كتاب القضاء من سبل السلام (2)

بسم الله الرحمن الرحيم.

 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

قال- رحمه الله تعالى- في البلوغ وشرحه في كتاب القضاء:

"وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ» أَيْ إذَا أَرَادَ الْحُكْمَ؛ لِقَوْلِهِ «فَاجْتَهَدَ» فَإِنَّ..".

بيَّنا مرارًا أنَّ الفعل الماضي يُطلق ويُراد به إرادة الفعل مثلًا كما هنا، «إذا حكم الحاكم» ليس معناه إذا فرغ من الحكم. «وإذا دخل أحدكم الخلاء»، إذا أراد أن يدخل، {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ} [سورة النحل:98] إذا أردت القراءة وهكذا. ويُطلق ويُراد به الشروع في الفعل، كما أنَّه يُطلق ويُراد به الفراغ من الفعل، وهو الأصل.

" «ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، فَإِذَا حَكَمَ وَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ» لَمْ يُوَافِقْ مَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْحُكْمِ «فَلَهُ أَجْرٌ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الْحَدِيثُ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ اللَّهِ تعالى فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ قَدْ يُصِيبُهُ مَنْ أَعْمَلَ فكره وَتَتَبَّعَ الْأَدِلَّةَ وَوَفَّقَهُ اللَّهُ، فَيَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ".

نعم الحق واحد لا يتعدد، والمصيب من المجتهدين واحد. أمَّا من عداه فهو مخطئ؛ لأنَّ المقابلة بين من أصاب الحق، ومن أخطأ الحق، وكلهم على خير، كلهم على أجر، فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر واحد، شريطة أن يكون أهلًا لهذا العمل. أمَّا أن يأتي من ليس بأهل للقضاء ويقول: أنا أخطأت، لي أجر، نقول: لا، أنت من النوعين اللذين في النار- نسأل الله العافية-.

"الْحَدِيثُ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ اللَّهِ تعالى فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ، قَدْ يُصِيبُهُ مَنْ أَعْمَلَ فكرَه وَتَتَبَّعَ الْأَدِلَّةَ وَوَفَّقَهُ اللَّهُ، فَيَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ، أَجْرُ الِاجْتِهَادِ وَأَجْرُ الْإِصَابَةِ. وَاَلَّذِي لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ مَنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ. وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ مُجْتَهِدًا.

قَالَ الشَّارِحُ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنْ أَخْذِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، قَالَ: وَلَكِنَّهُ يُعَزُّ وُجُودُهُ، بَلْ كَادَ يُعْدَمُ بِالْكُلِّيَّةِ".

ذكروا أشياء شروطًا للمجتهد يعثر تطبيقها، لكن أصولها ممكنة، بأن يكون الإنسان لديه الأهلية، ولديه ما يعينه على فهم النصوص، ولديه ما يستطيع به الاستنباط من النصوص، وكيفية التعامل مع النصوص على طريقة أهل العلم. لا بد أن يأخذ من العلوم ما يعينه على فهم الكتاب والسُّنَّة. أمَّا الذي يكون عنده الخلل في كيفية الاستنباط فهذا ليس من أهل الاجتهاد، ولم يسلك طريقهم، لو استمر يطلب العلم، ويخزن، ويحفظ من المسائل بأدلتها فهذا لا يستطيع أن يكون في يوم من الأيام من أهل الاجتهاد، لكن من سلك طلب العلم على جادة أهل العلم، وأخذ من كل علم ما يكفيه لأحسن التعامل مع نصوص الكتاب والسُّنَّة، ولو كان محفوظه أقل من النوع الأول، فهذا بإذن الله يصل؛ لأنَّ المسألة مسألة طريق، صراط يوصلك إلى العلم، فإن سلكته على جادة أهل العلم وصلت، إن تخبطت وأخللت ببعض ما كان يطلبه أهل العلم ويدرسونه أهل العلم ويدرسونه، وتركت مثلاً علم النحو، ما له قيمة، وما الفائدة؟ هذا يستطيع أن يتعامل مع الكتاب والسُّنَّة؟

