بلوغ المرام - كتاب البيوع (18)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- في كتابه بلوغ المرام:

باب: إحياء الموات

عن عروة عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من عمّر أرضاً ليست لأحدٍ فهو أحق بها)) قال عروة: وقضى به عمر في خلافته. رواه البخاري.

وعن سعيد بن زيد -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من أحيا أرضاً ميتة فهي له)) رواه الثلاثة، وحسنه الترمذي، وقال: روي مرسلاً.

وهو كما قال، واختلف فيه صحابيه، فقيل: جابر، وقيل: عائشة، وقيل: عبد الله بن عمر، وقيل: عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عن الجميع- والراجح الأول.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب: إحياء الموات

الموات: بالتخفيف من الموت ضد الحياة، وموت كل شيءٍ وحياته بحسبه، والموت حقيقته فيما له روح تفارقه، هذا حقيقة الموت، وهذا موت الحيوان، وأما موت الجماد فهو ضد حياته التي هي عمارته بحيث يستفاد منه كالاستفادة من الحيوان الحي، وأما الأرض الميّتة أو الميتة والموات التي لا حياة فيها، وحياتها تتمثل بالإفادة منها، كما أن النبات له حياة وله موت، فحياته بنمائه، وموته بتوقف نمائه، ولذا يقولون: إن الشعر والظفر تحله الحياة التي هي بمنزلة حياة النبات، ولا تحله الحياة التي هي بمنزلة حياة الحيوان، ولذا يعامل معاملة من جهة، ومعاملة من جهةٍ أخرى، فباعتبار الحياة التي تشبه حياة النبات يجوز قصه حال حياة الحيوان، ويكون حينئذٍ طاهراً؛ لأنه لو كانت حياته مثل حياة الحيوان لقلنا: إنه لا يجوز قصه، وحينئذٍ يكون نجساً؛ لأنه ميتة؛ لأن ما أبين من حيٍ فهو كميتته، لكن تحله الحياة، وأيضاً حياته كالنبات لا كالحيوان، وفائدة هذا الكلام أنه يجوز قصه وجزّه حال حياة الحيوان الذي هو في الأصل ملتصق به، فباعتبار حياته لا يقال: إنه إذا قصّ وجزّ وتوقف نماؤه مات بعد أن كان حياً كحياة الحيوان فيكون نجساً، ولا يقال: إنه كجزء الحيوان وإن كان حياً، وتحله الحياة المناسبة له؛ لأنه لو قيل كذلك لقلنا: إنه لا يجوز قصّه كجزء الحيوان ويحكم بنجاسته؛ لأن حكمه حكم ميتته، فحياته كحياة النبات، هذا هو المقرر، وليس بميتٍ في الأصل؛ لأنه مشاهد، نموه مشاهد؛ لأن نموّه مشاهد، فيزيد مع الوقت.

الأرض الموات هي التي لا عمارة فيها، والتي لا ملك لأحدٍ عليها ولا اختصاص، هذه هي الأرض الموات، التي لا عمارة فيها ولا حياة تناسبها ولا ملكة فيها لأحد ولا اختصاص.

يقول -رحمه الله تعالى-:

"عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من عمّر))" عمّر ويمكن ضبطه بالتخفيف، وجاء في بعض الروايات: ((من أعمر أرضاً ليست لأحدٍ فهو أحقّ بها)) من عمّر وبالتخفيف أيضاً يضبط من عَمَر، وعمّر من التعمير، وعَمَر من العمارة {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [(61) سورة هود] يعني طلب عمارتكم لها؛ لأن السين والتاء للطلب، فطلب العمارة يناسب التخفيف؛ لأن التشديد عمّر مصدره تعمير، وأما رواية: ((أعمر)) فحكم بعضهم بضعفها من حيث الرواية، ومن حيث المعنى؛ لأن أعمر –الهمزة همزة التعدية هنا- تجعل الذي عمر هذه الأرض غير من أعمر، تجعل الذي يعمر الأرض ويتولى عمارة الأرض غير (من) التي هي في الأصل..، لا يعود على (من) التي هي الشرطية، إيش معنى هذا الكلام؟ يعني من (عمرّ) يعني بنفسه، من (أعمر) من طلب من أحدٍ أن يعمر هذه الأرض ((فهي له)) الضمير لمن؟ لو افترضنا أن هذه أرض ميتة بيضاء لا ملك فيها لأحد ولا عمارة ولا اختصاص، جاء زيد من الناس وسبق إليها، وقال لعمرٍ: أعمر هذه الأرض، لو أن زيداً هذا السابق لها والمتقدم إليها دون أن يسبق لأحدٍ له يد عليها لو أنه عمرها قلنا: عمّرها أو عَمَرها ماشي، لكن إذا كلّف أحداً يعمرها قيل: أعمر، وهذه يسمونها همزة التعدية، والفعل من الأصل متعدي، وبدلاً من أن يتعدى لواحد يتعدى لاثنين، إذا قلت: ذهب زيد، هل هو مثل قولك: أذهبت زيداً؟ لا، يختلف، فقولنا أو في الرواية: ((من أعمر)) يعني من كلّف أحد أن يعمرها ((فهي له)) على رواية: عمّر أو عَمَر ظاهر، الضمير يعود إلى هذا الذي سبق إلى هذا المباح الموات، وتكون له، واللام هذه لام ملك أو اختصاص؟ شبه ملك؟ "اللام للملك وشبهه" هل هذه اللام لام ملك أو لام شبه الملك الذي هو الاختصاص؟ إذا قلنا: الدار لزيد، والفرس لزيد، هذه اللام ملك ما فيها إشكال، لكن إذا قلنا: الجل للفرس، والقفل للباب، هذه لام شبه ملك، يعني أن هذا القفل مخصص لهذا الباب وهو اختصاص؛ لأن عندنا في هذا الباب في باب إحياء الموات ما يسمى بالملك وما يسمى بالاختصاص، ولكلٍ منهما أحكامه المترتبة عليه، فهي له إذا قلنا: عمّر أو عَمَر سبق إليها وهي مباحة لا عمارة فيها لأحد ولا ملك ولا اختصاص تكون له إذا عمّرها وأحياها بالحد المذكور عند أهل العلم بأن يكون أحاطها بسور لا يقل عن ثلاثة أذرع بحيث يمنع من الوصول إليها، ويمنع من الخروج منها، إذا أحاطها بجدار طوله ثلاثة أذرع هذا المحدد عند أهل العلم؛ لأن ما دونه يمكن التسلق عليه، ويمكن القفز منه من الداخل، فلا يمنع الجدار الأقل من ثلاثة أذرع لا يمنع، فإذا وجد هذا السور فإنه عمارة، ثم بعد ذلك يتصرف فيها إما بزراعة أو بما يشاء، هذا نوع من العمارة، لكن لو كانت أقل، لو أحاطها بكثيبٍ من الرمل الذي يسمونه إيش؟ عقم، نعم، هذا لا يكفي، هذا لا يسمى عمارة، فمثل هذا يسمى اختصاص، تضرب له مدة فإن أحياها بالعمارة المعتبرة بأن زرعها أو أحاطها بجدارٍ لتكون مأوىً لدوابّه أو لماشيته أو تكون مستودعاً لبضائعه، إن أحاطها بالجدار المذكور وإلا فلا، فلا يكفي مثل الجدار القصير أو ما يسمى بالعطن بكثيبٍ من الرمل والبلدان تختلف؛ لأن هذه العمارة جاءت مطلقة بنصوص الشرع فيرد تفسيرها إلى العرف.

