التعليق على تفسير القرطبي - سورة الإسراء (10)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

"الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [سورة الإسراء:78] دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِقِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى الصَّلَاةَ قُرْآنًا.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى وُجُوبِ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ للإمام والفذ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ مَالِكٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي جُلِّ الصَّلَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: تَجِبُ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَهُ الْمُغِيرَةُ وَسَحْنُونٌ. وَعَنْهُ: أَنَّ القراءة لا تجب في شي مِنَ الصَّلَاةِ، وهو أشد الروايات عنه".

أشذ.

" وَهُوَ أَشَذُّ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا: أَنَّهَا تَجِبُ فِي نِصْفِ الصَّلَاةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ. وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَيْضًا وَأَيُّوبَ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ وَالْفَذِّ وَالْمَأْمُومِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وقد مضى في الفاتحة مستوفًى".

الخلاف في القراءة في الصلاة، قراءة الفاتحة، معروف بين أهل العلم والمسألة طويلة البحوث والذيول، والخلاف فيها بين أهل العلم معروف، وأُلفت فيها الكتب. ومن أهل العلم من يرى أنها ركنٌ في كل ركعة من أركان الصلاة لكلِّ مُصلٍ، إمام ومأموم ومُنفرد ومسبوق، وهذا معروف عن أبي هريرة، والإمام البخاري -رحمه الله- يقول بهذا، ويُرجِّحه الشوكاني. حتى المسبوق لا تسقط عنه الفاتحة.

والقول الثاني: هو أن الفاتحة ركن في جميع ركعات الصلاة للإمام والمأموم، والمنفرد دون المسبوق، وهذا هو المعروف من قول الإمام الشافعي. فدليله: حديث عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، ويُخرج المسبوق بحديث أبي بكرة، حينما ركع دون الصف، هذا يُخص به حديث عُبادة.

ومنهم من يرى أن القراءة تجب في حق الإمام والمُنفرد، دون المأموم مطلقًا، وهذا معروف عند الحنابلة والمالكية، وإن كان هناك أقوال عندهم وعند غيرهم في التفريق بالنسبة للمأموم بين القراءة السرية والجهرية، تلزمه في السرية دون الجهرية، وهذا إليه ميل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.

أبو حنيفة لا يرى أن الفاتحة مُتعينة، وأن المُتعين ما تيسر من القرآن، ولو لم يكن الفاتحة.

على كل حال الخلاف بين أهل العلم معروف وأدلتهم ومقاولاتهم وردودهم كثيرة في هذه المسألة، لكن المُرجح في هذه المسألة: هو قول الشافعي -رحمه الله-: وهو أن الفاتحة ركنٌ في كل ركعة من أركان الصلاة، لكل مُصلٍ؛ لحديث عبادة بن الصامت، إلا المسبوق، فإنه يُخرج بحديث أبي بكرة.

يبقى صور في هذه المسألة، وهي أن بعض الناس قد يُصلي وراء إمام، لا يُدرك الفاتحة كاملة وراءه؛ لأن الإمام يُسرع. نقول: هذا ما يُدركه من الفاتحة يلزمه، وما يفوته حُكمه حكم المسبوق.

وبعض الناس إذا صلى خلف الإمام لا يستطيع أن يقرأ، هذا معروف كثير من الناس عند أدنى حركة أو أدنى صوت يختلط، يطيل قراءته، هذا إذا كان لا يستطيع أن يقرأ الفاتحة خلف الإمام، تسقط عنه. العاجز تسقط عنه القراءة، {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة:286]، لكن الكلام في المُستطيع، هذا مُدرك؛ لأن بعض الناس لا يستطيع أن يقرأ.

وبعض الناس حتى في الصلاة السرية، إذا جهر جاره في الصلاة ولو بكلمة، اضطربت قراءته ولا يدري أين وقف، فمثل هذا إذا وصل إلى حد وعجز عن الإتيان بقراءة الفاتحة؛ لما يعوقه من الإتيان بها، معذور.

طالب: كيف سهى عن الفاتحة، أحسن الله إليك؟

ركع دون الإتيان بها.

طالب: ركع الإمام.

لا، هذا ليس مسبوقًا، هذا مُدرك، كما لو ترك ركنًا آخر.

طالب: يعني يأتي بركعة؟

يأتي بركعة، نعم.

طالب: ما يتحملها الإمام؟

القول بأنها ركنٌ في كل ركعة، ما يتحملها الإمام.

طالب: ما يفعل، يا شيخ، يفرق بين الجهرية والسرية في مثل هذا؟

في ماذا؟

طالب: في مثل من نسى في ...

لا، هذا إذا أردنا أن نوفِّق بين المذاهب، ممكن. لكن الكلام فيما يعتقد ويدين الله به، إذا كان يرى أن هذا هو القول الراجح، انتهى. إذا كان يفرق بين الجهرية والسرية؛ لتعارض الأدلة، الأدلة تكاد تكون متكافئة، فإذا كان يرى رجحان هذا القول، يقول به والحمد لله. المسألة ليست حجرًا على قول من الأقوال.

طالب: فيما لو نسي؟

لا، ما ينفع، نسي ويعتقد أنها ركن، ركن، لا بد أن يأتي بها.

طالب: نقول بأي قول مثلًا؟

لا، التلفيق ما يمشي. الكلام راجح ومرجوح، يعمل بالراجح، ويدين الله به، والمرجوح ما يلتفت إليه.

أهل العلم قد يلجؤون إلى قولٍ مرجوح؛ لما يترتب عليه من تحقيق مصالح ودرء مفاسد، قد يلجؤون إليه أحيانًا.

يعني مثلًا: لو قُدِّر ان شخصًا موسوسًا، يحتاج في قراءة الفاتحة إلى ساعة مثلًا في كل ركعة، يقرأ ثمَّ يعيد، هذه ركن، تخفّف من أمره، تذكر له الأقوال الأخرى التي تُخفف من أمرها، تهون من شأنها، أفضل من لا شيء؛ لأنه إذا قُدِّر أنه يُصلي كل فرض ثلاث ساعات، أربع ساعات، سيترك الصلاة! فارتكاب أخف الضررين بالنسبة لهذا، وقولٌ مُعتبر عند جمع من أهل العلم، والله المُستعان، أحسن من لا شيء.

"السادسة- قوله تعالى: {كانَ مَشْهُودًا} رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا} [سورة الإسراء:78]، قال: «تشهده مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ» هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

وَرَوَى الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «فَضْلُ صَلَاةِ الْجَمِيعِ عَلَى صَلَاةِ الْوَاحِدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً، وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ». يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: "اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا}".  ولهذا المعنى يُبكَّر بهذه الصلاة، فمن لم يُبكّر، لم تشهد صلاته إلا إحدى الفئتين من الملائكة. وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: التَّغْلِيسُ بِالصُّبْحِ أَفْضَلُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْأَفْضَلُ الْجَمْعُ بين التغليس والإسفار، فَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ فَالْإِسْفَارُ أَوْلَى مِنَ التَّغْلِيسِ".

الجمع يكون بينهما، بين التغليس والإسفار، يكون بإطالة القراءة. بإطالة القراءة يمكن أن يجمع بين التغليس والإسفار، يبدأ الصلاة في وقت الغلس، وينتهي منها في وقت الإسفار. وعلى كل حال الإسفار عند أبي حنيفة أفضل من التغليس، والأئمة الثلاثة على خلافه، والأدلة في هذا معروفة. "كانوا ينصرفون ما يعرف أحدهم جليسه"، فهذا الأفضل في أن تُصلى في أول وقتها بعد تحقق طلوع الصبح.

وهذه الصلاة على وجه الخصوص مشهودة، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [سورة الإسراء:78] يعني صلاة الفجر، والقراءة في صلاة الصبح مشهودة، تشهدها الملائكة؛ ولذا ابن القيم -رحمه الله تعالى- لما ذكر في (طريق الهجرتين) حال المُقربين وأنهم يُبادرون إلى صلاة الصبح، وأنهم يقربون من الإمام؛ ليعقلوا عنه قراءته ويتدبروها، في كلامٍ طويل له -رحمه الله-، ورغَّب في هذا كثيرًا. قد يتعارض هذا مع كون بعض الناس يريد الاقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، فإذا صلى الراتبة في بيته بعد طلوع الصبح واضطجع، وذكر الله -جلَّ وعلا- إلى أن يحين قُرب إقامة الصلاة، كفعله -عليه الصلاة والسلام-، فقد يكون هذا عند بعض الناس مُرجِّح ًا. لكن إذا قيل بهذا، فهو بالنسبة للإمام أفضل، كفعله -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن وصفه الإمامة، وأما من عداه، فمأمورٌ بالمبادرة إلى الصلوات، وانتظار الصلاة، ومازال في مُصلاه، مادام ينتظر الصلاة. لاسيما إذا كان ممن يُقتدى به، فالمبادرة أفضل.

