دروس الحرم العامة (08)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول الله-جل وعلا-في محكم كتابه: وقبل ذلك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر:1-3] هذه السورة العظيمة إذا تأملها المسلم وقرأها بعناية وتدبر عرف عظمها حتى قال الإمام الشافعي "لو ما أنزل الله على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم" لماذا؟ لأن فيها الدلالة على المسائل الأربع التي معرفتها من أهم المهمات لكل مسلم ولكل عالم ولكل طالب علم ترسم له المنهج، أولى هذه المسائل العلم، ثم العمل، ثم الدعوة إلى ما عَلِم، ثم الصبر والتحمل على الأذى الذي يناله بسبب بث العلم ونشره ودعوة الناس إليه، يقول الله- جل وعلا- {وَالْعَصْرِ} [سورة العصر:1] الواو واو القسم، والعصر مقسَم به، والله- جل وعلا- له أن يقسم بما شاء، لا يُسأل عما يفعل، وأما غيره فليس له أن يقسم إلا بالله- جل وعلا- فالقسم بغيره شرك «من حلف بغير الله فقد أشرك» {وَالْعَصْرِ} [سورة العصر:1] الواو هذه واو القسم، والعصر مقسَم به، ويراد به الزمان الذي يعيشه الإنسان أو تعيشه الأمة أو تعيشه جميع الأمم من أوله إلى آخره، المقصود أن المراد به الظرف الذي يقع به ما كتبه الله- جل وعلا- على عباده، منهم من يقول إن المراد بالعصر العصر من اليوم الذي يلي الظهر ويسبق المغرب، هذا الوقت الذي يبدأ من مصير ظل كل شيء مثله إلى غروب الشمس، هذا الوقت وقت معظَّم شرعًا، فصلاة العصر هي الصلاة الوسطى اليمين إذا أريد تغليظها طلبت في هذا الوقت في العصر، فهو وقت معظَّم شرعًا وله شأنه؛ ولذا أقسم الله به على هذا القول، القول الأول أن العصر أشمل وأعم من ذلك وهو الدهر مما يبين أهمية الوقت، فالوقت هو حياة الإنسان، حياة المكلَّف الذي يجب عليه أن يستغله فلا يضيع منه شيئا «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ» الفراغ الوقت الذي يفرغ فيه الإنسان من عمل ما وجب عليه، سواء كان من وظائف الدين أو من وظائف الدنيا، فإذا تيسَّر له فراغ فضيعه بما لا ينفعه في دينه أو في دنياه هذا مغبون، هذا الوقت هو عمر الإنسان وهو حقيقة الإنسان، يعني إذا أضاع الإنسان وقته من غير فائدة فوجوده في هذه الحياة عدم، فالحياة مزرعة أرأيت لو إنسانا اكترى أرضًا استأجر أرضًا ليزرعها ثم تركها هل يستفيد شيئا؟ لا يستفيد شيئا، لكن لو بادر من أول يوم بدأ بالزراعة استفاد منها واستغلها وآتت ثمارها، لكن لو استأجرها وتركها ما استفاد شيئا إنما عليه غرمها وليس له شيء من غُنْمها، وهكذا ينبغي أن يستغل المسلم هذا الوقت الذي هو مزرعة الآخرة {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [سورة العصر:1-2] روى الطبراني عن بعض التابعين أنه إذا اجتمع الصحابيان ما افترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، كانوا إذا اجتمعوا أو اجتمع الاثنان لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، وهكذا يحكيه التابعي عن الصحابة والخبر مصحَّح عند أهل العلم، وهذه سنة مماتة مندثرة وعلى طالب العلم وعلى المسلم عموما أن يحييها، وسورة العصر ما تكلف شيئا، ما يقال اقرأ سورة البقرة قبل أن تتفرق، سورة العصر تقرأ في ثواني وذلكم لِعِظَمِها، وروى الخرائطي في مساوئ الأخلاق لأن له كتابين أحدهما في مكارم الأخلاق والثاني في مساوئ الأخلاق عن عمرو بن العاص معلوم أن ما يتفرد به الخرائطي مظنة الضعف عند أهل العلم إنما يذكر هذا من باب العلم به لا على الاعتماد عليه، عن عمرو بن العاص أنه ذهب إلى مسيلمة الكذاب المدعي للنبوة فقال له مسيلمة ماذا أُنزل على صاحبكم وهذا قبل أن يسلم عمرو بن العاص، قال له: ماذا أنزل على صاحبكم؟ قال: أنزل عليه سورة فقرأ سورة العصر، فسكت مسيلمة قليلا ثم قال: وأنا أُنزِل عليَّ مثلها، إلى أن قال الهذيان المعروف: يا وبر يا وبر بلا أذنان وصدر إلى آخر فقال له ماذا تقول في قرآني؟ قال والله إنك تعلم أني أعلم أنك كاذب وهذا الخبر معروف أنه مادام في مساوئ الأخلاق فالأصل فيه الضعف، وعلى كل حال سواء ثبت أو لم يثبت لا يترتب عليه شيء، لكن له نظائر من هذيان مسيلمة الكذاب ومواقف لبعضهم معه في هذا الشأن يريد أن يعارِض القرآن ولو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثله لن يستطيعوا ولو كان بعضهم معينا لبعض، الله- جل وعلا- تحدى العرب أن يأتوا بمثله، وأن يأتوا بعشر سور من مثله، أن يأتوا بسورة من مثله، لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، ولن يستطيع أحد، ويُذكر عن المعري أنه حاول معارضة القرآن وهو مرمي بالإلحاد والزندقة، أبو العلاء المعري الشاعر المشهور مرمي بذلك والله أعلم لأنهم قالوا أن الكتاب الذي عارض به القرآن هو الكتاب الذي طُبِع باسم قالوا في مواعظ البريات، والآيات في مواعظ البريات، قالوا لأنه كان اسمه في معارضة الآيات والله أعلم بصحة ذلك، المقصود أنه لا يستطيع أحد أن يعارِض القرآن لما أراد مسيلمة معارضة القرآن أتى بمثل هذا الهذيان الذي يضحك الصبيان {وَالْعَصْرِ} [سورة العصر:1] هذا القسم {إِنَّ الإِنسَانَ} [سورة إبراهيم:34] و(ال) هذه للجنس تعم جميع الناس {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [سورة العصر:2] يعني في خسارة، كلهم في خسر يعني في خسارة إلا من استثني