شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (087)

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: توقفنا عند قول المؤلف -رحمه الله-:

"عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا بارزًا للناس، فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله، وتؤمن بالبعث» قال: ما الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة، وتؤدِّي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان» قال: ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» قال: متى الساعة؟ قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهمُ في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله...»."

رعاة، رعاة.

المقدم: "«رعاةُ الإبلِ البهمُ في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله» ثم تلا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ}..."

الآن البهم وصف لماذا؟

المقدم: للرعاة أو للإبل؟

للمضاف أو للمضاف إليه؟

المقدم: يبدو لي أنها للرعاة لأنهم مجهولو الحال، يكون رعاةُ الإبلِ هم بهم، يعني مجهولو الأنساب كما قيل، هذا إذا أريد بها أنها وصف للرعاة، أما إذا أريد بها أنها وصف للإبل تكون البهمِ.

ما المرجح؟ هل هناك قاعدة تضبط أو ما هناك قاعدة؟

التابع إذا تَعقَّب متضايفين هل يكون للأول أو للثاني؟

المقدم: الأصل أن يكون للثاني يا شيخ أو للأول؟

ماذا تقول: أنت؟

المقدم: أنا والله أظن أنه للثاني.

دائمًا؟

المقدم: لا، هذا هو الأصل.

يحتاج إلى مرجِّح، إذا قلت: مررت بغلام زيد الفاضلِ.

المقدم: يكون يا للغلام يا لزيد.

نعم، مررت بغلام زيد الفاضلِ، يحتاج إلى مرجِّح، فلا يمكن أن يُحكَم بأنه للأول ولا للثاني {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [سورة الرحمن 27].

المقدم: وهناك أيضًا: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ} [سورة الرحمن 78].

{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ} ففي الموضع الأول وصْف للمضاف، وفي الموضع الثاني وصْف للمضاف إليه، وحينئذٍ يحتاج إلى مرجِّح، وهنا البهم وهذا سيأتي -إن شاء الله تعالى- بيانه، مثل ما تفضلت إن كان وصفًا للمضاف إليه يجر، وإن كان وصفًا للمضاف فالرفع، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام فيه.

المقدم: قال: "«في خمس لا يعلمهن إلا الله» ثم تلا النبي -صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [سورة لقمان 34] الآية، ثم أدبر فقال: «ردوه» فلم يروا شيئًا، فقال: «هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم»."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

هذا الحديث حديث عظيم، مخرَّج في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وفي صحيح مسلم من حديث عمر، وعند غيرهما عن جمع من الصحابة، وفيه شيء من الاختلاف في ألفاظه، والقصة واحدة، وستأتي الإشارة إلى شيء من هذا الاختلاف مع توجيهه -إن شاء الله تعالى-.

راوي الحديث أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي سبق التعريف به، والحديث ترجم عليه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، وبيان النبي -صلى الله عليه وسلم- له، ثم قال: «جاء جبريل -عليه السلام- يعلمكم دينكم» هكذا قال في الترجمة، ثم قال: «جاء جبريل -عليه السلام- يعلمكم دينكم» فجعل ذلك كله دِينًا، يعني الإيمان والإسلام والإحسان كله دِين، وما بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- لوفد عبد القيس من الإيمان وقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [سورة آل عمران 85].

يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: تبويب البخاري هاهنا واستدلاله وتقريره يدل على أنه يرى أن مسمى الإيمان والإسلام واحد؛ وهذا سبقت الإشارة إليه مرارًا، تبويب البخاري هاهنا واستدلاله وتقريره يدل عل أنه يرى أن مسمى الإيمان والإسلام واحد؛ فإنه قرر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاب جبريل عن سؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان وعلم الساعة، ثم قال: «هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم» فجعله كله دينًا، والدين هو الإسلام، يعني أطلق على الإسلام دين، أطلق على الإيمان دين، أطلق على الإحسان دين؛ لأنه قال في النهاية في الأخير: «هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم» وانتزع الإمام البخاري هذا القدر من الحديث، وجعله في الترجمة، باب سؤال جبريل النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثم قال: «جاء جبريل يعلمكم دينكم» انتزع هذا القدر من الحديث وجعله في الترجمة؛ ليبين أن الإسلام والإيمان والإحسان كله دين، فدل على أنه يشمل الإسلام والإيمان والإحسان مسمى واحد وهو الدين، إذًا الإسلام هو الإيمان.