((من عمّر أرضاً ليست لأحدٍ)) لأن الأرض المملوكة لأحد لا يجوز التعدي عليها، والتعدي على الأرض المملوكة لأحد هذا يسمى غصب ((ومن اقتطع شبراً من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أراضين)) فالاعتداء على الأراضي المملوكة المعروف أصحابها، التي لها أصحاب مثل هذه غصب وتعدي وظلم، طيب هناك أراضي لا يعرف أربابها، وهي أوقاف مندرسة قديمة أو لها أرباب ضيّعوا الإثباتات التي تدل على أنها لهم، هذه أيضاً لا يجوز التعدي عليها حتى تثبت لأصحابها أو يحكم حاكم بأنها ليست لهم فتعود مواتاً، فهذا الموضوع أمره وشأنه عظيم؛ لأن من اقتطع شبراً من أرض إيش أقل من شبر؟ الذي لا يسع قدم ((شبراً من أرض طوقه من سبع أراضين)) فهذا الأمر في غاية الأهمية لا بد أن ينتبه له المسلم، صحيح الشرع أطلق في مثل هذا ((من عمّر أرضاً)) بهذا القيد ((ليست لأحد فهي له)) أو فهو أحق بها، أو فهو أحق دون بها، النص والذي يليه ليس فيه ذكر للإمام، فهل لكل أحدٍ أن يذهب إلى شيء لا يملك ويقيم عليه سور ويقول: أحييت هذه الأرض فهي لي؟ نعم الجمهور على أنه لا يشترط في هذا إذن الإمام، لكن شريطة أن لا يحتاج إليها، هذه الأرض لا يحتاج إليها في المصالح العامة، فلا تكون في وادٍ، أو في مسيل يجري معه الماء فمثل هذا لا يمكن أن يملك، اللهم إلا إذا استغني عنه، يعني كان هذا المسيل يصب في مزارع، ثم هذه المزارع خططت وجعلت دور ومساكن، الدور والمساكن ليست بحاجة إلى مجرى للسيل؛ لأن هذا المسيل يصب في هذه الدور، فالذي يمنع من ورود هذا الماء إلى هذه الدور محسن بخلاف ما لو كانت هذه الأراضي كلها مزارع فإن هذا المجرى وهذا المسيل هذا يحتاجه أهل المزارع؛ لأنهم بحاجة إلى الماء، بحاجة إلى هذا المجرى لو حيل بينهم وبينه لتعطلت مزارعهم، ولماتت زروعهم، فمثل هذا لا يملك، اللهم إلا إذا عدمت منفعته، بل صارت المصلحة فيه الحيلولة دونه ودون هذه البيوت، علماً بأن البناء في مجاري السيول ولو وضعت جميع الاحتياطات لا شك أنه ضار، والسيل له مجاري يأتي من حيث لا يحتسب الإنسان، يضع الاحتياطات التي تدور في باله وقت العمارة ثم بعد ذلك يؤتى من حيث لا يحتسب، ولذا ينهى عن البناء في هذه المواطن، على كل حال إذا احتيج إلى هذه الأرض مصلحة عامة، مرفق عام يحتاجه الناس فإنه لا يجوز حينئذٍ إحياؤه ولا يملك بالإحياء، أما إذا خلا من الملك والاختصاص والعمارة لأحد ولا يحتاجه الناس فإنه حينئذٍ ينطبق عليه الحديث: ((من عمّر أرضاً ليست لأحدٍ فهو أحق بها)) أحقّ بها، أحقّ: أفعل تفضيل، وأفعل التفضيل تقتضي أن هناك شيئين فأكثر يشتركان في وصف هو الحقّ، لكن يفوق أحدهما الآخر في هذا الوصف، فمعنى هذا أن الناس كلهم لهم حق في هذه الأرض؛ لأنها ليست لأحد، فالناس يتساوون فيها والحق لهم مشاع فيها، لكن من سبق إليها وتقدّم إلى ما لم يسبق إليه في هذه الأرض وحقّق الشرط في الحديث: ((عمّر)) فهو أحق بها من غيره، وحينئذٍ يبقى فيها حق لأحد أو لا يبقى؟ إذا عمّرها فهي له كما في الحديث، كما سيأتي في الحديث الذي يليه، ينقطع حق الغير عنها، وتصير ملكاً له إذا أحياها الإحياء المعتبر، ويبقى أنها إذا عادت مواتاً، أحياها مدة، زرعها مدة، ثم بعد ذلك رأى أنه ليس من المصلحة أن يتابع في زراعة هذه البقعة فأهملها وعادت مواتاً كما هي، نعم تعود موات وإلا تستمر حق له يبيعها؟ يعني فهي له ملك دائم مستمر أو ملك معلّق بوصف متى وجد هذا الوصف وتحقق هذا الوصف فهي له أو فهو أحقّ بها؟ يعني علقت بوصف، يعني كانت الأراضي ليست على هذه الصفة، أو مثل هذا الوقت الذي نعيشه، يعني بالإمكان أن يزرع اليوم في هذا المكان ويصير له وبعدين يرحل يشوف مكان ثاني، يعني ما تعلق الناس بالدنيا مثل تعلقهم الآن، لم يتعلقوا بالدنيا كتعلقهم الآن، الآن البيت جزء من الحياة عند الناس، لكن قبل؟ بإمكانه يزرع في هذا المكان إذا ما ناسب يشوف مكان ثاني ولا أحد يقول له: وين أنت رايح؟ ولا يستأذن إمام ولا شيء، هذا قول الجمهور أنه لا إذن للإمام في مثل هذا، لكن عند الحنفية لا بد من إذن الإمام، متى يتجه القول بقول الحنفية؟ أولاً: النصوص خالية عن إذن الإمام، لكن قد يتجه القول بقول الحنفية متى؟ إذا وجد مثل الظرف الذي نعيشه من المنافسة على هذه الأمور والشحناء، ولو قيل في مثل هذا الوقت: إنه لا إذن لإمام في مثل هذا لا شك أن الناس يقتتلون على هذه الأراضي، فلا بد من تنظيم في مثل هذا الوقت؛ لأن صار لها شأن، والأمور حينما كان الناس يتسامحون فيها، ويتعافون فيها أمرها سهل، لكن إذا وجد مثل هذه المشاحّة الشديدة في الأراضي لا بد من تنظيم، والأصل في الأشياء والأعيان الإباحة، لكن إذا دخل هذه الأمور المباحات ما يقتضي التنظيم لا شك أنه لا بد منه، يعني مسألة تقبيل الحجر مثلاً، وش الأصل فيه؟ أنه مشروع ومستحب، وبدون إذن إمام ولا شيء، لكن إذا رأى الإمام الناس يقتتلون عليه ما يضع حارس عليه من الشرط أو غيرهم ينظم الناس، حفاظاً على مصالح الناس؟ فاشتراطهم للإمام في مثل هذه الأمور من هذه الحيثية، لا لأنه تغيير حكم شرعي، يعني حينما يقول العلماء في صلاة الجمعة: ولها شروط ليس منها إذن الإمام، إذا كانت الأمور ماشية عادية في كل حيّ أو في كل بلد مسجد جامع، ولا يزيدون على الحاجة هذا الأصل، ولا يستأذن الإمام في هذا لأنها عبادة، والعبادات الخاصة لا تحتاج إلى إذن، لكن إذا تنافس الناس، وتباهى الناس، وصار في كل حيّ خمسة جوامع، ستة جوامع، وصار..، بل جعلوا كل مسجد جعلوه جامع؟ ألا يتدخل الإمام في مثل هذا؟ لا، له أن يتدخل، وحينئذٍ يشترط إذنه كما هو الواقع الآن، ليس كل أحد أراد أن يعمر مسجد يجعله جامع، ولو كان بجواره جامع آخر؛ لأن الأصل في مشروعية صلاة الجمعة وخطبة الجمعة الاجتماع، وما سميت جمعة إلا لأن الناس يجتمعون فيها، أكبر قدر ممكن يجتمع، ولذا العلماء يحرمون إقامة جمعة ثانية، يمنعون، وإذا أقيمت جمعة ثانية فالأولى صحيحة والثانية باطلة، فإذا وجد مثل هذا الأمر الذي يختل فيه الهدف الشرعي، ولا يتحقق الهدف الذي من أجله شرع هذا الأمر فلا بد أن يتدخل الإمام، ما نسمع مثل هذا الكلام، وكونه ما يحتاج إذن إمام في مثل هذا، في إحياء الموات، ونتسابق ونتصارع والإمام يتفرج ما هو صحيح! وقل مثل هذا فيما ذكرنا في تقبيل الحجر الأسود مثلاً، الإمام يرى الدماء تسيل حول الحجر الأسود والمضاربة والزحام الشديد ويتركهم؟ إيش معنى إمام إلا ليدبر أمورهم وشؤونهم؟ فلا نفهم مثل هذه الأمور على غير وجهها؛ لأن بعض الناس قد يقول: إن اشتراط إذن الإمام زيادة على ما شرعه الله، والأصل أن الأمور مباحة، وكل واحدٍ يسبق، وتجد هذه السيارات تجوب هذه الصحاري والقفار وتخطط وبعدين..؟ فلا بد من إذن الإمام حينئذٍ، أما إذا مشت الأمور بدون الشحناء والبغضاء والمنافسة التي قد تستدعي القتال أحياناً، الأراضي حصل من جرائها قتال، يعني ألا يسمع في بعض القضايا أنه اقتتل اثنان من أجل أرض؟ يمكن، فلا بد من تدخل الإمام في مثل هذه الحالة.