و(ال) هذه الجنسية من صيغ العموم بدليل الاستثناء بعدها، إن الإنسان في خسارة إلا من استثني ولا شك أن أكثر الناس في ضلال {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام:116] وأهل الجنة واحد من ألف، فأكثر الناس بنسبة تسعمائة وتسعة وتسعين في النار، هؤلاء كلهم في خسر إلا هذا المستثنى الذي هو واحد من ألف {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [سورة الشعراء:227] وصدقوا وأيقنوا وأذعنوا وخضعوا لله- جل وعلا- واعترفوا به وبما جاء عنه من الغيبيات، آمنوا بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وحققوا أركان الإيمان الستة {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [سورة الشعراء:227] فقط يكفي أن تؤمن وتصدق وتعترف بهذه الأركان الستة {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [سورة البقرة:25] لا يكفي بل لا بد من العمل، فلا يتم دخولك في هذا الاستثناء حتى تؤمن وتعمل؛ ولذا أهل التحقيق على أن جنس العمل شرط في الصحة الإيمان؛ لأن الإيمان مركب من قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان على خلاف بينهم في كون الثلاثة شروط أو أركان، والفرق بين الشروط والأركان أن الشروط تكون خارج الماهية، وأن الأركان داخلة فيها، مثل ما قالوا في تكبيرة الإحرام هل هي شرط في صحة الصلاة أو ركن فيها؟ الجمهور على أنها ركن والحنفية على أنها شرط إلى غير ذلك من النظائر المعروفة {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [سورة العصر:3] عرفوا الله -جل وعلا- وعرفوا ما جاء عن الله- جل وعلا- وهذا دليل للمسألة الأولى من المسائل الأربعة العلم والمراد بالعلم المستنبط من الوحيين من الكتاب والسنة، وعملوا الصالحات هذه هي المسألة الثانية التي هي العمل بما علم، والعمل هو الثمرة، والعلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر، وعملوا الصالحات يكفي أن تعلم وتعمل فقط؟ لا، لا يكفي، وتواصوا بالحق أن تدعوا الناس إلى ما علمت وما عملت به الدعوة إلى ما عرفت ثم بعد ذلك هل تتوقع أنك إذا تعلمت وعلمت وعملت وعلَّمت ودعوت أنك لا تتعرض لما تعرض له سلفك من العلماء الربانيين من الأذى؟! لا بد من الصبر والتحمل على الأذى الذي ينالك بسبب دعوتك للناس، وأول من تحمل هذا الأنبياء عليهم السلام لما دعوا الناس تعرضوا لصنوف الأذى والتشديد والتضييق من أقوامهم ورسولنا -عليه الصلاة والسلام- القدوة والأسوة في هذا ناله من الأذى بسبب دعوته ما ناله، وهو ما دعاهم إلى أمر يشق عليهم إنما دعاهم إلى مخالفة المألوف من عبادة غير الله إلى عبادة الله وحده فآذوه بسبب ذلك {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر:3] لا بد من العلم والعمل والتعليم والدعوة وبهذا يكون العالِم ربَّانيًّا، الرباني من تعلَّم وعمل ودعا وعلَّم، وفي البخاري عن ابن عباس أن الرباني من بدأ بتعليم صغار العلم قبل كباره، يعني ما يحسن أن يفتح العالم درسًا ويبدأ فيه بالمطوَّلات وفيمن يحضر صغار الطلاب، يبدأ بتعليم هؤلاء الصغار متون العلم وصغار المسائل ويتدرج بهم إلى أن يصلوا إلى المستوى الذي يحسن أن يعلم فيه الكبار، كبار العلم كبار المسائل وعضل المسائل هذا رباني، فالسورة إذا تأملها المسلم وقرأها على أنه هو المخاطَب بها وتدبرها وجد ما ذكره أهل العلم في فضلها وعظمتها والعناية بها، ذكر الرازي في تفسيره أن امرأة جاءت إلى المدينة وصارت تنادي في أسواقها- في أسواق المدينة- أين محمد أين محمد؟ فدُلَّت عليه فأخبرته أنها شربت الخمر وزنت وحملت وولدت ثم قتلت الولد، قال لها النبي -عليه الصلاة والسلام- «لعلكِ ما صليت العصر» ويقصد بذلك إلى أن المراد بالعصر صلاة العصر، والخبر باطل لا أصل له ولا يوجد في دواوين الإسلام إلا عند الرازي في تفسيره؛ ولذا لما أورده الألوسي في تفسيره قال تفرَّد بذكره الإمام، الرازي يطلق عليه الإمام، إذا أطلق الإمام في كتب الأصول أو كتب الشافعية المراد به الرازي صاحب التفسير والمحصول وغيرهما من المؤلفات، تفرَّد بذكره الإمام ولعمري أنه إمام في معرفة ما لا يعرفه أهل الحديث هذا مدح أوقدح؟ قدح بلا شك، الذي لا يعرفه أهل الحديث هذا ليس بحديث، فهو يعرف ما ليس بحديث وهذا هو الغالب في حال المتكلِّمين اهتمامهم بالكلام وما يتفرَّع عنه والقيل والقال وانصرافهم عن الوحيين من نصوص الكتاب والسنة، فأعمارهم تنقضي وإن قالوا قلنا، وندم كثير منهم عند مماته وتمنى أن لو مات على عقيدة عجائز نيسابور، كتب مطوَّلة كلها من هذا النوع تفريعات وتشقيقات وإلزامات في أمور مبناها على العقل المجرَّد، العقل المعتمِد على الوحيين مطلوب وممدوح شرعًا، والعقل الصريح لا يمكن أن ينافي ويتناقض مع النص الصحيح، ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب من أعظم الكتب أسماه كتاب موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، ويوجد له اسم آخر وهو درء تعارض العقل والنقل، والدفع لأنه قد يوجد من النصوص ما يشكل على أنصاف المتعلمين أنه فيه معارضة للعقل لكن الراسخ في العلم لا بد أن يجد مخرجا صحيحا تأليفا بين هذا العقل الصريح مع النقل الصحيح، والمراد بالعقل الصحيح الباقي على فطرته لا العقل الذي انحرف واجتالته الشياطين عن فطرة الله التي فطر الناس عليها.

