شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (093)

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أيها الإخوة والأخوات سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ.

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: قال المصنِّف -رحمه الله تعالى-: "عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مُشَبَّهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

راوي الحديث النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي صحابي ابن صحابي، ولد بعد الهجرة وهو أول مولود للأنصار بعد قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم-، استعمله معاوية على حمص، ثم على الكوفة، مات سنة أربع وستين، روي له عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مائة حديث، وأربعة عشر حديثًا.

والحديث ترجم عليه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله: باب فضل من استبرأ لدينه.

يقول ابن حجر: كأنه أراد أن يبيِّن أن الورع من مكمِّلات الإيمان، فلهذا أورد الحديث في أبواب الإيمان، وقال العيني: وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول، الباب الأول ماذا؟

المقدم: باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم-.

باب سؤال جبريل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإيمان والإسلام والإحسان، من حيث أن المذكور في الباب الأول بيان الإيمان والإسلام والإحسان، وأن ذلك كله دين، والمذكور هاهنا الاستبراء للدين الذي يشمل الإيمان والإحسان، ولا شك أن الاستبراء للدِّين من الدِّين. الاحتياط للدين والاستبراء للدين من الدين، ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، وهو أنه أخذ جزءًا من الحديث وترجم به.

وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-:

وقد بوَّب البخاري على هذا الحديث باب فضل من استبرأ لدينه، والمقصود من إدخاله هذا الحديث في هذا الباب أن من اتقى الأمور المشتبهة التي لا تتبين له أحلال هي أم حرام؟ فإنه مستبرئ لدينه، بمعنى أنه طالب له البراء والنزاهة مما يدنسه ويشينه؛ ويلزم من ذلك أن من لم يتق الشبهات فهو معرِّض دينه للدنَس والشَّين والقدح، فصار بهذا الاعتبار الدين تارة يكون نقيًّا نزهًا بريًّا، وتارة يكون دنسًا متلوثًا، والدين يوصف تارة بالقوة والصلابة، وتارة بالرقة والضعف، كما يوصف بالنقص تارة، وبالكمال أخرى، ويوصف الإسلام تارة بأنه حسن، وتارة بأنه غير حسن، والإيمان يوصف بالقوة تارة، وبالضعف أخرى.

هل هذا لذات الدين أو للمتلَبِّس بالدين؟ لصاحب الدين للمتدين نفسه؟ هذه الأوصاف للدين نفسه أو الدين المتمثل في الشخص المنتسب إليه؟ يعني مدى التزام هذا الشخص بالدين، المسلم ألا يضعف إيمانه ويقوى؟

المقدم: بلى.

فإيمان ضعيف، وإيمان قوي بالنسبة لهذا الشخص.

ألا يحسن الإيمان من حسن إسلام المرء، ومن الإسلام ما يكون غير حسن بالنسبة لبعض الناس، بعض المنتسبين إليه، لا إلى الإسلام أو الإيمان نفسه، هذه الأوصاف ليست للإيمان نفسه مجردًا، فالدين كله حسن، والدين كله بريء، وكله نزه، وكله قوي، الضعف والشَّين والدنَس والرقة في المنتسبين إليه، في كيفية التزام أو في نسبة التزام المنتسبين إليه به، يعني من ارتكب ما يدنس دينه ما يكون سببًا للنيل من دينه هل هو لذات الدين أو للمرتكب نفسه؟ للمرتكب بلا شك، والدين من ذلك براء كله.

يقول: هذا كله إذا أخذ الدين والإسلام والإيمان بالنسبة إلى شخصٍ شخص، يعني بالنسبة إلى أشخاص، فأما إذا نُظر إليه إلى نفسه من حيث هو فإنه يوصف بالنزاهة، قال أبو هريرة: الإيمان نزه، فإن زنا فارقه الإيمان، فإن لام نفسه وراجع راجعه الإيمان، خرَّجه الإمام أحمد في كتاب الإيمان، ومن كلام يحيى بن معاذ: الإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك.