((من عمّر)) هذه (مَن) مِن صيغ العموم تشمل الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والمسلم والكافر، هذا الأصل في هذه الصيغة، لكن جاء في بعض الأحاديث ما يدل على التقييد بالمسلم، وأن هذه الأمور المباحة المتاحة للجميع إنما هي للمسلمين، فمن ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم)) يعني المسلمين، وسيأتي في حديث: ((المسلمون شركاء في ثلاثة)) وهذا سيأتي، مما يدل على أن غير المسلم لا يشارك المسلمين، هذا إذا أتيح وأبيح له البقاء بشرطه الشرعي.

في الحديث الذي يليه، أما بالنسبة للموات التي تقدم ذكره، وذكرنا أنه ليس فيها عمارة، ليست معمورة، وليس فيها ملك لأحد، ويدخل في هذا الأحد الذي اشترط نفي ملكه المسلم والكافر المأذون ببقائه، فإنه حينئذٍ يملك، إذا أذن ببقائه ملك، فلا يجوز التعدي على حقه ولو كان كافراً، ما دام ذمياً، أو مستأمناً، أو دخل بإذن المسلمين.

الحديث الذي يليه يقول:

"عن سعيد بن زيد" هناك في الحديث الأول: "رواه البخاري، قال عروة: وقضى به عمر في خلافته" أحياناً يأتون بالموقوفات بعد الأحاديث المرفوعة، يعني ما الداعي لقول عروة: قضى به عمر في خلافته بعد قوله -عليه الصلاة والسلام- والحجة في قوله -عليه الصلاة والسلام-؟ ليبيّنوا أن الحكم محكم غير منسوخ، وأن النبي -عليه الصلاة والسلام- توفي والأمر على ذلك وقضى به من بعده.

"وعن سعيد بن زيد" سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، أحد العشرة المبشرة بالجنة.

سعيد وسعد وابن عوفٍ وطلحة

 

وعامر فهرٍ والزبير الممدح

هذا سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل معروف وأبوه أيضاً مشهور "-رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من أحيا أرضاً ميتةً فهي له))" يعني (من) شرطية، وأحيا فعل الشرط، وجوابها فهي له.

رواه الثلاثة، وقال ابن حجر: رواه الثلاثة فمراده أبو داود والترمذي والنسائي، يعني الأربعة سوى ابن ماجه، وحسّنه الترمذي، وقال: روي مرسلاً، وهو كما قال، يعني الإرسال فيه ظاهر، كيف يحسّنه وهو مرسل؟ كيف يحسنه الترمذي وهو مرسل؟ نعم قد يحسّن ما فيه انقطاع الترمذي -رحمه الله-، والحديث محكوم عليه بأنه حسن من غير الترمذي -رحمه الله-.

يقول الحافظ في فتح الباري بعد أن ساق شواهد الحديث، وذكر أن في أسانيدها مقالاً لأهل العلم كناية عن تضعيفها إلا أنها يتقوى بعضها ببعض فتصل إلى درجة الحسن لغيره، ومن أقوى الشواهد الحديث الذي قبله، هذا الحديث: ((من أحيا أرضاً ميتة فهي له)) والثاني: ((من عمر أرضاً ليست لأحدٍ فهو أحق بها)) إلا أن الصيغة في الحديثين فيها نوع اختلاف، يعني هل نقول: إن حديث عائشة شاهد لحديث سعيد بن زيد؟ أولاً: حديث عائشة لا يحتاج إلى شاهد في البخاري، لا يحتاج إلى شاهد أصل برأسه، لكن إذا أردنا أن ندرس حديث سعيد بن زيد وذكرنا شواهده نذكر حديث عائشة شاهداً له؟ وهنا تأتي مسألة في غاية الأهمية في مصطلح الحديث ننتبه لها، حديث سعيد بن زيد فيه كلام لأهل العلم، ومضعّف، وشواهده أفرادها ضعيفة، وجدنا له شاهد في الصحيح من حديث عائشة، هل نصحح حديث سعيد بن زيد باعتبار أن له شاهد في الصحيح أو نكتفي بقولنا: حسن؟ بمعنى أن الحديث الضعيف الذي له شواهد بعضها ضعيف، وبعضها حسن، وبعضها صحيح، هل يترقى درجة واحدة أو يترقى درجتين؟ يعني عندنا حديث ضعيف له شاهد أو شواهد ضعيفة، ثم وجدنا ما يشهد له من الأحاديث الصحيحة؟ بالأحاديث الضعيفة التي ضعفها قريب، مثل ضعفه يترقّى إلى الحسن لغيره، هذا ما فيه إشكال وجدنا له شاهد صحيح، هل نقول: إن هذا الضعيف يرتقي إلى الصحيح؟ بمعنى أننا نرقيه درجتين؟ أو نقول: يرتقي إلى الحسن لغيره فلا نرقيه إلا درجة واحدة؟ وهذه مسألة معروفة عند أهل العلم وفيها كلام الأكثر على أنه لا يرتقي أكثر من درجة، فغاية ما يقال في حديث سعيد بن زيد أنه حسن لغيره، ومنهم -وأشار إليه الحافظ ابن كثير في اختصار علوم الحديث- أنه لا مانع من أن يرقى إلى درجتين؛ لأن المقصود إيش؟ المتن، المقصود المتن والمتن صح، بل صح في البخاري، فلا مانع من أن نقول: حديث سعيد بن زيد صحيح؛ لأن له شاهداً في الصحيح على كلام من يرقي درجتين، وهذه المسألة يحتاجها كل من يخرج الأحاديث، والإشارة إليها خفية في كتب أهل العلم، إنما قد توجد في كتب التخريج، فينتبه لها، إذا درسنا حديث عائشة قلنا: صحيح ما تردنا فيه، لماذا؟ لأنه في البخاري إذا كانت الدراسة لحديث عائشة، لكن افترض أنك تدرس الحديث من جامع الترمذي، ووجدت حديث سعيد بن زيد؟ إذا جمعت طرقه وألفاظه جزمت بأنه بمجموع هذه الطرق يرتقي إلى الحسن لغيره، فإذا أضفت إليه ما في الصحيح هل ترقيه إلى الصحيح أو يستمر حسب الشواهد التي ذكرت له حسن لغيره؟ ففرق بين أن ندرس حديث عائشة أو أن ندرس حديث سعيد بن زيد، مثل هذا لا بد من الانتباه له؛ لأن بعض الناس يغفل عن الحديث المشروح، الحديث المدروس هو الأصل ولو كان ضعيفاً، ثم بعد ذلك تحشد له بما يرقيه، تأتي له بما يرقيه، أما بعض الناس وهو يدرس حديث في ابن ماجه وفيه كلام وكذا، وفي ذهنه حديث صحيح يحكم بمجرده..، على طول يحكم للحديث بالصحة، فهذا يختلف مع ما سار عليه أهل العلم في هذا الباب، نعم قد يكون مثل شيخ الإسلام -رحمه الله- قد يورد حديث: ((من أحيا أرضاً ميتة فهي له)) وهو حديث صحيح وفيه وفيه ليش؟ لأن شيخ الإسلام عنده تصور تام للنصوص، فهو يحكم عليها بموجب هذا التصور، ولذلك ينتقد في بعض الأحاديث؛ لأنه يحكم عليها بهذا التصور العام -رحمه الله-، ومثل ذلك حينما يحكم على مسألة في مسألة شرعية، أنت يعوزك الدليل، لكن هو من خلال نظرته الشاملة للشريعة والقواعد العامة والكلية يعطيك الحكم وهو ماشي -رحمه الله-، بينما أنت قد لا تجد له مستند، وهو من هذه الحيثية جاري على القواعد الشرعية.