طالب: شيخ، الجمع بين السُّنَّة أنها تكون في البيت، وأنه يُبكر. فإذا بكَّر، فلا بد أن يُصليها في المسجد ...

صلاة المغرب، هذه مُفاضلة بين سُنن، لكن ما يمنع أنه يُصلي الركعتين في بيته ويُبادر، وإن ترتب عليه أنه صلى تحية المسجد في وقت النهي، وقت النهي مُخفف جدًّا ومُختلفٌ فيه، هل هو وقت نهي أو ليس بوقت نهي؟ يعني هل وقت النهي يبدأ من طلوع الصبح أو من صلاة الصبح؟ محل خلاف بين أهل العلم.

طالب: أحسن الله إليك يا شيخ، تخفيف صلاته ركعتين في البيت؟

نعم، تقول عائشة –رضي الله عنها-: "ما أدري أقرأ بفاتحة الكتاب أم لا"، هذه السُّنَّة، السُّنَّة تخفيفها.

طالب: يعني الإنسان فاتته صلاة الفجر يعني أتى بعد انتهاء الصلاة؟

صلاة الفجر صفتها الطول، لكن ركعتا الفجر، التي هي السُّنَّة الراتبة، تُخفف، سواءٌ أتى بها في وقتها قبل الصلاة أو فاتته وجاء بها بعد الصلاة، أو انتظر إلى أن تنتشر الشمس ثمَّ قضاها؛ لأن القضاء يحكي الأداء، تُقضى خفيفة.

طالب: الرجل يصلي ركعتي الفجر الأفضل في بيته أو في المسجد؛ لكي يخرج من الخلاف؟

لا، الاقتضاء «أفضل صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة».

"وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَفْعَلُهُ مِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى التَّغْلِيسِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهِ تَفْوِيت شُهُودِ مَلَائِكَةِ اللَّيْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

السَّابِعَةُ: اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِقَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم-: «تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ» عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ لَيْسَتْ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَلَا مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ".

باعتبار أن الليل ينتهي بطلوع الصبح، والنهار يبدأ بطلوع الشمس. وعلى هذا فصلاة الصبح ليست ليلية ولا نهارية. لكن يبقى السؤال: ماذا تكون؟ في الليل أو في النهار؟ وهل هناك شيءٌ ليس بليلٍ ولا نهار؟ هل هناك شيء يُقال: شيء، ظرف من الزمان ليس في الليل ولا في النهار؟ لا يوجد، إما ليل وإما نهار، فالليل والنهار نقيضان، وهذا القول لا يسلم من ضعف. وكون الليل ينتهي بطلوع الصبح، هذا في عُرف الشرع، والنهار يبدأ بطلوع الصبح، بينما عند الفلكيين وأرباب الهيئة، الحد عندهم طلوع الشمس.

"قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا فَلَا تَكُونُ صَلَاةُ الْعَصْرِ أَيْضًا لَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَلَا مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ، فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ الْفَصِيحِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، فَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ» الْحَدِيثَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ صَلَاةَ الْعَصْرِ مِنَ النَّهَارِ، فَكَذَلِكَ تَكُونُ صَلَاةُ الْفَجْرِ مِنَ اللَّيْلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنَ النَّهَارِ كَالْعَصْرِ بِدَلِيلِ الصِّيَامِ وَالْأيمَانِ، وهذا واضح".

بلا شك، يعني إذا أمكن تخريج القول بأن صلاة الصبح ليست ليلية ولا نهارية، فإنه لا يمكن بحال تخريج صلاة العصر، لا يمكن.

"قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا} [سورة الإسراء:79]

فِيهِ سِتُّ مسائل: الأولى: قوله تعالى: {مِنَ اللَّيْلِ} " مِنَ" لِلتَّبْعِيضِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ" فَتَهَجَّدْ" نَاسِقَةٌ عَلَى مُضْمَرٍ، أَيْ قُمْ فَتَهَجَّدْ".

يعني عاطفة على مُضمر، عطف نسق، قُم فتهجد.

{مِنَ اللَّيْلِ} للتبعيض؛ ولذا اختلف أهل العلم في مشروعية قيام الليل كله، وما حُفظ أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قام ليلة كاملة، والخلاف في العشر الأواخر في كونه يشد المئزر، هل كان ينام أو لا ينام؟ والعشرين الأولى يخلطها بنوم وقيام، وأما العشر الأواخر فجاء ما يدلُّ على أنه يقومها كلها، وماعدا ذلك لم يُحفظ عنه أنه قام الليل كله. ولذا جاء في قوله -جلَّ وعلا-: {مِنَ اللَّيْلِ} ومن للتبعيض، فيدلُّ على أن قيام الليل كله ليس بمشروع. لكن عُهِد عن بعض أهل العلم أنه يسهر الليل كله، ويُقسمه بين صلاة، وتلاوة، وتصنيف. فمن كانت هذه حاله وهذا ديدنه، فالله المُستعان، على خيرٍ عظيم، إن شاء الله تعالى. وإن خلطه بنوم، فهو أفضل، وعوض عن ذلك بالنهار يكون أفضل.

طالب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من رغب عن سنتي» أنام وأقوم؟

النبي -صلى الله عليه وسلم- أقول: ما حُفِظ عنه أنه قام ليلة تامة إلى السحر، فهذه سُنته. ولا شك أن من تُشم منه رائحة المبالغة في التعبد إلى هذا الحد، يُجاب بمثل ما أجاب به النبي -عليه الصلاة والسلام- الثلاثة: «لكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنتي فليس مني». لكن إذا عرف السُّنَّة، وفاضل بين الأوقات، يقول: النهار مظنة للداخل والخارج والطارق وتشتيت الذهن، والليل أصفى له، أصفى لذهنه للقراءة والتصنيف، وأيضًا التلاوة والتدبّر، وإن كان الأفضل أن ينام، أن يُقسِّم الليل، ينام نصفه ويقوم ثلثه، ثمَّ ينام السُدُس، وإن زاد فلا بأس، إن زاد على ذلك ونام منه ما يُعينه على القيام، لا بأس إن شاء الله تعالى.

طالب: أحسن الله إليك، تقسيم الليل إلى ثلاثة أقسام، النصف والثُلُث والسُدُس، هذا من غروب الشمس؟

قيام داود، لا، مما يمكن فيه النوم.

طالب: بعد العشاء؟

بعد صلاة العشاء، نعم، ما يمكن فيه النوم؛ لأنه لا يستطيع أن ينام بعد غروب الشمس، فهذا الليل ليلٌ شرعي. الذي يتسنى نوم نصفه هو من صلاة العشاء.

"{بِهِ} أَيْ بِالْقُرْآنِ. وَالتَّهَجُّدُ مِنَ الْهُجُودِ وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ. يُقَالُ: هَجَدَ نَامَ، وَهَجَدَ سَهِرَ، عَلَى الضِّدِّ. قال الشاعر:

ألا زارت وأهل مِنًى هُجُودُ ... وَلَيْتَ خَيَالَهَا بِمِنًى يَعُودُ"

هذا في هذا الموطن، نقول: في هذا الموطن يتمنى أن تزور محبوبته في زمانٍ وفي مكانٍ فاضل، {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [سورة الليل:4].

"وقال آخَرُ:

أَلَا طَرَقَتْنَا وَالرِّفَاقُ هُجُودُ ... فَبَاتَتْ بِعَلَّاتِ النَّوَالِ تَجُودُ

يَعْنِي نِيَامًا. وَهَجَدَ وَتَهَجَّدَ بِمَعْنًى. وَهَجَّدْتُهُ، أَيْ: أَنَمْتُهُ، وَهَجَّدْتُهُ، أَيْ: أَيْقَظْتُهُ. وَالتَّهَجُّدُ التَّيَقُّظُ بَعْدَ رَقْدَةٍ، فَصَارَ اسْمًا لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَبِهُ لَهَا. فَالتَّهَجُّدُ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ مِنَ النَّوْمِ. قَالَ مَعْنَاهُ الْأَسْوَدُ وَعَلْقَمَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ وَغَيْرُهُمْ".

بهذا يتفق مع ناشئة الليل، ناشئة الليل: هي القيام بعد نوم.

"وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عُمَرَ، صَاحِبِ النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم-، أَنَّهُ قَالَ: أَيَحْسِبُ أَحَدُكُمْ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ كُلِّهِ أَنَّهُ قَدْ تَهَجَّدَ! إِنَّمَا التَّهَجُّدُ الصَّلَاةُ بَعْدَ رَقْدَةٍ ثُمَّ الصَّلَاةُ بَعْدَ رَقْدَةٍ ثُمَّ الصَّلَاةُ بَعْدَ رَقْدَةٍ، كَذَلِكَ كَانَتْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ".

