شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (065)

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

توقفنا عند قوله -رحمه الله-:

"وعنه أيضًا -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الدِّين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة»."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

راوي الحديث أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، راوية الإسلام، تقدم التعريف به.

البخاري -رحمه الله تعالى- ترجم على هذا الحديث بقوله: بابٌ الدين يسر، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة».

يقول ابن حجر: مناسبة إيراد المصنف لهذا الحديث عقب الأحاديث التي قبله ظاهرة من حيث إنها تضمنت الترغيب في القيام والصيام والجهاد، فأراد أن يبين أن الأولى للعامل بذلك أن لا يجهد نفسه بحيث يعجز وينقطع، بل يعمل بتلطف وتدريج ليدوم عمله ولا ينقطع.

لَمَّا ذكر الترغيب في القيام، الترغيب في الصيام، الترغيب في الجهاد، لَمَّا ذكر الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- الترغيب في الأعمال الصالحة التي منها هذه الثلاثة قد يَظن السامع أو يأخذه حب أو حرصه على الخير أن يشغل نهاره كله بالصيام، وليله كله بالقيام، وعمره كله بالجهاد، ثم إذا سلك هذا المسلك لا يلبث أن ينقطع، فأورد هذا الحديث: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا».

يقول العيني: وجه المناسبة بين البابين من حيث وجود المعنى، أو من حيث وجود معنى اليسر في صوم رمضان، ما وجه اليسر في صوم رمضان؟ يقول: وذلك أن صوم رمضان يجوز تأخيره عن وقته للمسافر والمريض هذا يُسْر، بخلاف الصلاة، ويجوز تركه بالكلية في حق مَن؟ في حق الشيخ الفاني مع إعطاء الفدية بخلاف الصلاة، وهذا عين اليسر.

يقول: وجه المناسبة بين البابين من حيث وجود معنى اليسر في صوم رمضان وذلك أن صوم رمضان يجوز تأخيره عن وقته للمسافر والمريض، هذا يسر، بخلاف الصلاة، ويجوز تركه بالكلية في حق الشيخ الفاني مع إعطاء الفدية، الذي لا يطيق الصيام يعطي الفدية، بخلاف الصلاة وهذا عين اليسر، فالصلاة لا تسقط بحال مادام مناط التكليف باقيًا وهو العقل.

لكن هناك ضروب وأوجه من اليسر في الصلاة أيضًا، فالذي لا يستطيع الصلاة من قيام يصلي من قعود، والذي لا يستطيع أن يصلي من قعود يصلي على جنب، هذا يسر، الذي لا يستطيع أن يقرأ، يقرأ ما تيسر أيضًا هذا يسر، الذي لا يستطيع الإطالة يقرأ ما تيسر، هذا يسر، مع أن الأصل في التوجيه النبوي في الصلاة اليسر وعدم الإطالة فيها، ولذا النبي -عليه الصلاة والسلام- لما شُكِيَ له معاذ قال: أمنفر؟! المقصود أنه عاتبه على الإطالة، ومنعه من التنفير؛ لأن الإطالة سبب للتنفير، وتخفيفها أيضًا في السفر نوع من اليسر، قصرها في السفر، وجمعها أيضًا للمشقة اللاحقة بالمسافر.

يقول أيضًا: وأيضًا فإنه شهر واحد، يعني الصيام في كل اثني عشر شهرًا، والصلاة في كل يوم وليلة خمس مرات، وهذا أيضًا عين اليسر.

أيضًا مع كون الصلاة خمس مرات في اليوم، الصلاة لا تتجاوز خمس إلى عشر دقائق هذا أيضًا يسر، يعني ما استوعبت الصلاة ساعة في كل وقت، لتكون خمس ساعات، أو ساعتين أو أكثر، لا، هي أيضًا يسر مع كونها في اليوم والليلة خمس مرات.