 هذا لا يستطيع، إذا قال: علم الأصول هذا علم مدخول، دخله علم الكلام، فأنا لا أتعاطاه، ولا أدرسه، كذلك ما يصل إطلاقًا، لا يستطيع أن يتعامل مع النصوص؛ لأنَّ النصوص فيها الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والخاص والعام، يعني كيف يتعامل من لا يعرف أصول الفقه معها؟

هذا لا يُمكن، فقليل من هذه العلوم يعني لا يُطلب مثلًا من طالب العلم أن يقرأ كل ما كُتب في النحو، أو في أصول الفقه، لا، يقرأ القدر الذي يعينه على فهم النصوص، ولا يخل به، ويجعل عنايته بنصوص الوحيين؛ ليتعامل معهما على هذه الطريقة، وينظر أيضًا في التفاسير وشروح الحديث، وينظر في أقوال أهل العلم في مواطن الخلاف والوفاق؛ ليعرف المسائل المختلف فيها، والمسائل المتفق عليها؛ لئلا يُخالفها ولو لم يكن محفوظه كثيرًا، حتى إنَّ العلماء لم يشترطوا للمجتهد أن يحفظ القرآن كاملًا، فما أجاب به بعضهم بأنَّ الاجتهاد مغلق، أغلقوا باب الاجتهاد من الستمائة، وكثير من أهل العلم يقول: الاجتهاد انقطع، لماذا؟

 لأنَّ العلماء وضعوا شروطًا لا يُمكن تطبيقها، لكن أنت لا تنظر إليها إلى أنَّها تؤخذ دفعة واحدة، أو أنَّ هذه العلوم التي ذكروها تؤخذ بجميع تفاصيلها، إنَّما يؤخذ منها القدر المحتاج إليه، والأمر سهل ويسير على من يسَّره الله عليه.

"قال: ولكنه يعز وجوده، بل يكاد أن يُعدم بالكلية، وَمَعَ تَعَذُّرِهِ فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا مُجْتَهِدًا فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ. وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَتَحَقَّقَ أُصُولَ إمَامِهِ وَأَدِلَّتَهُ، وَيُنْزِلُ أَحْكَامَهُ عَلَيْهَا فِيمَا لَمْ يَجِدْهُ مَنْصُوصًا مِنْ مَذْهَبِ إمَامِهِ. اهـ.

قُلْت: وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْبُطْلَانِ. وَإِنْ تَطَابَقَ عَلَيْهِ الْأَعْيَانُ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ دَعْوَى تَعَذُّرِ الِاجْتِهَادِ فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ بِإِرْشَادِ النُّقَّادِ إلَى تَيْسِيرِ الِاجْتِهَادِ، بِمَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَمَا أَرَى هَذِهِ الدَّعْوَى الَّتِي تَطَابَقَ عَلَيْهَا الْأَنْظَارُ إلَّا مِنْ كُفْرَانِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ- أَعْنِي الْمُدَّعِينَ لِهَذِهِ الدَّعْوَى وَالْمُقَرِّرِينَ لَهَا- مُجْتَهِدُونَ، يَعْرِفُ أَحَدُهُمْ مِنْ الْأَدِلَّةِ مَا يُمْكِنُهُ بِهَا الِاسْتِنْبَاطَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ قَدْ عَرَفَهُ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ قَاضِي رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى مَكَّةَ، وَلَا أَبُو مُوسَى قَاضِي رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْيَمَنِ، وَلَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ قَاضِيه فِيهَا، وَلَا شُرَيْحٌ قَاضِي عُمَرَ وَعَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- بالْكُوفَةِ.

وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ الشَّارِحِ فَمِنْ شَرْطِهِ أَيْ الْمُقَلِّدِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ".