نعود إلى الحديثين، هل يصلح حديث عائشة لئن يكون شاهد لحديث سعيد بن زيد؟ أولاً: ليس بمتابع لأنه صحابي يختلف، فهل يصلح أن يكون شاهداً؟ هل المعنى واحد في حديث عائشة وفي حديث سعيد بن زيد؟ ((من عمّر أرضاً ليست لأحد فهو أحقّ بها)) و((من أحيا أرضاً ميتة فهي له))؟.

ما هم من هذه الحيثية، التعمير والإحياء كلاهما يثبت الملك هنا، يثبت بلا شك، لكن في الحديث الأول يثبت الأحقية، وفي الثاني يثبت الملك، فإذا قلنا: "فهي له" لام ملك، وهناك أحقّ، كونه أحق بها لا يعني أن حقوق الغير المتعلقة بها انقطعت، لكن هو أحق بها، هذا في الأصل، في استعمال اللغوي لهذا اللفظ، كونه أحق بها لا يقطع حقوق الآخرين منه، بمعنى أنها لو عادت بواراً مرة ثانية ما صار أحق بها فتعود، وإذا قلنا: له لا تخلو هذه اللام إما أن تكون لام ملك أو لام اختصاص، فإن قلنا: هي لام اختصاص صار المعنى واحد، يختص بها ما دام محيياً لها، أما إذا عادت فليس بأحق بها، وليست له، وإذا قلنا: إن اللام للملك لا تعود أبداً، خلاص صارت ملكه، ولو عادت بوار له أن يبيعها، مسألة الأحقية المذكورة في الحديث الأول إذا قلنا: هذا الكتاب عندنا وضعنا كتاب هنا، ووضعنا عليه مسابقة وقلنا: من يفوز بهذه المسابقة له هذا الكتاب، أو هذا الكتاب من يجيب على هذه الأسئلة فهو له، أو فهو أحق به، فأجاب عشرة طلاب، واحد من الطلاب أخذ مائة بالمائة في الجواب، والثاني أخذ تسعين، والثالث تسعة وثمانين، إلى سبعين، ودرجة النجاح من ستين كلهم نجحوا، لكن من الأحق به؟ الأول الذي أخذ مائة بالمائة فهو أحق به، وهذا الحق وإن اشتركوا فيه بالجملة إلا أنه لا يتعدد، لا يحتمل إلا شخص واحد لا يمكن قسمته، فيملكه الأحق، انتبهوا يا الإخوان، إحنا عندنا كتاب وضعنا عليه مسابقة، وقلنا: من أجاب على هذه المسابقة فهو أحق به، أجاب عشرة على هذه المسابقة، وكلهم تجاوزوا درجة النجاح، فصار لكل واحد منهم حق متعلق بهذا الكتاب، إلا أن أحقّهم به الذي أخذ الدرجة كاملة، هذا الكتاب يملكه لأنه أخذ الدرجة الكاملة، هل معنى هذا أنهم لهم نظر فيها أو لهم حق فيه من خلال الصيغة؟ ....... من أجاب على المسابقة فهو أحق به؟ أو نقول: إن استعمال هذه الصيغة على خلاف الأصل، ويأتي أفعل التفضيل مستعملاً في غير أصله {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [(24) سورة الفرقان] فهل أهل النار عندهم خير من خلال الصيغة؟ الأصل في استعمال هذه الصيغة نعم، يشتركون في الخير، لكن استعمل هذا اللفظ في غير موضعه، وفي غير معناه الأصلي ولا اشتراك بينهم، ونقول مثل هذا في الحديث، فإذا قلنا: إن أفعل ليست على بابها فيكون حينئذٍ ملكها وانتهت، فلا تعود بواراً ولا تعود مواتاً مرةً ثانية، ويؤيده رواية: ((فهي له)) قد يتحايل بعض الناس ويسبق إلى أرض ثم يسورها ويضع فيها مواد تجارية أخشاب وحديد واسمنت ويسميه مستودع، ثم بعد ذلك يسحب هذه المواد ويبيعها، نقول: في ظروفنا التي نعيشها يوجد مثل هذه التصرفات، أما قبل ما توجد مثل هذه الأمور، فلا بد من أن يضرب له الإمام مدة، يعني في باب الاختصاص مثلاً، وضع على الأرض عقوم، يعني ما هي جدران، وضع عليها كثبان من الرمل هذا يسمى اختصاص وليس إحياء ولا تمليك، في مثل هذه الصورة يضرب له الإمام مدة، إما أن تعمر هذه الأرض، وتحيي هذه الأرض وإلا تسحب منك، وقل مثل هذا في الإقطاع، وأعطيات الإمام من الأراضي، من أهل العلم من يقول: إن الإمام يملك أن يعطي من الأراضي ما يعطي، ومنهم من يقول: إن أعطيات الإمام إنما هي مجرد اختصاص، والملك لا يتم إلا بالشراء أو بالهبة أو بالإذن أو بالإحياء، فالإمام لا يملك يعطي عند جمع من أهل العلم، وإنما يفيد اختصاص، يكون أحق بها، وعلى هذا تضرب له مدة، فإن حقق الشرط الشرعي عمّر وأحيا وإلا تنزع منه.