وقال الكرماني: فإن قلت: كيف يدل الحديث على الشق الثاني من الترجمة؟ الشق الثاني، أما دلالته على الشق الأول: بابٌ الدين يسر، قوله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الدين يسر» مطابقة، لكن ما وجه الدلالة ووجه المطابقة والمناسبة بين الحديث وبين الشق الثاني من الترجمة وقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة»؟

يقول الكرماني: فإن قلت: كيف يدل الحديث على الشق الثاني من الترجمة وهو قول النبي -عليه الصلاة والسلام-... إلى آخره؟

قلت: المحبة والعداوة بالنسبة إلى الله تعالى «أحب الدين»، قلت: المحبة والعداوة بالنسبة إلى الله تعالى إما مجاز عن الاستحسان والاستقباح، ونلاحظ كلمة مجاز بإزاء محبة الله -عز وجل-، إما مجاز عن الاستحسان والاستقباح، يعني أحسن الأديان، بدلاً من أن يثبت المحبة لله -عز وجل- أحب الدين، قال: هو أحسن الأديان، أحسن الأديان هو الملة الحنيفية، والحديث دل على الحسن حيث أمر بهما، بلفظ: «سددوا وقاربوا» والمأمور به سواءً كان واجبًا أو مندوبًا حَسَن، الدين إما أن يكون مأموًرا به أو منهيًا عنه، لكن الأصل في ما يسمى بالدين من أعمال الإيمان والإسلام والإحسان التي يشملها جميعها الدين هو الأعمال المأمور بها، وهي إما مأمور بها على سبيل اللزوم وهو الواجب، أو لا على سبيل اللزوم وهو المندوب.

يقول: سواءً كان واجبًا أو مندوبًا حسن، وأما أنه أحسن؛ فلأن غيره يغلب الشخص ويقهره، هذا على القول بأن المحبة مجازية.

وإما أن تكون المحبة حقيقية عن إرادة إيصال الثواب عليه، وهنا أيضًا ارتكب محظورًا، في الشق الأول أو في التردد الأول، قال: المحبة إما مجاز، وفي التردد الثاني قال: وإما أن تكون المحبة حقيقية عن إرادة إيصال الثواب عليه، وهنا أوَّلَ المحبة بالإرادة، وتلك في المأمور به واجبًا أو مندوبًا، إذ لا ثواب في غيره، هذا ما أمكن من بيان المناسبة عندنا، والله أعلم.

وهذا لا شك أن فيه تكلُّف، مع أنه حَيْد عن جادَّة السلف.

لخَّص العيني كلام الكرماني فقال: وأما المناسبة بينه وبين الحديث المعلَّق، الحديث المعلَّق قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة» المعلق ما حُذف من مبتدأ إسناده راوٍ أو أكثر ولو إلى آخر الإسناد.

فقال: وأما المناسبة بينه وبين الحديث المعلق فهي أن المذكور فيه المحبة فهي إما مجاز عن الاستحسان يعني أحسن الأديان هو الملة الحنيفية، والحديث المسند دل على الحُسْن، الحديث المسند الذي هو حديث الباب، حديث أبي هريرة، دل على الحُسْن؛ لأن فيه أوامر، والمأمور به سواء كان واجبًا أو مندوبًا حَسَن، وإما حقيقة عن إرادة إيصال الثواب إليه، وذلك في المأمور به واجبًا أو مندوبًا إذ لا ثواب في غيره.

هذا تلخيص من كلام الكرماني.

قلت: في قوله: «أحب الدين إلى الله» إثبات المحبة لله -عز وجل-، صفة حقيقية لا مجازية، على ما يليق بجلال الله وعظمته، من غير مشابهة لمحبة المخلوقين، ولا تأويل، ولا مفَرّ من إثبات ما أثبته الله -سبحانه وتعالى- لنفسه، نثبت لله -عز وجل- ما أثبته لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

في الكتاب مواضع كثيرة من إثبات المحبة، يقول الله -جل وعلا-: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سورة البقرة 195] ويقول أيضًا: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة الحجرات 9] ويقول: {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة 7] {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [سورة البقرة 222] {فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [سورة المائدة 54] {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [سورة الصف 4] {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [سورة آل عمران 31].

والقول بأن نصوص الصفات مجاز، أو التعرض لها بالتأويل لصرفها عن حقائقها وظواهرها، كما فعل الكرماني وتبعه العيني حَيْد عن جادة السلف الصالح الذين يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

الحديث المعلق في الترجمة قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة» لم يسنده المؤلف في هذا الكتاب؛ لأنه ليس على شرطه، لكن وصله في كتاب الأدب المفرد، وكذا وصله الإمام أحمد وغيره من طريق محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال ابن حجر: وإسناده حسن.

المقدم: وهذا منهجه -أحسن الله إليكم- منهجه -رحمه الله- في مثل هذه الأحاديث أن يجعلها أحيانًا في ترجمة الأبواب إذا لم تكن على شرطه؟

نعم، إذا لم تكن الأحاديث على شرطه واحتاج إليها لبيان الترجمة، أو لترجيح الاحتمال الوارد في الترجمة إذا أتى بها على طريق الاستفهام هل كذا أو كذا؟ يرجحها بما يعلِّقه مما هو موجود عند غيره، ولم يثبت على شرطه -رحمه الله-، إذ لو ثبت على شرطه لجزم في الترجمة، يجزم في الترجمة، ما يتردد فيها، لو ثبت الخبر الذي دلالته صريحة على المقصود لا يتردد.