مُخرج عندكم في طبعة من الطبعات؟

طالب: ..............

في طبعات حديثة، طبعات جديدة، فيها إشارات إلى شيء من التخريج. ما خُرِّج؟

طالب: ..............

نعم.

 "وَقِيلَ: الْهُجُودُ النَّوْمُ. يُقَالُ: تَهَجَّدَ الرَّجُلُ إِذَا سَهِرَ، وَأَلْقَى الْهُجُودَ وَهُوَ النَّوْمُ. وَيُسَمَّى مَنْ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ مُتَهَجِّدًا؛ لِأَنَّ الْمُتَهَجِّدَ هُوَ الَّذِي يُلْقِي الْهُجُودَ الَّذِي هُوَ النَّوْمُ عَنْ نَفْسِهِ. وَهَذَا الْفِعْلُ جَارٍ مَجْرَى تَحَوَّبَ وَتَحَرَّجَ وَتَأَثَّمَ وَتَحَنَّثَ وَتَقَذَّرَ وَتَنَجَّسَ، إِذَا أَلْقَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} مَعْنَاهُ: تَنْدَمُونَ، أَيْ: تَطْرَحُونَ الْفُكَاهَةَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ، وَهِيَ انْبِسَاطُ النُّفُوسِ وَسُرُورُهَا. يُقَالُ: رَجُلٌ فَكِهٌ، إِذَا كَانَ كَثِيرَ السُّرُورِ وَالضَّحِكِ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: وَوَقْتًا مِنَ اللَّيْلِ اسْهَرْ بِهِ فِي صَلَاةٍ وَقِرَاءَةٍ".

اسهرته؟ معنى الآية: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً} [سورة الإسراء:79] يعني في الصلاة والقراءة، {وَمِنَ اللَّيْلِ} يعني وقت من الليل، يسهر به ..

طالب: في صلاةٍ وقراءة.

تهجد به، يعني: اسهر به؟

"وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: وَوَقْتًا مِنَ اللَّيْلِ اسْهَرْ بِهِ فِي صَلَاةٍ وَقِرَاءَةٍ".

ظاهر، معناه أقرب من الذي عندنا، أسهرته، ووقتًا من الليل أسهرته، يكون خبر ًا وليس بأمر.

طالب: عندنا: "اسْهَرْ بِهِ فِي صَلَاةٍ وَقِرَاءَةٍ".

نعم، واضح.

"الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {نافِلَةً لَكَ} أَيْ: كَرَامَةً لَكَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَخْصِيصِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِالذِّكْرِ دُونَ أُمَّتِهِ، فَقِيلَ: كَانَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَرِيضَةٌ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ: {نافِلَةً لَكَ} أَيْ: فَرِيضَةً زَائِدَةً عَلَى الْفَرِيضَةِ الْمُوَظَّفَةِ عَلَى الْأُمَّةِ. قُلْتُ: وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ بُعْدٌ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: تَسْمِيَةُ الْفَرْضِ بِالنَّفْلِ، وَذَلِكَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ.

الثَّانِي: قَوْلُهُ -صلى الله عليه وسلم-: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فَرَضَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ»، وقوله تعالى: هن خمس وهن خمسون، ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ".

أما أمره -عليه الصلاة والسلام- بقيام الليل فلا إشكال فيه، {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (*) قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل: 1-2]، فهو مأمورٌ بقيام الليل، ولذا جمعٌ من الأئمة على أن قيام الليل واجبٌ عليه -عليه الصلاة والسلام-. وكونه يُقال له: نافلة، النافلة: الزيادة، ولا شك أنها من وجه نافلة، يعني أنها زيادة على ما أوجب الله على الأمة، وهي من وجهٍ آخر واجبةٌ عليه، بقوله: {قُمِ اللَّيْلَ}.

فلا يعني أن الوصفين: الوجوب، وكونها نافلة، مُتجهان إلى جهةٍ واحدة. لا يمكن أن يتجه القول بالوجوب وعدمه إلى جهةٍ واحدة، لكن الجهة مُنفكة، تُوصف هذه الصلاة بكونها واجبة عليه -عليه الصلاة والسلام- بقوله -جلَّ وعلا-: {قُمِ اللَّيْلَ}. وبكونها نافلة، باعتبار أنها زائدة على ما أوجب على أمته -عليه الصلاة والسلام-. فمن هذه الحيثية لا تناقض ولا تعارض بين اللفظين.

طالب: شيخ، أحسن الله إليك، {قُمِ اللَّيْلَ} يا شيخ ...؟

{قُمِ اللَّيْلَ} هذا أمر، الأصل في الأمر الوجوب، وهذا مُتجه.

وعلى كل حال هذه المسألة بالنسبة لأمته، الخلاف لا أثر له عمليًّا، إنما واجب عليه هو -عليه الصلاة والسلام-، إنما الأمة فليس واجبًا عليها قيام الليل أبدًا. أوجب أبو حنيفة الوتر، ومن عداه أبدًا، قال: لا يجب على الأمة إلا الصلوات الخمس، على الخلاف في صلاة العيد وصلاة الكسوف عند بعضهم.

 المقصود: أن الخلاف في بعض الصلوات معروف عند أهل العلم.

طالب: أما ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى حتى أصبح؟

أنت ما حضرت أول الدرس؟

طالب: لا، والله.

نعم، هذا أطلنا فيه قليلًا.

طالب: جزاك الله خيرًا.

طالب: أحسن الله إليك، «ذاك رجلٌ بال الشيطان في أذنيه»؟

نعم؛ لأنه ترك. نام حتى أصبح، فما قام من الليل.

طالب: يعني كإنه ذم ..

ذم، هذا ذم، الذي يواظب على ترك النافلة، لا شك أنه يستحق الذم، والناس يتفاوتون. من الناس من يُذم، لو فاتته تكبيرة الإحرام. ومن الناس، من يُمدح لو أدرك التسليم مع الإمام. ومن الناس من يُمدح لو صلى الصلاة في وقتها. كما يقول أهل العلم: "حسنات الأبرار، سيئات المُقربين"، نعم.

"وَهَذَا نَصٌّ، فَكَيْفَ يُقَالُ: افترض عليه صلاة زائدةٌ على خمس، هَذَا مَا لَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ روى عنه -عليه السلام-: «ثَلَاثٌ عَلَيَّ فَرِيضَةً وَلِأُمَّتِي تَطَوُّعٌ، قِيَامُ اللَّيْلِ وَالْوِتْرُ وَالسِّوَاكُ». وَقِيلَ: كَانَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا مِنْهُ، وَكَانَتْ فِي الِابْتِدَاءِ وَاجِبَةً عَلَى الْكُلِّ، ثُمَّ نُسِخَ الْوُجُوبُ فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ، عَلَى مَا يَأْتِي مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ" الْمُزَّمِّلِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالتَّنَفُّلِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، وَيَكُونُ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-؛ لِأَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ. فَهُوَ إِذَا تَطَوَّعَ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، كَانَ ذَلِكَ زِيَادَة فِي الدَّرَجَاتِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَّةِ تَطَوُّعُهُمْ كَفَّارَاتٌ، وَتَدَارُكٌ لِخَلَلٍ يَقَعُ فِي الْفَرْضِ، قَالَ مَعْنَاهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: عَطِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَنَالُ مِنَ السَّعَادَةِ عَطَاءٌ أَفْضَلَ مِنَ التَّوْفِيقِ فِي الْعِبَادَةِ.

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا} اخْتُلِفَ فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَصَحُّهَا، الشَّفَاعَةُ لِلنَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

التي هي الشفاعة العظمى، الشفاعة للخلق في تخليصهم من هول الموقف وشدته.

طالب: الوسائل الحسية والمعنوية المُعينة على قيام الليل مع كل الظروف المعاصرة ...؟

هو ما فيه شك أن تغيير الفِطَر، وتغيير السُّنن الكونية، هذا مُخالف للشرع، لكن يبقى أن هناك واجبات، وهناك مُحرمات، هذه لا يجوز تجاوزها. يعني تغيير السُّنن، إذا ترتب عليه ارتكاب محظور أو ترك مأمور، صار حرامًا. يعني لو سَهِر الإنسان، وقلب ليله صار نهارًا والعكس، وترتب على ذلك ترك صلاة الصبح، نقول: يحرُم عليه السهر.

لكن هذا السهر منعه ليس ذاته، نعم، هو خلاف السُّنَّة الكونية والإلهية، يبقى أنه على حسب الأثر المُترتب عليه، إذا كان هذا السهر يعوقه عن صلاة الصبح، صار مُحرمًا. وإذا كان يمنعه من قيام الليل، صار مكروهًا، وهكذا.

"الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَصَحُّهَا، الشَّفَاعَةُ لِلنَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا، تَقُولُ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَذَلِكَ يَوْمُ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ لَهُ: اشْفَعْ لِذُرِّيَّتِكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَإِنَّهُ خَلِيلُ اللَّهِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ، فَيُؤْتَى مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، فَيُؤْتَى عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، فَأُوتَى فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي قَوْلِهِ: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا} سُئِلَ عَنْهَا قَالَ: «هِيَ الشَّفَاعَةُ» قَالَ: هذا حديث حسن صحيح".

نعم، وهذا نص في الموضوع، المقام المحمود المراد به: الشفاعة.

"الرابعة: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ أَمْرُ الشَّفَاعَةِ الَّذِي يَتَدَافَعُهُ الْأَنْبِيَاءُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- فَيَشْفَعُ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ؛ ليعجل حسابهم، ويراحوا من هول موقفهم، وهي الْخَاصَّةُ بِهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ». قَالَ النَّقَّاشُ: لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثُ شَفَاعَاتٍ: الْعَامَّةُ، وَشَفَاعَةٌ فِي السبق إِلَى الْجَنَّةِ، وَشَفَاعَةٌ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ، قاله ابْنُ عَطِيَّةَ".

طالب: يعني المسألتين تداخل الأقوال بين المقام المحمود؟

نعم، هي كلها في المقام المحمود.

طالب: لا يا شيخ، المسألة الرابعة.

القول الأول في المقام المحمود، الأول وهو أصحها.

نعم، الرابع والخامس لهما تعلق بالقول الأول، تعلق المسألة الرابعة والخامسة بالقول الأول. وسيأتي القول الثاني والثالث.

"وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا شَفَاعَتَانِ فَقَطْ: الْعَامَّةُ، وَشَفَاعَةٌ فِي إِخْرَاجِ الْمُذْنِبِينَ مِنَ النَّارِ. وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ لَا يَتَدَافَعُهَا الْأَنْبِيَاءُ، بَلْ يَشْفَعُونَ وَيَشْفَعُ الْعُلَمَاءُ.

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضٌ: شَفَاعَاتُ نَبِيِّنَا -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَمْسُ شَفَاعَاتٍ: الْعَامَّةُ، وَالثَّانِيَةُ: فِي إِدْخَالِ قَوْمٍ الْجَنَّةَ دُونَ حِسَابٍ، والثَّالِثَةُ: فِي قَوْمٍ مِنْ مُوَحِّدِي أُمَّتِهِ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ بِذُنُوبِهِمْ فَيَشْفَعُ فِيهَا نَبِيُّنَا -صلى الله عليه وسلم-، وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَشْفَعَ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ هِيَ الَّتِي أَنْكَرَتْهَا الْمُبْتَدِعَةُ: الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ"

نعم؛ لأن عندهم أن من دخل النار، لكونه مُرتكبًا لكبيرة، لا يخرج منها، فهو خالد مُخلد فيها، هذا قول المُعتزلة والخوارج. الخوارج؛ لأنه كافر، والمُعتزلة؛ لأنه ليس بمؤمن وإن لم يكن كافرًا، إلا أنه خالد في النار، نسأل الله العافية.

"فَمَنَعَتْهَا عَلَى أُصُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَهِيَ الِاسْتِحْقَاقُ الْعَقْلِيُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ. الرَّابِعَةُ: فِيمَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنَ الْمُذْنِبِينَ فَيَخْرُجُونَ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا -صلى الله عليه وسلم- وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَإِخْوَانِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ.

الْخَامِسَةُ: فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِهَا وَتَرْفِيعِهَا، وَهَذِهِ لَا تُنْكِرُهَا الْمُعْتَزِلَةُ، وَلَا تنكر شفاعة الحشر الأول".

لأنها لا تخالف أصلًا من أصولهم، ولذا لا ينكرونها.

من شفاعاته -عليه الصلاة والسلام- الشفاعة بالتخفيف على بعض من دخل النار، كأبي طالب، هذه شفاعة خاصة به -عليه الصلاة والسلام-.

"الخامسة: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَعُرِفَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ سُؤَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ لِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَرَغْبَتُهُمْ فِيهَا، وَعَلَى هَذَا لَا يُلْتَفَتُ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ تَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَكَ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْمُذْنِبِينَ، فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ كَمَا قَدَّمْنَا لِتَخْفِيفِ الْحِسَابِ وَزِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ. ثُمَّ كُلُّ عَاقِلٍ مُعْتَرِفٌ بِالتَّقْصِيرِ، مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَفْوِ، غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِعَمَلِهِ، مُشْفِقٌ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ".

يعني ما يُدريه أن عمله مقبول، ما الذي يُدريه أن عمله مقبول؟ بل على المسلم أن يكون خائفًا، وجلًا من أن يُرد عمله، أن يحبط عمله وهو لا يشعر، نسأل الله العافية.

طالب: شيخ، أحسن الله إليك، بالنسبة لشفاعة التخفيف، هذه خاصة في أبي طالب؟

يعني من الكفار.

من الكفار خاصة بأبي طالب، لكن يبقى أن أبا لهب، سُقي وهو في النار، بقدر النقرة التي تكون في ظهر الكف هذه، مُكافأةً له؛ لأنه أعتق ثويبة، لما بشَّرته بالنبي -عليه الصلاة والسلام-.

طالب: ما ينطبق عليه أنه كان من الكفار و...؟

لا، هذا خاص بأبي طالب.

"وَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ أَلَّا يَدْعُوَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ؛ لِأَنَّهَا لِأَصْحَابِ الذُّنُوبِ أَيْضًا، وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ مَا عُرِفَ مِنْ دُعَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ".

قريبٌ من هذا ما يقوله بعضهم: من أنه لا يُدعى لعموم المسلمين بالمغفرة؛ لأن هذا الدعاء مُخالف للسُنة الكونية، من أن بعض المسلمين لا بد أن يدخل النار. على الإنسان أن يدعو، وعليه أن يعمل ما أُمِرَ به، وأما السنن الكونية، فلن تُخرق من أجله. ويدعو لنفسه، ولو قُدِّر أنه يُعذَّب. ويدعو لولده بالصلاح والهداية والتوفيق، ولو قَدَّر الله- جلَّ وعلا- أنه لا يكون ذلك. إنما هناك إرادة شرعية، تطلب هذا، تطلب من الإنسان أن يدعو لنفسه ولولده ولإخوانه المسلمين، على سبيل التفصيل والإجمال، والإرادة الكونية، الله -جلَّ وعلا- ما عنده لا يُبدل، ولن يُبدل من أجله. إذا كان الله -جلَّ وعلا- قد كتب على الإنسان شقاوة، وأبوه يدعو له بالسعادة، فلن تتعارض هذه الدعوة مع ما كتبه الله- جلَّ وعلا-. نعم، قد تكون هذه الدعوة سبب وتكون هداية الولد مربوطة بهذا الدعاء، مرتبطة بهذا السبب، لكن لا يكون هذا السبب هو المؤثر في هذا التغيير؛ لأن الله -جلَّ وعلا- لا يُبدل القول لديه، لكن هو يُبدل القول؛ للسبب الذي رتَّب الله عليه هذا التبديل، {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [سورة الرعد:39].

ومقابل هذا القول: قول من يقول: لا يجوز أن يُدعى على الكفار بالإجمال؛ لأن هذا مُخالف للسُنة الكونية؛ لأن منهم من يُسلِم. نعم، منهم من يُسلِم، من أراد الله له الهداية، لا تضره هذه الدعوة. فالأوامر الشرعية لا تتعارض مع السنن الكونية أبدًا.

طالب: لماذا المسلمين دومًا يدعون إن الله يرزق نبيه المقام المحمود وهو ثابت له؟

هذا من أجل زيادة الدرجة، زيادة في هذا المقام من جهة، وتحصيل الأجور لهم، نعم، تحصيلًا لأجورهم وزيادة في رفعته -عليه الصلاة والسلام-.

 "رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبِّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ والصلاة القائمة، آت محمدًا-صلى الله عليه وسلم- الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ إِعْطَاؤُهُ لِوَاءَ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

 قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ لَا تَنَافُرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِيَدِهِ لِوَاءُ الْحَمْدِ، وَيَشْفَعُ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يومئذ، آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي» الْحَدِيثَ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: مَا حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ، مِنْهَا مُجَاهِدٌ، أَنَّهَا قَالَتْ: الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ هُوَ أَنْ يُجْلِسَ الله تعالى محمدًا -صلى الله عليه وسلم- مَعَهُ عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَرَوَتْ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا. وَعَضَّدَ الطَّبَرِيُّ جَوَازَ ذَلِكَ بِشَطَطٍ مِنَ الْقَوْلِ، وَهُوَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا عَلَى تَلَطُّفٍ فِي الْمَعْنَى، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَلَا يُنْكَرُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُرْوَى، وَالْعِلْمُ يَتَأَوَّلُهُ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَهُوَ عِنْدَنَا مُتَّهَمٌ، مَا زَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَتَحَدَّثُونَ بِهَذَا، مَنْ أَنْكَرَ جَوَازَهُ عَلَى تَأْوِيلِهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ: وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ، فَإِنَّ لَهُ قَوْلَيْنِ مَهْجُورَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَحَدُهُمَا: هَذَا، وَالثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (*) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ} [سورة القيامة: 22-23] قال: تنتظر الثواب، ليس من النظر.