والمسائل المتعلقة بالإحياء كثيرة لا تنتهي من خلال المشاكل التي وجدت في المحاكم لا سيما مع وجود هذا التشاحن والتنافس على أمور الدنيا، وإلا فالأصل أن المسلم ينظر إلى هذه الدنيا أنها معبر وليست مقر، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، هذا الأصل، لكن هم يتحايلون بطرق ووسائل، والله المستعان، فالمسائل في هذا الباب كثيرة جداً، ومردّها إلى القضاء، والمحاكم فيها من المشاكل الشيء الكثير المتعلقة بهذا، صدر لوائح تنظيمية للإحياء والإقطاع هي معمول بها في المحاكم، والله يعينهم ويسددهم.

وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن الصعب بن جثامة -رضي الله تعالى عنه- أخبره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) رواه البخاري.

وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا ضرر ولا ضرار)) رواه أحمد وابن ماجه.

وله من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- مثله، وهو في الموطأ مرسل.

نعم، يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن الصعب بن جثامة -رضي الله تعالى عنه- أخبره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) رواه البخاري".

لا حمى الحمى في الأصل تحديد موقع مناسب، وقد يكون أفضل المواقع للرعي بحيث يحتجره ويحميه الإمام لترعى فيه إبل الصدقة أو مواشي بيت المال، أو الخيل التي تعدّ للغزو في سبيل الله، وأما الأملاك الخاصة فإنه لا يحمى لها، ولا يمنع الناس من أجلها، من الرعي في هذه الأرض التي يقع نظر الإمام عليها ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) ولا هذه نافية، والنفي هنا يراد به النهي، وهو أبلغ من النهي الصريح، أبلغ مما لو قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا يحمي أحد إلا ما كان لله ورسوله" يعني من إبل الصدقة، المواشي الزكوية التي تجبى من بهيمة الأنعام، والخيل التي تعد في سبيل الله، فالنفي هنا أبلغ من النهي، ومفاده النهي فلا يجوز لأحدٍ أن يحمي، ولا يجوز له أن يمنع الناس من الرعي في أي بقعةٍ كانت من الموات، ما لم تكن ملكاً له إلا إذا كان يحميها لله ولرسوله، في الحديث: في حديث النعمان بن بشير: ((ألا وإن لكل ملكٍ حمى)) وهذا أمر معتاد قبل الإسلام، كل ملك تقع عينه أو يقع نظره على بقعةٍ هي أنفع من غيرها لماشيته لكثرة النبات فيها يتخذونه، وبعد ذلك يمنع الناس من قربانها، ولذا جاء في الحديث: ((ألا وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)) ثم قال: ((كالراعي يرعى حول الحمى)) وبعض الناس يحمي أرض ليست له، ثم بعد ذلك يمنع من دخولها، وإذا دخل فيها من غير قصد لأن المواشي من يملكها؟ طرد هذه المواشي، بل تعدى على صاحبها، وهذا ظلم نسأل الله السلامة والعافية، فلا يجوز له أن يحمي إلا إذا كان الحمى لله ولرسوله، أما لأمواله الخاصة فلا يجوز له أن يحمي.

"عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن الصعب بن جثامة أخبره أن النبي -عليه الصلاة والسلام-" الحديث هذا من مسند ابن عباس أو من مسند الصعب؟ نعم؟ نعم لأن الإخبار والتحديث إنما هو من الصعب، لكن أحياناً عن ابن عباس أن الصعب بن جثامة فعل كذا مثلاً أو قال له النبي -عليه الصلاة والسلام- كذا، فيكون من مسند ابن عباس؛ لأنه هو صاحب الخبر والقصة.