المقدم: وصاحب التجريد حذف الحديث لأنه معلق من الترجمة.

هو ما يعتني.

المقدم: لأنه ما يعتني به.

مع الترجمة، هو حذف التراجم أيضًا.

سائل: أحسن الله إليكم يا شيخ، هل كل الأحاديث المعلقة التي يوردها المصنف يشترط صحتها؟ أو التي يورد نصها ولو كانت صحيحة عند غيره؟

عرفنا أن المعلق ما حذف من مبادئ إسناده راوٍ أو أكثر، كما قال الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى- في ألفيته:

وإن يكن أول الإسناد حذف
ولو إلى آخره أما الذي
عنعنة كخبر المعازف           
.

 

مع صيغة الجزم فتعليقًا عُرف
لشيخه عزا بـ(قال) فكذي
لا تصغ لابن حزم المخالفِ  
.

هنا الإسناد كله محذوف، فهو معلَّق.

هذه المعلقات في الصحيح، وعدتها ألف وثلاثمائة وواحد وأربعين حديث على قسمين:

القسم الأول: منها ما هو موصول في الصحيح نفسه وهذا على شرطه، ما هو موصول في الصحيح على شرطه، وهذا كثير، هذا أكثر الأحاديث المعلقة موصولة في الصحيح، الأحاديث التي لم يصلها في موضع آخر مائة وستين حديث فقط، من ألف وثلاثمائة وواحد وأربعين، أو مائة وتسعة وخمسين، هذه الأحاديث التي علقها مما لم يصلها في موضع آخر لا تخلو إما أن يصدِّرها بصيغة الجزم، أو بصيغة التمريض، صيغة الجزم قال فلان، حكى فلان، ذكر فلان، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقول الرسول هنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، أما صيغة التمريض فهي يُقال، ويُذكَر، ويُروَى، ما جاء بصيغة الجزم قرر أهل العلم أنه صحيح إلى من أُبرِز، يعني إذا حذف الإسناد كله صحيح ثابت عند البخاري، إذا ذكر بعض الإسناد ينظر فيمن ذكره، قد يكون على شرطه، وقد يكون على شرط غيره، لكن إذا جزم فالصحة هي الأصل الغالب إذا جزم، أما إذا لم يجزم فقال: ذكر فلان، يروى عن فلان، من هذا القسم الصحيح وهو الكثير على شرطه، أو على شرط غيره، بل في صحيح مسلم من ذلك شيء، ومنه الحسن، وهو أيضًا موجود بكثرة، ومنه الضعيف الذي ضعفه منجبر؛ لأن إدخاله في كتاب اشتُرِطت فيه الصحة يجعله يُركن إليه، ويستأنس به.

الضعيف الذي لا جابر له من هذا النوع، وهو ما علقه بصيغة التمريض مثل هذا قليل، بل نادر في الكتاب، وحيث يورده البخاري ينص على ضعفه، كما في قوله: يروى عن أبي هريرة: لا يتطوع الإمام في مكانه؛ ولم يصح، ينبِّه على ضعفه.

نأتي إلى شرح مفردات الحديث:

«إن الدين» إن الدين الشامل للإسلام والإيمان والإحسان، كما جاء في حديث سؤال جبريل -عليه السلام- عن الإسلام والإيمان والإحسان، ثم قال: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».

«يُسْر» أي ذو يسر، يعني هل الدين هو عين اليسر أو هو ذو يسر مشتمل على اليسر؟ قالوا: أي ذي يسر.

قال العيني: وذلك لأن الالتئام بين الموضوع والمحمول شرط، وفي مثل هذا لا يكون إلا بالتأويل، أو هو اليسر نفسه.

يعني لا بد من تأويل ذكر مضاف، ذو يسر، صاحب يسر، الدين موضوع، واليسر محمول، بمعنى أنه جعل الدين كالظرف لليسر، واليسر مظروف، يقول: أو هو اليسر نفسه، كقول بعضهم في النبي -عليه الصلاة والسلام-: إنه عين الرحمة، وهو نبي الرحمة -عليه الصلاة والسلام-، هو عين الرحمة، مستدلاًّ بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء 107] كأنه لكثرة الرحمة المودعة فيه صار نفسها، صار نفس الرحمة، والدين أيضًا لكثرة ما يشتمل عليه من اليسر صار هو اليسر نفسه، أو صار هو اليسرَ هو ما إعرابها؟ ضمير فصل لا محل لها من الإعراب، واليسر خبر صار، {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ} [سورة المائدة 117].