الاجتهاد في نصوص الشرع أسهل من الاجتهاد في نصوص الأئمة، هذا شيء معروف، والمقلدون يتعبون على حفظ نصوص أئمتهم وفهمها وكيفية التعامل معها، ومعاملتها معاملة النصوص الشرعية أكثر مما يتعب عليه طالب العلم الذي يريد أن يجتهد في نصوص الكتاب والسُّنَّة؛ لأنَّ من قواعدهم في فهم كلام أئمتهم أنَّ كلام الإمام كنص الشارع، فإن كان للإمام أكثر من قول في مسألة، فيُحمل مطلقه على المقيد، وعامها على الخاص، والمتأخر ينسخ المتقدم، أي يُعاملونها معاملة النصوص، وهي أقوال بشر لا تنضبط مع التعامل، لا يُمكن أن تنضبط مع التعامل كانضباط نصوص الكتاب والسُّنَّة.

فخير لطالب العلم ألا يقلد هذا الإمام ويتعب على محاكاته وعلى فهم نصوصه، وعلى تطبيق أقواله على أصوله، بدلًا من أن يقلد هذا الشخص المعرض للخطأ والصواب، يقلد المعصوم- عليه الصلاة والسلام-.

"وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ الشَّارِحِ: فَمِنْ شَرْطِهِ أَيْ الْمُقَلِّدِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ، فإنَّ هذا هو الاجتهاد الذي حكم بِكَيْدُودَةِ عَدَمِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَسَمَّاهُ مُتَعَذِّرًا، فَهَلَّا جَعَلَ هَذَا الْمُقَلِّدُ إمَامَهُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِوَضًا عَنْ إمَامِهِ؟ وَتَتَبَّعَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عِوَضًا عَنْ نُصُوصِ إمَامِهِ، وَالْعِبَارَاتُ كُلُّهَا أَلْفَاظٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانٍ، فَهَلَّا اسْتَبْدَلَ بِأَلْفَاظِ إمَامِهِ وَمَعَانِيهَا أَلْفَاظَ الشَّارِعِ وَمَعَانِيهَا، وَنَزَّل الْأَحْكَامَ عَلَيْهَا إذَا لَمْ يَجِدْ نَصًّا شَرْعِيًّا، عِوَضًا عَنْ تَنْزِيلِهَا على مَذْهَبِ إمَامِهِ فِيمَا لَمْ يَجِدْهُ مَنْصُوصًا، تَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَبْدَلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْ مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَى مَعْرِفَةِ كَلَامِ الشُّيُوخِ وَالْأَصْحَابِ وَتَفَهُّمِ مَرَامِهِمْ، وَالتَّفْتِيشِ عَنْ كَلَامِهِمْ.

وَمِنْ الْمَعْلُومِ يَقِينًا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامَ رَسُولِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقْرَبُ إلَى الْأَفْهَامِ، وَأَدْنَى إلَى إصَابَةِ بلوغ الْمَرَامِ.."

أين بلوغ؟ المرام بدون بلوغ.

القارئ: عندي بلوغ المرام.

لا، بدون بلوغ.

أحسن الله إليك.

