التعليق على تفسير القرطبي - سورة الزخرف (02)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى:-

"قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً} أَيْ عِدْلًا، عَنْ قَتَادَةَ، يَعْنِي مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ-، قال الزجاج والمبرد: الجزء ها هنا البنات، عجب المؤمنين من جهلهم؛ إذ أقروا بأن خالق السموات وَالْأَرْضِ هُوَ اللَّهُ، ثُمَّ جَعَلُوا لَهُ شَرِيكًا أَوْ وَلَدًا، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَنْ قَدَرَ على خلق السموات وَالْأَرْضِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ يُعْتَضَدُ بِهِ أَوْ يُسْتَأْنَسُ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْجُزْءُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ الْبَنَاتُ، يُقَالُ: قَدْ أَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا وَلَدَتِ البنات، قال الشاعر:

إن أجزأت حرة يَوْمًا فَلَا عَجَبَ ****** قَدْ تُجْزِئُ الْحُرَّةُ الْمِذْكَارَ أَحْيَانَا
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ تَفْسِيرُ الْجُزْءِ بِالْإِنَاثِ، وَادِّعَاءُ أَنَّ الْجُزْءَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ اسْمٌ لِلْإِنَاثِ، وَمَا هُوَ إِلَّا كَذِبٌ عَلَى الْعَرَبِ وَوَضْعٌ مُسْتَحْدَثٌ مُتَحَوَّلٌ، وَلَمْ يُقْنِعْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى اشْتَقُّوا مِنْهُ: أَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ صَنَعُوا بَيْتًا، وَبَيْتًا:

إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلَا عَجَب ***** زُوِّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً

وَإِنَّمَا قَوْلُهُ: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً} مُتَّصِلٌ بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} أي ولئن سألتهم عن خالق السموات وَالْأَرْضِ لَيَعْتَرِفُنَّ بِهِ، وَقَدْ جَعَلُوا لَهُ مَعَ ذَلِكَ الِاعْتِرَافَ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا فَوَصَفُوهُ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ".

هو من صفات المخلوق الولد، وأنه والد ومولود، وذلك من شدة الحاجة حاجة المخلوق إلى الولد، وأما الرب –جل وعلا- فليس بحاجة إلى شيء يعد له، بل من نعم الله –جل وعلا- التي يُحمد عليها، وأمر بالحمد عليها أنه ليس له ولد {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولد}، أولاً لأنها دالة على النقص، الولد إنما وجد للحاجة؛ ليعين والده على نوائبه، والله –جل وعلا- ليس بحاجة إلى أحد، والأمر الثاني أنه قد يوجد التسلط من الولد لاسيما إذا كان الوالد له شأن وله سلطة، وأن والده يتسلط على غيره، والله -جل وعلا- تنزَّه عن هذا كله، وهذه نعمة يُحمد عليها كما أمر بذلك، وقوله: جعلوا له من عباده جزءًا} أي عدلاً، والعدل ليس بتفسير للجزء، وإنما الجزء هو القسم من هذا المخلوق، وجعلوا له قسمًا مما خلق، نسبوه إليه تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، وجعلوا له عدلاً من عباده جزأً من عباده يعدلونه به، فيشركونه معه في العبادة، فيعبدونه من دونه.

"وَمَعْنَى {مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً} أَنْ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ".

أم بالنسبة لما أوردوه على أن المراد بالجزء البنات، وأنه في اللغة يطلق على البنت جزءًا دون الذكر، واستدلوا عليه بما جاء وما أوردوه من شعر فهذا مبني على ثبوت هذا الشعر عمن يحتج به في لغة العرب، والزمخشري ينكر هذا، ويرى أن هذا الاستدلال في غير موضعه، وأن الدليل لا يدل على المراد؛ لأنه ليس بحجة، وليس بمن يحتج بقول من قاله.

" أَنْ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَمَعْنَى {مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً} أَنْ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، "فَجَعَلُوهُمْ جُزْءًا لَهُ وَبَعْضًا".

معلوم في الاحتجاج أن الشعر ديوان العرب له فترة ومدة ينتهي عندها، لما اختلط العرب بغيرهم من الشعوب، وتغيرت لغاتهم، واختلطت بغيرهم، فصار لا يحتج بقولهم لا في تفسير الغريب كما هنا، ولا في الاحتجاج على القواعد العربية، وهم يحدون وقت الاحتجاج الى الشاعر بشار بن برد فمن قبله يحتج به، ومن بعده لا يحتج به، هذا بالنسبة للقواعد، تطبيق القواعد قواعد العربية، وأما بالنسبة لمفردات اللغة فلا شك أنهم بعد الاختلاط بعد الفتوح التي حصلت في عهد الصحابة، وكثر دخول الناس في دين الله أفواجًا لا شك أن المعاني دخلها ما دخلها، ينبغي ألا يحتج بمن احتج به على تقرير القواعد.

يعني مسألة القواعد قد يحافظ عليها الإنسان أكثر مما يحافظ على المفردات، فاستمر الاحتجاج في القواعد إلى مطلع القرن الثالث، يعني سنة المائتين وما حولها، وأما بالنسبة للغة فإن العرب وأولاد العرب، والذين دخلوا في الدين بعد البعثة يعني الصحابة من أقحاح العرب، وهذا أمر مجذوم به ومقطوع به، لكن من جاء بعدهم ممن ولد بعد ذلك لا شك أنهم لا يحتج بهم في تفسير الغريب من جاء بعد الصحابة، ولذا جاء عن ابن عمر تفسير الشفق بأنه الحمرة، جاء عن ابن عمر مرفوعًا، لكنه ضعيف.

قالوا: والموقوف يحتج به؛ لأن ابن عمر من أقحاح العرب، لكن ماذا عمن بعد ابن عمر ممن أسلم ممن ولد ووجد بعد كثرة من دخل في دين الله من غير العرب؟

 لا شك أنهم أثروا، أثروا وتداولوا كلمات ما كانت موجودة في ذلك الوقت، وإن احتفظ الشعراء العرب بلغتهم، لكن يبقى أن التداول العام دخله ما دخله من اللحن، حتى إن من الخلفاء من سمع يلحن على المنبر حتي سمع من يقول: يا ليتوها كانت القاضية من الخلفاء في المائة الأولى، فمثل هذا يتحفظ عليه، ولا يحتج به إلا إذا ثبت عمن يحتج بكلامه من العرب الذين لم يتأثروا بغيرهم.

طالب: ..............

لا شك أن تأثر البادية أقل من تأثر المدن، تأثر البداية أقل من تأثر المدن، من أراد بسط هذا الموضوع يرجع إلى مقدمة خزانة الأدب، وهناك كتابان كل منهما اسمه خزانة الأدب، الأول في شرح شواهد شرح الكافية للبغدادي هذا من أبدع ما صنف في شواهد العربية، والثاني لابن الحجة الحموي، وهذا لا شك أنه أُلف في العصور الضعيفة المظلمة بالنسبة للعربية، فتجد فيها ما فيه لا يعتمد عليها في هذا الباب إطلاقًا، لكن مقدمة خزانة الأدب البغدادي في شرح شواهد شروح الكافية أو شرح الكافية للرضي، هذا من أحسن ما ألف، وفي مقدمته كلام طويل عن الاحتجاج بأقوال العرب بعد الصدر الأول، والاستشهاد بالحديث أيضًا على تقرير القواعد قواعد العربية، والخلاف بعد ذلك قوي لاسيما مع تجويز الرواية بالمعنى، ومن الرواة من تأخر بعد تغير السليقة العربية.

"كَمَا يَكُونُ الْوَلَدُ بِضْعَة مِنْ وَالِدِهِ وَجُزْءًا له، وقرئ" جزوًا" بِضَمَّتَيْنِ، {إِنَّ الْإِنْسانَ} يَعْنِي الْكَافِرَ{لَكَفُورٌ مُبِينٌ} قَالَ الْحَسَنُ: يَعُدُّ الْمَصَائِبَ، وَيَنْسَى النِّعَمَ، " مُبِيِّنٌ" مظهر الكفر".