((لا حمى إلا لله ولرسوله)) النبي -عليه الصلاة والسلام- ثبت أنه حمى النقيع، وهو في الجهة الغربية التي تميل إلى الجنوب من المدينة على بعد سبعين أو ثمانين كيلاً على مسافة قصر، ومساحته تقرب من مئة كيلو مربع، اثنا عشر في ثمانية في ستة من جهة، المقصود أنها تنقص عن المائة، هذه محمية لإبل الصدقة، النبي -عليه الصلاة والسلام- حمى النقيع، وثبت عن عمر أنه حمى، لكن لا يحمون لأموالهم الخاصة، يعني مثلما تقتطع أرض وتجعل مستودع مثلاً لسيارات الحكومة مثلاً، لا يجوز لأحدٍ أن يقربها هذا حق، ولا أحد يمنعه؛ لأن هذه السيارات أو هذا المتاع العائد إلى بيت المال يحتاج إلى حماية، فمثل هذا لا إشكال فيه يحمى له ويقتطع له من الأرض، ويمنع الناس من دخولها بلا إشكال؛ لأن الحمى في هذه الحالة إنما هو لبيت المال، مع أن بعضهم يأخذ بمنطوق الحديث، ويعمل مفهومه، فيقول: لا حمى إلا لله ولرسوله فقط، يعني ليست لأبي بكرٍ أن يحمي، وليس لعمر أن يحمي وليس لولي الأمر كائناً من كان في أي وقتٍ، كان أن يحمي ولو كان للمصالح العامة، ولو كان لإبل الصدقة، نعم لإبل الصدقة يجعلها ترعى مع إبل الناس، فلا يضيق على الناس من أجل إبل الصدقة، أسلوب الحديث أسلوب حصر ((لا حمى إلا لله ولرسوله)) فهل هذا الحصر حصر حقيقي أو إضافي؟ إذا قلنا: حصر حقيقي فمعناه أنه ليس لأحدٍ أن يحمي كائناً من كان، ولا أبو بكر ولا عمر، بل هذا الحكم خاص بالله ورسوله، لكن أبا بكرٍ حمى، وعمر -رضي الله تعالى عن الجميع- حمى، عمر حمى الربدة، لكن حماها لمن؟ لإبل الصدقة، فدل على أن القول أو أن الحصر في الحديث حصر إضافي، وهل هو قصر موصوفٍ على صفته أو صفة على موصوف؟ يعني إذا قلنا: لله ولرسوله، يعني ما كان ملكاً لله ورسوله كإبل الصدقة مثلاً أو الخمس من الغنيمة قصرنا على هذا الوصف، فعلى هذا كل من كان عنده ما يتصف بهذا الوصف له أن يحمي، وليس المقصود به الموصوف هو الذي يحمي، إنما ما يحمى من أجله، ولذا حمى أبو بكر وحمى عمر، حمى الربذة لإبل الصدقة، لكن هل ضيّق على الناس؟ ومنع الناس من الرعي فيها؟ عمر -رضي الله تعالى عنه- كما جاء في الخبر الصحيح يقول..، عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- استعمل مولىً له يقال له هني على الحمى فقال له: يا هني، اضمم جناحك عن المسلمين، يعني مفهوم حديث النعمان بن بشير أن الملك ((ألا وإن لكل ملكٍ حمى)) معناه أنه لا تقرب من هذا الحمى لأن الملك سوف يؤذيك، لكن عمر -رضي الله تعالى عنه- يقول: يا هني اضمم جناحك عن المسلمين، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل –يعني في هذا الحمى- رب الصريمة، ورب الغنيمة، يعني الفقراء والمساكين الذي عندهم أشياء يسيرة خلهم يرعون، أدخلهم، وغض الطرف عنهم، وأدخل رب الصريمة، ورب الغنيمة، وإياك ونَعَم ابن عوف وابن عفان، هذولا من الأغنياء، يعني رب الصريمة، ورب الغنيمة الأشياء اليسيرة الفقير الذي ما عنده إلا رؤوس من الماشية يسيرة هؤلاء أدخلهم، لكن نعم ابن عوف وابن عفان لا تدخلهم، والسبب؟ السبب أنه إن تهلك هذه الصريمة وهذه الغنيمة وين بيروح؟ بيجي لعمر يطلبه من بيت المال، والعشب الذي في هذه الأراضي المحمية أسهل على عمر وعلى غير عمر من الذهب والفضة، لكن إذا هلك نعم ابن عوف أو ابن عفان يأوون إلى أموال، وإلى زروع، وإلى ضياع، يأوون إلى شيءٍ ما يجعلهم يأتون إلى عمر يطلبون منه ما يقتاتون به، وما يعيشون منه، ولذلك قال: وإياك ونعم ابن عوفٍ ونعم ابن عفان فإنه إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخلٍ وزرع، وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببينة يقول: يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا لا أبا لك، فالماء والكلأ أيسر عليّ من الذهب والورق، وأيم الله أنهم يرون أني ظلمتهم، وإنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمي عليه في سبيل الله ما حميت على الناس في بلادهم، فدل هذا على أن الإمام له أن يحمي لإبل بيت المال، الإبل التي تعود على المسلمين بالعامة، لا الإبل التي تعود عليه في خاصته.

"وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا ضرر ولا ضرار)) رواه أحمد وابن ماجه".