"وَأَدْنَى إلَى إصَابَةِ الْمَرَامِ، فَإِنَّهُ أَبْلَغُ الْكَلَامِ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَعْذَبُهُ فِي الْأَفْوَاهِ وَالْأَسْمَاعِ وَأَقْرَبُهُ إلَى الْفَهْمِ وَالِانْتِفَاعِ، وَلَا يُنْكِرُ هَذَا إلَّا جُلْمُودُ الطِّبَاعِ، وَمَنْ لَا حَظَّ لَهُ فِي النَّفْعِ وَالِانْتِفَاعِ. وَالْأَفْهَامُ الَّتِي فَهِمَ بِهَا الصَّحَابَةُ الْكَلَامَ الْإِلَهِيَّ، وَالْخِطَابَ النَّبَوِيَّ هِيَ كَأَفْهَامِنَا، وَأَحْلَامُهُمْ كَأَحْلَامِنَا، إذْ لَوْ كَانَتْ الْأَفْهَامُ مُتَفَاوِتَةً تَفَاوُتًا يَسْقُطُ مَعَهُ فَهْمُ الْعِبَارَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ لَمَا كُنَّا مُكَلَّفِينَ وَلَا مَأْمُورِينَ وَلَا مَنْهِيِّينَ لَا اجْتِهَادًا وَلَا تَقْلِيدًا، أَمَّا الْأَوَّلُ فلإحالته، وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلِأَنَّا لَا نُقَلِّدُ حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَنَا التَّقْلِيدُ، وَلَا نَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ فَهْمِ الدَّلِيلِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى جَوَازِهِ؛ لِتَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ، فَهَذَا الْفَهْمُ الَّذِي فَهِمْنَا بِهِ هَذَا الدَّلِيلَ نَفْهَمُ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ مِنْ كَثِيرٍ وَقَلِيلٍ، وعَلَى أَنَّهُ قَدْ شَهِدَ الْمُصْطَفَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِمَّنْ هو فِي عَصْرِهِ وَأَوْعَى لِكَلَامِهِ، حَيْثُ قَالَ: «فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَفْقَهُ مِنْ سَامِعٍ» وَفِي لَفْظٍ: «أَوْعَى لَهُ مِنْ سَامِعٍ»، وَالْكَلَامُ قَدْ وَفَّيْنَاهُ حَقَّهُ فِي الرِّسَالَةِ الْمَذْكُورَةِ.

وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يَعْرِفُهُ الْقُضَاةُ كِتَابَ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الَّذِي كَتَبَهُ إلَى أَبِي مُوسَى، الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ، قَالَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ: هُوَ من أجل كِتَابٍ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ آدَابَ الْقُضَاةِ، وَصِفَةَ الْحُكْمِ، وَكَيْفِيَّةَ الِاجْتِهَادِ، وَاسْتِنْبَاطَ الْقِيَاسِ، وَلَفْظُهُ، "أَمَّا بَعْدُ..".

شرحه ابن القيم في إعلام الموقعين في أكثر من نصف الكتاب، شرح كتاب عمر لأبي موسى الأشعري في أكثر من نصف الكتاب شرحًا مطولًا مبسوطًا يستفيد منه القضاة فائدة عظيمة.

"ولفظه، "أمَّا بعد، فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فَعَلَيْك بِالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَكَثْرَةِ الذِّكْرِ".

نعم كثرة الذكر تعين على فهم العلم، تعين على فهم العلم، الذكر والاستغفار، والانكسار، والدعاء والتضرع إلى الله- جلَّ وعلا- خير ما يعين على العلم، إضافة إلى التقوى التي ذكرها الله- جلَّ وعلا- في قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [سورة البقرة:282].

أحسن الله إليك.

"فَعَلَيْك بِالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَكَثْرَةِ الذِّكْرِ، فَافْهَمْ إذَا أَدْلَى إلَيْك الرَّجُلُ الْحُجَّةَ فَاقْضِ إذَا فَهِمْت، وَأَمْضِ إذَا قَضَيْت. فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ كلام بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ. آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِك وَمَجْلِسِك وَقَضَائِك؛ حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِك، وَلَا يَيْأَسُ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِك.

الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا. وَمَنْ ادَّعَى حَقًّا غَائِبًا أَوْ بَيِّنَةً فَاضْرِبْ لَهُ أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ، فَإِنْ جَاءَ بِبَيِّنَتِهِ أَعْطَيْته حَقَّهُ، وَإِلَّا اسْتَحْلَلْت عَلَيْهِ الْقَضِيَّةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ وَأَجْلَى لِلْعَمَى.

 وَلَا يَمْنَعْك قَضَاءٌ قَضَيْت به الْيَوْمَ فَرَاجَعْت فِيهِ عَقْلَك وَهُدِيت فِيهِ لِرُشْدِك أَنْ تَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ.

الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا يَخْتَلِجُ فِي صَدْرِك مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلا سُنَّةِ رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ اعْرِفْ الْأَشْبَاهَ وَالْأَمْثَالَ، وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَاعْمِدْ إلَى أَقْرَبِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ. الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ قَرَابَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنْكُمْ السَّرَائِرَ. وَادَّرَأْ بِالْبَيِّنَاتِ.."