فهذا كله دليل على أن الموصوف بهذه الأوصاف المتصف بالدين، والحديث كما قال النووي -رحمه الله تعالى- حديث عظيم، وهو قاعدة من قواعد الإسلام، بل هو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وشرْحه كما يقول النووي: يحتمل أوراقًا بل أطباقًا، لكن غرضنا هاهنا الاختصار، والإشارة إلى المقاصد، وقد جعل جماعة من العلماء هذا الحديث ثلث الإسلام، وجعله جماعة ربعه.

وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: هذا الحديث حديث عظيم؛ وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الدين، وقد قيل: إنه ثلث العلم أو ربعه.

وفي فتح الباري لابن حجر: وقد عظَّم العلماء أمر هذا الحديث، فعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام، كما نقل عن أبى داود، وفيه البيتان المشهوران وهما:

عمدة الدين عندنا كلماتٌ
اترك الشبهات وازهد ودع           
.

 

مسنداتٌ من قول خير البريه
ما ليس يعنيك واعملن بنيه    
.

هذان البيتان منسوبان لمن؟ لأبي طاهر بن المفوِّز، نص بعض من نقل هذين البيتين عليه.

والمعروف عند أبي داود عد: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه» بدل: «ازهد فيما في أيدي الناس» وجعله بعضهم ثالث ثلاثة فحذف الثاني، وأشار ابن العربي إلى أنه يمكن أن ينتزع منه وحده جميع الأحكام، قال القرطبي: لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى تعلُّق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه، والله المستعان.

يعني هذه الأحاديث القواعد حديث: «إنما الأعمال بالنيات» حديث جبريل مثل هذا الحديث يمكن أن يؤلف شخص كتابًا يشمل أمور الدين كلها، ويدخلها في هذا الحديث، ما المانع؟ يعني مثل ما فعل الوزير ابن هبيرة في حديث: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» أخذ من هذه الكلمة الفقه، فأدرج تحته جميع أبواب الفقه، من كلمة فقه.

فاتقاء الشبهات في جميع أبواب الدين، اتقاء الشبهة في الطهارة، في الصلاة، في الزكاة، في الصيام، في المعاملات، وهذا أكثر وأشد، في المعاملات الأسرية، في غيرها من أبواب الدين، فهو داخل في جميع أبواب الدين.

وفي قول النعمان هنا: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رد لقول الواقدي ومن تبعه: إن النعمان لا يصح سماعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول: سمعت، فإذا قال الراوي: سمعت لا يحتمل غير السماع من لفظ المُسْمِع، وفيه أيضًا دليل على صحة تحمل الصبي المميز؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مات وللنعمان ثمان سنين، وسيأتي في شرح حديث محمود بن الربيع بيان ذلك -إن شاء الله تعالى-، محمود بن الربيع الذي عَقَل المَجَّة الذي مَجَّها النبي -عليه الصلاة والسلام- في وجهه وهو ابن خمس سنين، يأتي هذا في كتاب العلم -إن شاء الله تعالى-، وقد ترجم عليه الإمام البخاري متى يصح سماع الصغير؟ وأهل العلم وإن كان هذا سابق لأوانه يختلفون في الوقت الذي يصح فيه السماع، والجمهور على أنه يصح لخمس، لخمس سنين، اعتمادًا على حديث محمود بن الربيع، والقول المحقَّق في المسألة أنه يدور مع التمييز، فإذا ميَّز السامع سواءً كان ابن خمس أو أقل أو أكثر، وفهم الخطاب وحفظ وضبط خلاص انتهى الإشكال، وليس هناك سن محددة، إذا لم يفهم ولم يميز ولم يضبط لا يصح سماعه ولو كان ابن خمسين، كما قال ابن الصلاح وغيره، فالمعوَّل في ذلك على التمييز.

مثل النعمان من صغار الصحابة كابن عباس يُختلَف في مقدار ما سمعه مباشرة من النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإن كانت عامة مروياته أو غالبها تكون بواسطة، يكون سمع الخبر من صحابي كبير، ويكون ما سمعه من النبي -عليه الصلاة والسلام- على حسب قربه منه وبعده.

حتى ابن عباس صرح بعضهم أنه لم يسمع من النبي -عليه الصلاة والسلام- مباشرة إلا أربعة أحاديث، وما عدا ذلك كله بواسطة، لكن هذا قول فيه مبالغة، الحافظ ابن حجر جمع ما يقرب من الأربعين مما صح أو حسن مما سمعه ابن عباس من النبي -عليه الصلاة والسلام- دون واسطة.

