شرح كتاب الأربعين النووية (03) - حديث: ((بيان الإسلام والإيمان والإحسان))

بسم الله الرحمن الرحيم

شرح كتاب الأربعين النووية (3)

حديث بيان الإسلام والإيمان والإحسان

الشيخ / عبد الكريم الخضير

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سم.

بسم الله الرحمن الرحيم 

المتن:

عن عمر -رضي الله عنه- أيضًا قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً))، قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره))، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل))، قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: ((أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان))، ثم انطلق. فلبثت ملياً ثم قال: يا عمر, أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)). رواه مسلم.

الشرح:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الثاني: "عن عمر -رضي الله تعالى عنه- أيضاً"، على طريقة أهل العلم يذكرون الاسم كاملاً وما يحتاج إليه في الموضع الأول, فقال هناك: "عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-"، ثم بعد ذلك قال هنا: "عن عمر -رضي الله عنه-", وفي أكثر الأحيان يقتصرون على التكنية عنهم بالضمير، فيقولون: "وعنه -رضي الله عنه-".

النووي -رحمه الله- في مؤلفاته في الموضع الأول يذكر الاسم كاملاً، وقد يذكره رباعياً، أو خماسياً أحياناً بالكنية والنسب، ثم يخفف شيئاً فشيئاً. والأوائل يذكرون هذا حسب التيسير وقد يختصرون في أول الأمر، فقد يقول: "حدثنا قتيبة بن سعيد"، ثم يقول: "حدثنا قتيبة"، ثم في الموضوع الثالث أو الرابع أو العاشر يقول: "حدثنا قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف". ولا شك أن أول موضع هو الأولى بالبسط، ولذلك تجدون الشراح يطيلون في تراجم الرواة في الموضع الأول، ثم بعد ذلك يختصرون على ما يبين حال الراوي باختصار شديد، ويحيلون على ما تقدم وهذا نافع لمن أراد أن يقرأ الكتاب من أوله إلى أخره. وبعضهم لا يمل من التكرار، فتجده يترجم للراوي كلما مر، لكنه لا يطيل في التراجم، فهو يلاحظ أن بعض الناس لا يقرأ الكتاب من أوله وهو بحاجة إلى معرفة شيء عن حال هذا الراوي.

فعلى كل حال المختصرات لها أسلوبها ولها وضعها، والمطوَّلات أيضاً لها ظرفها، فهم في المختصرات في الغالب التي ألِّفت للحفظ يقتصرون على الضمير، وهنا صرح به لكن باختصار شديد.

يقول: "قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

"بينما" أصلها (بين) وأضيفت إليها (ما)، "نحن جلوس" جمع جالس، "عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وهنا فائدة دقيقة في أمر المتضايفين، مثل: "رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، أو "عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-"، فأمر المتضايفين فيه إشكال, إذا قلت شرح الأربعين للنووي لابن رجب, ألا يحصل فيه إشكال؟ شرح الأربعين للنووي لابن رجب هذا الإشكال يوقعه التضايف. وهي مسألة كبيرة في العربية يعني الوصف هل هو للمضاف أو للمضاف إليه؟ مثلاً قولك: "رأيت غلامَ زيدٍ الفاضل" الفاضل: منصوب أو مجرور؟

وهذا كله يرجع إلى مقصود المتكلم، لكن كيف نعرف مقصود المتكلم؟ هل هناك قاعدة تضبط؟ لا توجد، وهذا مما للنية فيه أثر.

قوله -جل وعلا-: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [(27) سورة الرحمن], وقوله -جل وعلا-:  {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [(78) سورة الرحمن]، في الموضع الأول: النعت للمضاف، وفي الموضع الثاني: النعت للمضاف إليه. بين مضاف ومضاف إليه كقولنا: "رسول الله"، تصلى على النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنك مأمور بالصلاة عليه ومثاب عليها، وإذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام-  يصلى عليه، فماذا عن تعظيم الله -جل وعلا-؟ فهل تقول: عند رسول الله -عز وجل- -صلى الله عليه وسلم-؟

أو تقول: عن عائشة زوج النبي -رضي الله عنها-، -صلى الله عليه وسلم-، لكن هنا يحصل اضطراب أحياناً في الكتب. وهذا كثير يعني متى تجعل الوصف الأول للثاني وهكذا؟ مثل شرح الأربعين للنووي لابن رجب، القارئ يمكن يسمع فيحتار هل هذه الأربعين لابن رجب أو للنووي؟ فيحصل فيه شيء من الاضطراب، فمثل هذه الأمور ينبغي أن يعبّر عنها بدقة لئلا يحصل فيها اللبس، وإذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يصلى عليه، فالله -جل وعلا- يُثنى عليه، فكيف نثني على الله في مثل هذا، "عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"؟ يعني الثناء على الله -جل وعلا- أمر مطلوب وعظيم في الشرع.

والصلاة مأمور بها, وامتثال الأمر لا بد منه، وتعظيمه -عليه الصلاة والسلام- من تعظيم مرسله -جل وعلا-. لو قلنا عند رسول الله -عز وجل- واكتفينا، وقلنا -عز وجل- لله -جل وعلا- هذا ما فيه إشكال والعرف يخصصه بها، وقلنا الرسول -عليه الصلاة والسلام- عزيز جليل بعد يدخل تبعاً.

وهذا يخص الإخوان وهم يقرؤون الكتب في الدروس جهراً، يحصل عندهم إرباك أحياناً حينما يقرؤون مثل: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، أو عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة -رضي الله عنهم- أنهما قالا فكيف هذا مجموع وهذا مثنى؟ فقد يحصل شيء من الخلط، لكن ينبغي أن يتنبه لمثل هذا بدقة، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- يصلى عليه، والصحابة يترضى عنهم، والله -جل وعلا- يثنى عليه، لكن في مثل هذا التركيب فيه شيء من الصعوبة، يعني عند رسول الله -عز وجل- و-صلى الله عليه وسلم-. يعني إذا قلت عن أم المؤمنين -رضي الله عنه- زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ممكن، فهذه ممكن ليس فيها إشكال، لكن تدخل الصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- بين المتضايفين فتعقبه بالصلاة ثم المضاف إليه وهو الله -جل وعلا- تثني عليه, هذا لا يصح؛ لأن الفصل بين المتضايفين لا يجوز، يعني ورد شاذاً

نجوت وقل بل المراديُ سيفه

 

 

 

بدم ابن أبي شيخ الأباطح طالب

 

 

الأصل (بدم ابن أبي طالب شيخ الأباطح) ففصل بين المتضايفين، وهذا خاص بالشعر وهو ضرورة، لكن تصلي على الرسول عندما تذكره، وتثنى على الله بعد ما تذكره هذا فيه فصل بين المتضايفين وهو غير جائز.

"ذات يوم"، "ذات" تثنية تأنيث ذو، ومعروف أن ذو لمذكر، وذات للمؤنث، واليوم مذكر كيف قالوا: "ذات يوم" وذات مؤنث واليوم مذكر؟ "ذات ليلية" ما فيها إشكال، أو نقول: أن (الذات) هنا ليست مؤنث ذو وإنما هي بمعنى النفس، كما يقال: "الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات"، فالذات الذي يذكرونها لا يقصدون بها مؤنث ذو، فهي مثل: "جاء زيدٌ ذاته" فإن كان من هذا الباب فلا إشكال، وإن كان مؤنث ذو فلا يناسب؛ لأن اليوم مذكر. قد يقول قائل: إن اليوم مشتمل على الليل وعلى النهار، فالليلة واحدة الليل مؤنثة، وقد يغلّب أحد الأمرين التذكير أو التأنيث فيتعامل معه دون غيره، وهذا أيضاً له وجه.

"ذات يوم إذ طلع علينا"، "إذ طلع" "إذ" هذه ظرف لما مضى، أو لما يستقبل، بمعنى حين، بمعنى الوقت.

"رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد"، يعني أوصاف فيها شيء من التعمية؛ لأنه شديد بياض الثياب أي نظيف الثياب، وليس بمسافر؛ لأن المسافر في الغالب يكون أشعثَ أغبرَ، "شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر" لكن قد يقول قائل مثلاً: إن هذه الأمور لا تستلزم، نعم الأصل في المسافر أنه أشعث أغبر، لكن هذا الأمر ليس بلازم؛ لأنه قبيل دخوله البلد يصلح من حاله فلا يرى عليه أثر السفر كما هو الحاصل الآن.