وقد يراد بالإنسان الجنس، جنس الإنسان، وأن الكفر كفر نعمة، كفر نعمة لا كفر مخرج عن الملة؛ لقول الحسن: يعد المصائب وينسى النعم، وهذا قد يوجد في بعض المسلمين، المصيبة لا ينساها، والنعمة ينساها، وإذا كان هذا وصفًا للإنسان يدخل فيها الكافر والمسلم، كثير من المسلمين تجده يعدِّد المصائب، لكن النعم تُنسى، مع أن المطلوب شكر النعم، وكفرانه وجحده يزيلها، سبب لزوالها.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ} الْمِيمُ صِلَةٌ، تَقْدِيرُهُ: أتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ".

الميم يعني من أم صلة يعني زائدة، والمعنى أنه يستقيم الكلام بدونها؛ تشبيهًا لها بصلة الموصول التي لا محل لها من الإعراب، وهذا لا شك أن فيه أدبًا في الأسلوب والعبارة بدلًا من أن يقال: زائدة كما يصرح به بعضهم، مع أن القرآن مصون عن الزيادة والنقصان بالإجماع، لا يجوز أن يزاد فيه حرف أو ينقص منه حرف، من فعل ذلك وليس له فيه سلف أو قراءة ثابتة فهذا لا شك أنه يكفر –نسأل الله العافية-. فالزيادة هنا المراد بها أن الكلام يستقيم بدونها مع أنها تفيد التوكيد، يعني كما يقولون: ما في البيت من أحد، من هذه زائدة، لكنها إنما جيء بها لتأكيد النفي، يعني الكلام يستقيم بدونها، ما في البيت أحد يستقيم، لكن إذا جيء بها تأكد النفي، وهنا أيضًا تأكد الاستفهام بزيادتها.

"تَقْدِيرُهُ: أتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ، كَمَا زَعَمْتُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَلَفْظُهُ لفظ الِاسْتِفْهَامُ، وَمَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ، {وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} أَيِ اخْتَصَّكُمْ وَأَخْلَصَكُمْ بِالْبَنِينَ، يُقَالُ: أَصْفَيْتُهُ بِكَذَا، أَيْ آثَرْتُهُ به، وأصفيته الود أخلصته له، وصافيته وَتَصَافَيْنَا تَخَالَصْنَا، عَجِبَ مِنْ إِضَافَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ اخْتِيَارَ الْبَنَاتِ مَعَ اخْتِيَارِهِمْ لِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ، وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ إِنْ تَوَهَّمَ جَاهِلٌ أَنَّهُ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ وَلَدًا فَهَلَّا أَضَافَ إِلَيْهِ أَرْفَعَ الْجِنْسَيْنِ! وَلِمَ جَعَلَ هَؤُلَاءِ لِأَنْفُسِهِمْ أَشْرَفَ الْجِنْسَيْنِ وَلَهُ الْأَخَسَّ؟ وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى}".

أفعل التفضيل في أشرف وأخص ليست على بابها أن المراد فيه جنس الذكر أنه أشرف من كل وجه، نعم هو شريف ومفضل على كل حال، لكن لا يعني أنه وافق اسم الشرف لكل فرد من أفراده، كما أـن الجنس الآخر وهو الأنثى ليس بأخس، وإنما هو دون ليس المراد بذلك أفعل التفضيل على بابها، وأنهم اشتركوا أولاً في الشرف، ثم اشتركوا أيضًا في الخسة، وفاق الذكور في الشرف، وفاق الإناث في الخسة، هذا لا يراد، فالجنس ليس بخسيس في الأصل، وإنما قد يختار لنفسه، قد يختار بعضهم لنفسه الخسة إذا هدي إلى الصراط المستقيم ثم اختار غيره فهذا خسيس بلا شك.

طالب: بعض النصارى يا شيخ يحتج بأن عيسى –عليه السلام- لو لم يكن ابن لله لما رفعه إلى السماء.

ليس بدليل هذا.

طالب: كيف يرد عليه يا شيخ.

هذا يرد عليه بأنه حاولوا قتله، فرفعه الله؛ لينجيه من قتلهم، وينجيه من قتله، –والله المستعان–، نعم مع أن القدرة الإلهية قد ينجو بغير ذلك، لكن الله -جل وعلا – له الحكمة التامة والمشيئة النافذة، يفعل ما يشاء، ولا يُسأل عما يفعل، لكن لأمر يريده الله –جل وعلا- رفعه؛ لينزل في آخر الزمان.

طالب: ينكرون أنه رُفع، صُلب.

كلهم ينكرون؟

طالب: طوائف.

 طوائف نعم، ليسوا كلهم، فاليهود يقولون: قتل.

طالب: الآية الثانية ما تؤيد تفسير الأولى بأن الجزء هو البنات.

على الأول بنات نعم، وما فيه شك أن الجزء ليس معناه البنات، لكن الخلق جزءان؛ جزء ذكور، وجزء إناث، فاختاروا له هذا الجزء الذي هو الإناث، وليس في الأصل تفسيرًا للجزء، البنات ليست تفسيرًا للجزء، كما قال بعضهم، وأوردوا عليه الشعر، لكن الذكور جزء، والإناث جزء، الذكور قسم، والإناث قسم، الذكور صنف، والإناث صنف، كما أن الذكور ضرب، والإناث ضرب، فتُفسَّر بجميع هذا.

طالب:...الرفع ليس...لأنهم صلبوا شخصًا آخر.

هو شبيه له.

طالب:..............

 لا، لو وجدوه مرة ثانية ما تدري ماذا يفعلون.

طالب: ما الحكمة يا شيخ؟

الحكم الإلهية الله أعلم بها، لكنه رفع، وسوف ينزل في آخر الزمان {بل رفعه الله} نص قطعي، مع أن ممن ينتسب إلى الإسلام من أهل العلم من يرى أنه رفع ميتًا، {إني متوفيك ورافعك إلي}، لكن عامة أهل العلم، بل نُقل عليه الإجماع أنه رُفع حيًّا، وأنه ينزل في آخر الزمان.
"قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا} أَيْ بِأَنَّهُ وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ" ظَلَّ وَجْهُهُ" أَيْ صَارَ وَجْهُهُ" مُسْوَدًّا" قِيلَ بِبُطْلَانِ مَثَلِهِ الَّذِي ضَرَبَهُ، وَقِيلَ: بِمَا بُشِّرَ بِهِ مِنَ الْأُنْثَى، دَلِيلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ { وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى } [النحل: 58]."

يعني كون وجهه يسود هل هو من تبشيره بالأنثى أو من أجل ضربه المثل الأقل للرحمن؟ الظاهر أنه من تبشيره.

" وَمِنْ حَالِهِمْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا قِيلَ لَهُ: قَدْ وُلِدَتْ لَهُ أُنْثَى اغْتَمَّ، وَارْبَدَّ وَجْهُهُ غَيْظًا وَتَأَسُّفًا، وَهُوَ مَمْلُوءٌ مِنَ الْكَرْبِ، وَعَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّ امْرَأَتَهُ وَضَعَتْ أُنْثَى فَهَجَرَ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الْمَرْأَةُ فَقَالَتْ:
مَا لِأَبِي حَمْزَةَ لَا يَأْتِينَا **** يَظَلُّ فِي الْبَيْتِ الَّذِي يَلِينَا
غَضْبَانَ أَلَّا نَلِدَ الْبَنِينَا **** وَإِنَّمَا نَأْخُذُ ما أعطينا"

 في بعض روايات البيت: والله ما ذلك في أيدينا، يعني خارجًا عن طوقها وإرادتها.

"وقرئ" مسودًا، وَمُسْوَادٌّ"، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ يَكُونُ وَجْهُهُ اسْمَ " ظَلَّ" وَ" مُسْوَدًّا" خَبَرَ" ظَلَّ"، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي " ظَلَّ" ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى أَحَدٍ وهو اسمها، و" وجهه" بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ، وَ"مُسْوَدًّا" خَبَرُ" ظَلَّ"، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رُفِعَ" وَجْهُهُ" بِالِابْتِدَاءِ، وَيُرْفَعُ" مُسْوَدًّا" عَلَى أَنَّهُ خَبَرُهُ، وَفِي" ظَلَّ" اسْمُهَا، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُهَا."

اسمها الذي هو الضمير العائد على أحد على ما تقدم، والجملة من المبتدأ والخبر خبر ظل. نعم.

