شيء، فقطع الإصبع؛ إبقاءً لحياته.

فمثل هذا التصرُّف يجوز، من باب ارتكاب أخف الضررين. فمثل هذا قد تتجاذبه وجهات النظر باعتبار المصلحة والمفسدة، فلا يجوز للإنسان أن يتصرَّف في بدنه بما يضره.

ومسألة التبرع بالأعضاء، باعتبار أن النفس ليست ملكًا للإنسان. فإذا أوصى أن يُتبَرَّع بأعضائه بعد موته لفلان المُحتاج لها أو لمَن احتاج إليها، معروف أن المسألة محل خلاف بين أهل العلم. فمن أباحها، قال: مصلحة راجحة، ولا يتضرر الميت. ومن منعها، بناءً على الأصل: أن النفس ليست ملكًا له، فلا يجوز له أن يتصرَّف. فهذه المسألة تنطلق من هذا الأمر.

علمًا بأن إراحة النفس والجسد مع نيَّة التقوي على طاعة الله تعالى، عبادةٌ يُتقَرَب بها إلى الله- عزَّ وجلَّ-، عبادة. لكن هل مثل المُفرِّط له أن يقول: أنام من أجل أن أصوم غدًا أو من أجل أن...؟ المُفرِّط.

المقدم: ما عُرِف عنه أصلاً.

لا، مثل هذا يريد أن ينام نصف الوقت ويفعل ما افترضه الله عليه فقط؛ من أجل أن يزيد في النوم ويزيد في التراخي ويزيد في الاسترخاء، ويتعلل بأنه يريد أن يتقوى بذلك على طاعة الله تعالى. نقول: نعم، إذا كان لا يكفيه من النوم للقيام بالعبودية، ولو الفرائض، إلا به، نقول: نعم، يكون عبادة. لكن إذا كان يكفيه من النوم أقل من ذلك بكثير للقيام بالواجبات، فمثل هذا لا شك أنه مع النية تنقلب إلى عبادة.

وبعض الناس يقول، يتزرَّع بمثل هذا، وتجده يصرف جهده ووقته في غير العبادة، ثمَّ إذا جاءت العبادة يقول: أنا أنام لأتقوى به على الطاعة.  والله- جلَّ وعلا- يعلم السر وأخفى، مثل هذا لا يخفى على الله- جلَّ وعلا-.

ولأهلك عليك حقًّا، زاد الترمذي وابن خزيمة: ولضيفك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حقٍّ حقه، بقطع همزة أعطِ. وللدارقطني: فصُم وأفطِر، وصلِّ ونَم، وائت أهلك. فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية الترمذي: فأتيا النبي- صلى الله عليه وسلم-. فأتى بالإفراد، أبو الدرداء. في رواية الترمذي: فأتيا.

المقدم: أبو الدرداء وسلمان.

نعم، كلاهما.

بالتثنية. وفي رواية الدراقطني: ثمَّ خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء؛ ليُخبِر النبي- صلى الله عليه وسلم- بالذي قاله سلمان، فقال له: «يا أبا الدرداء، إن لجسدك عليك حقًّا» مثل ما قال سلمان. ففي هذه الرواية أن النبي- عليه الصلاة والسلام- أشار إليهما بأنه عَلِمَ بطريق الوحي ما دار بينهما، وليس ذلك في رواية محمد بن بشار.

قال ابن حجر: فيحتمل الجمع بين الأمرين، أنه كاشفهما بذلك أولاً ثمَّ أطلعه أبو الدرداء على صورة الحال، فقال له: «صدق سلمان».

وفي روايةٍ: «سلمان أفقه منك»، وفي رواية ابن سعدٍ المذكورة: «لقد أُشْبِعَ سلمان علمًا». قال الكرماني: وفيه منقبةٌ عظيمةٌ لسلمان- رضي الله عنه-.