والتأكيد بـ(إن) «إن الدين» فيه رد على منكري يسر هذا الدين، فإما أن يكون هذا المخاطب منكِرًا، أو على تقدير تنزيله منزلة المنكِر، أو على تقدير منكِرين غير مخاطبَين، يعني قد يأتي من ينكِر في آخر الزمان، وقد وجد من يسمي الدين أغلال، في ذلك كتاب: هذه هي الأغلال -نسأل الله العافية-، يعني أنه غَلَّ أتباعه عن اللحق بركاب الحضارة، لكن -نسأل الله العافية- هذا ضلال، هذا زيغ، هذا إلحاد، زندقة هذه -نسأل الله العافية-، يرد على مثل هؤلاء النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله: «إن الدين يسر» لأن التأكيد في كلام يُلقَى لأول مرة تتقبله النفوس من غير تردد، لا بد من أن يكون هناك فائدة لهذا التأكيد، أو لكون القصة مما يهتم بها.

«ولن يشادَّ الدين» وفي رواية: «هذا الدين» ويشاد بالشين المعجمة، وإدغام سابق المثْلَين، يشادّ الدال أصلها يشادِد، وإدغام سابق المثلين في لاحقه من المشادَّة، وهي المبالغة أي لا يتعمق أحد في الدين، ويترك الرفق.

في شرح النووي على القطعة التي شرحها من أوائل البخاري: الدين يسر أي ذي يسر، كما قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحـج 78] قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [سورة الأعراف 157] قال أهل اللغة: اليسْر واليسُر بإسكان السين وضمها، وهو نقيض العسر، ومعناه التخفيف.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ولن يشاد الدين إلا غلبه» بدون أحد، يقول: هكذا وقع لجمهور الرواة في جميع النسخ «ولن يشاد الدين إلا غلبه» من غير لفظة: أحد.

المقدم: بنصب الدين هكذا؟

«ولن يشادَّ الدينَ إلا غلبه».

المقدم: بنصب الدين.

استثناء مفرغ مقدَّر.

المقدم: لكن على اعتبار أن يُشاد فعل مبني للمجهول؟

في مثل هذه الصيغة لا تجزم بأنه مبني للمجهول ولا للمعلوم، {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [سورة البقرة 233] هل المقصود به أن الضرر يقع من الأم أو عليها؟

المقدم: ما يمكن الجزم به؟

ما يمكن الجزم إلا من خلال السياق {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} [سورة البقرة 282] يحتمل إذا فككنا المدغَم أن يكون يضارِر، كاتب يصير فاعل، ويحتمل أن يكون يضارَر نعم الكاتب والشهيد يمكن يضارَر نفسه ويضر غيره، وقد يُضَر، ولذا جاء النهي ليشمل الأمرين «لا ضرر ولا ضرار» لا تضره ولا يضرك، ولا تضار والدة بولدها، لا تضار الوالدة لا يقع منها الضرر على الولد أو على أبيه، ولا يقع عليها من الولد أو من أبيه.

المقدم: لكن بإيراد لفظة أحد يزول هذا الإشكال أساسًا يعني؟

يزول الإشكال ما فيه شك.

قال صاحب المطالع: ورواه ابن السَّكَن: «ولن يشاد الدين أحد» بإثبات أحد، وهذا ظاهر المعنى، والدين على هذا منصوب، قال صاحب المطالع، مَن صاحب المطالع؟ مَرَّ بنا؟

الأخ الحاضر:.......

ابن قُرْقُوْل، على وزن عصفور، ابن قرقول، فالمطالع اسمه: مطالع الأنوار على صحاح الأخبار، مختصر من المشارق للقاضي عياض، وقد غطى على أصله، الشراح قال صاحب المطالع، حكى صاحب المطالع مع أن المشارق للقاضي عياض كتاب في غاية النفاسة، في غاية الجودة.

المقدم: مشارق الأنوار؟

نعم، على صحاح الأخبار، على الصحيحين والموطأ.

مشارق أنوار تبدت بسبتةٍ         .

 

ومن عجب كون المشارق ذو غرب

مختصَر للمشارق، هو مختصَر للمشارق، أضاف إليه إضافات فاعتنى به أهل العلم.