وادرأ.

أحسن الله إليك.

"وَادْرَأْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْأَيْمَانِ".

يعني ادفع.

أحسن الله إليك.

"وَإِيَّاكَ وَالْغَضَبَ وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ، والتفكر عِنْدَ الْخُصُومَاتِ".

وَالتَّنَكُّرَ.

"وَالتَّنَكُّرَ عِنْدَ الْخُصُومَاتِ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ في مَوَاطِنِ الْحَقِّ، يُوجِبُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْأَجْرَ، وَيُحْسِنُ بِهِ الذِّكْرَ، فَمَنْ خَلَصَتْ نِيَّتُهُ فِي الْحَقِّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ كَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ تَخَلَّقَ لِلنَّاسِ بِمَا لَيْسَ بِقَلْبِهِ شأنه.."

شانه.

"وَمَنْ تَخَلَّقَ لِلنَّاسِ بِمَا لَيْسَ بِقَلْبِهِ شَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعِبَادِ إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا؛ فَمَا ظَنُّك بِثَوَابٍ مِنْ اللَّهِ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ، وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ وَالسَّلَامُ.

وَلِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَهْدٌ عَهِدَهُ إلَى الْأَشْتَرِ لَمَّا ولاه مِصْرَفِيه.."

لمَّا ولاه مصر.

أحسن الله إليك.

"لمَّا ولاه مصر فيه عِدَّةُ نصائح وَآدَابَ وَمَوَاعِظَ وَحِكَمٌ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي النَّهْجِ لَمْ أَنْقُلْهُ لِشُهْرَتِهِ."

نعم، في نهج البلاغة مذكور هذا العهد.

"وَقَدْ أخذ مِنْ كَلَامِ عُمَرَ أَنَّهُ يَنْقُضُ الْقَاضِي حُكْمَهُ إذَا أَخْطَأَ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إحْدَاهُمَا فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِك، وَقَالَتْ الْأُخْرَى: إنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِك، فَتَحَاكَمَتَا إلَى دَاوُد، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا إلَى سُلَيْمَانَ فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا نِصْفَيْنِ، فَقَالَتْ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُك اللَّهُ، هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى»."

لا شك أن التي ترضى بأن يُقسم بالسكين نصفين هذه ليست أمه، قطعًا ليست أمه، والتي تشفق عليه ولو أُخِذَ منها فهذه هي أمه.

"وَلِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ: قَوْلٌ إنَّهُ يَنْقُضُهُ إذَا أَخْطَأَ، وَالْآخَرُ لَا يَنْقُضُهُ؛ لِحَدِيثِ «وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»، قُلْت: وَلَا يَخْفَى.."

على كل حال إذا كان القول الأول لا يستند إلى دليل، والقول الثاني الذي وفق إليه مستنده الدليل فلابد أن يُنقض. أمَّا إذا كان مستنده ما ذهب إليه آخر الاجتهاد فإنَّ الاجتهاد لا يُنقض باجتهاد.

أحسن الله إليك.

"قلت: ولا يخفى أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ: أَخْطَأَ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ولا يعلم بخطئه، وهذا لَا يُعْلَمْ إلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْكَلَامُ فِي الْخَطَإِ الَّذِي يَظْهَرُ بعد الحكم بسبب عَدَمِ اسْتِكْمَالِ شَرَائِطِ الْحُكْمِ أَوْ نَحْوِهِ."

يظهر بعد الحكم في الدنيا، الذي يظهر له في الدنيا، يعني تبين له من خلال النظر في المسألة بعد أن حكم بها أو بعد أن ذاكر أحدًا من زملائه القضاة تبين أنَّه أخطأ في حكمه، في مثل هذه الحالة يرجع، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

أحسن الله إليك.

"وعن أبي بكرة قال: سمعت.."

يكفي يكفي، بارك الله فيك.

اللهم صلِّ على محمد.