الآن عندنا سلمان، أبو الدرداء يريد أن يزيد في قيامه في العبادة، وسلمان ينهاه ويكفه عن ذلك، عن الزيادة. وقال النبي- عليه الصلاة والسلام-: «سلمان أفقه منك». يعني هل في هذا مُتمَسَّك لمَن يقول: إن العُبَّاد شيء، والعلماء والفقهاء شيءٌ آخر؟

نعم، العُبَّاد على شيءٍ من الضعف في الفقه وفي العلم، يختلفون مع العلماء الراسخين. فهؤلاء لهم حالهم وشأنهم وعباداتهم مُضاعفة؛ لأنهم يعبدون الله على بصيرة، بخلاف من يتعبَّد على نوعٍ من الجهل.

لكن إذا كان العالم هو العابد، وهذا هو الأصل، فالنبي- عليه الصلاة والسلام- أعلمهم، أعلم الناس وأفقه الناس وأتقى الناس وأخشاهم وأكثرهم عبادة، فإذا اجتمع العلم والعمل هذا هو الغاية. لكن إذا انفرد العلم بدون عمل، فهذا مذموم، هذا مذموم في الشرع. وكذلك إذا انفرد العمل بدون علم، مذموم. والغاية أن يقترنا، وقد يزيد هذا عند بعض الناس، يزيد العلم على العمل، والعكس عند بعض الناس. لكن الموفَّق من وُفِّقَ للموازنة بينهما؛ لأن بعض الناس قد يفهم من القصة أن أبا الدرداء أراد أن يزيد في العبادة فنهاه سلمان، ويتذرع بذلك، يقول: الفقهاء ليس عندهم مزيد عبادة، وإنما هذا شأن العُبَّاد.

وبعض الناس ما يستوعب، بعض الناس إذا عرف فلان اشتهر بهذا الأمر، يعني فلان- والله- عُرِف بالعبادة، عُرِف يعني عنده قيام ليل، وعنده تلاوة، وعنده ذكر وما أشبه ذلك، تجده لا تطمئن نفسه وترتاح إلى أن يسأله في مسألة علمية، يقول: هذا رجلٌ عابد، ما له وما الـ.. وتجده مثلاً يذهب إلى فقيه مثلاً وعارف بالأحكام وهو أقل منه في العبادة.

لكن في الجملة، العامة، عامة الناس هذا قد يكون عنده شيء من التمييز ولم يصل إلى مرتبةٍ بحيث يستوعب أن العالم العامل هو الذي ينبغي أن يُسأل. لكن عامة الناس في الجملة يثقون بالعامل، ومن غير ازدراء بأحد، في صحيح مُسلم: جاء رجلٌ يسأل في المدينة، فقال: أين ابن عُمَر؟ في مسألة من المناسك، في صحيح مُسلم. فوصل إلى ابن عُمَر، فقال: سَل ابن عباس، فقال: ذاك رجلٌ مالت به الدنيا ومال بها. يعني توسع في الدنيا أكثر من ابن عُمَر، وإلا ابن عباس حبر الأمة وتُرجمان القرآن. فالناس ما يستوعبون، يعني إذا رآه متوسعًا في أمور الدنيا، قال: هذا أقل من ذاك، ما يستوعبون.

وبالمناسبة، بعض الناس إذا رأى خطيبًا اشتهر بالخطابة، ما يُمكن أن يسأله، يقول: هذا خطيب. يعني مصنفه خطيب وانتهى...؟ ومع الأسف أنه عُرِض على بعض طُلاب العلم أن يشرح كتاب (الرقاق) من (صحيح البخاري)، فقال: أنا لا أريد أن أُصنَّف واعظًا؛ لأنه يرى في المجتمع من لا تحتمل عقولهم مثل هذا الأمر. مع العلم بأن العلم والعمل لا بد أن يقترنا، فهو قد اقترن في خيار الأمة، في الرسول- عليه الصلاة والسلام- ومَن اقتدى به وائتسى به.