يقول: "شديد بياض الثياب" وهذا لا شك أن العناية بالثياب أمر مطلوب، وعلى الإنسان أن يتوسط في أموره كلها، فيجانب أهل الترف الذي ذكر عن بعضهم أنه يلبس في السنة ثلاثمائة وخمسين ثوباً -بعدد أيام السنة- بحيث لا يعود إليه أبداً، هذا لا شك أنه إسراف مذموم. ومن ناحية أخرى لا يمتهن نفسه بحيث يستقذر ويُذَمُّ بسبب ذلك. فالمسلم لا شك أن له شأنا عند الله، وله عزة، فلا ينبغي أن يعرض نفسه لامتهان الناس وازدرائهم إياه.

"شديد بياض الثياب" والبياض مطلوب ((البسوا من ثيابكم البياض، وكفنوا فيها موتاكم)) فإنها أطيب وأنقى، هي أنقى باعتبار أن الأثر يبين فيها، فيسارع إلى إزالته بخلاف الثياب الملونة.

"شديد سواد الشعر" يعني ليس فيه شيب، وليس فيه غبار، ولا شيء. وعلى الإنسان أن يعنى بشعره ويرجل شعره كما كان النبي -عليه الصلاة والسلام-، لكن لا يكون ذلك على حساب غيره، فلا يكون جل وقته في التنظف والتسريح وغير ذلك، فالتسريح ينبغي أن يكون غِبَّاً لا يكون يومياً. والآن بعض الناس لا سيما من الشباب ومن غيرهم تجده يسرف من الوقت، وينفق من الوقت الشيء الكثير في تجميل الهيئة والثوب والشعر. وبالمقابل التفريط فتجد بعضهم يقول: والله الشعر له مؤنة وله كلفة وإذا أردنا أن نصبغ نحتاج إلى ساعات إلى أن ينشف؟ وهذا مع أنه مأمور بتغير الشيب. مع الأسف بعض أهل العلم يتعذر بهذا، يقول له: كلا فإذا صبغت يحتاج ذلك إلى ثلاث ساعات, أو أربع ساعات فلا تعمل. لكن أنت ممتثل لأمر فأنت في عبادة الآن، وأقل أحوالها السنة المؤكدة إذا لم يُقَلْ بوجوبها، فعلى الإنسان أن يتوسط في أموره كلها.

"ولا يعرفه منا أحد" هو جبريل -عليه السلام- لا يعرفونه، يأتي بصورة رجل غريب لا يعرف كما في هذا الحديث، وقد يأتي بصورة دحية الكلبي، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((يتمثل لي رجلاً)). ومعلوم أن جبريل خلقته عظيمة جداً له ستمائة جناح، رآه النبي -عليه الصلاة والسلام- على هذه الهيئة مرتين، مرة على كرسي بين السماء والأرض في أول الأمر فسد الأفق، ورآه ليلة الإسراء مرة ثانية كذلك. الشراح يتكلمون كثيراً في القدر الزائد, أين ذهب؟ يعني هو يسد الأفق ستمائة جناح، ويأتي على هيئة رجل! يعني غاية ما يصل إليه أربعة أذرع ونصف ذراع أين يذهب الزائد؟! وهذا كله من البحث الذي ليس من متين العلم، ولا ينبغي أن يسترسل فيه فالقدرة الإلهية قادرة أو فوق مثل هذا الأمر، كما أن الله -جل وعلا- أرسل الملائكة على هيئة أعمى، وعلى هيئة أقرع، وعلى هيئة أبرص فالله -جل وعلا- يبتلي ويختبر عباده بمثل هذه الأفعال.

"حتى جلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-" يعني جلسة المتعلم المتأدب. "فأسند ركبتيه إلى ركبتيه" الضمير في ركبتيه الأولى يعود إلى جبريل "إلى ركبتيه" إلى ركبتي النبي -صلى الله عليه وسلم-، "ووضع كفيه على فخذيه"، "وضع كفيه" الضمير يعود إلى جبريل، "على فخذيه" على فخذي النبي -صلى الله عليه وسلم- قال هكذا، وإلا "على فخذيه" هو؟

الاحتمال قائم بلا شك والجملة الأولى، الضمير الأول فيها لجبريل، والثاني للنبي -عليه الصلاة والسلام- فهل يقال مثل هذا في الجملة الثانية، "وضع كفيه" كفي نفسه على فخذي نفسه أو على فخذي النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ منهم من يقول: "إنه على فخذي نفسه" وهذا هو اللائق، وهذا هو الأصل: أن الإنسان يضع يديه على فخذي نفسه. ومن الشراح من يقول: "على فخذي النبي -عليه الصلاة والسلام- كالجملة السابقة"، وهذا مبالغة في إخفاء الأمر إنه إن كان إنساناً عادياً هل سيفعل مثل هذا؟ ما يفعل مثل هذا إنسان عادي، فالجمل الأولى "شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر، لا يعرفه منا أحد" كل هذه تخفية وتعمية في أمره، فإذا جاء ووضع يديه على فخذي النبي -صلى الله عليه وسلم- كما يقول بعض الشراح- هذا أيضاً فيه زيادة في إخفائه وتعميته، لكن الأصل والأدب أن يجعل كفيه على فخذي نفسه وهذا هو الظاهر.

"وقال يا محمد"، ومنزلة النبي -عليه الصلاة والسلام- معروفة عند كل أحد، ومن أعرف الناس بمنزلته عند ربه جبريل -عليه السلام-، وقد جاء النهي عن تسميته ودعائه باسمه الصريح, قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [(4) سورة الحجرات]. فهو يقول: "يا محمد"، وهذا أيضا ًمن زيادة المبالغة في خفائه، فلو قال: يا رسول الله، قيل: والله هذا شخص يعرف الرسول -عليه الصلاة والسلام- وإذا وجدت المعرفة من أحد الطرفين خف الخفاء.

"وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام"، الإسلام كما هو معروف هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك فأصله الاستسلام، ولذا يقول أهل العلم: قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم.

"فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله))......إلى أخره.

 هذا تعريف على طريقة الحدود، يعني لو قيل في الامتحان: عرف الإسلام؟ قال المجيب: "أن تشهد ألا إله إلا لله..." فعرفه بأركانه، يعني لو قيل عرف البيع، فجاء بأركان البيع: المتعاقدة الصيغة والثمن والمثمن.

ولو قيل عرف الحج. فقال: هو الإحرام, والوقوف, والطواف, والسعي, فعرفه بأركانه، فإذا كانت هذه الأركان حاصرة لا يخرج منها شيء، فيعرف بالأجزاء ويرف الأركان.

لكن الأصل الذي درج عليه أهل العلم في الحدود يختلف عن هذه الطريقة، ولا شك أن الحدود جرت عند المتأخرين على طريقة المناطقة، وإلا فالحدود والتعاريف أصلها غير معروفة للحقائق الشرعية عند المتقدمين، بحيث لا تجد في موطأ مالك وفي كتب الأئمة قاطبة -حتى في الأم للشافعي- تعريفا للصلاة، أو تعريفا للزكاة، أو تعريفا للحج، أو تعريفا لغيرها من الأبواب؟ لأن هذه الحقائق لا يجهلها خاص ولا عام، والمتأخرون جعلوا معرفة الحكم مبنيا على التصور الذي هو الحد، مع أن هذا الحد قد يعقد المسألة، قد يعقد المعرف أكثر، يعني لما يقال الصلاة شروطها، أركانها، واجباتها...إلى آخره، والكل يعرفها، لكنهم درجوا على هذا وقد يوجد من بين المسلمين من لا يعرف هذه الحقائق إلى أن يعرف بها. وهذا اصطلاح ولا مشاحاة في الاصطلاح، لكن الأصل أنه على طريقة التعاريف الجامعة المانعة، لا يعرف بمثل هذه وما دام هذا التعريف من قبل من لا ينطق عن الهوى، فيجب أن تعدل الاصطلاحات على ما يوافق ما جاء في الشرع. إذًا اصطلاحات عندنا إما أن تأتي على باب الحقائق اللغوية، أو تتضافر فيه الحقائق الثلاث، أو تكون حقيقتها عرفية أو شرعية، ثم بعد ذلك يقع الخلط من بعض الناس أن المراد في هذا السياق الحقيقة اللغوية، المراد في هذا السياق الحقيقة العرفية، المراد من هذا السياق الحقيقة الشرعية، فـ((إذا دعا أحدكم أخوه فليجب فإن كان مفطراً فليطعم، وإن كان صائماً فليصلي))، تجيب دعوة العرس لأخيك تجيبه على سبيل الوجوب، إن كنت مفطراً تأكل ويلزمك الأكل، إلا في حالة الضرر إذا كان يضرك الأكل، لكن إن كنت صائماً فصلِّ.