سائل: قبل قليل قلتم يا شيخ: الحضارات، وكثُر التعبير الآن في الإعلام المرئي والمقروء يقال: الحوار بين الحضارات، وتسمية الدين الإسلامي حضارة، هل تصح هذه التسمية -عفا الله عنكم-؟ لكثرة تداول الناس لها سواءً العوام وطلبة العلم، الحوار بين الحضارات، وكثر دعاة الباطل لهذه الكلمة، نأمل منكم -عفا الله عنكم- التنبيه على ذلك.

هذا الاصطلاح، اصطلاح حادث، فإن كان المقصود به أن هذا الدين بهذا المسمى، أن هذا الدين بهذا المسمى حضارة، حضارة العرب، وحضارة المسلمين، يريدون أن يُنْسُوا المسلمين دينهم، بأن لا يقال: الإسلام، بل حضارة العرب، حضارة المسلمين، أو شيء من هذا، فهذا لا شك أنه اصطلاح يشاحَح فيه، ويُرَد على قائله، وإذا كان المراد بحضارة المسلمين تقدمهم وازدهار دولهم على مر العصور بسبب دينهم هذا مقبول، ولا شك أن الدين دين العمل، الدين الإسلامي دين العمل، وليس بدين الكسل كغيره من الأديان، سواءً كانت الوضعية أو المحرفة، لكن الدين دين العمل، فإذا كان المقصود بالحضارة التقدم، ما يسمونه التقدم العمراني والاقتصادي والسياسي وغير ذلك لا شك أن الإسلام ضرب في كل سهم، أو في كل سهم من هذه الأسهم بأروع الأمثلة، مما لا يدركه أحد لا يدركه دين من الأديان، ولا نظام من الأنظمة.

على كل حال مثل هذه المصطلحات الأولى اجتنابها؛ لأنها جاءت من غير المسلمين، وفي ديننا ما يغني عن ارتكاب مثل هذه الأمور، عندنا من المصطلحات التي اصطلح عليها المسلمون في أزهى العصور ما يغني عن مثل هذه الاصطلاحات.

قال صاحب المطالع: ورواه ابن السَّكَن: «ولن يشاد الدين أحد» بإثبات أحد، وهذا ظاهر المعنى، والدين على هذا منصوب، وأما على رواية الجمهور فروي بنصب الدين ورفعه، فنصبه هو الأكثر في ضبط أهل بلادنا، والرفع حكاه صاحب المطالع عن رواية الأكثرين، وعلى هذا هو مبني لِمَا لَمْ يسمَّ فاعله، وعلى رواية النصب أُضمر الفاعل في يشاد للعلم به.

على كل حال مادام التضعيف موجود فالاحتمال قائم، التضعيف تشديد الدال مادام موجود فالاحتمال قائم.

المقدم: مثل الشواهد التي تفضلتم بذكرها: لا يضار...؟

مثلها، مثل ما ذكرنا، نعم.

قال أهل اللغة: المشادَّة المغالبة، يقال: شادَّه يشاده مشادة إذا غالبه وقاواه، ومعناه لا يتعمق أحد في الدين ويترك الرفق إلا غلبه الدين، وعجز ذلك المتعمق وانقطع عن عمله كله أو بعضه.

قال النووي: ومعنى هذا الحديث كالأبواب قبله أن الدين اسم يقع على الأعمال، الدين اسم يقع على الأعمال، والدين والإيمان والإسلام بمعنى، نعم إذا أفرد عنها شملها كلها، لكن إذا عطف عليه الإسلام فالمراد به الإيمان والإحسان، وإذا عطف عليه الإيمان فالمراد به الأعمال.

المقدم: شكر الله لكم وأحسن إليكم على هذا البيان.

بقي معنا مجموعة -الحقيقة- من القضايا في هذا الحديث، لعلنا نرجئ الحديث عنها -بإذن الله- إلى حلقة قادمة.

مسمعيَّ الكرام، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. أود أن أذكر الإخوة الذين اتصلوا كثيرًا يسألون عن رقم فاكس من أجل مراسلة البرنامج لأنه ربما يشق عليهم المراسلة عن طريق البريد. نؤكد بأن رقم الفاكس سبق وأعلن، نعلنه مرة أخرى، بإمكانهم أن يبعثوا برسائلهم واستفساراتهم على رقم الفاكس: 4425543، الفاكس مرة أخرى: 4425543.

شكرًا لكم مستمعيَّ الكرام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.