في الحديث فوائد كثيرة جدًّا، فمن هذه الفوائد:

                مشروعية المؤاخاة في الله، والأخوة والمودة والمحبة والاجتماع على حب الله وحب دينه والعمل لدينه، «ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه». ولا يعني هذا أن الإنسان يتخذ له قومًا يجعلهم خاصته ولا يلتفت إلى غيرهم، لا، قد يتخذ قومًا ويخصهم بمزيد من العناية مع مؤاخاته لجميع المسلمين، وليس في هذا ما يدلُّ على تحزُّب أو فِرَق أو ما أشبه ذلك، أبدًا. لكن للإنسان أن يتخذ خليلًا وصاحبًا، أخ في الله، يتعاون معه على  طاعة الله ويتعاون معه على مدارسة العلم ومذاكرته مع أن بقية المُسلمين له إخوة، ونُصحهُ للجميع.

                   وزيارة الإخوان والمبيت عندهم، أيضًا في الحديث، في الخبر: زيارة الإخوان والمبيت عندهم. قد يقول قائل: هذا من فعل صحابي، لكن النبي- عليه الصلاة والسلام- اطلع على القصة، فاكتسبت المشروعية من هذا.

                   وجواز مُخاطبة الأجنبية للحاجة، يعني مع أمن الفتنة. فسلمان ...

المقدم: سلمان خاطب أم الدرداء.

نعم، فقال لها: ما شأنكِ؟

وموسى- عليه السلام- قال للمرأتين: {مَا خَطْبُكُمَا} [سورة القصص 23]. هذا لا بد أن يكون مع أمن الفتنة، وليس في هذا مُستمَسَك لمن يسترسل في مخاطبة النساء في أي موضوع ويبسط معهم الموضوعات، كما هو موجود من خلال وسائل الاتصال التي جرَّت المصائب والويلات والكوارث على البيوت. لا أبدًا. يعني من استمسك بمخاطبة رجل من أعلم الناس وأتقاهم وأخشاهم لله، وهو رجل فقيه من فقهاء الأمة، سلمان الفارسي في سِنهِ، وأم الدرداء في سِنها وامرأة مُتبذِّلة، لا مُتبرجة ولا متطيبة، يُقاس على مثل هذا أُناس بحُجة أن سلمان قال لها: ما شأنكِ؟ يُقاس عليها من يتحدث مع الناس، والمرأة أيضًا قد تتحدث بخضوع وبلين في القول، بحيث يطمع من في قلبه مرض! لا المسألة تختلف اختلافًا جذريًّا. يعني من له أدنى، من له أدنى شَم لنصوص الشرع وما جاء عن سلف هذه الأمة، لا يُدخِل هذا في هذا. ومَن أراد أن يُقحِم هذا في هذا، لا شك أن في قلبه مرضًا.

جواز مخاطبة الأجنبية للحاجة، ومسألة صوت المرأة وهل هو عورة أو ليس بعورة، محل خلاف بين أهل العلم. من قال إنه عورة، قال: إنها لا تؤذِّن ولا ترفع صوتها بتلبية، وكثير من المواطن التي يُرفَع فيها الصوت المرأة مأمورة بخفض الصوت.

المقدم: في الصلاة لا تُسبِّح، تُصفِّق.

تُصفِّق نعم، المقصود أن هذه بعض من حُجج من يقول إن صوتها عورة. ومن قال إنه ليس بعورة، رأى أن مسألة البيع والشراء والمعاملة، شريطة أن لا يخضعن بالقول بهذا الشرط، وتنتفي الفتنة؛ لأن انتفاء الفتنة مُشْتَرَط في جميع المعاملات.

-                   والسؤال عما يترتب عليه مصلحة، وإن كان في الظاهر لا يتعلَّق بالسائل. سلمان، هل من شأنه أو يعنيه أن أم الدرداء مُتبذلة؟ ما يتعلَّق به. لكن هذا لا يُعارض: «مِن حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».