هل نقول إنه يأتي ويصلي ركعتين أو يرفع يديه ويدعو لهم؟ يعني هل المراد في السياق الحقيقة الشرعية أو الحقيقة اللغوية؟ بل الحقيقة اللغوية عند الأكثر.

مثل ذلك قول الله -تعالى-: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [(103) سورة التوبة]. هل يكبر ويصلي عليهم صلاة جنازة، أو صلاة ركعتين، أو يدعو لهم؟

فالحقائق تتفاوت من سياق إلى سياق، ولذا حتى الجواب في تعريف الإسلام هنا، هو نفس ما جاء جواباً لتعريف الإيمان في حديث وفد عبد قيس: ((أن تؤمن بالله وحده))، قال: وما الإيمان؟ قال: ((أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتقيم الصلاة ....)) إلى مثلما جاء عندنا هنا في تعريف الإسلام، حتى أن بعض أهل العلم جعل الإسلام والإيمان شيئاً واحداً، الإمام البخاري ومحمد بن نصر المروزي وبعض العلماء جعلوا الإسلام والإيمان واحداً، والجمهور على التفريق بينهما على ما سيأتي.

"فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله" يعني اختلاف الحقائق: اللغوية مع العرفية مع الشرعية أوقع في حرج كبير، يعني لو أن أعرابياً قلت له: أريد جملاً أصفرَ وضحك عليك، قال أنت مجنون، هل هناك جمل أصفر؟! لا يوجد جمل أصفر. فالله -جل وعلا- يقول: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [(33) سورة المرسلات]. هل نقول: إن هذا ناقض القرآن، أو بنى على الحقيقة التي يعتقدها. ولذلك لما سأل الرسول -عليه الصلاة والسلام- الصحابة: ((من المفلس؟)) قالوا: من لا درهم له ولا متاع، قال: ((لا، المفلس من يأتي بأعمال -في بعض الروايات: أمثال الجبال-، من صلاة وصيام، وحج، جهاد ثم يأتي شتم هذا، وضرب هذا، أخذ مال هذا، سفك دم هذا...)) إلى آخره.

فالمفلس، هذه حقيقة شرعية. والمفلس بمعنى من لا درهم له ولا متاع حقيقة عرفية أو شرعية؟ عرفية هذا متفق عليه، لكن هي أيضاَ شرعية. أليس في كتب أهل العلم باب اسمه باب الحجر والتفليس؟ فهذا هو، هذا التفليس، ويشهد له حديث: ((من وجد بضاعته، أو سلعته عند رجل قد أفلس، من وجد متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق بهذا الفلس)) فهي حقيقة شرعية، واللفظ قد يكون له أكثر من حقيقة شرعية. على كل حال التعريف هنا بالأجزاء، بالأركان، وإذا كانت حاصرة ومحصورة ومبينة للمطلوب عند السامع يكفي، والمقصود توضيح المراد عند السامع.

"فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا))، فعجبنا له يسأله ويصدقه" أجاب عن الإسلام بالأعمال الظاهرة، وسيأتي بيان هذه الأركان الخمسة في الحديث الذي يليه، حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-: ((بني الإسلام على خمس)).

 أجاب النبي -عليه الصلاة والسلام- بالأعمال الظاهرة من سأله عن الإسلام، كما أنه أجاب بها من سأله عن الإيمان كما في حديث وفد عبد القيس؛ ولذا بعض أهل العلم -كما أسلفنا- جعل الحقيقة واحدة، حقيقة الإسلام هي حقيقة الإيمان بدليل أن الجواب واحد، وجمهور أهل العلم على أن الإيمان حقيقته الشرعية تختلف عن حقيقة الإسلام. وهل بينهما تباين أو تداخل؟ ومعنى هذا أنا إذا قلنا تباين قد تجد رجلاً مسلماً كامل الإسلام ما عنده من الإيمان شيء، ورجل مؤمن كامل الإيمان ما عنده من الإسلام شيء، هل يمكن هذا التباين؟ لا النسبة بينهما ليست بالتبيان، بل تداخل، وترابط بحيث إذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر على جهة الإفراد، إذا قيل: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) فالمرد به أيضاً المؤمن، وأيضاَ إذا أطلق الإسلام فالمراد به الإيمان, مثل قول الله -تعالى-: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [(19) سورة آل عمران], وغير ذلك من النصوص التي يمدح فيها المسلم يدخل فيها المؤمن.

الحديث من أدلة من يقول: إن الإيمان غير الإسلام، حقيقة الإيمان غير الإسلام ولا شك أنه إذا جمعا يفترقان وإذا افترقا يجتمعان -كما يقرر أهل العلم- وذلك كالفقير والمسكين.

"قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه" يعني هذا أمر غير مألوف، السائل إنما يسأل عما خفي عليه فكيف يقول: صدقت؟ فقوله: "صدقت" يدل على أن عنده علما بما سأل عنه؟ وهذا السائل عما عنده به علم إذا سأل عن شيء عنده به علم فيكون هذا إما على جهة إفادة السامعين - كما هو حال جبريل -عليه السلام-، أو على جهة إعنات المسؤول؛ لأن بعض من ينتسب إلى طلب العلم يبحث عن غرائب المسائل ويدونها ويعرف جوابها من خلال كلام أهل العلم، ثم يأتي يمتحن بها الشيوخ وهذا مذموم، وجاء النهي عنه. فجبريل -عليه السلام- يعرف الجواب وإنما سؤاله  هو كما جاء التنبيه عليه في آخر الحديث: ((هذا جبريل آتاكم يعلمكم دينكم)).

"قال: فأخبرني عن الإيمان"، المرتبة الثانية من مراتب الدين، الأولى الإسلام وهي التي يدخل فيها جميع من يحكم بإسلامه ما لم يرتكب مخرجاً عن الملة. أما الإيمان فهذه الدائرة أضيق، بحيث لا يصل إليها كثير ممن يصدق عليه أنه مسلم.

"قال: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره))". يعني أركان الإيمان الستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، ولو أخل شخص بواحد منها لم يصح إيمانه.

الإيمان بالله أن تؤمن بربوبيته، وأنه المستحق للعبادة، وتؤمن بما جاء عنه وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام- فيما يتعلق به من أسماء وصفات وغير ذلك، جميع ما جاء عن الله -جل وعلا-، وعن رسوله على مراد الله، وعلى مراد رسوله -عليه الصلاة والسلام-، وتؤمن بالملائكة، تؤمن بالأوصاف التي جاءت بها النصوص، وتؤمن بأنهم جمع غفير, قال الله -تعالى-: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [(6) سورة التحريم]، وتؤمن أيضاً بالكتب المنزلة من عند الله -جل وعلا- على رسله وأنبيائه، ما تعرفه منها بالنص على سبيل التفصيل، والبقية إجمالاً، وتؤمن بالرسل أيضاً وبالأنبياء؛ لأن قوله: "كتبه ورسله" قد يقول قائل: الإيمان بالرسل ركن من أركان الإيمان، لكن ماذا عن الإيمان بالأنبياء الذين هم ليسوا برسل فهل الإيمان بهم ركن أو ليس بركن؟ نعم، الإيمان بالأنبياء ركن. التنبيه بالأعلى على الأدنى ما في إشكال، وهم أيضاً يدخلون في الرسل على خلاف بين أهل العلم في الفارق بين النبي والرسول، وإن كان الأكثر على أن الرسول: يوحى إليه بشرع ويؤمر بتبليغه، والنبي: يوحى إليه بشرع لكن لا يؤمر بتبليغه وهذا كلام الأكثر. ومنهم من يقول: إن الرسول يأتي بشرع جديد، والنبي يأتي بشرع مكمل لما قبله, إلى غير ذلك من الأقوال المعروفة. على كل حال الإيمان بالأنبياء والرسل ركن من أركان الإيمان، والاقتصار على الرسل لا يعني عدم وجوب الإيمان بالأنبياء.

