التعليق على تفسير القرطبي - سورة يوسف (05)

"قضى بجانب الترجيح، وهي قوة التهمة، ولا خلاف بالحكم بها، قاله بن العربي.

قوله -تعالى-: {قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]".

ابن القيم، ابن القيم -رحمه الله- في الطرق الحكمية نصر الحكم بالأمارات والعلامات والقرائن، ولم يقصر الحكم على البينات التي هي الشهود، بل توسع في قبول البينات الأخرى غير الشهود، وهذا منها، حكم عليهم بالكذب؛ لأنه رأى من الأمارات والقرائن ما يدل على كذبهم، وإلا؛ فالأصل أن قولهم لا معارض لهم، وهم جمع، والله المستعان.

"فيه ثلاث مسائل:

الأولى: رُوي أن يعقوب لما قالوا له: {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 17] قال لهم: ألم يترك الذئب له عضوًا فتأتوني به أستأنس به؟! ألم يترك لي ثوبًا أشم فيه رائحته؟ قالوا: بلى! هذا قميصه ملطوخ بدمه، فذلك قوله -تعالى-: {وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18]’، فبكى يعقوب عند ذلك وقال لبنيه: أروني قميصه، فأروه فشمه وقبله، ثم جعل يقلبه فلا يرى فيه شقًّا ولا تمزيقًا، فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت كاليوم ذئبًا أحكم منه، أكل ابني واختلسه من قميصه ولم يمزقه عليه، وعلم أن الأمر ليس كما قالوا، وأن الذئب لم يأكله، فأعرض عنهم كالمغضب باكيًا حزينًا وقال: يا معشر ولدي! دلوني على ولدي، فإن كان حيًّا رددته إليّ، وإن كان ميتًا كفنته ودفنته، فقيل قالوا حينئذ: ألم تروا إلى أبينا كيف يكذبنا في مقالتنا؟! تعالوا نخرجه من الجب ونقطعه عضوًا عضوًا، ونأت أبانا بأحد أعضائه فيصدقنا في مقالتنا ويقطع يأسه، فقال يهوذا: والله لئن فعلتم لأكونن لكم عدوًا ما بقيت، ولأخبرن أباكم بسوء صنيعكم، قالوا: فإذا منعتنا من هذا فتعالوا نصطد له ذئبًا، قال: فاصطادوا ذئبًا ولطخوه بالدم، وأوثقوه بالحبال، ثم جاءوا به يعقوب وقالوا: يا أبانا! إن هذا الذئب الذي يحل بأغنامنا ويفترسها، ولعله الذي أفجعنا بأخينا لا نشك فيه، وهذا دمه عليه، فقال يعقوب: أطلقوه، فأطلقوه، وتبصبص له الذئب، فأقبل يدنو منه ويعقوب يقول له: ادن ادن، حتى ألصق خده بخده فقال له يعقوب: أيها الذئب! لمَ فجعتني بولدي، وأورثتني حزنًا طويلًا؟! ثم قال: اللهم أنطقه، فأنطقه الله -تعالى- فقال: والذي اصطفاك نبيًّا، ما أكلت لحمه، ولا مزقت جلده، ولا نتفت شعرة من شعراته، ووالله! ما لي بولدك عهد، وإنما أنا ذئب غريب أقبلت من نواحي مصر في طلب أخ لي فُقِد، فلا أدري أحي هو أم ميت؟".

سبحان الله! هذا ذئب يبحث عن أخيه، وهؤلاء أضاعوا أخاهم.

"فاصطادني أولادك وأوثقوني، وإن لحوم الأنبياء حرمت علينا وعلى جميع الوحوش، وتالله! لا أقمت في بلاد يكذب فيها أولاد الأنبياء على الوحوش، فأطلقه يعقوب وقال: والله لقد أتيتم بالحجة على أنفسكم، هذا ذئب بهيم خرج يتبع ذمام أخيه، وأنتم ضيعتم أخاكم، وقد علمت أن الذئب برئ مما جئتم به. {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ} [يوسف: 18] أي زينت. {لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} [يوسف: 18] غير ما تصفون وتذكرون. ثم قال توطئة لنفسه: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] وهى: الثانية".

طالب: ..........