هذا من حيث أو من خلال كلام ابن رجب -رحمه الله تعالى-، فإنه قرر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاب جبريل عن سؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان وعلم الساعة، ثم قال: «هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم» فجعله كله دينًا، والدين هو الإسلام، يعني علمه الإيمان، وأطلق على الإيمان دين، والدين {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [سورة آل عمران 19] إذا كان الإيمان يطلق عليه دين والدين هو الإسلام إذًا الإيمان هو ماذا؟ هو الإسلام، معادلة تامة، يعني إذا قلت: الإيمان دين، إذا قلت: الإيمان يساوي الدين، الدين يساوي الإسلام، إذا الإيمان هو ماذا؟ هو الإسلام.

والدين هو الإسلام؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [سورة آل عمران 85] وكذلك قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [سورة آل عمران 19] وأكَّد ذلك بأن في حديث وفد عبد القيس، وهذا أيضًا مَنزَع من الإمام البخاري يؤيِّد فيه أن الإيمان هو الإسلام بمعنًى واحد، وما بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- لوفد عبد القيس من الإيمان، وأكَّد ذلك بأن في حديث وفد عبد القيس أنهم سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان فأجابهم بما أجاب به جبريل عن سؤاله عن الإسلام؛ فدل على أن الإسلام والإيمان واحد.

سئل عن الإيمان، فقال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث» ثم سئل عن الإسلام في هذا الحديث فقال: «أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة...» إلى آخره، سئل عن الإيمان في حديث وفد عبد القيس فأجابهم بما أجاب به جبريل في سؤاله عن الإسلام.

المقدم: أحسن الله إليك يا شيخ، في حديث وفد عبد القيس زاد هناك خصلة على ما ذكر هنا، قال: «وأن تعطوا من المغنم الخمس».

أمرهم بأربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده «أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟» وهذا سيأتي شرحه -إن شاء الله تعالى- بعد حديث، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا رسول الله» هنا: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا» هي شهادة أن لا إله إلا الله «وإقام الصلاة» «وتقيم الصلاة» هنا، «وإيتاء الزكاة» «وتؤدي الزكاة المفروضة» هنا، وهناك قال: «وصيام رمضان» «وتصوم رمضان» «وأن تعطوا من المغنم الخمس» الآن إعطاء المغنم، الخمس من المغنم أليس من الإسلام؟ يعني لو زيد في حديث جبريل: إعطاء الخمس من المغنم" يصير فيه إشكال؟ يعني كونه يُدخَل في الحديث هو بالإسلام ألصق؛ لأنه عمل، إذًا المطابقة تامة هنا وهناك حتى مع زيادة الخمس.

المقدم: لكن -أحسن الله إليك- فيه فرق يا شيخ بين الإعطاء من المغنم الخمس أنه ليس من الأركان التي يقوم عليها الإسلام، فهل ليس مثل: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامة الصلاة، ألا هذا يجعل أن المطابقة تكون غير تامة، فما يمكن أن يضاف في حديث جبريل، وإنما أضيف في حديث وفد عبد القيس مثلاً لأنهم حديثو الدخول في الإسلام أو كذا؟

هو ليس من الأركان، لا من أركان الإسلام، ولا من أركان الإيمان، لكنه من أعمال الإسلام، هو من أعمال الإسلام صح أو لا؟ أو من الإيمان؟

المقدم: لا من أعمال الإسلام.

من أعمال الإسلام، والسؤال عن ماذا؟

المقدم: عن الإيمان.

عن الإيمان، هذا هو محل الشاهد عندنا الآن، أما كونه من الأركان أو ليس من الأركان هذا يأتي بحثه، لكنه بالإسلام ألصق؛ لأنه عمل بدن، فلا يَرِد هذا.

وأكد ذلك بأن في حديث وفد عبد القيس أنهم سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان فأجابهم بما أجاب به جبريل عن سؤاله عن الإسلام؛ فدل على أن الإسلام والإيمان واحد، وهذا قول محمد بن نصر المروزي وابن عبد البر وغيرهما.

تقدمت الإشارة إليه مرارًا.