من سمي منهم عددهم "خمسة وعشرون", ومن لم يسمّ منهم جمع غفير، جاء فيه حديث أبي ذر وهو حديث فيه كلام لأهل العلم، المقصود أنهم كثر, قال الله -تعالى-:  {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [(78) سورة غافر], فيؤمن بهم إجمالاً فيمن لا نعرف عينه، وتفصيلاً فيمن عرفناه وعرفنا شيئاً عنه.

"واليوم الأخر"، ما معنى اليوم الآخر؟ يعني إذا قلنا: اليوم الأول الدنيا، واليوم الآخر الآخرة، فعندنا يوم أول ويوم آخر، فإذا قلنا: إن الأول هو الدنيا، والآخر هو الآخرة حصلت المقابلة. وإلا فالأصل أن اليوم الآخر هو اليوم الأخير من هذه الدنيا، وقد يطلق الآخر على أول جزء من الذي يليه، فيكون اليوم الآخر أول يوم من أيام الآخرة، وهذا مثل ما جاء في الحديث أن المغرب وتر النهار, كما في الحديث: ((فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في الحضر إلا الفجر فإنه تطول فيها القراءة، وإلا المغرب فإنها وتر النهار)) وهل هي في النهار أو في الليل؟ في الليل. لكن باعتبار أن أول جزء من الليل ملاصق للنهار قيل لها: وتر النهار، وهنا لما كان أول أيام الآخرة ملاصقا لآخر أيام الدنيا قيل له: اليوم الآخر.

 "((وتؤمن بالقدر خيره وشره))"، الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان فلا يصح إلا به. أنكره طوائف من أهل الزيغ والضلال، وحصل إنكاره قديماً في عهد الصحابة لما جاء إلى ابن عمر أناس قال: إن في جهتهم قوما هم أهل عمل، ويتقفرون العلم، فلهم عناية بالعلم والعمل، ومع ذلك يقولون: "إن الأمر أنف", يعني مستأنف فهم ينفون القدر. فقال ابن عمر -كما في صحيح مسلم-: "أخبرهم أنني بريء منهم ،وأنهم برآء مني، ولو كان لهم أمثال الجبال من ذهب وأنفقوها لم يقبل منهم حتى يؤمنوا بالقدر". فالإيمان بالقدر ركن كما في هذا الحديث، وفي غيره من الأحاديث والآيات. أركان الإيمان مذكورة ولا بد من الإيمان بالقدر خيره وشره، وأن الكل من عند الله -جل وعلا- وأنه بتقديره, وبعلمه, وكتابته, ومشيئته, وإيجاده فكل حصل بتقدير الله -جل وعلا- وقضائه.

بالغ في نفيه القدرية النفاة ويتزعمهم المعتزلة والرافضة القديرية، وبعض فرق الزيدية ينفون القدر يبالغون في النفي. والمتقدمون من أهل العلم يقولون: "ناظروهم بالعلم إن نفوه كفروا، وإن أثبتوه خصموا". وفي المقابل هناك من يبالغ في الإثبات وينفي القدرة عن المخلوق، ويقول: "إن المخلوق لا مشيئة له ولا إرادة ولا قدرة، وإن حركته وأعماله كحركة الورق، ورق الشجر في مهب الريح", وهم الجبرية. ومذهب أهل السنة والجماعة وسط بين المذهبين يثبتون القدر، وأن الله خلق العباد، وأفعال العباد، وأن العباد لهم مشيئة وإرادة، لكنها تابعة لمشيئة الله وإرادته، وأنهم أُعطوا من حرية الاختيار ما يكفي، ويقيم الحجة للمطيع بالثواب وللعاصي بالعقاب.

القدرية النفاة حينما نفوا القدر، وجعلوا للعبد حرية, وقدرة, واختيارا مستقلا لا ارتباط لها بمشيئة الله -جل وعلا- إنما فعلوا ذلك من أجل نفي الظلم عن الله -جل وعلا-؛ لأنه لو قدَّر عليه ثم عذبه صار ظالـمًا له عندهم. وإنما ذلك ليس باللازم، فالله -جل وعلا- كتب عليهم، وقدَّر عليهم، وقضى عليهم بما هم عاملون، ومع ذلك ترك فيهم من الحرية والاختيار ما يجعلهم يختارون أحد النجدين، وأحد الطريقين. والكافر هل أُرغم على كفره؟ وتارك الصلاة هل هناك أحد شده وأوثقه كي لا يذهب إلى المسجد ويصلي مع المسلمين؟ هل أحد يمنعه من الوضوء والقيام والذهاب؟ لا أحد يمنعه من ذلك, فلديه حرية واختيار كافيان في مؤاخذته. وكل إنسان يحس هذا من نفسه, يعني حينما يقول: "إنه -والله- كتب الله عليه أنه لا يصلي"، نعم هو كذلك لو أخذه النوم وأخذ بنفسه ما أخذ بنفس غيره ممن نام، وقد فعل الاحتياطات, وبذل الأسباب فنقول: "غير مكلف"، لكن صحيح غير مريض، غير معذور ليس لديه أي عذر يتعذر به، سليم معافى ومع ذلك يترك الصلاة ويقول: "هذا أمر كتبه الله علي"، فما الذي يمنعه من أن يتوضأ ويذهب إلى المسجد؟ لا يوجد شيء يمنعه, فلا ظلم, كما قال -تعالى-: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [(46) سورة فصلت], وقال -تعالى-: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [(49) سورة الكهف].

وهذا واضح, وكل منصف يدرك هذا الأمر من نفسه. فتجد هذا الذي يحتج بالقدر ويقول: "إنه مجبور", لو ضربه أحد، أو أخذ ماله أحد، أو قتل ولدَه أحد, فهل يستسلم ويقول: "هذا أمر مكتوب، ولا لأحد كلام"؟ لا يمكن، ولماذا القدر الذي تحتج به على المعايب, فتفعل المعاصي وتترك الواجبات محتجا بأنك مجبور، فلماذا لا تحتج به في المصائب؟ ولذا جاء في الحديث الصحيح أن موسى -عليه السلام- قال لآدم: ((يا آدم خلقك الله بيده وأسكنك جنته، أخرجت نفسك وذريتك من الجنة فقال: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه، وكتب لك التوراة بيده، كم تجد هذا مكتوب علي قبل أن أخلق؟ قال: بأربعين عاماً، قال النبي -عليه الصلاة  والسلام-  فحاجّ آدمُ موسى، فحج آدم موسى)).

كيف حجّ آدم موسى؟ يعني هل آدم -عليه السلام- احتج بالقدر على المعصية؟ الاحتجاج بالقدر على المعاصي طريقة المشركين, كما قال الله -تعالى-:  {لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [(148) سورة الأنعام]، هل آدم احتج بالقدر على المعصية؟ لا, المعصية قد تاب منها، وتاب الله عليه وهداه واجتباه، فالمعصية انتهى أثرها بالتوبة فلا احتجاج حينئذ, وبقيت المصيبة، والمصائب يحتج عليها بالقدر ليس هناك ما يمنع من ذلك. مثلاً لو أن إنسانا يمشي في طريق مظلم فعثر في صخرة، أو في حفرة فانكسرت رجله، ويأتي واحد يلومه فيقول: "أين عيونك، أين أنت، ولماذا تطلع"، وقال: "هذا شيء مكتوب, يا أخي", فهو يحتج بالقدر, فهذا ليس فيه إشكال. بخلاف لو أنه زنا وقال: "هذا شيء مكتوب" فليس له أن يحتج بالقدر. فالاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب.