لا شك أن البهائم تحس، أقول: لها إحساس، ولها ملكات مدركة تميز بها ما ينفعها وما يضرها، تدرك به أن الولد محنون عليه، محنون عليه، وأن الذئب مهروب منه، وأن الذبح مكروه، وأن العلف مطلوب، لها ذلك لكن، ليست بمنزلة الإنسان في الإحساس، ولا شك أن منزلتها دون الإنسان سواء كان من حيث الحكم الشرعي، يحرم تجويعها، ويحرم إماتتها عطشًا أو جوعًا، ورتب الأجر والثواب على سقيها ورفع جوعها، لكن ليست بمنزلة بني آدم.

طالب: ..........

يعني مثل الحربي، مثل الشخص الكافر الحربي إذا عطش يسقى أم يترك يموت جوعًا؟ يسقى الحربي أم يترك يموت جوعًا؟

الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: «في كل كبد رطبة أجر»، ولا يمنع من إسقائه الماء ثم القتل، تنفيذ الحكم الشرعي فيه، لكن لو ارتكب ما يوجب القصاص في الحرم، وقلنا: إنه لا يجوز الاقتصاص فيه، وتُرك حتى يجوع ويعطش، لكي يخرج من الحرم، ثم يقام عليه الحد، هذه وسيلة للضغط عليه وإخراجه، والله المستعان.

"الثانية: قال الزجاج: أي فشأني والذي اعتقده صبر جميل.

وقال قطرب: أي فصبري صبر جميل.

وقيل: أي فصبر جميل أولى بي، فهو مبتدأ وخبره محذوف. ويروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الصبر الجميل، فقال: «هو الذي لا شكوى معه». وسيأتي له مزيد بيان آخر السورة -إن شاء الله-.

قال أبو حاتم: قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف (فصبرًا جميلًا) [يوسف: 18] قال: وكذا قرأ الأشهب العقيلي، قال: وكذا في مصحف أنس وأبي صالح. قال المبرد: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] بالرفع أولى من النصب؛ لأن المعنى: قال رب عندي صبر جميل، قال: وإنما النصب على المصدر، أي فلأصبرن صبرًا جميلًا، قال:

شكا إلي جملي طول السرى
 

 

صبرًا جميلًا فكلانا مبتلى
 

والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى.

وقيل: المعنى لا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس الجبين، بل أعاشركم على ما كنت عليه معكم، وفي هذا ما يدل على أنه عفا عن مؤاخذتهم. وعن حبيب بن أبي ثابت أن يعقوب كان قد سقط حاجباه على عينيه، فكان يرفعهما بخرقة، فقيل له: ما هذا؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان، فأوحى الله إليه أتشكوني يا يعقوب؟! قال: يا رب! خطيئة أخطأتها فاغفر لي. {وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ} [يوسف: 18] ابتداء وخبر. {عَلى ما تَصِفُونَ} [يوسف: 18] أي على احتمال ما تصفون من الكذب.

الثالثة: قال ابن أبى رفاعة ينبغي لأهل الرأى أن يتهموا رأيهم عند ظن يعقوب -صلى الله عليه وسلم- وهو نبى، حين قال له بنوه: {إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 17]، قال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]، فأصاب هنا، ثم قالوا له: {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف: 81] قال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} [يوسف: 83] فلم يصب".

وما الفرق بين الموقفين؟ لما قالوا له: {إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 17]، قال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]، فأصاب، في الموضع الثاني ما أصاب؟

طالب: ..........

في الأولى ظهر له كذبهم فأصاب في ما غلب عليه ظنه وفيما وصل إليه، وفي الثانية قالوا: {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا } [يوسف: 81]؛ لأنهم أصابوا هم، عندما حكموا عليه بما ظهر، {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ......... وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف: 81]، قال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ } [يوسف: 18]، جوابه واحد، جوابه واحد فيما أصاب فيه وأخطأوا، وفيما أصابوا فيه، جوابه واحد، فلم يصب، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

طالب: ..........

ماذا؟

طالب: ..........

الإخبار بالواقع، الإخبار بالواقع من غير تسخط ولا، لا بأس به، النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر بما يعانيه من مرض، لكن مع ذلك لا ينبغي أن يتسخط، ولا أن يشكو إلى الناس.