يقول: «الحلال بيِّن» الحلال ضد الحرام وهو المباح، كما في قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [سورة الأعراف 157] وهنا تقابل «الحلال بيِّن، والحرام بيِّن» هذا حلال، وهذا حرام، فالحلال ضد الحرام، وهو من حل يحِل، من باب ضرب يضرب، وأما حل بالمكان فهو من باب نصر، حَل يحُل، ومصدره حل وحلول ومحل، وهذا أمر أحله الله إحلالاً فهو حلال.

«بيِّن» أي ظاهر من بان يبين بيانًا إذا اتضح، والحرام ضد الحلال على ما تقدم، والتحريم ضد التحليل، وبابه من حرُم الشيء بالضم حرمة، وأما حرَمه الشيء يحرِمه حرْمًا مثل سرقه أي منعه، فالتحريم غير الحرمان.

«بيِّن» أي ظاهر كسابقه، أي كل من الحلال أو الحرام بيِّن ظاهر في عينهما ووصفهما بأدلتهما الظاهرة.

«وبينهما» أي بين النوعين السابقين الحلال والحرام «مشبَّهات» بوزن مفعَّلات، بتشديد العين المفتوحة، أي شبهت بغيرها مما لم يتبيَّن به حكمها على التعيين، وفي رواية الأصيلي وابن عساكر: «مشتبهات» بمثناة فوقية، وموحدة مكسورة، أي اكتسبت الشبهة من وجهين متعارضين، ورواه الدارمي عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: «متشابهات» كم صارت؟ «مُشَبَّهات» و«مشتبهات» و«متشابهات» وزاد العيني: «متشبهات» على وزن متفعِّلات، وهي رواية الطبري، و«مُشْبِهات» كرواية حديث الباب إلا أنها بتخفيف الباء الموحدة.

«لا يعلمها كثير من الناس» أي لا يعلم حكمها، وفي رواية الترمذي: «لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام؟» ومفهوم قوله: «كثير» أن معرفة حكمها ممكن لكن للقليل من الناس؛ لأنه لا يعلمها كثير، إذًا يعلمها قليل، ممكن لكن للقليل من الناس، وهم المجتهدون، فالشبهات على هذا في حق غيرهم، وقد تقع لهم، يعني لهؤلاء القليل وهم المجتهدون قد يقع لهم الاشتباه وقد تقع لهم حيث لا يظهر لهم ترجيح أحد الدليلين، قاله الحافظ.

يعني قريب المشبَّهات هذه والمشتبهات، والاشتباه نسبي، قريب من التشابه في النصوص {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [سورة آل عمران 7] نعم، فالتشابه نسبي، قد يكون متشابه بالنسبة لبعض من لم يظهر له وجه في المعنى وقد يزول، ومثله ما هنا، قد يزول الاشتباه بالنسبة لبعض الناس؛ لأنه ترجح عنده القول الحق في المسألة.

وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: ومعنى الحديث أن الله أنزل كتابه، وبيَّن فيه حلاله وحرامه، وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته ما خفي من دلالة الكتاب على التحليل والتحريم، فصرح بتحريم أشياء غير مصرح بها في الكتاب، وإن كانت عامتها مستنبطة من الكتاب، وراجعة إليه، فصار الحلال والحرام على قسمين:

أحدهما: ما هو واضح لا خفاء به على عموم الأمة؛ لاستفاضته بينهم، وانتشاره فيهم، ولا يكاد يخفى إلا على من نشأ ببادية بعيدة عن دار الإسلام؛ فهذا هو الحلال البيِّن، والحرام البيِّن، ومنه ما تحليله وتحريمه لعينه كالطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والخبائث من ذلك كله، ومنه ما تحليله وتحريمه من جهة كسبه كالبيع والنكاح والهبة والهدية وكالربا والقمار والزنا والسرقة والغصب والخيانة وغير ذلك.