قلت. ذكر هذا في بابٍ ابْنُ شِهَابٍ فِي حَدِيثِ التَّنْزِيلِ".

يعني من (التمهيد).

"وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: يُجْلِسُهُ عَلَى الْعَرْشِ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ خَلْقِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا وَالْعَرْشَ قَائِمًا بِذَاتِهِ، ثُمَّ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَيْهَا، بَلْ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلِيُعْرَفَ وُجُودُهُ وَتَوْحِيدُهُ وَكَمَالُ قُدْرَتِهِ وَعِلْمُهُ بِكُلِّ أَفْعَالِهِ الْمُحْكَمَةِ، وَخَلَقَ لِنَفْسِهِ عَرْشًا اسْتَوَى عَلَيْهِ كَمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ صَارَ لَهُ مُمَاسًّا، أَوْ كَانَ الْعَرْشُ لَهُ مَكَانًا.

قِيلَ: هُوَ الْآنَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَ الْمَكَانَ وَالزَّمَانَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ سَوَاءٌ فِي الْجَوَازِ أَقَعَدَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ عَلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ اسْتِوَاءَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ لَيْسَ بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ وَالزَّوَالِ وَتَحْوِيلِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالْحَالِ الَّتِي تَشْغَلُ الْعَرْشَ، بَلْ هُوَ مستوٍ على عرشه، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِلَا كَيْفٍ. وَلَيْسَ إِقْعَادُهُ مُحَمَّدًا عَلَى الْعَرْشِ مُوجِبًا لَهُ صِفَةَ الرُّبُوبِيَّةِ، أَوْ مُخْرِجًا لَهُ عَنْ صِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ، بَلْ هُوَ رَفْعٌ لِمَحَلِّهِ، وَتَشْرِيفٌ لَهُ عَلَى خَلْقِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْإِخْبَارِ:"مَعَهُ" فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [سورة الأعراف: 206]، وقولهَ: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [سورة التحريم:11]، {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت: 69]، وَنَحْوِ ذَلِكَ. كُلُّ ذَلِكَ عَائِدٌ إِلَى الرُّتْبَةِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالْحُظْوَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، لَا إِلَى الْمَكَانِ".

لا شك أن الله -جلَّ وعلا- مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، فوق سماواته، ينزل كل ليلة على ما يليق بجلاله وعظمته، ولا يخلو منه العرش، كما قرَّر ذلك أهل العلم. وما وراء ذلك، فكيفيته مجهولة للخلق، ما عرف الخلق ما بلغهم عن الله على لسان نبيه -عليه الصلاة والسلام-، وما عدا ذلك عليهم الإيمان به، مع اعتقادهم أن لها معاني تليق بالله- جلَّ وعلا-.

طالب: شيخ، الشيخ الألباني ضعَّف هذا الحديث؟

«لأجلسه»؟

طالب: نعم.

هو قابل للتضعيف، وقابل للتحسين. يعني قد يكون حسنًا لغيره، وقد يكون ضعيفًا، من ضعفه، لا ضير عليه، ضُعِّف من قِبل جمع من أهل العلم. لكن نعلم أن مثل هذا، حتى لو ثبت، ما فيه أدنى إشكال. كونه يُجلس على العرش، ما فيه أدنى إشكال؛ لأن الله -جلَّ وعلا- له ما يخصه من الاستواء، ولنبيه ما يخصه ويليق به، والخالق لا يُشبهه المخلوق بحال، تعالى الله عما يقول المُبتدعة.

طالب: ...

لا، ليس بتأويل؛ لأنك لو قلت: يخلو منه العرش، الاستواء، كلام شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يُقرر هذا، يقول: إنه ينزل كل ليلة نزولًا يليق بجلاله وعظمته، ولا يخلو منه العرش؛ لثبوت أدلة العلو؛ لأنه لو استرسلنا مع ما نفهمه من استواء ونزول، يعني ما نفهمه ونُطبقه على فعل المخلوق، ما قلنا بالعلو ولا بالاستواء، لماذا؟ لأن الثُلُث الأخير من الليل، على مدى الأرض كلها، الليل كله ثُلُث، إذا انتهى الثُلُث من هؤلاء انتقل إلى هؤلاء، انتقل إلى أولئك، فالله أعلم بالكيفية، هذا شيء لا يُحيط به البشر. فلا بد من الرضا والتسليم، نؤمن بأحاديث العلو وأحاديث الاستواء وأحاديث النزول في آنٍ واحد، ونَكِل ما وراء ذلك إلى الله- جلَّ وعلا-.

وعلى هذا مثل هذه الأمور التي ينادي بعض الناس بالمناظرات، مناظرات المبتدعة، على الملأ وعلى عوام المسلمين في القنوات، وفي الوسائل كلها، نقول: هذا خطأ؛ لأنه إذا ورد مثل هذا الكلام، الذي لا تحتمله عقول العوام، هو كلام حق، لكن كيف تحتمل عقول العوام مثل هذا الكلام؟ هذه لا بد أن يُقذف في قلوبهم شيء، يصعُب اجتثاثه منها، فبقاؤهم على عدم علمهم بهذه الأمور، التي لا يحتملونها، أولى من علمهم بها. العامي، «حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذب الله ورسوله؟»، ولذا الدعوى إلى مناظرة المُبتدعة في الوسائل العامة، التي يراها العالم والجاهل على حدٍّ سواء، الصغير والكبير، المتدين وغير المتدين، المُغرض والموافق والمُخالف، هذا خطأ.

طالب: هم قالوا، هؤلاء الناس، يضللون الناس، فكونه يأتي إنسان صالح ويُبيِّن للناس ...

إذا أُلجئ المسلم، إذا أُلجئ أهل السُّنَّة والجماعة إلى هذا الأمر، وصارت المسألة من باب الدفع، فينبري لهم أعلم القوم، وأولاهم بهذا، أعلم أهل المذهب، الذين هم أهل السُّنَّة، وأسرعهم حجة وبديهة وأحضرهم وأكثرهم استيعابًا وفهمًا، ويكون من باب الدفع.

اللهمَّ إلا لو بدأ أهل السُّنَّة في تقرير عقائدهم التي تحتملها عقول الناس، على أقل الأحوال لضمان استمرارهم على هذا المُعتقد، بحيث لو جاءهم من يُشكك فيه، ما سمعوا له، لكن بهذه الطريقة، الناس عندهم جهل مُطبق، ويُلقى عليهم من هذه الشُبه، الله أعلم ماذا يصير المستقبل بالنسبة لهم؟ لكن إذا أُكره أهل السُّنَّة على هذا، فلا بد من الدفع.

"الرَّابِعُ: إِخْرَاجُهُ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَتِهِ مَنْ يَخْرُجُ، قَالَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي (كِتَابِ التَّذْكِرَةِ)، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

السَّادِسَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَوْنِ الْقِيَامِ بِاللَّيْلِ سَبَبًا لِلْمَقَامِ الْمَحْمُودِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى يَجْعَلُ مَا شَاءَ مِنْ فِعْلِهِ سَبَبًا لِفَضْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِوَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهِ، أَوْ بِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الْحِكْمَةِ.

الثَّانِي: أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ فِيهِ الْخَلْوَةُ مَعَ الْبَارِئِ وَالْمُنَاجَاةُ دُونَ النَّاسِ، فَأُعْطِيَ الْخَلْوَةَ بِهِ وَمُنَاجَاتَهُ فِي قِيَامِهِ وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ. وَيَتَفَاضَلُ فِيهِ الْخَلْقُ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ، فَأَجَلُّهُمْ فِيهِ دَرَجَةً مُحَمَّدٌ- صلى الله عليه وسلم-، فَإِنَّهُ يُعْطَى مَا لَا يُعْطَى أَحَدٌ وَيَشْفَعُ ما لا يشفع أحد.

و{عَسى} من الله -عز وجل- واجبة. و{مَقامًا} نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، أَيْ: فِي مَقَامٍ أَوْ إِلَى مَقَامٍ".

نعم، في الأصل هي حرف ترجي، لكن إذا صدرت من الله -جلَّ وعلا-، فمن الذي يرجوه الرب- جلَّ وعلا-؟ قال ابن عباس: "عسى من الله واجبة"، مثل أيضًا: ليت، التمني والترجي من الله واجب- جلَّ وعلا-.