وآدم احتج بالقدر على المصيبة التي ترتبت على المعصية التي تاب منها وبرئ من عهدتها بالتوبة النصوح، فحاجّ آدم موسى. ومنهم من أشار إلى أن آدم حاج موسى؛ لأن اعتراض موسى على آدم -عليهما السلام- لا ينبغي أن يعترض عليه، وهكذا حال الولد مع والده لا ينبغي أن يعترض عليه، لكن هذا الكلام وإن أشير إليه في بعض كتب التفسير إلا أنه لا وجه له، نعم حق الأب والوالد محفوظ بنصوص أخرى، ولكن قوة الحجة مع آدم -عليه السلام- كانت بسبب أن موسى اعترض على مسألة كتبت على آدم قبل أن يخلق، وأن آدم -عليه السلام- احتج بالقدر على المصيبة لا على المعصية.

"قال: صدقت قال فأخبرني عن الإحسان". المرتبة الثالثة من مراتب الدين التي لا يتصف بها إلا الأفذاذ من أهل هذه الملة، مرتبة الإحسان، مرتبة المراقبة. إذا كانت دائرة الإيمان أضيق من دائرة الإسلام، فدائرة الإحسان أضيق بكثير من دائرة الإيمان؛ لأنا إن ننظر إلى الحد: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، يعني تراقب الله -جل وعلا- وتستحضر اسمه الرقيب، تبين لنا أن منزلة المراقبة لا تحصل لكل أحد؛ لأن الغفلة غطت على قلوب كثير من الناس، تجد الجسم في المسجد والقلب في الشارع، في السوق، في البيت، في التجارة، في الزراعة، في الدراسة، القلب حضوره قليل عند كثير من الناس في هذا الوقت، والعبرة به بالقلب وخطاب الشرع جميعه متجه إلى القلب, قال الله -تعالى-: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [(88-89) سورة الشعراء], فلا بد من المراقبة، مراقبة الله -جل وعلا- فإنه هو المطلع على السرائر، كما يقول -جل وعلا-: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [(7) سورة طـه]، ويقول -عز وجل-: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [(19) سورة غافر].

فعلى الإنسان أن يراقب الله -جل وعلا- وأن يعبده بمرتبة الإحسان: أن يعبد الله كأنه يراه، كأنه يرى الله -جل وعلا- عياناً، إذا لم يستطع مثل هذا، ولم يتيسر له تحقق هذا الأمر، فأقل الأحوال أن يتصور أن الله يراه، ويطلع عليه، ويطلع على سريرته وعلانيته، فيتعامل معه على ضوء هذا.

الإنسان في مكتبه, وقد أغلق الباب, يتصرف بما شاء، وقد يُحْدِثُ وهو في مكتبه, ما دام ما عنده أحد، لكن نفترض أنه فجأة دخل عليه المدير، أو المدير بجانبه وهو يعمل بما وكل إليه، هل يستطيع أن يخل بشيء من الآداب والمروءة فضلاً عن الواجبات التي وكلت إليه؟ لا يستطيع. فلا تجعل كما يقول بعض السلف: "لا تجعل الله أهون الناظرين إليك".

نعم في معاملة الخلق الذين لا يطلعون على سرائر ولا على ظواهر إلا إذا كانت بقرب منهم، تجد الإنسان كلما بعد عن الناس تبسط أكثر، فتجده في غرفة نومه قد يتجرد من الثياب، وقد يحدث بصوت أو بغير صوت، ثم إذا خرج عن الغرفة إلى الصالة مثلاً لا يخرج إلا وقد استتر، لكنه مع ذلك يتخفف من كثير من الأمور، قد يخرج بسروال وفنيلة إلى الصالة، قد يخرج إلى الفِناء بحيطة أكثر من ذلك، ثم يخرج إلى باب المنزل بثيابه العادية، لكن لا يخرج إلى المجتمعات التي يجتمع فيها الملأ، أو يروح إلى الدوام بثياب أقل، فهذا لا يمكن. ومع الأسف أن الناس يحتاطون للمجامع والمحافل أكثر إذا أراد أن يذهب إلى مناسبة، أو إلى الدوام فتجده يلبس أحسن ثيابه، لكن إذا ذهب لصلاة الفجر قد يذهب بقميص النوم، والله -جل وعلا-يقول: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [(31) سورة الأعراف] يعني عند كل صلاة. ولا شك أنه كلما بعد عن أخص اختصاصاته يحتاط أكثر، ولذلك الإمام مالك -رحمه الله- له ملحظ دقيق في الموطأ يقول: للإنسان أن يلبس الثوب الذي فيه شيء من المخالفة في بيته وفنائه، يلبس أحمر ولا مانع، يلبس ثوبًا نازلاً قليلا, لكن ما يطلع به إلى الناس ويقابل به الناس يختلف.

فالله -جل وعلا- المطلع على السراير، فعلى كل مسلم أن يستحضر هذه المنزلة، ويحاول تطبيقها بقدر الإمكان، وإن كان الران قد غطى على القلوب فصارت لا تفرق في أي مجلس كان، فيخشون الناس ولا يخشون الله، والله -جل وعلا- يقول: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ} [(108) سورة النساء] والله المستعان.

"قال: فأخبرني عن الساعة"، الساعة لم يطلع عليها أحد لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب، لا يعلمها إلا الله -جل وعلا-، ولا تأتي إلا بغتة. وبعض من كتب في أشراط الساعة قال: "إن بغتة في حساب الجُمّل "ألف وأربعمائة وسبعة ", فتقوم الساعة سنة "ألف وأربعمائة وسبعة" يعني في حدود حساب الجمل لو قطعناها عرفنا أنها "ألف وأربعمائة وسبعة"، لكن هذا كلام مردود بالنصوص القطعية، حساب الجُمّل غير معتبر في الشرع إنما استعمله اليهود لما أنزل الله: {الم} [(1) سورة البقرة]، قالوا: "سبعين سنة وينتهي حكمه"، يعني تنتهي نبوته بسبعين سنة, وهنا أمر سهل ننتظر سبعين سنة على حساب الجُمّل، لكن هذا الذي كتب وقال: "إن الساعة تقوم سنة "ألف وأربعمائة وسبعة"، وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)).

فالساعة خفية على كل أحد لا يعلمها إلا الله -جل وعلا-.

إذاً فماذا عن قوله -جل وعلا- : {أَكَادُ أُخْفِيهَا}؟ [(15) سورة طـه] التعبير هذا يدل على أنها ليست خفية، لكنها من الغموض والخفاء تقرب من الخفي، {أَكَادُ أُخْفِيهَا} كيف نجيب عن هذا؟

فالساعة خفية بإجماع، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((ما المسئول عنها بأعلم من السائل)) يعني أنا لست بأعلم من السائل أنت، كلنا نستوي في هذه، يستوى في هذا محمد -عليه الصلاة والسلام- وأجهل أعرابي، وأجهل أعجمي في معرفة الساعة، كلهم يستوون في هذه نعم.

{أَكَادُ أُخْفِيهَا} حتى عن نفسي، يعني هذا مبالغة في إخفاءها، أما غيري لم يطلع عليها أحد البتة.

"قال: فأخبرني عن أماراتها"، يعني عن علاماتها, وأشراطها, "قال: ((أن تلد الأمة ربتها))" يعني من أشراطها أن الأمة المملوكة الرقيقة تلد بنتاً تكون سيدة لها، أو ولداً كما في بعض الروايات:

 

((ربها)) ولداً يكون سيداً لها. وأكثر العلماء الكلام في هذه الجملة وقالوا: إن الرق يكثر في آخر الزمان حتى أن الرجل ليطأ المرأة بملك يمينه، ثم يتداولها الناس، وتمر على كثير من الناس، ثم تعود إليه وقد ولدت منه قبل ذلك ولداً يكون سيداً لها. كلام كثير وهو في الجملة ظاهر.

هذه الأمة تلد من يكون سيداً لها مدبِّراً لها. وملك اليمين إذا وطئها السيد، وولدت له، وأعتقت بسببه فصارت أم ولد، وهي باعتبار ما كان أمة وهذا الولد باعتباره ولداً لسيدها فهو سيد لها.