القسم الثاني: ما لم ينتشر تحريمه وتحليله في عموم الأمة؛ لخفاء دلالة النص عليه ووقوع تنازع العلماء فيه ونحو ذلك، فيشتبه على كثير من الناس هل هو من الحلال أو من الحرام؟ ما لم ينتشر تحريمه وتحليله، يعني يخفى على كثير من الناس حكمه الشرعي، ما لم ينتشر تحريمه وتحليله في عموم الأمة؛ لخفاء دلالة النص عليه، ووقوع تنازع العلماء فيه ونحو ذلك، فيشتبه على كثير من الناس هل هو من الحلال أو من الحرام؟ وأما خواص أهل العلم الراسخون فيه فلا يشتبه عليهم؛ بل عندهم من العلم الذي اختصوا به عن أكثر الناس ما يستدلون به على حل ذلك أو حرمته، فهؤلاء لا يكون ذلك مشتبهًا عليهم لوضوح حكمه عندهم، وأما من لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه فهو مشتبه عليهم؛ فهذا الذي اشتبه عليه إن اتقى ما اشتبه عليه حله وتحريمه واجتنبه فقد استبرأ لدينه وعرضه، هذا الذي اشتبه عليه الأمر، لم يبن له وجه التحليل ولا الحرمة إن اجتنب ذلك فقد استبرأ لدينه وعرضه، بمعنى أنه طلب لهما البراءة مما يشينهما، وهذا معنى الحديث الآخر: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وهذا هو الوَرَع، وبه يحصل كمال التقوى، كما في الحديث الذي خرَّجه الترمذي وابن ماجه: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس» وهذا الحديث مخرَّج في الترمذي وابن ماجه، ولا يسلم من مقال.

«فمن اتقى المشبَّهات» أي حذر منها، والاختلاف في لفظ المشبَّهات وضبطه نظير التي قبلها.

«استبرأ» أي طلب البراءة، أي برَّأ دينه من النقص، وعرضه من الطعن فيه؛ لأن من لم يعرف باجتناب الشبهات لم يسلم لقول من يطعن فيه، من لم يجتنب الشبهات، الذي لا يتورع عن مثل هذه الأمور لا يسلم من الطعن، لم يسلم من قول من يطعن فيه، وفيه دليل على أن من لم يتوَقَّ الشبهة في كسبه ومعاشه فقد عرَّض نفسه للطعن فيه، وفي هذا إشارة إلى المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة؛ ليسلم دين المرء وعرضه.

وليس معنى هذا أن عرضه مباح، ليس في هذا إباحة لعِرْض من يزاول هذه الشبهات، لكنه متسبِّب في وقوع الناس في عرضه، وقوع الناس في عِرْضه صار هو السبب فيه، هو المتسبب، أما المباشر أقول: المباشر للوقوع في العرض مؤاخَذ بلا شك، فأقول: ليس معنى هذا أن عرضه مباح لمن أراد أن يغتابه، لكن حصلت غيبته بسبب انتهاكه لهذه الشبهات، فهو متسبب في ذلك، فعليه مع إثم الوقوع في الشبهة وعدم الاستبراء إثم من تسبب في تأثيمه بغيبته، وليس معنى ذلك البراءة براءة المغتاب، أظن هذا ظاهر «فقد استبرأ لدينه وعرضه» نعم يا إخوان؟ أظن هذا ظاهر ليس معناه إباحة عرضه كغيره من العصاة، ليس معنى هذا أن الناس يطلقون ألسنتهم في عرضه لمجرد وقوعه في شبهات لكنه متسبِّب.

«ومن وقع في الشبهات» فيها أيضًا ما تقدم من اختلاف الرواة، والشبهات التي أشبهت الحرام من وجه والحلال من وجه آخر، قال القسطلاني: وجواب الشرط محذوف في جميع نسخ الصحيح.

المقدم: جواب الشرط الأول أو الثاني يا شيخ؟ الذي هو «فقد استبرأ لعرضه ودينه»؟

هذا انتهى.

المقدم: يعني أي جواب يقصد المحذوف؟

«ومن وقع في الشبهات».

المقدم: وقع في الحرام.

أين وقع في الحرام؟ عندك وقع في الحرام؟

المقدم: يعني يقصد وقع في الحرام؟

عندك وقع في الحرام؟

المقدم: يعني هو يقصد أن هذا هو المحذوف؟

لكن عندك هي؟

المقدم: لا، غير موجودة.