المقدم: إذ هو يعنيه؛ لأنه أخوه.

السؤال عما يترتب عليه المصلحة وإن كان في الظاهر لا يتعلَّق بالسائل، وأن هذا لا يُعارض: «مِن حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»؛ لأن هذا من النُّصح لأخيه المُسلم وتنبيهه عما غفل عنه.

- وفيه: مشروعية قيام آخر الليل؛ لأنه قال: فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قُم الآن، فصليا.

قيام آخر الليل، الآن لما كان عند السَّحَر قاما، وقيام الليل جاء بيانه في النصوص، وفي القرآن حَدّهُ بالوقت، يعني بالساعات.

المقدم: {أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [سورة المزّمِّل 20]

نعم، بالساعات، ما فيه عدد مُعيَّن. يعني إذا قُمت ثُلُث الليل تُسمى قائمًا، نصف الليل قائم، أكثر من النصف قائم. نعم، إلى حدٍ يُسمى قيامًا. فتحديده بالوقت هو الذي يترتب عليه الفضل.

قال له: نَم، فلما كان آخر الليل، والنبي- عليه الصلاة والسلام- يقول: «أحبُّ الصيام إلى الله صيام داود، وأحبُ القيام قيام داود، كان ينام نصف الليل ثمَّ يقوم ثُلثه ثمَّ ينام سُدسه».

وعندنا في شرعنا، النبي- عليه الصلاة والسلام- قال: «إن الله- جلَّ وعلا- ينزل في الثُلُث الأخير من كل ليلة» إذا بقي الثُلُث. فهذه النصوص تدلُّ على أن القيام قبل وقت السَّحَر، لكن ذكرنا فيما تقدَّم أن مثل هذا وترك القيام والحث على تأخيره لمثل أبي الدرداء، لمن كان حاله مثل حال أبي الدرداء؛ لأن أبا الدرداء لو قيل له: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} [سورة المزّمِّل 20] إلى آخره، ممكن أن يقوم الليل كله؛ لأن النفس التوَّاقة ما تُرَد بمثل هذا. والإنسان إذا شمَّر وعزف عن الدنيا، لابد أن يُخفف... ليرفق بنفسه، وينظر إلى الواجبات الأخرى.

المقصود أن كونهما تأخرا إلى آخر الليل عند السَّحَر، لا يعني أن هذا هو الأفضل، نعم هذا فاضل، والوتر وقيام الليل في وقته، لكن كلما طال الوقت كان أفضل، لاسيما ما ورد به النص، الربُّ- جلَّ وعلا- ينزل في الثُّلُث الأخير، وأفضل القيام قيام داود ينام نصف الليل ثمَّ يقوم ثُلُثه ثمَّ ينام سُدُسَهُ، وفي هذا كلام لأهل العلم وإشكال حول الثُلُث الأخير ينتهي بطلوع الصُبح، نصف هذا الثُلُث الذي هو السُدُس الذي ينام فيه كما في قيام داود.

المقدم: الذي هو السَّحَر؟

أي نعم، هو وقت السَّحَر.

في حديث: «أحب القيام إلى الله قيام داوود» وقت السَّحَر نوم.

المقدم: صحيح، ما يُخالف هذا {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [سورة الذاريات 18]؟

فهذا فيه كلام لأهل العلم، فما الذي يخُصُّنا من هذا؟ هل نقول: إن قيام داود شرع من قبلنا ولنا آخر الليل إلى السَّحَر؟

المقدم: لأن النبي- عليه الصلاة والسلام- أكَّد أفضليته.

نعم، أكَّد أفضليته، وساقه مساق المدح. فكون الإنسان مرةً يفعل هذا ومرةً يفعل هذا، ومرةً يصوم صيام داود ومرةً يصوم كما يفعل النبي- عليه الصلاة والسلام- على ما سيأتي: أنه يصوم حتى يُقال: لا يُفطِر، ويُفطِر حتى يُقال: لا يصوم، هذا غير صيام داود.