 لكن مثل هذا ليس مختصاً بآخر الزمان وإنما هذا موجود في أول الزمان، وهذا مما قيل، ولكن الذي يختص به آخر الزمان هو فسادُ الناس, فهذا الولد الذي ولدته هذه الأمة يعاملها معاملة الآمة؛ لأنها ملك يمين لأبيه فهي ملك يمين له، فيعقها, ويأمرها, ويضربها, وينهاها كما يأمر السيد أمته.

"((وأن ترى الحفاة العراة العالة))" سكان البوادي أهل الشجر، وبيوت الشعر، تجدهم بينما كانوا عالة رعاء الشاة في البادية، "((يتطاولون في البنيان))" يعمرون القصور الشاهقة، يعمرون النواطح وقد حصل. في دول الخليج هذا ظهر بكثرة، تجده قبل عشرين, ثلاثين سنة راعيا من رعاة الغنم، ثم بعد ذلك يدخل في التجارة، ويبني العمارات الشاهقة، وموجود أيضاً على مستوى أوساط الناس بسبب هذه الإعانات من هذه الدول، التي تمكنه أن يبني بيتاً بعد أن كان في بيت شعر، ويرعى الغنم فيأتي فيسكن قصر منيفاً.

"ثم انطلق" ذهب هذا الرجل الذي لا يعرفه أحد. "فلبث ملياً" في بعض الروايات "ثلاثاً"، وفي بعضها "فلبثت ملياً" يعني عمر لبث ثلاثة ليال، ثم سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- من ذلك الرجل؟ أو بدون سؤال كما تدل عليه هذه الراوية.

 ثم قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((يا عمر أتدري من  السائل))؟ في بداية الحديث يقول: "لا يعرفه منا أحد" إذاً لا يدري، ولكنه يرد العلم إلى عالمه: "الله ورسوله أعلم". هكذا ينبغي أن يجيب من لا يعرف الجواب، "الله أعلم". وأهل العلم كثيراً ما يختمون الكلام -وهو علم- بقولهم: "الله أعلم".

موسى -عليه السلام- لما سئل في ملأ من بني إسرائيل عن أعلم من على وجه الأرض, قال: أنا، ولم يقل: "الله أعلم", فأمر بالذهاب إلى الخضر في القصة المشهورة في الصحيح، وهي في القرآن أيضاً.

"قلت: الله ورسوله أعلم"، يعني في حياته -عليه الصلاة والسلام-هو أعلم. وهو أعلم في الأحكام الشرعية، ولا نحتاج إلى قيد إذا كانت المسألة شرعية متعقلة بوحي من عند الله -جل وعلا- الله ورسوله أعلم، فهو أعلم بالأحكام الشرعية.

"قال: ((فإنه جبريل -يعني هذا السائل جبريل- آتاكم يعلمكم دينكم))"، يعلمكم دينكم يعني بجميع أبوابه، فالدين شامل للإسلام والإيمان والإحسان، الدين شامل لجميع الأبواب من العقائد والعبادات والمعاملات وغيرها من أبواب الدين، ولذا تخصيص حديث: ((من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)) في الأحكام هذا ليس بصحيح. نعم صار عرف إذا أطلق الفقه فالمراد به الأحكام، والفقهاء يصدرون كتبهم بـ "الحمد الله الذي فقه من شاء بدينه"، ويشيرون إلى أن علمهم هو الفقه. وفي هذا الحديث ما يدل على أن الفقه في الدين يعني بجميع أبوابه والعقائد هي الفقه الأكبر عند أهل العلم، ((فمن يرد الله به خيراً يفقه في الدين)) يعني في جميع أبوابه في العقائد، في الإيمان، في التوحيد، في العبادات، في المعاملات، في التفسير، في المغازي، في الفتن، في الاعتصام، في جميع أبواب الدين.

 

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين....

يقول: ما معنى قول ابن حجر في شروط المتواتر: وأن يصحب ذلك إفادة العلم خبره، من إفادة العلم، مع أن إفادة العلم لازمة للتواتر؟

لا شك أن هذا مشكل وتكلمنا فيه كثيراً؛ لأنه يلزم منه الدور، يعني من شرط كون الخبر متواتراً أن يفيد العلم، ولا يفيد العلم إلا إذا كان متواتراً، والسبب في ذلك أن العدد ليس له حد محدد ليصل الخبر إلى حد التواتر عند أهل العلم، بل هو ما يرويه جماعة تحيل العادة تواطؤهم على الكذب عن مثلهم -يعني في جميع طبقات السند-، وأن يسند إلى أمر حسي، فكونه لا يصل إلى درجة التواتر حتى يفيد العلم مع أنه لا يفيد العلم إلا إذا كان متواتراً، هذا يلزم عليه الدور، وإن قال في شرح مختصر التحرير: ولا دور، نقول فيه دور.
الأخبار عموماً نموها مثل: نمو الأجسام، مثل: نمو النبات تنمو شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى النتيجة المثمرة، فمثلاً إذا طلب الإنسان العطشان ماءً فأعطي كوباً من الماء، أو إناء فيه ماء، جرت عادته أن هذا القدر يرويه، وإلا فكيف يعرف أن هذا يرويه وهو ما بعد استعمله بعد، لكن العادة جرت بأن هذا القدر يكفيه، فأحياناً تكون النتائج معلومة، وإن ترتبت على الوسائل، وترتبت الوسائل عليها مثل التواتر، هم يقولون: لا دور، لكن الذي ينظر بدقة يجد أن الدور متحقق والدور ممنوع، ترتيب الشيء على شيء مترتب عليه، ترتيب الشيء على شيء مترتب عليه هذا الدور، يقول:
لولا مشيبي ما جفا
لولا جفاه لم أشب
ما السبب في الشيب؟ الجفاء، وما السبب في الجفاء؟ الشيب، إذن السبب الحقيقي والغاية بينهما دور لا ينتهيان إلى شيء، وهنا نقول: لا يبلغ الخبر حد التواتر حتى تسكن النفس إليه وتطمئن بحيث لا تتردد فيه، نعم في أول الأمر قد يلزم عليه الدور، لكن إذا عرف من العادة المستقرة أن هذا العدد يحصل التواتر -بغض النظر عن تحديد العدد-؛ لأنه قد يكون خبر عشرة يفيد التواتر؛ لما اشتملوا عليه من صفات، وقد يكون خبر مائة لا يفيد التواتر لما اشتملوا عليه من بعض الصفات التي تفت في خبرهم، مثل ما قلنا في الإناء إذا تكامل، أنت تعرف أن معدتك لا تستوعب أكثر من هذا جيء لك بصحن فيه طعام، وقلت: والله هذا كثير عليّ، هل يحتاج أن يقال لك جرب هو كثير وإلا ما هو بكثير؟ أنت تعرف عادتك.
السفاريني في شرح منظومته في العقيدة يقول: إن العلم يحصل عنده لا به، العلم يحصل عنده لا به، هذا مقتضى قول الأشعرية الذين يقولون: إن الري يحصل عند الشرب لا به، والشبع يحصل عند الأكل لا به، كل هذا من أجل إلغاء تأثير الأسباب، الإبصار يتم عند البصر لا به، البصر لا يتم به إبصار إنما يتم الإبصار عنده؛ ولذا يجوزون هذه المسألة منصوصة عندهم ما هي بإلزام وإلا شيء، يقصون على أن أعمى الصين يجوز أن يرى بقة الأندلس، لماذا؟ لأن الإبصار لا يتم بالبصر إنما يتم عنده لا به، يجوز أن يشبع الإنسان وهو ما أكل، والأكل لا يحصل به الشبع إنما يحصل عنده، في كلام مخالف للعقل والنقل، لكن يقال به.