"{ وَهُوَ كَظِيمٌ} أَيْ حَزِينٌ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقِيلَ: مَكْرُوبٌ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَقِيلَ: سَاكِتٌ، قاله ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَذَلِكَ لِفَسَادِ مَثَلِهِ وَبُطْلَانِ حُجَّتِهِ، وَمَنْ أَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتِ اللَّهِ، فَقَدْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ شِبْهًا لِلَّهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ جِنْسِ الْوَالِدِ وَشِبْهَهُ، وَمَنِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ بِمَا يُضَافُ إِلَيْهِ مِمَّا لَا يَرْضَى، أَوْلَى مِنْ أَنْ يَسْوَدَّ وَجْهُهُ بِإِضَافَةِ مِثْلَ ذَلِكَ إِلَى مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ، فَكَيْفَ إِلَى اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ!- وَقَدْ مَضَى فِي" النَّحْلِ" فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مَا فِيهِ كفاية.

قوله تعالى: { أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ} فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا} أَيْ يُرَبَّى وَيَشِبُّ، وَالنُّشُوءُ: التَّرْبِيَةُ، يُقَالُ: نَشَأْتُ في بني فلان نشأ وَنُشُوءًا إِذَا شَبَبْتُ فِيهِمْ، وَنُشِّئَ وَأُنْشِئَ بِمَعْنًى، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَحَفْصٌ وحمزة والكسائي وخلف: " يُنَشَّؤُا" بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ، أَيْ يُرَبَّى وَيُكَبَّرُ فِي الْحِلْيَةِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ؛ لأن الاسناد فيها أعلى، وقرأ الباقون: " يُنَشَّؤُا" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ النُّونِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ، أَيْ يُرَسَّخُ وَيَنْبُتُ، وَأَصْلُهُ مِنْ نَشَأَ أَيِ ارتفع، قاله الهروي، ف" ينشأ" مُتَعَدٍّ، وَ" يَنْشَأُ" لَازِمٌ".

يعني التضعيف وينشأ للتكثير، والتنشئة لا تأتي دفعة واحدة، بل تأتي دفعات كثيرة، فالتشديد من حيث المعنى أقوى.

" الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِي الْحِلْيَةِ} أَيْ فِي الزِّينَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هُنَّ الْجَوَارِي زِيُّهُنَّ غَيْرُ زِيِّ الرِّجَالِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: رُخِّصَ لِلنِّسَاءِ فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، قَالَ إِلْكِيَا: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى إِبَاحَةِ الْحُلِيِّ لِلنِّسَاءِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عليه، والأخبار فيه لا تحصى.

قُلْتُ: رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِابْنَتِهِ: يَا بُنَيَّةَ، إِيَّاكِ وَالتَّحَلِّيَ بِالذَّهَبِ! فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكِ اللَّهَبَ."

يعني هذا محمول على ما زاد على الحاجة، ما زاد على الحاجة مما يدخل في حيز السرف أو ما لا تؤدَّى زكاته عند من يقول بوجوب زكاة الحلي.

" قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ} أَيْ فِي الْمُجَادَلَةِ وَالْإِدْلَاءِ بِالْحُجَّةِ، قَالَ قَتَادَةُ: مَا تَكَلَّمَتِ امْرَأَةٌ وَلَهَا حُجَّةٌ إِلَّا جَعَلَتْهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَفِي مصحف عبد الله:" وَهُوَ فِي الكلام غَيْرُ مُبِينٍ"".

هذا لما كانت النساء على فطرتهن، وقبل مخالطتهن للرجال، ومزاولة ما يزاوله الرجال، وتشبههن بالرجال، أما بعد ذلك، بعد أن أخذت من خصائص الرجال ما أخذت تجدها تقرب من الرجل في بيانها وبلاغتها وحجتها، بل في تطاولها أحيانًا على ما لا يليق بها، كانت المرأة لا تستطيع أن تتكلم من الرجل إطلاقًا ولو بكلمة، ثم صارت المسألة تزول شيئًا فشيئًا فزال الحياء وصارت مثل الرجل، بل منهن من فاق الرجال في هذ الباب -والله المستعان-.

 يقول: ما تكلمت امرأة ولها حجة إلا جعلتها على نفسها، وهذا لما كان الحياء جلبابها، وهكذا يوجد في الرجال، تجد في الرجال من يغلب عليه الحياء، تجده يتكلم فيضيع، تضيع بعض حجته أو أكثر حجته، ولذلك بعضهم الأفضل له أن يوكل في خصوماته وغيره؛ لأنه ليس بألحن يعني ليس كلامه مما فيه بلاغة وفصاحة يستطيع أن يستخرج حقه، وسببه الحياء، ثم إذا تمرن وتعود مرة أو مرتين يزول هذا.

"وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَيُضَافُ إِلَى اللَّهِ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ! أَيْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْمُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ أَصْنَامُهُمُ الَّتِي صَاغُوهَا من ذهب وفضة وحلوها، قاله ابْنُ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ، وَيَكُونُ مَعْنَى" وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ" عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَيْ سَاكِتٌ عَنِ الْجَوَابِ، وَ" مَنْ" فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، أَيِ اتَّخَذُوا لِلَّهِ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، والخبر مضمر، قاله الفراء، وتقديره: أو من كَانَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: خَفَضَ رَدًّا إِلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ، وهو قوله" بِما ضَرَبَ"، أو على" مِمَّا" فِي قَوْلِهِ: { مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ} وَكَوْنُ الْبَدَلِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ ضَعِيفٌ؛ لِكَوْنِ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ حَائِلَةٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ{ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً}"

المعروف أن لها الصادرة، فإذا كان لها الصادرة قطعت ما بعدها عما قبلها، فيضعف البدل من هذه الحيثية.

"قرَأَ الْكُوفِيُّونَ: " عِبادُ" بِالْجَمْعِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ؛ لِأَنَّ الْإِسْنَادَ فِيهَا أَعْلَى، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا كَذَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِبَنَاتِهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ" عِبادُ الرَّحْمنِ"، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: إن في مصحفي" عبد الرَّحْمَنِ" فَقَالَ: امْحُهَا وَاكْتُبْهَا" عِبادُ الرَّحْمنِ"، وَتَصْدِيقُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: { بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ}[الكهف: 102]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ}[الأعراف: 194]، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ" عِنْدَ الرَّحْمَنِ" بِنُونٍ سَاكِنَةٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَتَصْدِيقُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} وَقَوْلُهُ: { وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} [الأنبياء: 19]، والمقصود إيضاح كذبهم وبيان جهلهم فِي نِسْبَةِ الْأَوْلَادِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ فِي تَحَكُّمِهِمْ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ وَهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَذِكْرُ الْعِبَادِ مَدْحٌ لَهُمْ، أَيْ كَيْفَ عبدوا من هو في نِهَايَةُ الْعِبَادَةِ، ثُمَّ كَيْفَ حَكَمُوا بِأَنَّهُمْ إِنَاثٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَالْجَعْلُ هُنَا بِمَعْنَى الْقَوْلِ وَالْحُكْمِ، تَقُولُ: جَعَلْتُ زَيْدًا أَعْلَمَ النَّاسِ، أَيْ حَكَمْتُ لَهُ بِذَلِكَ،" أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ" أَيْ أَحَضَرُوا حَالَةَ خَلْقِهِمْ حَتَّى حَكَمُوا بِأَنَّهُمْ إِنَاثٌ، وَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَأَلَهُمْ وَقَالَ: «فَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهُمْ إِنَاثٌ» فَقَالُوا: سَمِعْنَا بِذَلِكَ مِنْ آبَائِنَا وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْذِبُوا فِي أَنَّهُمْ إِنَاثٌ".

لأن الشاهدة إنما تكون بمشاهدة أو بخبر صادق، فلم توجد المشاهدة، أشهدوا خلقهم؟ كلا لم يشهدوا خلقهم، هل أخبرهم صادق؟ لا، أخبرهم كفار مثلهم وآباؤهم وأجدادهم، فانتفى دليل الحكم فانتفى الحكم تبعًا له.

" فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ} أي يسئلون عَنْهَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ: "أَوُشْهِدُوا" بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ دَاخِلَةٍ عَلَى هَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ مُسَهَّلَةٍ، وَلَا يُمَدُّ سِوَى مَا رَوَى الْمُسَيِّبِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ يُمَدُّ".

يعني عن نافع، نعم.