يقول ابن رجب: وأما من فرَّق بين الإسلام والإيمان، وهم أكثر العلماء من السلف ومن بعدهم حتى قيل: إنه لا يُعلَم عن السلف في ذلك خلاف، فأظهر الأجوبة عما ذكره البخاري، الآن البخاري يرى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، واستدل بأدلة، كيف نجيب عن هذه الأدلة؟ والسلف، بل أكثرهم على التفريق بين الإسلام والإيمان، حتى قيل: إنه لا يعلم عن السلف في ذلك خلاف.

يقول: فأظهر الأجوبة عما ذكره البخاري: أن الإسلام والإيمان تختلف دلالته بالإفراد والاقتران؛ فإن أُفرد أحدهما دخل فيه الآخر، سؤال عن الإيمان يجاب بالإسلام لأنه يدخل فيه الإسلام، سؤال عن الإسلام يدخل فيه الإيمان، إذ لا يُتصوَّر إسلام بلا إيمان، ولا يُتصوَّر إيمان بلا عمل؛ لأن الأعمال شرط.

يقول: فأظهر الأجوبة عما ذكره البخاري أن الإسلام والإيمان تختلف دلالته بالإفراد والاقتران؛ فإن أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، فلذلك فَسَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- الإيمان المسؤول عنه مفردًا في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام في حديث جبريل الذي قُرِن فيه الإسلام بالإيمان، وإن اقترنا كان هذا له معنى وهذا له معنى، إذا اقترنا كان لكل واحد منهما حقيقة تخصه، قريب من هذا فيما يقوله أهل العلم المسكين والفقير، إذا قيل: تصدق على المسكين دخل فيه الفقير، وإذا قيل: تصدق على الفقير دخل فيه المسكين، لكن إذا قيل: تصدق على الفقير والمسكين، أو على الفقراء والمساكين {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} [سورة التوبة 60] لكل واحد منهما حقيقة تخصه من هذا الباب.

سائل: أحسن الله إليكم يا شيخ في صدقة الفطر من رمضان، وأنها طعمة للمساكين، هل يعني هذا أنها تشمل الفقراء والمساكين أيضًا؟

دخول الفقير فيها من باب أولى؛ لأنه أشد حاجة عند جمهور أهل العلم من المسكين؛ لأنه أشد حاجة، ليس معنى هذا أنه يعطى من يجد بعض القوت ولا يعطى من لا يجد شيئًا بالكلية، ليس هذا هو المراد، وإن كان هناك قول آخر وهو عند الحنفية أن المسكين أشد حاجة من الفقير.

وفي شرح أبي سليمان الخطابي على البخاري المسمى أعلام الحديث أو أعلام السنن، يعني يُعرَف بهذا وذاك، جاءت تسميته عند أهل العلم كثيرًا بأعلام السنن، يعني في مقابل معالم السنن في شرح سنن أبي داود، وهنا أعلام السنن شرح البخاري، وأكثر النسخ عليها أعلام الحديث، على كل حال التسمية يشملها الأعلام.

يقول الخطابي -رحمه الله تعالى-: اختلاف هذه الأسماء الثلاثة؛ يعني الإسلام والإيمان والإحسان؛ اختلاف هذه الأسماء الثلاثة وافتراقها في المسألة عنها يوهم افتراقًا في أحكامها ومعانيها، وأن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان ليست من الإيمان، لماذا؟ لأنه أجيب بها عن السؤال عن الإسلام، أجيب بها عن السؤال عن الإسلام، فيوهم هذا الكلام أن هذه الأعمال من صلاة وزكاة وصيام ليست من الإيمان.

يقول: وليس الأمر في الحقيقة كذلك؛ يعني ولك أن تقول طردًا لكلامه أو قياسًا على كلامه: أن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله... إلى آخره ليست من الإسلام.