يقول: حصل لبس عند بعض طلبة العلم في مسألة ذكر اسم المخالف؛ لأن فيه غيبة؟ فما هي السنة في ذلك، وهل يكتفى بالتعميم عن الخطأ دون ذكر المخطئ؟

معروف أن السنة والجادة أن لا يذكر الشخص بعينه، يعني النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((ما بال أقوام)) وإن كان معروفاً عند الناس، أو معروفاً عند بعضهم ما بال أقوام يفعلون كذا، يقولون كذا، ولو عرف القائل من خلال القول هذا لا يتعلق به حكم، اللهم إلا إذا وصف بوصف يختص به بحيث يعرفه الخاص والعام وقدح فيه، فمثلاً عرف عن شيخ من المشايخ أنه يقول بمسألة خالف فيها، ثم يأتي شخص يذمه ويقول: أنا لا اسميه لئلا تكون غيبة، ثم يسأل بعض الشيوخ الحاضرين أنتم ما رددتم عليه في مسألة كذا، خلاص انكشف ما يحتاج يسميه، المقصود أن أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، يقول ابن دقيق العيد: "وقف على شفيرها العلماء والحكام"؛ لأن العلماء والحكام بصدد كلام الناس فيهم كثير، يتكلم الناس بكثرة في العلماء والحكام من القدم، فهم يقفون على شفير هذه الحفرة، وهم يقذفون فيها من يتلكم فيهم على أحد التأويلين، والتأويل الثاني: معروف أن العلماء والحكام يحتاجون إلى الكلام في الناس بكثرة، هذه وظيفتهم؛ لأنهم بصدد أن يولوا، وبصدد أن يحكموا، فهم بحاجة إلى الكلام في الناس، وقد يتكلمون اجتهاداً أو عن هوى؛ لأنهم ليسوا بمعصومين في الناس فيقعون في المحظور، على كل حال المسألة الأصل ألا يذكر الاسم، إذا خشي، إذا فندت، أو فند هذا الخطأ وهذه المخالفة بالأدلة، ونوقش صاحبها، وبذلت له النصيحة فلم ينتصح، وخشي من انتشار شره واغترار الناس به؛ لأن بعض الناس ما يفهم إلا بالتصريح، إذا رجحت المصلحة بالتصريح بحيث يخشى شره أن ينتشر في الناس، وتنتشر بدعته في الناس لا مانع من التصريح باسمه، والعلماء صرحوا بأسماء الرواة، وقدحوا فيهم، وجرحوهم؛ لأن المصلحة راجحة بل متعينة، فالشخص المبتدع الذي يخشى من نشر بدعته، أو عنده أمور يخشى من ضرر الناس بسببها، هذا لا مانع أن يصرح باسمه بعد أن تبذل الأسباب لإيقاف هذه البدعة، والتحذير من البدعة، ونصح هذا المبتدع، إذا لم يرتدع وأصر وعاند ما معنا إلا التصريح؛ لأن كثيراً من الناس ما يفهم بالتلميح.

يقول: الأخطاء التي وقع فيها ابن حجر والنووي -رحمهما الله- في تأويل بعض الصفات، هل هو جهل منهم أم هي عقيدة السلف؟

هو النووي معروف أن مذهبه في العقيدة مذهب البيئة بيئته، مذهب شيوخه وعلماء عصره في مصره الشام، ذلك الوقت مذهب الأشعرية منتشر، وفي مصر أيضاَ منتشر، فتجد الناس يتتابعون على دراسة هذا المذهب من غير روية ولا نظر، لكن منهم من يوفق إلى من يأخذ بيده إلى جادة الصواب، ومنهم من يستمر على ذلك، وعلى كل حال هم ليسوا من المؤسسين للمذهب ولا من المنظرين للمذهب، هم أشبه ما يكون بالمقلدين على أن بينهما بوناً في تقرير المذهب.
النووي أشعري بكل ما تحويه هذه الكلمة في جميع أبواب العقيدة، ابن حجر لا، ليس له مذهب معين، فتجده ينقل عن الأشاعرة، وينقل عن أهل السنة، وينقل عن غيرهم فهو على حسب ما ينقل ما يتيسر له من نقل، مذهبه ليس متقرراً، وإن كان الأصل في مذهب بيئته وعلماء عصره في مصره أنه مذهب الأشاعرة في الجملة، وعلى كل حال هذه هفوة، وهذه زلة، وهذه زلة عظيمة، لكن مع ذلك أنا أرى الرجال لهم حسنات، لهم بحار من الحسنات اهتمامهم بالسنة واهتمامهم بتوضيح السنة، وشرح السنة، والدفاع عن السنة، على كل حال هذه حسنات {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [(49) سورة الكهف].

يقول: ماذا يفعل من سحب من مكينة صرف مائتين ريال، ولكن صرف له أربعمائة ريال بدون أي تغيير في حسابه، مع أن هذه المكينة لبنك غير البنك الذي فيه حسابه؟

يذهب إلى هذه الجهة ويسلمها القدر الزائد مما سجل عليه، يعني سجل في حسابه مائتين ريال، بعد ذلك يذهب بمائتي ريال ويسلمها إلى هناك ويقول: أنا سحبت، وهذا الوصل، وهذه زائدة، كما أنه لو نقص له شيء لذهب إلى البنك وطالبهم بالنقص.

إذا نوى في غسلٍ واحد رفع الجنابة وغسل الجمعة هل يجزئه ذلك؟

غسل الجنابة شرط لا تصح الصلاة إلا به، وغسل الجنابة عند غسل الجمعة عند الجمهور سنة وأوجبه بعض أهل العلم، على كل حال إذا نوى رفع الجنابة دخل فيه غسل الجمعة؛ لأنه إذا اجتمع عبادتان من جنس واحد، ليست إحداهما مقضية والأخرى مؤداة فإن الصغرى تدخل في الكبرى، وغسل الجمعة هو طهارة صغرى بالنسبة لغسل الجنابة، ولا يقال حتى على رأي من أوجبه لا يقول: إنه مثل غسل الجنابة؛ لأن عند من أوجب غسل الجمعة الصلاة صحيحة، لكنه يأثم بتركه، بينما غسل الجنابة الصلاة باطلة، وهذا مثل اجتماع تكبيرة الإحرام مع تكبيرة الركوع، لا بد أن ينوي تكبيرة الإحرام وتدخل فيها تكبيرة الركوع، وهنا لا بد أن ينوى رفع غسل الجنابة ويدخل فيه غسل الجمعة، من أهل العلم من يرى أنه إن نوى غسلاً مسنوناً أجزأ عن واجب باعتبار أن الهيئة والصورة واحدة، وعلى كل حال هذا القول مرجوح.

إذا نوى بالغسل رفع الحدثين جمعياً فهل يجزئه ذلك؟

الأصل أن ينوي الرفع إذا الحدثين يعني اغتسل، ونوى بذلك رفع الحدث الأكبر والأصغر يدخل فيه الوضوء نعم، إذا عم بدنه بالماء ناوياً بذلك رفع الحدث الأكبر والأصغر نعم يدخل فيه؛ لأن هذا على القاعدة ماشي.

يقول: هل يجوز حذف شيء من الأحاديث من أي طالب علم مهما بلغت منزلته كما فعل البخاري -رحمه الله-؟

أولاً: اختصار الأحاديث، والاقتصار منها على ما يريده الراوي، الاختصار معروف، والحذف عند أهل العلم معروف، البخاري قد يقطع الحديث الواحد إلى عشرين جملة، لكنهم يشترطون في ذلك: ألا يكون فهم المذكور المثبت مترتباً على المحذوف، فلا يكون استثناء مثلاً أو وصفاً مؤثراً في الحكم لا يجوز حذفه حينئذ، وأما تقطيع الأحاديث واختصارها فهو جائز عند جمهور العلماء، وصحيفة همام بن منبه مشتملة على "مائة واثنين وثلاثين حديثاً"، مائة واثنين وثلاثين جملة هي موجودة في موضع واحد في المسند، لكنها في البخاري مفرقة على أبواب كثيرة، في مسلم كذلك، فصنيع أهل العلم يدل على الجواز.