" وَرَوَى الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ مِثْلَ ذَلِكَ وَتَحَقُّقَ الْهَمْزَتَيْنِ".

أأشهد.

" وَالْبَاقُونَ: " أَشَهِدُوا" بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: " أُشْهِدُوا خَلْقَهُمْ" عَلَى الْخَبَرِ".

بدون استفهام، نعم.

"سَتُكْتَبُ" قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ، " شَهادَتُهُمْ" رَفْعًا، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَابْنُ السَّمَيْقَعِ وَهُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ: " سَنَكْتُبُ" بِنُونٍ، " شَهادَتُهُمْ" نَصْبًا بِتَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ، وَعَنْ أَبِي رَجَاءٍ" سَتُكْتَبُ شَهَادَاتُهُمْ" بالجمع".

وكل هذه القراءات إذا صحت عن هؤلاء الأئمة فإن الرسم يحتملها.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ} يَعْنِي قَالَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ عَلَى زَعْمِكُمْ مَا عَبَدْنَا هَذِهِ الْمَلَائِكَةَ".

يعني يحتجون بالقدر على معايبهم وعلى شركهم.

" وَهَذَا مِنْهُمْ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ بِإِرَادَةِ اللَّهِ، وَإِرَادَتُهُ تَجِبُ وَكَذَا عِلْمُهُ، فَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا، وَخِلَافُ الْمَعْلُومِ وَالْمُرَادُ مَقْدُورٌ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ، وَلَوْ عَبَدُوا اللَّهَ بَدَلَ الْأَصْنَامِ لَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ مِنْهُمْ مَا حَصَلَ مِنْهُمْ، وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَنْعَامِ عِنْدَ قَوْلُهُ: { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا} [الانعام: 148]".

هذه حجة الكفار في احتجاجهم بالقدر، يحتجون على معايبهم بالقدر مع إنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي من الشرك وما دونه، وإنما يحتج به على المصائب.

 يعني الحديث الصحيح في محاجة آدم وموسى، احتج موسى على آدم بأن الله خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، فكيف يعصيه؟ قال آدم- احتج آدم بالقدر- إن هذا أمر كتبه الله عليه قبل أن يخلقه، فحج آدم موسى، هذه المعصية الأكل من الشجرة كانت معصية قبل أن يتوبوا منها هي معصية لا يجوز الاحتجاج بالقدر عليها، لكن لما تاب منها، وزال أثرها، وبقيت الآثار المترتبة عليها من إهباطه من الجنة إلى الأرض، وهذه بالنسبة له مصيبة، دار الشقاء، دار الكد، دار العناء، مصيبة يحتج بالقدر على هذه المصيبة، لكن على المعيبة، على كونه خالف، على كونه عصى، لا يجوز الاحتجاج بالقدر، ولذا جاء في الحديث الصحيح: «فحج آدم موسى»، نعم.

" وَفِي يس { أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]، وَقَوْلُهُ: { مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ" مَرْدُودٌ} إلى قَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً} [الزخرف: 19] أَيْ مَا لَهُمْ بِقَوْلِهِمُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، مِنْ عِلْمٍ".

لأنه لم يشهد أو لم يخبرهم ثقة، فالوسائل وسائل الإثبات ليست موجودة، فلم يشهدوا، ولم يخبرهم ثقة، وإنما أخبرهم من هو مثلهم، مشرك مثلهم، وهذا لا يثبت من قوله خبر، ولو اجتمع المشركون كلهم على هذا ما نفع؛ لأنهم عليهم أن يتلقوا هذا عن مثلهم، عن مثلهم، إلى أن يصل إلى ثقة، إلى معصوم، وحينئذ يثبت الخبر بالتواتر، لكن لا تواتر، إنما أخبرهم مشركون عن غير ثقات، ولم يصل الخبر، يسند إلى شيء محسوس، مرئي أو مسموع ممن يجب قبول قوله.

" قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: يَعْنِي الْأَوْثَانَ، أَيْ مَا لَهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِلْمٍ، " مِنْ" صِلَةٌ. {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أَيْ يَحْدِسُونَ وَيَكْذِبُونَ، فَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ -عز وجل-، وكان في ضِمْنِ كَلَامِهِمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِهَذَا، أَوْ أرضى ذَلِكَ مِنَّا، وَلِهَذَا لَمْ يَنْهَنَا وَلَمْ يُعَاجِلْنَا بالعقوبة."

يعني احتجوا أيضًا بحلم الله -جل وعلا- عليهم وإمهاله إياهم، وإنما هو مجرد الاستدراج، كما يحصل اليوم بالنسبة لكثير ممن يستعمل هذه النعم التي لا يحصيها ولا يعدّها فيما يعينه على معصية الله، ويكفرها، ويجحدها، ومع ذلك يمهل، «أن الله ليملي- ويمهل- للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»، هذا استدراج، يعني لما كانت نعم الله تزيد عليه وهو في غيه وضلاله لا يرعوي ولا يرجع ولا يتوب ولا يستعتب فهذا لا شك أنه مستدرج.

"قوله تعالى: {أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} هَذَا مُعَادِلٌ لِقَوْلِهِ: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} وَالْمَعْنَى: أَحَضَرُوا خَلْقَهُمْ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ، أَيْ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ بِمَا ادَّعَوْهُ، فَهُمْ به متمسكون يعملون بما فيه".

قوله تعالى: {بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ}

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلى أُمَّةٍ} أَيْ عَلَى طَرِيقَةٍ وَمَذْهَبٍ، قَالَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ يَقْرَأُ هُوَ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ" عَلَى إِمَّةٍ" بِكَسْرِ الْأَلِفِ، وَالْإِمَّةُ الطَّرِيقَةُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْإِمَّةُ (بِالْكَسْرِ): النِّعْمَةُ، وَالْإِمَّةُ أَيْضًا لُغَةٌ فِي الْأُمَّةِ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ وَالدِّينُ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ فِي النِّعْمَةِ:

ثُمَّ بَعْدَ الْفَلَاحِ والملك والا ***** مه وَارَتْهُمْ هُنَاكَ الْقُبُورُ
عَنْ غَيْرِ الْجَوْهَرِيِّ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَعَطِيَّةُ:" عَلَى أُمَّةٍ" عَلَى دِينٍ، وَمِنْهُ فول قيس بن الخطيم:

كنا على أمة ءابآئنا**** وَيَقْتَدِي الْآخِرُ بِالْأَوَّلِ

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْأُمَّةُ الطَّرِيقَةُ وَالدِّينُ، يُقَالُ: فُلَانٌ لَا أُمَّةَ لَهُ، أَيْ لَا دِينَ لَهُ وَلَا نِحْلَةَ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَهَلْ يَسْتَوِي ذُو أُمَّةٍ وَكَفُورُ

وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقُطْرُبٌ: عَلَى دِينٍ عَلَى مِلَّةٍ، وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ" قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى مِلَّةٍ" وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ، وَحُكِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ عَلَى مِلَّةٍ عَلَى قِبْلَةٍ الْأَخْفَشُ: عَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ النَّابِغَةُ:

حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً **** وَهَلْ يَأْثَمَنَ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طَائِعُ
الثَّانِيَةُ: { وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ} أَيْ نَهْتَدِي بِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " مُقْتَدُونَ" أَيْ نَقْتَدِي بِهِمْ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَالَ قَتَادَةُ: مُقْتَدُونَ مُتَّبِعُونَ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِبْطَالِ التَّقْلِيدِ، لِذَمِّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى تَقْلِيدِ آبَائِهِمْ وَتَرْكِهِمُ النَّظَرَ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي" الْبَقَرَةِ" مُسْتَوْفًى."