طيِّب خلاص، طيِّب.

وجواب الشرط محذوف في جميع نسخ الصحيح، وثبت في رواية الدارمي عن أبي نعيم شيخ المؤلف فيه، ولفظه: قال: ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، هذا المحذوف، وسيأتي فيه كلام لابن رجب مع العيني -إن شاء الله تعالى-.

يقول ابن رجب: أنواع الشُّبه تختلف بقوة قربها من الحرام وبعدها عنه، ولذا الشبهات لا يمكن الإحاطة بها، لا يمكن الإحاطة بها، لو انبرى مؤلِّف مصنِّف من أوسع الناس اطلاعًا ليجمع الشبهات ما استطاع؛ لأنها بحسب قربها من الحرام وبعدها عنه، وقربها من الحلال وبعدها عنه أيضًا.

المقدم: وتتجدد بتجدد العصور.

نعم، في الأبواب كلها، في المسائل يعني في نوازل الناس كلهم.

وقد يقع الاشتباه في الشيء من جهة اشتباه وجود أسباب حله وحرمته، كما يشك الإنسان فيه هل هو ملكه أم لا؟ وما يشك في زوال ملكه عنه، وهذا قد يُرجَع فيه إلى الأصل فيُبنى عليه، وقد يُرجَع في كثير منه إلى الظاهر إذا قوي على الأصل، ويقع التردد عند تساوي الأمرين.

الآن يقول: وقد يقع الاشتباه في الشيء من جهة اشتباه وجود أسباب حله وحرمته، كما يشك الإنسان في الشيء هل هو ملكه أو لا؟ يشك، وما يُشَك في زوال ملكه عنه، يعني هذه العين هل هي ملك لي؟ وجدتها في بيتي هل هي ملك لي أو لا؟ أنا لا أذكر أني اشتريتها، لا أذكر هل هي ملك لي أم لا؟ وهذه السلعة دخلت مكتبة شخص من زملائك وجدت كتابًا عليه اسمك، هل هو ملكك أم بعته عليه؟ مع طول العهد نسيت أنت، هذه شبهة بالنسبة لك، وبالنسبة له إذا كان لا يعلم هل اشتراه أو لا؟ يعني شبهة هل زال ملكك عنه؟ بالنسبة لك، وشبهة له بالنسبة هل دخلت في ملكه أم لا؟ وهنا يُرجَع إلى الأصل أو إلى الظاهر؟ الأصل أن ما كتب عليه اسمك لك، هذا الأصل، أو يُرجَع إلى الظاهر وغلبة الظن أنك شخص معتاد بيع الكتب، ولو كان عليها اسمك، والشخص معتاد أيضًا أنه لا يستعير، يرجع فيه إلى الظاهر والقرائن؟ مثل هذا يُرجَع فيه إلى الأصل فيبنى عليه، وقد يُرجَع في كثير منه إلى الظاهر إذا قوي على الأصل، ويقع التردد عند تساوي الأمرين.

لأنه لَمَّا مثَّلت بالكتاب الذي عليه الاسم، ويوجد في مكتبة آخر من الزملاء مثلاً، هذه مسألة يقع فيها كثير من الناس، بعض الناس يستعير الكتاب ويجلس عشر سنين، عشرين سنة، ثم ينسى هل الكتاب دخل عليه إعارة أو بالشراء فتقع الشبهة، ويقع أيضًا الشبهة بالنسبة لصاحب الكتاب.

وقد يقع الاشتباه لاختلاط الحلال بالحرام في الأطعمة والأشربة من المائعات وغيرها من المكيلات والموزونات والنقود، فكل هذه الأنواع من كان عنده فيها علم يدله على حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فيها فتَبِعه فهو المصيب، ومن اشتبهت عليه فإن اتقاها واجتنبها فقد فعل الأولى واستبرأ لدينه وعرضه، فسلم من تبعتها في الدنيا والآخرة.

المقدم: أحسن الله إليكم. لعلنا نستكمل -بإذن الله- ما تبقى في حلقة قادمة.

أيها الإخوة والأخوات بهذا أصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة، نستكمل ما تبقى في حديث النعمان بن بشير -رضي الله تعالى عنه- في حلقة قادمة -بإذن الله-.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.