يقول: إذا كنت أدرس على شيخ أو عالم معين، فهل آخذ بكل فتاويه أم لي أن أخذ بفتاوى علماء أجلاء آخرين؟

على كل حال إذا كنت مبتدأً فرضك التقليد فأنت تقلد من تبرأ الذمة بتقليده، تقلد أرجح من تراه وطريقك في ثبوت الأرجحية هو الاستفاضة، يعني استفاض بين الناس عامتهم وخاصتهم أن هذا من أهل العلم الذين تبرأ الذمة بتقليدهم وهو أعلم من غيره هذا تقلده، أما شيخك الذي تلازمه فلا شك أن لك به عناية، ولولا أنه مقدم عندك ما لزمته وتركت غيره، فإذا قلدته وهو ممن تبرأ الذمة بتقليده، وهو من أهل النظر والموازنة بين النصوص يستطيع الترجيح؛ لأن ما كل من يدرس تكون لديه الأهلية التامة للإفتاء، لا، التدريس أمره أسهل من الفتوى أو القضاء. على كل حال إذا كان هذا الشخص ممن بلغ مرتبة من يقلد وتبرأ الذمة بتقليده، لك أن تأخذ بفتاويه، وإذا عرفت أو سمعت من خلال كلام الناس، عموم الناس لا سيما طلاب العلم أن هذا الشيخ أفتى بهذه الفتوى بقول مرجوح، وفلان أفتى بقول راجح فتعمل بالقول الراجح بالاستفاضة أيضاً؛ لأنه قد يقول قائل: أنا والله لا أعرف، والاستفاضة دلت على أن هذا العالم يقتدى به وتبرأ الذمة بتقليده، وذاك العالم كذلك، نقول في هذه الحالة خالف هوى نفسك، يعني إذا عملت محظوراً في الحج مثلاً، وذهبت إلى شيخ تبرأ الذمة، من كبار أهل العلم وقال: ما عليك شيء، وذهبت إلى آخر وقال: عليك دم، أو عليك صوم، أو عليك فدية أذى، أو ما أشبه ذلك، انظر فإن كان ترجيحك للأول نابع من هوى؛ لأنه أعفاك من التبعة هذا لا يجوز تقليده؛ لأنك لم تأخذ بقول العالم، إنما أخذت بهواك، إنما أخذت بهواك.
الأسئلة كثيرة جداً وتزيد، نعم، والكتاب فيه طول، لعلنا نقتصر على هذا القدر، وحديث الأعمال بالنيات الذي سبق في الدرس الماضي أقول: محل عناية من أهل العلم، منهم من قال: هو ربع الدين، ومنهم من قال: نصفه، ومنهم من قال: ثلثه، ومنهم من قال: يدخل في جميع أبواب الدين، والشافعي يقول: يدخل في سبعين باباً، ولا شك أن هذا الحديث يدخل في كل مسائل الدين، ومسائل الدنيا أيضاً، إذا أريد من جرائها الثواب حتى مسائل الدنيا يدخل فيها النية ويدخل في المسائل الكبار، ويدخل في مسائل صغار، يعني لا فرق هي النية تغير الحكم من كونه ردة إلى كونه مباح كيف؟ نعم إلى كونه مباحاً.
طالب ...............
يعني لو قال شخص: الله -جل وعلا- يقول في كتابه العظيم: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [(12) سورة الحجرات]، فقال: وأنا أقول ليس بعض الظن إثم، ماذا نقول؟ مرتد وإلا غير مرتد؟ نعم، حسب النية إن كان يقصد البعض الذي أثبته الله -جل وعلا- فهو مرتد، لكن إن كان يقصد البعض الثاني؛ لأن البعض يقتضي البعض الثاني فكلامه صحيح، وهذا الفرق في إيش في النية، النية دخلت في العلوم، دخلت في العربية وبكثرة، يعني فكلامنا على أما بعد إذا حذف المضاف إليه ونوي مع نيته يبنى على الضم، مع عدم نيته يعرب مع التنوين، والنية لا شك أنها شرط لصحة العبادات كما ذكرنا بالأمس، وهي شرط للطهارة الكبرى والصغرى، شرط للوضوء وللتيمم، خلافاً للحنفية الذين لا يشترطونها في الوسائل كالوضوء، لكنهم يشترطونها للتيمم، وأما كونها شرط لصحة الصلاة فلا خلاف فيه، وإن قال بعضهم: إنها ركن، وأهميتها الصيام أيضاً لا يصح بدون نية، الزكاة تصح بدون نية وإلا لا تصح؟
يعني لو أخذها الإمام قهراً عن الممتنع تصح وإلا ما تصح؟ يعني من حيث الحكم تصح، من حيث الحكم بمعنى أنها تسقط الطلب فلا تأخذ منه مرة أخرى صحيح، لكن الإثم حاصل وإجزاؤها عند الله -جل وعلا- هذا أمر غيبي، وتجدون فرق في هذا الباب بين الفقهاء وبين علماء السلوك الذين يتعاملون مع الأعمال القلبية بكثرة، تجدون بوناً شاسعاً الفقيه يصحح باكتمال الشروط والأركان والواجبات، وذلك ينظر إلى ما هو أخص من ذلك، مسألة الإخلاص لله -جل وعلا- ينظرون إليه، وذكرنا مراراً الشخص الذي حج من بغداد ثلاث مرات ماشياً، حج ثلاث مرات من بغداد ماشياً، لما رجع من الحجة الثالثة دخل البيت برفق فإذا الأم نائمة فنام بجوارها انتبهت فأحست به، فقالت له: يا فلان، اسقني ماء، الماء خطوات، الماء خطوات، الرجل جاء من ألوف الكيلوات ماشياً وتعباناً وكأنه لم يسمع، ثم انتبهت ثانية فقالت: يا فلان، اسقني ماء كذلك، ثم الثالثة هب من نومه وجاء بالماء، ثم أخذ يحاسب نفسه يقول: تعبت ماشياً نفلاً على قدميك ألوف الكيلوات، والواجب الذي بينك وبينه خطوات تتقاعس فيه، هذا إذا سأل فقيه إيش يقول: الحج صحيح وإلا باطل؟ صحيح شروط، وأركان، وواجبات كلها متضافرة، وحج لله-جل وعلا- هذا المظنون به، فسأل واحداً من النوع الثاني فقال: أعد حجة الإسلام، أعد حجة الإسلام، كثير منا يحس في بعض المواضع أنه اهتم بأمر وضيِّع بسببه ما هو أوجب منه؛ لأنه قد تكون هذه المرأة، هذه الأم العجوز الكبيرة بحاجة ماسة إلى هذا الولد الذي حج على قدميه، وهو يحتاج في حجه إلى ستة أشهر أو أكثر.
الآن في صفوف طلاب العلم لا أعني المغرم مثلاً بالكتب، تجده يذكر له تركة في البلد الفلاني فيسافر ويترك بعض الواجبات، أو في طرف البلد في الحي الفلاني فتجده في طريقه إلى هذه المكتبة قد تفوته الصلاة، فالموازنة بين الواجب وبين ما هو أوجب هذا أمر لا بد منه، والمفاضلة بين العبادات مسألة كبرى في الشرع، يعني لو دخل أحدكم المسجد النبوي وبينه وبين الصفوف ما يتسع لمائة صف من أجل أن يدرك الركعة يصلى عند الباب، أو يذهب ليتقدم ليصل الصفوف الأولى، أيهما أولى؟ هو في السور، وليس بفذ، صلاته صحيحة، وإن كان بينه وبين الإمام فجوات؛ لأنه داخل المسجد، وليس بفذ صلاته صحيحة، لكنه كل ما تقدم أفضل، كلما وصل صفاً وصله الله، لكن إذا نظر إلى المسألة من جهات أخرى، قال: إذا تقدمت فاتني ركعة أو ركعتين، وقام السرعان وشوشوا علي صلاتي ومروا بين يدي، وإن كان هناك جنازة فاتت، وأخذ يوازن بين هذه المصالح والمفاسد، قد يترجح له المفضول في مقابل هذا الفاضل لأمور أخرى، وأهل العلم يقررون أن المفوق قد يعرض له ما يجعله فائقاً، هذه مسألة المفاضلة مسألة كبيرة، وفيها أيضاً الكلام الكثير لأهل العلم، وأما التمييز بالنية فهذه أيضاً فيها مصنفات، وللنية أحكام كثيرة من أجود ما كتب فيها: "نهاية الإحكام في ما للنية من أحكام" هذا مطبوع قديم بمصر وأظنه جدد طبعه، فالكتاب جامع لأحكام النية.
العلماء تكلموا فيه بما يحتمل مجلدات، لو أدخلناه في جميع أبواب الدين نحتاج إلى ذكر جميع الأبواب.
النية: تميز عبادة من عبادة، تميز عبادة من عادة، وتميز العمل الصحيح من الباطل، وهكذا فنقتصر على هذا وننتقل إلى الحديث الثاني.