التقليد هو -على ما يُعَرفه أهل العلم- قبول قول الغير من غير حجة، يعني من غير نظر في حجة هذا الغير الذي قبل قوله، وهل تثبت أو لا تثبت، يقبل قوله من غير دليل، هذا تقليد، التقليد في الأصول في الدين ليس بمحل نظر، ليس بمحل نظر، فلا يقلد كائن من كان في أصول الدين والعقائد الكبرى التي علمت من الدين بالضرورة، وإن أدخل بعضهم الاجتهاد في هذا الباب، وقولهم: إن أداه اجتهاده إلى صحة قول أنه يسوغ له لذلك، مثل هذا لا يدخل في هذا الباب، على أن عوام المسلمين إذا قلدوا من تبرأ الذمة بتقليدهم عمومًا هذا فرضهم، فرضهم التقليد، {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، والعامي ليست لديه أهلية النظر في النصوص لا في أصول الدين ولا في فروعه، لكن الأمور الكبرى التي هي أصول الدين، والمعلوم منها بالضرورة، فهذا لا يعفي منها أحد، ويبقى أن التفصيلات بالنسبة للعامي الذي ليس لديه أهلية النظر والاجتهاد أن فرضه التقليد، وبعض المفسرين جعل الآية أصلًا أو جعل الآيتين في ذم التقليد مطلقًا في الأصول والفروع، فلا بد من أن يتفقَّه الإنسان على كتاب الله وسنة نبيه –عليه الصلاة والسلام-.

 وليس مراد المؤلف هنا دليل على إبطال التقليد، يعني تقليد الأئمة من قبل من اتبعهم، والذين ليست لديهم أهلية ليس مراده؛ لأن المؤلف مالكي، يعني مقلد للإمام مالك في كثير من الأحوال، نعم قد يجتهد، قد يتيسر له النظر في بعض المسائل، لكنه في الجملة مالكي، والشوكاني يشدِّد في هذه المسألة، ويمنع التقليد أصلاً ورأسًا بناءً على ما جاء في هاتين الآيتين.

 على كال حال من استطاع توفَّرت لديه أدواته، وتوفرت لديه الأهلية والنظر في النصوص هذا لا يجوز له أن يقلد في دينه الرجال، أم من لم تتوفر لديه الكفاءة التي تأهِّله للنظر في النصوص والتعامل معه على طريقة أهل العلم هذا لا شك أنه في حكم العامي، فرضه التقليد.

 ولا ينادى على سبيل العموم لعموم طلاب العلم أن يتفقهوا من الكتاب والسنة، نعم هذا الأصل أن يتفقه الإنسان من الكتاب والسنة، لكنه في بادئ الأمر ليست لديه الأهلية أن ينظر في نصوص الكتاب والسنة، وليست لديه الأدوات التي يعرف كيف يتعامل بها مع نصوص الكتاب والسنة، لا بد أن تتكون لديه الأهلية قبل لذلك، ثم بعد ذلك يتفقّه من الوحيين، وهذا هو الأصل، لكن قبل ذلك العلم عليه أن يقلِّد، وعليه أن يقتدي بالأئمة، ويسأل أهل الذكر، ثم إذا تكوَّنت لديه الأهلية صار فرضه النظر في الكتاب والسنة والاستنباط من الكتاب والسنة، فالمسألة تحتاج إلى تفصيل.

" وَحَكَى مُقَاتِلٌ أَنَّ هذه الآية نزلت في الوليد ابن الْمُغِيرَةِ وَأَبِي سُفْيَانَ وَأَبِي جَهْلٍ وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ مِنْ قُرَيْشٍ، أَيْ وَكَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ فَقَدْ قَالَ مَنْ قَبْلَهُمْ أَيْضًا، يُعَزِّي نَبِيَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَنَظِيرُهُ: { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ من قبلك}[فصلت: 43]، والمترف: المنعم، والمراد هنا الملوك والجبابرة".

هذا يقول: عنده إشكال، هذا عنده إشكال يقول: ذكر ابن بدران في المدخل عن الإمام أحمد، ومن زعم أنه لا يرى التقليد، ولا يقلد دينه أحدًا فهو قول فاسق عند الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم-، إنما يريد إبطال الأثر وتعطيل العلم والسنة، والتفرد بالرأي والكلام والبدعة، والخلاف، فقد أشكل عليَّ ضابط التقليد بعد قراءة كلام الإمام أحمد، حيث استقر في نفسي أن الكل مقلد سواء العامي والمجتهد، فالعامي يقلد المجتهد، والمجتهد يقلد أصحاب الروايات والآثار، فيكون معنى التقليد أمرًا نسبيًّا لا يخلو منه أحد إلا من تنزَّل عليه الوحي، وهو رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.

 يعني من رأى الاجتهاد المطلق بمعنى الإطلاق فهذا مستحيل، الاجتهاد المطلق بمعنى الإطلاق، يعني بكل ما تحتمله هذه الكلمة إطلاق من معنى؛ لأن هذا يلزم عليه ألا يقتدي بأحد، يأخذ علمه من الكتاب والسنة، لكن من السنة، الكتاب الآن موجود بين الدفتين، وبالإمكان أن الإنسان يتفقه منه، لكن عن طريق من؟ عن طريق فهم الرسول –عليه الصلاة والسلام- المبين للقرآن، وهذا مازال في حيز الاجتهاد، لكن أيضًا من طريق صحابته الكرام الذين عاصروا التنزيل، فلابد أن يقلد واحدًا منهم في فهم الكتاب، هذا تقليد في حد ذاته، وإن كان في الأصل اجتهادًا لا يُسمى تقليدًا، لكن الإطلاق بمعناه العام الأعم، لا بد أن يوجد شيء من التقليد.

الأمر الثاني: إذا أراد أن يتفقه من السنة فهناك وسائط بينه وبين الرسول -عليه الصلاة والسلام- ينقلون له كلام الرسول –عليه الصلاة والسلام-، هؤلاء الوسائط منهم الثقات، لا بد أن يقلد أهل العلم في توثيقهم؛ لأنه ما عاشرهم ولا عاملهم، ولا يدري عن أحوالهم شيئًا، أو يقلِّد الأئمة في تضعيفهم إن كانوا ضعافًا، التقليد وجد في كل راوٍ من الرواة، هل يستطيع إنسان أن يجتهد بعد عصور الرواية في الحكم على الرواة من غير طريق الأئمة؟ لا يمكن، لا يمكن إلا عن طريق الأئمة، فإذا قبل أقوال الأئمة في توثيق راوٍ أو تضعيف راوٍ فهذا تقليد، لكن إذا جاوزنا هذه المسألة والنظر في الرواة، وأن الكلام لأهل هذا الشأن فيهم، ثم ثبت الخبر عنده على مقتضى قواعد أهل العلم، وقلَّدهم في هذه القواعد الإجمالية والتفصيلية يتجوز هذه المرحلة، وثبت عنده الخبر، فحينئذ يسوغ له أن يجتهد، والنظر في الخبر، والاستنباط من الخبر، لكنه ما وصل مرحلة الاجتهاد هذه، وإن بلغ ما بلغ من العلم إلا بعد أن وصل إليه بشيء من التقليد للأئمة، فهذا معنى كلام ما نقله ابن بدران عن الإمام أحمد.

 لأنه إن أراد أن يجتهد من بداية الطريق، ولا ينظر في قول أحد، فكيف يثبت الخبر؟ ما يستطيع أن يثبت الخبر، وإذا لم يستطيع أن يثبت الخبر، ولا يستطيع أن ينفيه فلا بد أن يتوقف فيه، إلى متى؟ إلى ما لا نهاية؛ لأنه لن يقلد في التوثيق، ولن يقلد في التضعيف، إذن إذا توقَّف عدل إلى طريق آخر، ما الطريق الآخر؟ يقع فيما قال فيه الإمام أحمد يقول: يريد إبطال الأثر، وتعطيل العلم والسنة، والتفرد بالرأي والكلام والبدعة والخلاف؛ لأنه إذا لم يتفقه عن طريق الكتاب والسنة فما البديل؟ البديل ما ذكره الإمام أحمد- رحمه الله-. ولن يصل إلى التفقه من السنة إلا بواسطة أقوال أهل العلم الذين لا بد أن يسلم لهم في النهاية، قد يجتهد اجتهادًا جزئيًّا في النظر في الرواة بعد أن يعتمد على كلام أهل العلم، يعني قد يوازن بين كلام الموثقين وكلام المضعفين بالقواعد المعروفة عند أهل العلم، فيستعمل هذه القواعد، ويقلِّدهم فيه، حتى لو اجتهد في التوثيق والتضعيف بالنظر إلى أقوال الأئمة، ينظر في أقول الأئمة من خلال قواعد قررها أهل العلم، فهو إما قلد في التوثيق لواحد منهم، قلد في تطبيق القواعد على أقوال العلماء في هؤلاء الرواة؛ لأن الذي يزعم الاجتهاد المطلق بمعنى الإطلاق هذا لا شك أنه ادعى ما لم يحط به علمًا.