يقول: وليس الأمر في الحقيقة كذلك، وإنما هو اختلاف ترتيب وتفصيل لما يتضمنه اسم الإيمان من قول وفعل وإخلاص، ألا ترى أنه حين سأله عن الإحسان، قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وهذا إشارة إلى الإخلاص في العبادة، ولم يكن هذا المعنى خارجًا عن الجوابين الأولين؛ لأن هذا الإحسان، وهذه المنزلة التي هي منزلة المراقبة، تقارن الإيمان، تقارن ما أجيب به عن الإيمان، تؤمن بالله وتراقب الله، تؤمن برسله مع مراقبة الله -عز وجل-، تؤمن بالكتب مع مراقبة الله -عز وجل-، تقيم الصلاة تؤدي الزكاة وأنت تراقب الله -عز وجل-؛ ولذا قال: ألا ترى أنه حين سأله عن الإحسان قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وهذا إشارة إلى الإخلاص في العبادة، ولم يكن هذا المعنى خارجًا عن الجوابين الأولين، فدل على أن التفرقة في هذه الأسماء إنما وقعت بمعنى التفصيل، وعلى سبيل الزيادة والتوكيد، والدليل على صحة ذلك قوله في حديث وفد عبد القيس أنه أمرهم بالإيمان بالله، ثم قال: «أتدرون ما الإيمان؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم» فجعل هذا الأعمال كلها إيمانًا، وذلك مما يبيِّن لك أن الإسلام من الإيمان، وأن العمل غير خارج عن هذا الاسم، وحديث وفد عبد القيس يأتي الكلام فيه تفصيلاً -إن شاء الله تعالى- بعد حديث، بعد هذا -إن شاء الله تعالى-.

وأما الحافظ ابن حجر فقال بعد أن نقل كثيرًا عن السلف في هذه المسألة، نقل أقوالا كثيرة عن السلف في هذه المسألة، ماذا قال؟

قال: الذي يظهر من مجموع الأدلة أن لكل منهما حقيقة شرعية، كما أن لكل منهما حقيقة لغوية، لكن كل منهما مستلزِم للآخر، بمعنى التكميل له، فكما أن العامل لا يكون مسلمًا إلا إذا اعتقد، العامل المصلِّي، المزكِّي، الصائم لا يكون مسلمًا إلا إذا اعتقد، فكذلك المعتقِد لا يكون مؤمنًا إلا إذا عمل، وحيث...، وابن حجر على مذهبه: وكذلك المعتقِد لا يكون مؤمنًا كاملاً إلا إذا عمل؛ لأنه يرى أن الأعمال شرط كمال، وليست شرط صحة، ومعروف عند أهل العلم أنه شرط صحة، يعني جنس العمل، على ما تقدم تفصيله.

فكذلك المعتقِد لا يكون مؤمنًا كاملاً إلا إذا عمل، وحيث يطلق الإيمان في موضع الإسلام أو العكس، أو يطلق أحدهما على إرادتهما معًا فهو على سبيل المجاز.

يعني إذا أطلقنا الإيمان على الأعمال أطلقنا الإيمان على الاعتقاد حقيقة، أطلقنا الإيمان على الأعمال صار مجازًا، أطلقنا الإسلام على الأعمال حقيقة، أطلقنا الإسلام على الاعتقاد مجاز.

يقول: وحيث يطلق الإيمان في موضع الإسلام أو العكس، أو يطلق أحدهما على إرادتهما معًا فهو على سبيل المجاز.

وهذا عند من يقول بالمجاز، ما عنده مشكلة الذي يقول بالمجاز يمشِّي مثل هذا الكلام.

ويتبين المراد بالسياق، فإن وردا معًا في مقام السؤال حُمِلا على الحقيقة؛ لماذا؟ لأنه حينما يسأل عن الإيمان والإسلام سوف يجيب كما أجاب في حديث جبريل عن كل واحد بما يخصه، فيحمل حينئذٍ على الحقيقة، يحمل الإيمان على الاعتقاد والتصديق الجازم، ويحمل الإسلام على الأعمال، فإن وردا معًا في مقام السؤال؛ لأنه لا يمكن أن يجاب السائل عن الإسلام والإيمان بجواب واحد، في آن واحد، يمكن؟

المقدم: لا، ما يمكن.

ما يمكن، يقول: فإن وردا معًا في مقام السؤال حملا على الحقيقة، وإن لم يردا معًا أو لم يكن في مقام سؤال أمكن الحمل على الحقيقة أو المجاز بحسب ما يظهر من القرائن، وقد حكى ذلك الإسماعيلي عن أهل السنة والجماعة قالوا: إنهما تختلف دلالتهما بالاقتران، فإن أُفرِد أحدهما دخل الآخر فيه، وعلى ذلك يحمل ما حكاه محمد بن نصر، وتبعه ابن عبد البر عن الأكثر أنهم سووا بينهما على ما في حديث عبد القيس، وما حكاه اللالكائي وابن السمعاني عن أهل السنة أنهم فرَّقوا بينهما على ما في حديث جبريل، والله الموفق.