فكونه يُنوِّع في الصيام وفي القيام أيضًا، هذا هو المطلوب.

- وفيه: مشروعية تزيُّن المرأة لزوجها وثبوت حق المرأة على الزوج في حُسن العِشرة، يعني ليس بُمبرر للزوج أن ينصرف عن زوجته إلى عبادة، ويترك ما أوجب الله عليه من حقها، بل وحتى ما يجب عليه من حظ نفسه، كما في الحديث: إن لنفسك عليك حقًّا، وحتى ما يجب عليه من حق ولده عليه من تربية ورعاية وقيام بمصالحهم وشؤونهم، ليس في هذا مُسْتَمسَك أبدًا. فحق المرأة، حق الولد، حق الوالدين، كلٌّ له حق، فأعطِ كل ذي حقٍّ حقه.

وقد يؤخذ منه: ثبوت حقها في الوطء، لقوله: ولأهلك عليك حقًّا، ثمَّ قال: وأتِ أهلك، وقرره النبي- صلى الله عليه وسلم- على ذلك.

لا شك أن المرأة لها حقٌّ على زوجها في المَطعَم والمسكن والكسوة والوطء أيضًا، العِشرة بالمعروف، {وَعَاشِرُوهُنَّ} [سورة النساء 19]. فلا بد من أن يوفي بحقوقها، وأن لا يجعلها تنظر إلى يمين أو شمال، سواءً كان في هذا الباب أو في غيره، بل يجب عليه أن يُعطيها ما يكفيها.

بعض الفقهاء يحدُّ ذلك بالأربعة أشهر، قياسًا على الإيلاء، {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [سورة البقرة 226]، وأنه لا يلزمه في أربعة أشهر أكثر من مرة. لكن إن تركها أكثر من أربعة أشهر، فهذا الفسخ. وشيخ الإسلام- رحمه الله- يُقرر أن هذه حاجة لا بد من القيام بها، يعني بحيث لا يتركها تحتاج إلى غيره بحيث يُعرضها لفتنة. مع القدرة، يعني ما يُكلف أيضًا الزوج أكثر من قدرته وطاقته. فهذه الأمور لابد من مراعتها.

فيه مشروعية تزيُّن المرأة لزوجها؛ لأن هذا التزين أيضًا من حقه ويدعوه أيضًا إلى معاشرتها. كما أن لها حقًّا عليه أن يتزيَّن لها، نعم ليس تزيُّن الرجل مثل تزيُّن المرأة، كلٌّ له ما يناسبه من التزيُّن؛ لأن شهوة الرجل قد ترتبط بزينة المرأة ولا عكس. وابن عباس- رضي الله عنهما- يقول: إني أحبُّ أن أتزيَّن لها وأتجمل لها، كما أحب أن تتجمل لي.

نعم، لا يُمكن أن يُقر على وضعٍ بحيث تقذره وتزدريه وتمتهنه أو تكرهه، فلا تحب الدنو منه أو يؤذيها برائحته أو بمنظره أو شكله. ولذا لما كان ثابت بن قيس، وهو من جِلة الصحابة، شَهِد له النبي- عليه الصلاة والسلام- بالجنة، لما أقبل وشكله، ازدرته زوجته مع عدة من الناس، فطلبت الخُلع، ما ثُرِّب عليها ولا ليمت على هذا، فدلَّ على أن المرأة لها نظر أيضًا في مظهر الرجل.

المقدم: جزاكم الله خيرًا وأحسن إليكم.

لعلنا نكتفي بهذا، على أن نستكمل- بإذن الله- في حلقةٍ قادمة.

أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب ((الصوم)) في كتاب ((التجريد الصريح)).

لنا بكم لقاء– بإذن الله تعالى- في حلقةٍ قادمة وأنتم على خير.

شكرًا لطيب متابعتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.