طالب:......

المهدي يستطيع أن يعرف الصحيح من الضعيف من غير طريق أهل العلم؟

طالب:......

المعروف أن عيسى، وهو أفضل من المهدي يحكم بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-، شريعة محمد كتاب وسنة، شريعة محمد كتاب وسنة، وعيسى –عليه السلام- معروف أنه نبي ومعصوم، لكن هل المهدي تثبت له العصمة؟ بمعنى أنه يصل إلى صحيح السنة من غير طريق أهل العلم الذين عاصروا الرواة؟ لا شك أنه محل نظر طويل.

" قوله تعالى: {قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ}".

قال، الألف على القاف.

 لكن قراءته.

طالب: قل..

نعم، قل يا محمد، قراءة المفسر أنت تقرأ كلام المفسر نفسه، ما تقرأ الآية المدخلة.

طالب: كلام المفسر.

اقرأ كلام المفسر.

"قوله تعالى: {قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى} أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لقومك".

نعم، هذه قراءة نافع التي عليه المؤلف، وذكرنا مرارًا يعني في دروس قريبة، أنه من شؤم التصرف في الدرس الماضي التصرف في كتب أهل العلم ما لم يدخله المؤلف مثل إدخال آيات القرآن في هذا التفسير، المؤلف جرد هذا التفسير من الآيات، يذكر قطعة من الآية أو جملة أو كلمة يريد أن يشرحها، ويترك الباقي، ويا ليتهم مثل ما قلنا سابقًا أنهم لما أدخلوا قراءة توافق ما عليه قراءة المؤلف.

"أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لقومك: أو ليس قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِأَهْدَى، يُرِيدُ بِأَرْشَدَ،" مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ" يَعْنِي بِكُلِّ مَا أُرْسِلَ بِهِ الرُّسُلُ، فَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَفْظُهُ لَفْظُ الْجَمْعِ، لِأَنَّ تَكْذِيبَهُ تكذيب لمن سواه، وقرى" قُلْ وَقَالَ وَجِئْتُكُمْ وَجِئْنَاكُمْ" يَعْنِي أَتَتَّبِعُونَ آبَاءَكُمْ وَلَوْ جِئْتُكُمْ بِدِينٍ أَهْدَى مِنْ دِينِ آبَائِكُمْ؟ قَالُوا إِنَّا ثَابِتُونَ عَلَى دِينِ آبَائِنَا لَا نَنْفَكُّ عَنْهُ وَإِنْ جِئْتِنَا بِمَا هُوَ أَهْدَى، وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" الْقَوْلُ فِي التَّقْلِيدِ وذمة فلا معنى لإعادته.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ"} بِالْقَحْطِ وَالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ" فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" آخِرُ أَمْرِ من كذب الرسل، وقراءة العامة: {قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ} وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ: " قَالَ أَوَلَوْ" عَلَى الْخَبَرِ عَنِ النَّذِيرِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: " قُلْ أَوَلَوْ جِئْنَاكُمْ".

يعني بالنسبة للآية السابقة.

" بِنُونٍ وَأَلِفٍ، عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن جميع الرسل."

كأن هذا المقطع ملحق بحاشية الكتاب من قبل المؤلف، ثم بعد ذلك وجد بخطه وقع في غير موضعه؛ لأنه ما وضع في مقابل المكان الذي ينبغي أن يوضع فيه، ولذلك حينما يكتب اللاحق ينبغي أن ينظر إلى موضعه بدقة، فيخرج من المكان الذي ينبغي أن يوضع فيه هذا، مكان اللحق نفسه.

 كثيرًا ما يوجد حواشٍ على كتب، وهي من الأصل سقط، ثم بعد ذلك الناسخ يحتار هل هو من هذا السطر أو من الذي دونه؛ لأن الكاتب الأصلي ما حدَّد موضع اللحق بدقة، فيجتهد الناس فيضعونه في غير موضعه.

"قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}

قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذْ قالَ" أَيْ ذَكِّرْهُمْ إِذْ قَالَ " إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ" الْبَرَاءُ يُسْتَعْمَلُ لِلْوَاحِدِ فَمَا فَوْقَهُ فَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ النَّعْتِ، لَا يُقَالُ: الْبَرَاءَانِ وَالْبَرَاءُونَ".

مثله العدل، العدل المصدر، وضع موضع النعت، فيقال: زيد عدل، والزيدان عدل، وهند عدل، والرجال عدل، وهكذا، لا يذكر ولا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع، إنما يلزم صيغة واحدة، بخلاف البريء فعيل، فإنه يثنى ويجمع ويذكر ويؤنث، ويقال بريء وبريئان وبرءاء إلى آخره.

" لِأَنَّ الْمَعْنَى ذُو الْبَرَاءِ وَذَوُو الْبَرَاءِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَتَبَرَّأْتُ مِنْ كَذَا، وَأَنَا مِنْهُ بَرَاءٌ، وَخَلَاءٍ مِنْهُ، لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، مِثْلُ: سَمِعَ سَمَاعًا، فَإِذَا قلت: أنا برئ مِنْهُ وَخَلِيٌّ ثُنِّيَتْ وَجُمِعَتْ وَأُنِّثَتْ."

يعني أن الذي يسمع كلام الأول براء يستعمل للواحد وما فوقه، ولا يثنى ولا يجمع، الآن يقال ماذا عن قوله: برءاء؟ برءاء جمع بريء، وليس بجمع لبراء.

" وَقُلْتُ فِي الْجَمْعِ: نَحْنُ مِنْهُ بُرَآءُ مِثْلُ فَقِيهٍ وَفُقَهَاءَ، وَبِرَاءٍ أَيْضًا مِثْلِ كَرِيمٍ وَكِرَامٍ، وَأَبْرَاءٌ مِثْلُ شَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ، وَأَبْرِيَاءٌ مِثْلُ نَصِيبٍ وَأَنْصِبَاءَ، وَبَرِيئُونَ، وامرأة بريئة وهما بريئتان وهن بريئات وبرايا، ورجل برئ وَبُرَاءٌ مِثْلُ عَجِيبٍ وَعُجَابٍ، وَالْبَرَاءُ (بِالْفَتْحِ) أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ سُمِّيَت بِذَلِكَ لِتَبَرُّؤِ الْقَمَرِ من الشمس، { إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} استثناء مُتَّصِلٌ؛ لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا اللَّهَ مَعَ آلِهَتِهِمْ."

كأن القمر في ولادته ليلة الأول من الشهر كأنه انفصل، كما ينفصل الولد عن أمه، ويكون بائنًا منها، والبينونة براءة.

"قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَقُولُونَ اللَّهُ رَبُّنَا، مَعَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا، أَيْ لَكِنَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، قَالَ ذَلِكَ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَنْبِيهًا لِقَوْمِهِ أَنَّ الْهِدَايَةَ مِنْ رَبِّهِ".

الذي فطرني مستثنى مما تعبدون، وهم يعبدون الله -جل وعلا- لاسيما حال الشدة، ويعبدون غيره في حال الرخاء، فإذا كان الرب –جل وعلا- من ضمن ما يعبدون لاسيما في حال الشدة صار قوله: إلا الذي فطرني استثناءً متصلًا، وإذا قلنا: إن المراد ما يعبدون ومما تعبدوه من آلهتكم وأصنامكم غير الله -جل وعلا- صار الاستثناء منقطعًا؛ لأن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه.

"قوله تعالى: { وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً" الضَّمِيرُ فِي" جَعَلَها" عَائِدٌ عَلَى قَوْلِهِ" إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي"، وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي" جَعَلَها" لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَيْ وَجَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَالْمَقَالَةَ بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ، وَهُمْ وَلَدُهُ وَوَلَدُ وَلَدِهِ، أَيْ إِنَّهُمْ تَوَارَثُوا الْبَرَاءَةَ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ".

في قوله: {إننا براء مما تعبدون إلا الذي فطرني} هو مطابق لكلمة التوحيد لا إله إلا الله، براء مما تعبدون كأنه قال: "لا إله"، "إلا الذي فطرني" "إلا الله" -جل وعلا-، فالكلمة التي جعلها باقية في عقبه هي كلمة التوحيد لا إله إلا الله التي يدل عليها قوله: إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني، فهو بمعنى كلمة التوحيد.

" وَأَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي ذَلِكَ، وَالْعَقِبُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ آلُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ" فِي عَقِبِهِ" أي في خلفه، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، الْمَعْنَى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ، أَيْ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الْكَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ قَتَادَةُ: لَا يَزَالُ مِنْ عَقِبِهِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْكَلِمَةُ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، عِكْرِمَةُ: الْإِسْلَامُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]، الْقُرَظِيُّ: وَجَعَلَ وَصِيَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي وَصَّى بِهَا بَنِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: { يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى، لَكُمُ الدِّينَ} الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَقَرَةِ - كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي ذُرِّيَّتِهِ وَبَنِيهِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْكَلِمَةُ قَوْلُهُ: " أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ" [البقرة: 131]، وَقَرَأَ: " هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ"، وَقِيلَ: الْكَلِمَةُ النُّبُوَّةُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَمْ تَزَلِ النُّبُوَّةُ بَاقِيَةً فِي ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَالتَّوْحِيدُ هُمْ أَصْلُهُ وَغَيْرُهُمْ فِيهِ تَبَعٌ لَهُمْ.

 الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا كَانَتْ لِإِبْرَاهِيمَ فِي الْأَعْقَابِ مَوْصُولَةٌ بِالْأَحْقَابِ بِدَعْوَتَيْهِ الْمُجَابَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة: 124] فَقَدْ قَالَ: نَعَمْ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ مِنْهُمْ فَلَا عَهْدَ، ثَانِيهِمَا قَوْلُهُ: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ} [إبراهيم: 35]، وَقِيلَ: بَلِ الْأَوْلَى قَوْلُهُ: {وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}".

بل الأَولى، الأوُلى أم الأَولى؟

طالب: الأَولى.

بدعوتيه، يعني إحداهما، وقيل: الأولى، يعني بدل من قوله: إن جاعلك للناس إمامًا ومن ذريتي..

طالب: نعم.

لأنها دعوة صريحة، واجعل لي لسان صدق في الآخرين، بينما الأولى ليست صريحة في كونها دعاءً.

"وَقِيلَ: بَلِ الْأوْلَى قَوْلُهُ: { وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}[الشعراء: 84]، فَكُلُّ أُمَّةٍ تُعَظِّمُهُ، بَنُوهُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي سَامٍ أَوْ نُوحٍ.

 الثَّالِثَةُ: قَالَ ابن العربي: جرى ذكر العقب ها هنا مَوْصُولًا فِي الْمَعْنَى، وَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ، وَتُرَتَّبُ عَلَيْهِ عُقُودُ الْعُمْرَى وَالتَّحْبِيسِ."

العمرى والعقبى، العمرى: تمليك العين لشخص معين مدة عمره، والعقبى له ولعقبه ما تناسلوا، وسيطيل المفسِّر على هذه الألفاظ، طال في الكلام عليها في تحقيق وتحرير قد لا يوجد في غيره.

" قَالَ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيهَا لَا تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ»، وَهِيَ تَرِدُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ لَفْظًا: اللَّفْظُ الْأَوَّلُ: الْوَلَدُ، وَهُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عِبَارَةٌ عَمَّنْ وُجِدَ مِنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ فِي الْإِنَاثِ وَالذُّكُورِ، وَعَنْ وَلَدِ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْمِيرَاثُ عَلَى الْوَلَدِ الْمُعَيَّنِ وَأَوْلَادِ الذُّكُورِ مِنَ الْمُعَيَّنِ دُونَ وَلَدِ الْإِنَاثِ لِأَنَّهُ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْحَبْسِ بِهَذَا اللَّفْظِ."

يعني إذا قالوا: وقفت على أولادي، يدخل في أولاده من صلبه الذكور والإناث، ويدخل فيه أولاد البنين دون أولاد البنات؛ لأن أولاد البنات ليسوا من أولاده، إنما ينسبون إلى غيره على خلاف بين أهل العلم في هذا.

" قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَغَيْرِهَا.

 قُلْتُ: هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَمِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الْبَنَاتِ لَا مِيرَاثَ لَهُمْ مَعَ قَوْلِهِ تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}[النساء: 11]، وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ وَلَدَ الْبَنَاتِ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْأَعْقَابِ يَدْخُلُونَ فِي الْأَحْبَاسِ، يَقُولُ الْمُحْبِسُ: حَبَسْتُ عَلَى وَلَدِي أَوْ عَلَى عَقِبِي".

إذًا بغض النظر عن الميراث، فالميراث محل إجماع أن أولاد البنات لا يرثون، نظر إلى لفظ الولادة، حتى قال بعضهم: إن دخول ولد البنت في هذا اللفظ أولى من دخول ولد الولد؛ لأنه الولادة الحقيقة إنما هي من الأم، وليست من الأب، يعني ولد البنت من الذي ولده؟ ولده بنت الصلب، لكن ولد الولد من الذي ولده؟ زوجة الابن أو زوجة الولد، يعني إذا نظرنا إلى اللفظ من حيث الإطلاق، إطلاق الحقيقة عليه، يعني من قال: أولاد البنات لا يدخلون، نظر إلى الميراث مع قوله –جل و علا-: {يوصيكم الله في أولادكم } وأولاد البنات لا يدخلون، وهذه حجة قوية لمن قال به، هذه قسمة الله –جل وعلا-، لا يعترض عليه أحد، لكن من نظر إلى دخول أولاد البنات قال: إن أولاد البنات أولاد؛ لأن الولادة متحققة فيهم.

" وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عُمَرَ بْنِ عبد البر وغيره، واحتجوا بقول الله -عز وجل-: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ} [النساء: 23]، قَالُوا: فَلَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ الْبَنَاتِ فَحُرِّمَتْ بِذَلِكَ بِنْتُ الْبِنْتِ بِإِجْمَاعٍ عُلِمَ أَنَّهَا بِنْتٌ وَوَجَبَ أَنْ تَدْخُلَ فِي حَبْسِ أَبِيهَا إِذَا حَبَسَ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ عَقِبِهِ، وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْأَنْعَامِ" مُسْتَوْفًى، اللَّفْظُ الثَّانِي- الْبَنُونَ، فَإِنْ قَالَ: هَذَا حَبْسٌ عَلَى ابْنِي، فَلَا يَتَعَدَّى الْوَلَدَ الْمُعَيَّنَ وَلَا يَتَعَدَّدُ، وَلَوْ قَالَ وَلَدِي، لَتَعَدَّى وَتَعَدَّدَ فِي كُلِّ مَنْ وُلِدَ، وَإِنْ قَالَ عَلَى بَنِيَّ، دَخَلَ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، قَالَ مَالِكٌ: مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى بَنِيهِ وَبَنِي بَنِيهِ فَإِنَّ بَنَاتَهُ وَبَنَاتَ بَنَاتِهِ يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ."

وأن كان الابن خاصًّا بالذكور، بخلاف الولد الذي يشمل الذكر والأنثى، لكن الابن في مقابل البنت، وهو خاص بالذكور، وهنا قال: من تصدق على بنيه أو قال: على بنيَّ دخل فيه الذكور والإناث، فكأن بني بإزاء أولادي، يشمل الذكر والأنثى.

" رَوَى عِيسَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ حَبَسَ عَلَى بَنَاتِهِ فَإِنَّ بَنَاتَ بِنْتِهِ يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ مَعَ بَنَاتِ صُلْبِهِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ أَصْحَابِهِ أَنَّ وَلَدَ الْبَنَاتِ لَا يَدْخُلُونَ فِي الْبَنِينَ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَسَنِ ابْنِ ابْنَتِهِ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

 قُلْنَا: هَذَا مَجَازٌ، وَإِنَّمَا أَشَارَ بِهِ إِلَى تَشْرِيفِهِ وَتَقْدِيمِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَفْيُهُ عَنْهُ فَيَقُولُ الرَّجُلُ فِي وَلَدِ بِنْتِهِ لَيْسَ بِابْنِي، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً مَا جاز نفيه عنه لِأَنَّ الْحَقَائِقَ لَا تُنْفَى عَنْ مُنْتَسِبَاتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنْتَسَبُ إِلَى أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ هَاشِمِيٌّ وَلَيْسَ بِهِلَالِيٍّ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ هِلَالِيَّةً."