واقرأ كتاب العقل والنقل الذي

 

 

 

ما في الوجود له نظير ثاني

 

وكذلك التأسيس أصبح نقضه

 

 

أعجوبة للعالِم الرباني

 

ومن العجيب أنه بسلاحهم

 

 

...........................

 

بعلومهم الكلامية.

ومن العجيب أنه بسلاحهم

 

 

 

أرداهم نحو الحضيض الداني

 

يعني الذي يقرأ كتاب العقل والنقل ينبهر كيف فتح الله على هذا العالِم، وما العمر الذي أمضاه في طلب العلم حتى يصل إلى هذه المرحلة إنما هو توفيق الله وإلهامه، وعلى كل حال علينا أن يكون معوَّلنا أولا وآخرا على الكتاب والسنة، ودرس ما يعين على فهم الكتاب والسنة لا يعني أن الإنسان يقتصر على النصوص ويترك ما يعين على فهم النصوص؛ لأن النصوص تحتاج إلى فهم مؤطَّر مقيَّد مقنَّن في فهم السلف وعلى جادة علماء هذه الأمة وأئمتها، الإمام الشافعي- رحمه الله- يقول: "لو ما أنزل الله على خلْقه إلا هذه السورة لكفتهم" ما معنى هذا الكلام؟ هل معنى هذا أن الإنسان يقتصر على هذه السورة ويترك ما عداها؟ أو أنه من باب الإغراء بهذه السورة وفهم هذه السورة والعمل بما تقتضيه؟ هذه السورة من العلم، على الإنسان أن يعلم وإذا أراد أن يعلَم ويتعلَّم ويكون عالما فإنه لا بد له ألا يقتصر على هذه السورة، بل يأخذ من علوم الكتاب والسنة ما يحتاج إليه ويتدرج في ذلك إلى أن يصل إلى حد المجتهد، ويعمل مثل ما قلنا سابقا العلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر، فإنما هو حجة ووبال على صاحبه، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا رحل، والعلماء يقولون: إذا أردت أن تتعلم ويرسخ العلم في قلبك اعمل به لأن العلم النظري المجرَّد عن العمل لا يثبت في الذهن، وإنما الذي يثبت العمل به فالعلم أولا ثم العمل بهذا العلم ثم تعليمه والدعوة إليه ثم الصبر على ما ينال الإنسان من أذى فيه اقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام-.

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.