يقول: "اختلف العلماء في كون القيام بالليل سببًا للمقام المحمود على قولين: أحدهما: أن البارئ تعالى يجعل ما شاء من فعله سببًا لفضله، من غير معرفةٍ بوجه الحكمة" أو "بمعرفة وجه الحكمة"، الله سبحانه وتعالى هو الذي ييسر القيام لهذا الشخص، وهو الذي يجعله عسيرًا على آخر. ييسر الأمر لهذا، ويجعله عسيرًا لهذا، والسبب: أن الله -جلَّ وعلا- علم من حال هذا، ولما قدمه هذا وسعى فيه، مما جُعِل فيه من اختيار، وكلٌّ منهم مُختار. كلٌّ من الاثنين مُختار، فهذا اختار طريق السعادة، والله -جلَّ وعلا- خيَّره، وما منع الآخر، وإن أعان هذا، ولم يُعِن هذا.

ومرارًا ذكرت مثالًا لهذا الأمر؛ لأن هذا مدخل لبعض المُبتدعة، يقول: الله -جلَّ وعلا- يُطالبني بقيام الليل، ويعسِّره علي، كيف؟ أو يأمرني بالكف عن المعاصي ويُيسِّر أسبابها لي؟! ويأمرني بالطاعة ويُعسِّر الأسباب علي؟!

بعض المُبتدعة يقول هذا الكلام. لكن الله -جلَّ وعلا- بيَّن للجميع، وهدى الجميع، بيَّن لهم دلالة وإرشادًا، بيَّن للجميع. من لم يُبيَّن له، يُعذر بجهله، لكن من بُيِّن له، يؤاخذ بالبيان. كون هذا يُسِّر لليسرى، وهذا عُسِّر عليه الأمر، مع كونه مُختارًا، لا أحد يمنعه من اختيار طريق الحق والخير.

ونظَّرنا هذا مرارًا بمسألة، هو أنني ذكرت مثلًا، تعالى الله عن مشابهة المخلوق، لكن هذا مثال يُقرِّب المسألة، لو أن شيخًا من الشيوخ قال للطلاب، مدح لهم كتابًا من الكتب، فقال لمجموعة منهم: أنا عندي لكم نُسخ، وقال لمجموعة: الكتاب يُباع في المكان الفلاني، وترك مجموعة، بيَّن لهم أن الكتاب نافع، وينبغي لهم أن يقتنوه، هل يكون ظلم أولئك الذين ما دلَّهم على المكتبة؟ ما ظلمهم، لكنه خصَّ هؤلاء بمزيد عناية، هذا فضل منه. لكنه ما ظلم أولئك، بيَّن لهم أن هذا الكتاب نافع، قال لمجموعة من الإخوان: والله أنا عندي خمس نسخ، وقال لمجموعة من الإخوان: الكتاب يُباع في المكان الفلاني، يسَّر لهم الطريق، وقال للباقي: الكتاب تجدونه في المكتبات، بحثوا عنه في مكتبة، مكتبتين، ثلاثة، تعبوا في تحصيله، هذا مثال تقريبي، الشيخ هل ظلم هؤلاء الذين بيَّن لهم؟ ما ظلمهم، لكن كونه اختصَّ بعضهم بمزيد فضله وعنايته، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} [سورة الجمعة:4]، و{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [سورة الأنبياء:23].

 لكنه بيَّن للجميع على حدٍ سواء، أنزل كتبه، وأرسل رسله؛ للبيان للخلق على حدٍّ سواء، حتى إن الذي لم يتم له البيان ولا يفهم، يُعذر بجهله، ما أكثر من هذا؟ {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [سورة الكهف:49]، و{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [سورة فصلت:46]، بعد هذا البيان، وبعد تركيب الاختيار فيهم.

 يعني شخص سمع المؤذن، من يمنعه أن يقوم إلى المغسلة ويتوضأ ويذهب إلى الصلاة؟ هل فيه أحد يمنعه؟ هل في نفسه جُبِل على شيءٍ يمنعه من ذلك؟ ما جُبِل، هو مُختار. لكن كون الله- جلَّ وعلا- كتب له السعادة وقدَّرها له؛ لأن هذه السعادة مكتوبة تبعًا لما يختاره هو، فإذا اختار الطريق الحق، صار مكتوبًا له السعادة. إذا اختار الطريق الثاني، وقد رُكِّب فيه الاختيار ولم يُجبر على شيء، تبيَّن أنه ممن كُتِبت عليه الشقاوة، وهو الذي يختار بنفسه.

نعم، له إرادة ومشيئة، لكن هذه الإرادة وهذه المشيئة، لا يمكن أن تستقل عن إرادة الله -جلَّ وعلا- ومشيئته، {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة التكوير:29]، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى} [الأنفال:17] أثبت له الرمي: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} العبد يرمي، أفلا يستطيع أن يصوِّب البندقية على الصيد؟ هل يُحس بشيءٍ يمنعه من الصيد؟ الله أثبت له الرمي، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} أنت رميت الآن، إذًا {وَمَا رَمَيْتَ} يعني ما أصبت، {إِذْ رَمَيْتَ} إذ صوبت السهم إلى الرمية، ولكن الله -جلَّ وعلا- هو الذي أصاب، لا يوجد مانع أن يُطيل هذا الصيد، لكن أنت بيدك ما رُكِّب فيك من اختيار، والله- جلَّ وعلا- إرادته ومشيئته مُحيطةٌ بالجميع- جلَّ وعلا-، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [سورة فصلت:46].

"وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أَشْفَعُ فِيهِ لِأُمَّتِي». فَالْمَقَامُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يَقُومُ فِيهِ الْإِنْسَانُ لِلْأُمُورِ الْجَلِيلَةِ، كَالْمَقَامَاتِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُلُوكِ".

نعم، القول الثاني في المقام المحمود: أنه سبب، أن قيام الليل سبب للمقام المحمود، لا شك أنه سبب، وسبب لرفعة الدرجة عند الله -جلَّ وعلا-، وهو دأب الصالحين، ومدح الله- جلَّ وعلا- الذين يقومون الليل، الذين {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [سورة السجدة:16]، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة الزمر:9] ما يستوون.

لكن الذي لا يقوم الليل، هل فيه أحد يمنعه من قيام الليل؟ يبذل الأسباب ويقوم الليل، ما فيه أحد يمنعه. وأيضًا قد يقوم اثنان وقتًا واحدًا، يستيقظون من الساعة الثانية عشرة ويصلون للساعة الثالثة، ثلاث ساعات، وبين قيام هذا وبين قيام هذا مثل ما بين السماوات والأرض.

كما أن الفرائض تتفاوت، من الناس من يخرج من الصلاة كاملة، له أجرها كاملة موفورًا، ومنهم من يخرج بالنصف، ومنهم من يخرج بالعُشر، ومن المُصلين من لا يخرج بالأجر ألبتة؛ لأنه خرج من صلاته مثل ما دخل، هل ظُلِم في هذا؟ هو السبب في هذا، من منعه من إحضار قلبه والإقبال على صلاته بخشوع بكليته؟ فالله -جلَّ وعلا- لا يظلم أحدًا، فعلى الإنسان أن يُحصِّل الأسباب التي تجمع عليه قلبه، ويُحصِّل الأسباب التي تُعينه على الطاعة.

"قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا} [سورة الإسراء: 80].

قِيلَ: الْمَعْنَى أَمِتْنِي إِمَاتَةَ صِدْقٍ، وَابْعَثْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَبْعَثَ صِدْقٍ".

يكون معنى {أَدْخِلْنِي} إدخال القبر هنا، {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} يعني في القبر، هذه إدخالة الموت. بمعنى: أمتني إماتة صدق، فأدخلني في قبري مُدخل صدق، وأخرجني منه، يوم البعث، مبعث صدق.

"لِيَتَّصِلَ بِقَوْلِهِ: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا}، كَأَنَّهُ لَمَّا وَعَدَهُ ذلك أمره أن يدعو لينجز له الْوَعْدَ. وَقِيلَ: أَدْخِلْنِي فِي الْمَأْمُورِ وَأَخْرِجْنِي مِنَ الْمَنْهِيِّ".

قد يكون هذا الدعاء من أسباب تحصيل المقام المحمود.

"وَقِيلَ: عَلَّمَهُ مَا يَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِهِ وَغَيْرِهَا، مِنْ إِخْرَاجِهِ مِنْ بَيْنِ الْمُشْرِكِينَ وَإِدْخَالِهِ مَوْضِعَ الْأَمْنِ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ مَكَّةَ وَصَيَّرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِمَكَّةَ ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَنَزَلَتْ: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا}، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ خُرُوجُهُ مِنْ مَكَّةَ وَدُخُولُهُ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ آمِنًا. وقال أَبُو سَهْلٍ: حِينَ رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ وَقَدْ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} يَعْنِي إِدْخَالَ عِزٍّ وَإِخْرَاجَ نَصْرٍ إِلَى مَكَّةَ.

وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَدْخِلْنِي فِي الْأَمْرِ الَّذِي أَكْرَمْتَنِي بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَأَخْرِجْنِي مِنْهُ مُخْرَجَ صِدْقٍ إِذَا أَمَتَّنِي، قَالَ مَعْنَاهُ مُجَاهِدٌ.

وَالْمُدْخَلُ وَالْمُخْرَجُ (بِضَمِّ الْمِيمِ) بِمَعْنَى الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ".

بخلاف المَدخل والمَخرج الذي هو موضع الدخول وموضع الخروج.

"كَقَوْلِهِ: {أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكًا} أَيْ: إِنْزَالًا لَا أَرَى فِيهِ مَا أَكْرَهُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ: "مَدخَل" و"مَخَرج". بِفَتْحِ الْمِيمَيْنِ بِمَعْنَى الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، فَالْأَوَّلُ رُبَاعِيٌّ وَهَذَا ثَلَاثِيٌّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَدْخِلْنِي الْقَبْرَ مُدْخَلَ صِدْقٍ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ عِنْدَ الْبَعْثِ".

وهو الذي تقدَّم في صدر الكلام.

"وَقِيلَ: أَدْخِلْنِي حَيْثُمَا أَدْخَلْتَنِي بِالصِّدْقِ وَأَخْرِجْنِي بِالصِّدْقِ، أَيْ: لَا تَجْعَلُنِي مِمَّنْ يَدْخُلُ بِوَجْهٍ وَيَخْرُجُ بِوَجْهٍ، فَإِنَّ ذَا الْوَجْهَيْنِ لَا يَكُونُ وَجِيهًا عِنْدَكَ.

وَقِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا يُتَنَاوَلُ مِنَ الْأُمُورِ وَيُحَاوَلُ مِنَ الْأَسْفَارِ وَالْأَعْمَالِ، وَيُنْتَظَرُ مِنْ تَصَرُّفِ الْمَقَادِيرِ فِي الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، فَهِيَ دُعَاءٌ، وَمَعْنَاهُ: رَبِّ أَصْلِحْ لي وردي في كل الأمور.

وقوله: {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا} قَالَ الشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ: أَيْ حُجَّةً ثَابِتَةً. وَذَهَبَ الْحَسَنُ إِلَى أَنَّهُ الْعِزُّ وَالنَّصْرُ وَإِظْهَارُ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. قَالَ: فَوَعَدَهُ اللَّهُ لَيَنْزِعَنَّ مُلْكَ فارس والروم وغيرها فيجعله له".

المقصود: أن كل ما ذُكِر في الآية، الآية تحتمله، كل ما يُطلق عليه المُدخل والمُخرج، الآية تحتمله.

طالب: أحسن الله إليك، قول من قال: إخراجه من تبوك وإدخاله لمكة؟

لا، لا يُجزم بأن هذا هو مراد الله -جلَّ وعلا- من الآية، لكنه يدخل فيها. ويدخل فيها: إذا أراد الإنسان أن يدخل أو يخرج من أي مكان، يدعو بهذا الدعاء، لكنه لا يقول: إن هذا الدعاء داخل في عموم الآية، لكن لا يجزم بأن مراد الله -جلَّ وعلا- هذا الكلام.

طالب: ألا يأتي عليه من مكة مُتقدم على تبوك؟ يعني "إدخال عزٍّ ونصر وإخراج نصرٍ إلى مكة"، ومكة في التاريخ مُتقدمة على فتح تبوك.

نعم، تبوك متأخرة جدًّا.

طالب: نعم، يقول: حين رجع من تبوك وقال المنافقون: "يعني إدخال عز وإخراج نصرٍ إلى مكة"، إلا إن كان يقصد الإخراج قبل الإدخال.

لا، هو ربطها بالآية ...

طالب: "قال أَبُو سَهْلٍ: حِينَ رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ وَقَدْ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} يَعْنِي إِدْخَالَ عِزٍّ" إدخاله من تبوك.

إدخاله للمدينة، من تبوك.

طالب: نعم، للمدينة، "وَإِخْرَاجَ نَصْرٍ إِلَى مَكَّةَ" إن كان يقصد قبل ذلك؟ لأن الفتح قبل تبوك.

لكن قوله: حين، حين رجع من تبوك، لا، ما له وجه إلا أنها داخلة في عموم الآية؛ لأن الآية بعمومها تتناول هذا كله. ما كان وما يكون.

طالب: ...

ما المانع؟ لأن الصدق مطلوب، الصدق عمومًا مطلوب شرعًا، في الدخول والخروج والصدر والورود، كلها مطلوبة.

طالب: بعض ... يرد فيها بعض الأدعية مكتوبة، بعض المتقدمين ... الالتزام على سبيل التوقيف؟

ما يلتزم توقيفًا إلا إذا ورد تقييده في وقت أو في زمان أو في مكانٍ معين، وإلا ما يُلتزم.

"قوله تعالى: {وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا} [سورة الإسراء:81].

فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

الْأُولَى: رَوَى الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا، فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَطْعَنُهَا بِمِخْصَرَةٍ فِي يَدِهِ- وَرُبَّمَا قَالَ بِعُودٍ- وَيَقُولُ: «جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا، جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ» لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَكَذَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «نُصُبًا». وَفِي رِوَايَةٍ صَنَمًا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّمَا كَانَتْ بِهَذَا الْعَدَدِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ فِي يَوْمٍ صَنَمًا، وَيَخُصُّونَ أَعْظَمَهَا بِيَوْمَيْنِ. وَقَوْلُهُ: " فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ" يُقَالُ: إِنَّهَا كَانَتْ مُثَبَّتَةً بِالرَّصَاصِ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا طَعَنَ مِنْهَا صَنَمًا فِي وَجْهِهِ خَرَّ لِقَفَاهُ، أَوْ فِي قَفَاهُ خَرَّ لِوَجْهِهِ. وَكَانَ يَقُولُ: «جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا» حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَمَا بَقِيَ مِنْهَا صَنَمٌ إِلَّا خَرَّ لِوَجْهِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَكُسِرَتْ".

قوله: فجعل يطعَنها، بفتح العين، يطعَن، إذا كان الطعن في المحسوسات، مثل هذه الأصنام. أما إذا كان الطعن في المعاني، الطعن في الأنساب مثلًا، طعَن يطعُنُ في نسبه، وفي جسده يطعَنُ، بفتح العين.

طالب: في رواية: كلما أشار إلى صنمٍ منهم؟

لا، هو يطعنها بمخصرته -عليه الصلاة والسلام-.

"الثَّانِيَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى كَسْرِ نُصُبِ الْمُشْرِكِينَ وَجَمِيعِ الأوثان إذا غُلِبَ عليهم".

إذا غُلِبَ عليهم، بهذا القيد، فإذا تمكَّن المسلمون من معبودات المشركين، فعليهم إزالتها، إذا تمكنوا. أما إذا لم يتمكنوا من ذلك، ولم يستطيعوا إزالتها، فمع الضعف، فلا يجوز التغيير بما يترتب عليه مُنكر أعظم. أما إذا تمكنوا من غير ترتب مُنكرٍ أعظم منه، يلزمهم إزالتها؛ لأن هذا من أعظم المُنكرات.

الشرك هو أكبر الكبائر وأعظم المنكرات، وإزالته تجب. وهو داخلٌ في قوله -عليه الصلاة والسلام-: «من رأى منكم مُنكرًا فليغيره بيده»، فإذا تمكَّن المسلمون من هذه الأصنام، يجب عليهم إزالتها.

"ويدخل بِالْمَعْنَى كَسْرُ آلَةِ الْبَاطِلِ كُلِّهِ، وَمَا لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ كَالطَّنَابِيرِ وَالْعِيدَانِ وَالْمَزَامِيرِ، الَّتِي لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا اللَّهْوُ بِهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى".

يعني لا تُستعمل إلا في هذا الأمر، لا تُستعمل إلا استعمالًا مُحرمًا، يجب كسرها، ولا ضمان فيها؛ لأنها ليست بمال. لكن لو كان يمكن استعمالها في غير ما صُنِعَت له، لو أن صنمًا من ذهب مثلًا، أو آلة لهو من ذهب، فجاء شخصٌ فألقاها في اليم، وصاحبها يمكن أن يستعملها بغير ما صُنِعَت له، نعم، عليه أن يُغيِّر معالمها بحيث لا تكون آلة لهو ولا صنمًا، وتبقى ماليتها. لكن لو كانت من مادةٍ لا يمكن استعمالها إلا في هذا الأمر، تُكسر ولا كرامة ولا احترام، وليست بمال أصلًا.

"قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَفِي مَعْنَى الْأَصْنَامِ الصُّوَرُ الْمُتَّخَذَةُ مِنَ الْمَدَرِ وَالْخَشَبِ وَشَبَهِهَا"

طالب: إذا كان الصنم من ذهب ...

ذهب، يعني يُصاغ، ويُمكن أن يُستعمل في غير العبادة. يعني يمكن أن يصاغ حليًّا.

طالب: ...

هذا شرع من قبلنا، لكن المادة التي يُمكن أن يُستفاد منها على غير وجهها، استعمال له وجه، ما تقول: هذا خمر، لا نُريقه، نُطفيء به حريقًا، ليس بصحيح. لكن استعمال له وجه، تبقى ماليته معه، ممكن. يعني لو اشتريت مثلًا آلة لهو، يتصور أنه مثلًا جهاز يبث الشر، ولا خير فيه، فقلت: أستخدم هذه الآلة على أساس أني أزيل ما فيها من مادة، وأجعلها لحفظ المتاع مثلًا، فيه ما يمنع؟ ما فيه ما يمنع، أبدًا؛ لأن المادة طاهرة، ممكن أن يستعملها استعمالًا صحيحًا، ما فيخ ما يمنع.

طالب: في أجهزة أرخص من هذه بكثير ...

لا، هو صاحبها بدلًا من أن تتلف عليه هذه الآلة، صحيح أن استعمالها استعمال مُحرم، بدلاً من أن تتلف عليه، ولا يستفيد منها ألبتة، بإمكانك أن تُفسدها إفسادًا يفوت هذه المفسدة، ويُبقي استعمالها في جهةٍ أخرى، ما فيه ما يمنع.

طالب: ...

لا، نقول: إذا غُيرت معالمها، هذا لا يبقى صنمًا، يُصاغ حليًّا، ماذا يصير؟ غيَّر معالمه.

طالب: ...

على كل حال إذا وجد مثل هذه المفسدة، فلا بد من أن يُجتث أصل الشرك، لاربد من هذا.

أنا أقول: إذا كان بالإمكان الاستفادة منه بوجهٍ لا يُبقي أثرًا للمفسدة، هو مال. أما إذا كان لا يُمكن أن يُستفاد منه إلا على هذا الوجه، أو بإتلافه، يُتلف.

طالب: ترك الصنم لأدنى مصلحة، مثل فعل إبراهيم -عليه السلام-.

نعم، ترك واحد منها.

طالب: يعني أدنى مصلحة ...

لا، ترك واحد منها؛ لأن هذه مصلحة تقرير عقيدة، مصلحة إبقاء هذا الواحد ليس من أجل أن يقول: هذا كبيرهم، اسأله هو الذي كسرهم، لا، ليُقرر لهم أن هذا وإن كان أكبرهم، إلا أنه لا ينفع ولا يضر ولا يتكلم. هذه تحصيل مصلحة عظمى.

طالب: شيخ، فيما سبق من كسر أصنام بوذا من طالبان، طلبت الصين أن تأخذ فتات الأصنام مقابل أن تبني البنية التحتية لأفغانستان كلها، فرفض طالبان.

نعم، ماذا يستعملونه؟

طالب: هو قد تحطم يعني.

نعم، لكن يمكن ترميمه واستعماله على وجهٍ يصلح عندهم، لا. المقصود أنه لا يُستعمل استعمالًا مُحرمًا.

طالب: ...

نعم.

طالب: ..............

لا شك أن هذه هي العزيمة، والأثر النفسي المُترتب عليها أعظم من ماليتها. الأثر النفسي المُترتب عليها أعظم مما يجنيه من مالها. الدش، ماذا يُستفاد منه؟ ما يُستفاد منها ألبتة. لكن لو أراد أن يُزيل أثر هذه المعصية بالكلية، صنع آلة له من خشب مثلًا، نقول له: بإمكانك أن تصنع من هذا الخشب دلوًا، قال: لا يا أخي، أنا أحضر ثقابًا وأحرقه إحراقًا تامًّا، لا يبقى له أدنى أثر، هذه عزيمة، جزاه الله خيرًا.

طالب: أحسن الله إليك يا شيخ، الآن خروج بعض الدعاة في قنوات "الدشوش"، أليس هذا من باب الدفع؟ ليس من باب أنهم يحثون الناس ...

على كل حال المسألة فيها مصلحة ومفسدة، والمفسدة كبرى وعظيمة، وهذا تشريع للناس، وذريعة يتمسك بها بعض الناس، لو أن فيه شيئًا ما خرج فلان. لكن فلان سيظهر سيظهر، في هذه القناة أو في غيرها، نقول: كونه يوصل الحق بعد إلى أماكن لا يصل إليها، لعل فيه خيرًا، إن شاء الله.

هناك مصلحة ومفسدة، والمفسدة راجحة، لكن هو يُقرر في قرارة نفسه أن مصلحة ظهوره في هذه القنوات أرجح من مفسدة عدم ظهوره، وهو من أهل النظر، من المفترض في شخص من أهل العلم وأهل النظر، يُرجِّح بين مصالح ومفاسد، الله يتولاه.

أما لو سأل شخص ابتداءً يخرج أو لا يخرج، نقول: لا تخرج، ما يجوز أن تخرج.

"وَكُلُّ مَا يَتَّخِذُهُ النَّاسُ مِمَّا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ إِلَّا اللَّهْوُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ. ولا يجوز بيع شي مِنْهُ، إِلَّا الْأَصْنَامَ الَّتِي تَكُونُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، إِذَا غُيِّرَتْ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ وَصَارَتْ نُقَرًا أَوْ قِطَعًا، فَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَالشِّرَاءُ بِهَا.

قَالَ الْمُهَلِّبُ: وَمَا كُسِرَ مِنَ آلَاتِ الْبَاطِلِ، وَكَانَ فِي حَبْسِهَا بَعْدَ كَسْرِهَا مَنْفَعَةٌ، فَصَاحِبُهَا أَوْلَى بِهَا مَكْسُورَةً، إِلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ حَرْقَهَا بِالنَّارِ عَلَى مَعْنَى التشييد".

التشديد.

"على معنى التَّشْدِيدِ وَالْعُقُوبَةِ فِي الْمَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَرْقُ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنه-. وَقَدْ هَمَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِتَحْرِيقِ دُورِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا أَصْلٌ فِي الْعُقُوبَةِ فِي الْمَالِ، مَعَ قَوْلِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- في الناقة التي لعنتها صاحبتها: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ»، فَأَزَالَ مُلْكَهَا عَنْهَا؛ تَأْدِيبًا لِصَاحِبَتِهَا، وَعُقُوبَةً لَهَا فِيمَا دَعَتْ عَلَيْهِ بِمَا دَعَتْ بِهِ. وَقَدْ أَرَاقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- لَبَنًا شِيبَ بِمَاءٍ عَلَى صَاحِبِهِ.

الثَّالِثَةُ: مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ يُنْظَرُ إِلَى قَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم-: «والله لينزلن عيسى بن مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلًا، فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ، وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ، وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا»، الْحَدِيثَ خَرَّجَهُ الصَّحِيحَانِ.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ هَتْكُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- السِّتْرِ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ، وَذَلِكَ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى إِفْسَادِ الصُّوَرِ وَآلَاتِ الْمَلَاهِي كَمَا ذَكَرْنَا.

وَهَذَا كُلُّهُ يحظر الْمَنْعَ مِنَ اتِّخَاذِهَا، وَيُوجِبُ التَّغْيِيرَ عَلَى صَاحِبِهَا. إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ، وَحَسْبُكَ! وَسَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى فِي" النَّمْلِ "، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى".

وجاء في الحديث الصحيح: «إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة هو المصورون»، نسأل الله العافية.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ} أَيِ: الْإِسْلَامُ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، قَالَه مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: الْجِهَادُ. {وَزَهَقَ الْباطِلُ} قِيلَ: الشِّرْكُ. وَقِيلَ: الشَّيْطَانُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.

وَالصَّوَابُ تَعْمِيمُ اللَّفْظِ بِالْغَايَةِ الْمُمْكِنَةِ، فَيَكُونُ التَّفْسِيرُ جَاءَ الشَّرْعُ بِجَمِيعِ مَا انْطَوَى فِيهِ. {وَزَهَقَ الْباطِلُ}: بَطَلَ الْبَاطِلُ. وَمِنْ هَذَا زُهُوقُ النَّفْسِ وَهُوَ بُطْلَانُهَا. يُقَالُ زَهَقَتْ نَفْسُهُ تَزْهَقُ زُهُوقًا، وَأَزْهَقْتُهَا.

{إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا} أَيْ: لا بقاء له، والحق الذي يثبت".

اللهم صلِّ على محمد.