وجاء في الحديث الصحيح: «ابن أخت القوم منهم»، ولا شك أن النصوص وإن ثبتت وصحت و«إن ابني هذا سيد»، وابن أخت القوم منهم، يعني يترتب عليها بعض الأحكام دون بعض، تترتب عليه بعض الأحكام دون بعض، يعني ما لم يوجد من هو أولى منه وأقرب منه، كما أن الجد أب، الجد أب، {اتبعت ملة آبائي}، ومع ذلك إذا وجد الأب حجب الجد، وإن كان أبًا بالنص.

" قُلْتُ: هَذَا الِاسْتِدْلَالُ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ هُوَ وَلَدٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي اللُّغَةِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْوِلَادَةِ فِيهِ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ بِنْتِ الْبِنْتِ مِنْ قَوْلِ الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ} [النساء: 23]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ} إِلَى قَوْلِهِ- {مِن َالصَّالِحِينَ"} [الانعام: 85 - 84]، فَجَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَهُوَ ابْنُ بِنْتِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاكَ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:

بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا، وَبَنَاتِنَا **** بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ
قِيلَ لَهُمْ: هَذَا لَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّمَا هُوَ وَلَدُ بَنِيهِ الذُّكْرَانِ هُمُ الَّذِينَ لَهُمْ حُكْمُ بَنِيهِ فِي الْمُوَارَثَةِ وَالنَّسَبِ، وَإِنَّ وَلَدَ بَنَاتِهِ لَيْسَ لَهُمْ حُكْمُ بَنَاتِهِ فِي ذَلِكَ، إِذْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى غَيْرِهِ فَأَخْبَرَ بِافْتِرَاقِهِمْ بِالْحُكْمِ مَعَ اجْتِمَاعِهِمْ فِي التَّسْمِيَةِ وَلَمْ يَنْفِ عَنْ وَلَدِ الْبَنَاتِ اسْمَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ ابْنٌ، وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ فِي وَلَدِهِ لَيْسَ هُوَ بِابْنِي، إِذْ لَا يُطِيعُنِي، وَلَا يَرَى لِي حَقًّا، وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ نَفْيَ اسْمِ الْوَلَدِ عَنْهُ."

يعني في مقابل: «إن ابني هذا سيد»، في الحسن، هل يجوز للحسن أنا يقول: أنا الحسن بن محمد فينتسب إلى غير أبيه؟ يجوز له ذلك أو ما يجوز؟ يعني يتوسع في الإطلاق وفي البنوة ما لا يتوسع في الأبوة، فلا يجوز أن ينتسب لغير أبيه بحال، وأما أن يقول: هذا ابني، لو قلت لولد جارك الصغير: يا بني، وهذا ابني، نعم فهذا على سبيل التجوز والتوسع ما فيه إشكال، لكن عندما يترتب عليه حكم شرعي فهذا يوقف عنده.

 وحينما يقول أهل العلم: لا مشاحة بالاصطلاح، نعم لا مشاحة بالاصطلاح، يعني تجد في بعض البيئات يقول يا عم، يا عم، يا خال وهكذا؛ لأنه أكبر منه، اسمع من ابن أخيك، ويا عم تقول: يا عم، وما هو بعمك، بمنزلته في النسب. المقصود لكبر سنه، هذا لا يترتب عليه حكم شرعي، فيجوز الإطلاق ولا مشاحة فيه.

 المثال الذي يمكن أن يتصور في بعض البيئات يسمون والد الزوجة عمًّا، وفي بعضها يقول له: يا خال، يمكن أن يشاحح في مثل هذا؟ نقول: لا مشاحة في الاصطلاح، لماذا؟ لأنه لا يترتب عليه حكم شرعي، لكن هل يجوز أن تقول لأخ أبيك: يا خال أو لأخ أمك يا عم؟ لا يجوز بحال، لماذا؟ لأنه لا يترتب عليه حكم شرعي، مواريث وغيرها، وولايات، يختلف هذا عن هذا، فالذي لا يترتب عليه حكم شرعي يجوز التوسع فيه، وما يترتب عليه حكم شرعي لا يجوز التوسع فيه.

طالب: المثل كما يحصل في الأوساط العلمية أن يقول طالب لشيخه: ابنكم أو غير ذلك.

ما فيه إشكال من حيث التقدير، مثل أمهات المؤمنين بالنص، أمهات المؤمنين، لكن هل هن أمهات من كل وجه؟ لا، لسن بأمهات من كل وجه.

"وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ حُكْمَهُ، وَمَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْبَيْتِ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ لَا يُسَمَّى وَلَدًا فَقَدْ أَفْسَدَ مَعْنَاهُ وَأَبْطَلَ فَائِدَتَهُ، وَتَأَوَّلَ عَلَى قَائِلِهِ مَا لَا يَصِحُّ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّى وَلَدُ الِابْنِ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ ابْنًا، وَلَا يُسَمَّى وَلَدُ الِابْنَةِ ابْنًا، مِنْ أَجْلِ أَنَّ مَعْنَى الْوِلَادَةِ الَّتِي اشْتُقَّ مِنْهَا اسْمُ الْوَلَدِ فِيهِ أَبْيَنُ وَأَقْوَى؛ لِأَنَّ وَلَدَ الِابْنَةِ هُوَ وَلَدُهَا بِحَقِيقَةِ الْوِلَادَةِ، وَوَلَدَ الِابْنِ إِنَّمَا هُوَ وَلَدُهُ بِمَالِهِ مِمَّا كَانَ سَبَبًا لِلْوِلَادَةِ".

نعم سبب الولادة الوطء، وهذا حصل من الأب، لكن لم تحصل منه الولادة الحقيقة كما حصلت من الأم، قد ينسب الرجل لأمه، النبي –عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيحين وغيرهما صلى الظهر وهو حامل أمامة بنت زينب، وأبوها أبو العاص بن الربيع، يعني نسبت إلى بنت الرسول –عليه الصلاة والسلام-؛ لشرف الانتساب، ومع ذلك لا يترتب عليه حكم، ما سمعنا أنه نفي لأبيها، لكن ما دام أبوها قبل أن يسلم يمكن أن يتجوز عنه إلى الأم؛ لأنه ينسب إلى أشرف أبويه دينًا.

" وَلَمْ يُخْرِجْ مَالِكٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَوْلَادَ الْبَنَاتِ مِنْ حَبْسٍ عَلَى وَلَدِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ غَيْرُ وَاقِعٍ عَلَيْهِ عِنْدَهُ فِي اللِّسَانِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُمْ مِنْهُ؛ قِيَاسًا عَلَى الْمُوَارَثَةِ، وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي "الْأَنْعَامِ" وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

 اللَّفْظُ الثَّالِثُ: الذُّرِّيَّةُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ؛ لِقَوْلِهِ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ} إِلَى أَنْ قَالَ: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى }[الأنعام: 85 - 84]، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ، وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" اشْتِقَاقُ الذُّرِّيَّةِ، وَفِي" الأنعام" الكلام على {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} [الأنعام: 84] الآية، فلا معنى للإعادة."

يعني هذه الأوقاف وهذه الوصايا التي توقف على من توقف عليه ممن ينطوي تحت هذه الألفاظ إذا صدرت من عالم يعرف هذه التفصيلات لا شك أن لها حكمًا، وإذا صدرت من عامي لا يعرف هذه التفصيلات فالمرد في ذلك إلى العرف، والله أعلم.

 وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

طالب: بعض من الإخوان يقول عن أمهات المؤمنين إنهم إخوان مثلًا....

خال المؤمنين معاوية قالو هذا نعم.

طالب: هل هذا اللفظ صحيح.

هذا نوع من التجوز ما هو بحقيقة.

طالب:....أحسن الله إليك يا شيخ قوله: رواه عدول قبل قليل لما تكلمت أنها لا تثنى ولا تجمع..

عدول جمع عدل، لكن الأصل أن عدل مصدر لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث.

طالب: كقوله رواه عدول من الحديث الذي أخرج حديث ....

ما هو أصل من ذلك، يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله.

طالب......

طالب: يا شيخ...

وعليكم السلام.

طالب:.................