يعني الخلاصة أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، يعني هل كلام ابن حجر مطابق لكلام ابن رجب؟ مطابق أو غير مطابق؟ ما الفرق بين كلام ابن رجب وابن حجر؟ ابن حجر في الأخير عاد إلى ما قرره ابن رجب، لكنه لم يعد عودًا تامًّا، يبقى أنه إطلاق الإسلام على الاعتقاد مجاز ليس بحقيقة، وإطلاق الإيمان على الأعمال مجاز ليس بحقيقة، هذا كلام ابن حجر، ومن تأخر عنه، في كلام ابن رجب ومن يقول من أهل العلم أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا هو حقيقة، يمكن أن تجيب عن الإسلام بأركان الإيمان حقيقة، وتجيب عن الإيمان بأركان الإسلام حقيقة وليس بمجاز، بينما هو مجاز عند ابن حجر.

الآن اتضح الفرق بين كلام ابن حجر وابن رجب؟ واضح؟

المقدم: نعم.

طيِّب، يقول العيني: مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، وأما مناسبة الباب لما قبله باب خوف المؤمن من ماذا؟ من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، المطابقة والمناسبة بين هذا الباب والذي قبله، الباب الذي معنا سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان، والباب السابق باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، باب خوف المؤمن، وهنا فيه تعريف الإيمان، فلا يكون مؤمنًا إلا إذا تحقق فيه التعريف الموجود في هذا الباب، المؤمن الذي يخاف أن يحبط عمله وهو لا يشعر، هو من عمل بأركان الإيمان الموجودة في هذا الباب، ولذا يقول: وأما مناسبة الباب لما قبله باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر من حيث أن المذكور في الباب الأول هو المؤمن الذي يخاف أن يحبط عمله، وفي هذا الباب يذكر بماذا يكون الرجل مؤمنًا، ومَن المؤمن في الشريعة؟ كذا قال العيني، يعني إذا أُشير إلى المؤمن الذي يخاف ويخشى ويَوْجَل أن يحبط عمله وهو لا يشعر، يعني لا بد أن يكون الإنسان خائفًا وَجِلاً {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [سورة المؤمنون 60] هذا الشخص الذي يتصف بهذه الصفة أليس هو المؤمن؟ ما الإيمان الذي نعرف به المؤمن؟ جاء بيانه في الباب اللاحق، وهو في تعريف الإيمان من قِبَل النبي -عليه الصلاة والسلام- في جواب جبريل.

الآن نريد أن نوضح ما سبق في كلام ابن رجب وابن حجر، في كلام ابن رجب هذا الكلام المعروف المستفيض عن أهل العلم، وهو أن الإسلام والإيمان إذا افترقا، إذا قيل مثلاً أبو بكر مسلم، عمر مسلم، هل يعني أنه ليس بمؤمن؟ لا، هو مؤمن مسلم، إذا قيل: فلان مؤمن أليس يعني أنه مسلم ومؤمن؟ إذا قيل في مقام المقابَلة زيد مؤمن وعمرو مسلم، عرفنا أن الإيمان درجة أعلى من الإسلام، فهو محقِّق لأركان الإسلام وعنده قدر أكبر من الإيمان واليقين ممن قُرِن به، ولذا قد يرتفع مطلق الإيمان عن شخص، لكن لا يرتفع عنه الإيمان المطلق، العاصي إيمانه ليس كإيمان الطائع، خلافًا لما يقرره غلاة المرجئة من أن إيمان أفسق الناس مثل إيمان جبريل على ما تقدم.

فإطلاق الإيمان على أركان الإسلام حقيقة شرعية، جاءت في حديث وفقد عبد القيس، كما أن إطلاق الإسلام على أركان الإيمان كذلك، هذا فيما قرره ابن رجب في حال الافتراق، أما في حال الاجتماع لكل منهما حقيقته الشرعية.

ابن حجر يرى أن إطلاق الإيمان على أركان الإسلام مجاز، وإطلاق الإسلام على أركان الإيمان مجاز، من هذه الحيثية اختلفوا، وإلا هما اجتمعا في الافتراق والاجتماع.

المقدم: جزاك الله خيرًا يا شيخ. لعلنا نرجئ الحديث عن ألفاظ الحديث -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة.

مستمعي الكرام، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه حلقتنا، نستكمل -بإذن الله- في حلقة قادمة وأنتم على خير.

نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.