 وله من حديث أبي سعيد مثله، وهو في الموطأ مرسل، المراسيل في الموطأ كثيرة جداً؛ لأن الإمام مالك يعمل بالمراسيل، وكثيراً ما تجد الحديث مروي في الصحيح من طريق مالك موصول، وتجده في الموطأ مرسل، فالإمام مالك لا يكترث لمثل هذا؛ لأن المراسيل عنده حجة، وعلى كل حال فالحديث بطرقه العديدة يصل إلى درجة الصحيح، ومع هذا فمفاده قاعدة من قواعد الشريعة (لا ضرر ولا ضرار) فالضرر الابتداء بما يضر الغير، والضرار المجازاة على هذا الضرر بأكثر منه، بما يترتب عليه ضرر أكثر من الضرر الأول، فالضرر لا يجوز ابتداؤه؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا ضرر)) وهذا نفي يراد به النهي كما تقدم في الحديث الذي قبله، وهو أبلغ، فلا يجوز أن يصدر الضرر من أحدٍ لأحد، لا يجوز {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} [(233) سورة البقرة] فيمنع الضرر من أي جهةٍ كانت، ومن أي شخصٍ كان؛ ولأي شخصٍ كان، لا يجوز الضرر، فلا تضارر المرأة والدة بولدها، لا تضارر الأب، ولا المولود له، يعني الأب لا يضارر الأم، كما أنه لا يضارَر؛ لأن اللفظ مشترك بين الفاعل والمفعول، فإذا قلنا: لا يضارِر ويحتمل بعد الفك أن يكون لا يضارَر أيضاً، لا تضارِر ولا تضارَر، فهو من الطرفين، فلا ضرر ولا ضرار.

قد يقول قائل: إن هذا الذي بدأ بالضرر لغيره لا يختلف أحد في أنه آثم؛ لأنه مخالف ومتعدي وظالم لغيره، لكن الذي يعاقب هذا المضارر وهذا المتعدي، هل هو منهي عن هذا الفعل؟ {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [(126) سورة النحل] {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [(40) سورة الشورى] فمعاقبة الجاني ليست بمضارة، ولا تدخل في الحديث ولا في المنع، معاقبة الجاني لا تدخل في هذا الخبر بقدر جنايته، فإن زادت المعاقبة على قدر الجناية صار ضرار، فالضرر الصادر من المبتدئ حرام، الضرر الصادر من المعاقب بقدر الجريمة التي صدرت منه هذه معاقبة بالمثل {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [(40) سورة الشورى] لا يأثم فيها، لكن إذا زاد دخل في الضرار، فيحرم عليه المعاقبة بأكثر مما أوذي به، فلا ضرر ولا ضرار.

طيب عندنا مسجد يقال له: مسجد الضرار، هل هو من هذا الباب أو من غيره؟ هل له علاقة بهذا الباب؟ كيف سميّ مسجد ضرار؟ والضرار في الخبر الذي معنا هو معاقبة الجاني بأكثر من جنايته، وقد يقول قائل: ونحن نقول: الضرر إيصال الأذى إلى الغير، والضرار معاقبته بأكثر من هذا الضرر، قد يقول قائل: إن القاعدة هذه منتقضة، بأي شيء؟ شخص يسرق ثلاثة دراهم فتقطع يده؟ هل كانت العقوبة بقدر الجريمة؟ نعم يا إخوان؟ يعني إذا قلنا: الضرر الابتداء بما يضر، والضرار العقوبة بأكثر مما يستحقه الجاني فإذا سرق ربع دينار أو ثلاثة دراهم قطعت يده، هل نقول: هذا ضرار؛ لأنه أعظم من الجناية؟ لا، أبداً، لماذا؟ لأن هذه الدراهم ليست مقصودة لذاتها؛ لأن الذي يسرق ثلاثة دراهم يسرق ما وراءها، يسرق ما هو أعظم منها، لكن لو سرق ثلاثة دراهم أو ربع دينار وقطعنا يديه كلتيهما قلنا: ضرار بلا شك، لو قلنا: هذا هو الضرار، طيب مسجد الضرار وش علاقته بالحديث؟ يعني منصوص عليه في سورة التوبة؟ هل له ارتباط له بالحديث أو لا ارتباط له به؟ الفعل ضارّ يضارّ مضارةً وضراراً، فهي مفاعلة بين شيئين، فالذين عمروا المسجد ماذا كان هدفهم؟ تفريق المسلمين، فهل هذه المضارة حصلت من طرفٍ واحد أو من طرفين؟ من طرف واحد، إذاً المفاعلة ليست على بابها، وإلا فالأصل أن المفاعلة تكون بين طرفين، وهؤلاء حصل الإضرار والضرار منهم فقط، فوقعوا في الإضرار بالأمة حيث أرادوا وقصدوا تفريق الصحابة عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، طيب لو شخص مثل عامر هذا المسجد عمر هذا المسجد ويريد بذلك أن يجتمع فيه المسلمين لأداء الصلوات والدروس العلمية، ثم جاء آخر فعمر مسجداً قريباً منه ليسحب هؤلاء الحضور عنه، وإمام المسجد هذا وإمام المسجد الثاني ما في تميّز لأحدهما عن الآخر، كما كان في عهده -عليه الصلاة والسلام-، هل نقول: المسجد الثاني مسجد ضرار؟ أراد أن يسحب المصلين عن هذا المسجد، والطلاب والحلق عن هذا المسجد؟ أراد الضرار بعامر المسجد؟ عامر المسجد عمر المسجد، وأنفق عليه، وأجره على الله، لكن يبقى أنه إذا صار مأوىً للمتعبدين، ومأوى لطلاب العلم، لا شك أن أجره يعظم، لا سيما إذا كان لعامر المسجد يد في كثرة هؤلاء الناس، فإذا أراد أحد أن يضار في هذا الأمر لا شك أنه ضرار، إذا أراد أن يفرق هؤلاء الجمع، ويفتت هذا التلاحم لا شك أن هذا ضرار، والله المستعان، لكن ما يحكم عليه بمثل ما حكم على المسجد الذي في عهده -عليه الصلاة والسلام- من الهدم والحكم بالنفاق وما أشبه ذلك، الأمور المقاصد خفية عن الناس، على كل حال إذا وجد مثل هذا، على من عرف حقيقة الأمر قبل وقوعه عليه أن يبذل النصيحة لمن أراد أن يضارّ، وولي الأمر يحكم في هذا، له أن يتصرف، له أن يمنع، له أن يهدم، الأمر له...

"