كتاب الجامع من سبل السلام (10)

نعم.

أحسن الله إليك.

"الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

اللهم اغفر لشيخنا والسامعين.

أما بعد،

فقال في البلوغ وشرحه في باب البر والصلة من كتاب الجامع:

وعن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو لأخيه ما يحب لنفسه». متفق عليه.

 الحديث وقع في لفظ مسلم بالشك في قوله: «لأخيه أو لجاره»، ووقع في البخاري: «لأخيه» بغير شك.

 الحديث دليل على عظم حق الجار والأخ، وفيه نفي الإيمان عمن لا يحب لهما ما يحب لنفسه، وتأوله العلماء بأن المراد نفي كمال الإيمان عمن لا يحب لهما؛ إذ قد عُلم من قواعد الشريعة أن من لم يتصف بذلك لا يخرج عن الإيمان."

بعض الشراح، بل كثير ممن يسمع مثل هذا الحديث يرى أن تطبيقه مستحيل؛ لأن النفوس جبلت على محبة النفس وإيثارها على غيرها، لكن يقول أهل العلم: -ونسأل الله -جل وعلا- أن نصل إلى هذه الدرجة- أن القلب السليم يدرك مثل هذا، وسهل عليه تحقيقه وإلا فما معنى المسابقة؟ ما معنى المسارعة إلا أنه لا بد أن تسبق غيرك، وتصل إلى المراد قبل غيرك في المسارعة وإلا ماذا تعني المسارعة والمسابقة؟ أنك تسابق غيرك، لكن هل معنى هذا أنك إذا كنت في فصل دراسي فيه مائة طالب أن تتمنى أن يكون المائة كلهم الأول مكررًا؟ هل يتصور مثل هذا؟

لا شك أن في تصور مثل هذا الخبر لاسيما مثل ما نعيشه من ضعف، وأمراض في القلوب، أننا قد نستبعد مثل هذا أن الإنسان يحب لأخيه ما يحب لنفسه، حتى على مستوى أهل العلم، تجده يحب لنفسه من الانتصار على غيره، ومن التفوق على غيره ومن كذا.. لا شك أن هذا موجود، بلا ريب، لكن هل هذا المراد نفيه أم لا؟ ننظر في كلام أهل العلم ما يدل على شيء من هذا. نعم.

أحسن الله إليك.

"وأطلق المحبوب ولم يعين، وقد عينه ما في رواية النسائي لهذا الحديث بلفظ: «حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه»، قال العلماء."

هناك أشياء ما يمكن قسمتها بين اثنين، ما يمكن قسمتها بين اثنين، إما لك وإلا لغيرك، وهي من الخير، هل تتمناها لأخيك أو لنفسك أو تكون أمنيتك أن تكون لك ولأخيك مثلها على افتراض وجوده؟

طالب: أحسن الله إليك، أليس هذا معنى الإيثار؟ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [سورة الحشر:9].

نعم، ما يخالف إن وصل الإنسان إلى هذا الحد فما فيه إشكال، وصل الإنسان إلى هذا ما عنه سؤال، ولا عنه منشود، على ما يقول العامة، لكن المشكلة في وضع كثير من الناس الآن من المسلمين، ومن أهل الاستقامة، من أهل الخير، من أهل العلم والفضل، الآن تجد الاثنين يتنافسان في روضة المسجد، ويقرآن القرآن شأنهم وديدنهم قراءة القرآن، ويقرؤون القرآن في كل وقت، ومع ذلك هل يجد قد يجد في نفسه إذا رأى صاحبه متقدمًا عليه وهو في القرآن.

طالب: يفرح..

كيف؟

طالب: أقول: الأصل أنه يفرح.

هذا الأصل أنه يفرح، لكن ما فرح حتى وصل الأمر إلى شيء مضحك، يعني وُجد مَن يؤخر العلامة التي يضعها في مصحفه، وجد هذا وهم أخيار وفي المسجد، ويتنافسون في كتاب الله وجد.. الآن القلوب ما تسلم، ليست سليمة، والله المستعان.

أحسن الله إليك.

"وأطلق المحبوب ولم يعين، وقد عينهما في رواية النسائي بهذا الحديث بلفظ: «حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه».

قال العلماء: والمراد من الطاعات والأمور المباحة، قال ابن الصلاح: وهذا قد يعد من الصعب الممتنع، وليس كذلك؛ إذ معناه: لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام ما يحب لنفسه من الخير، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له مثل حصول ذلك من جهة لا يزاحمه فيه بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئًا من النعمة عليه، وذلك سهل على القلب السليم، وإنما يعسر على القلب الدغل- عافانا الله وإخواننا أجمعين-، انتهى.

 هذا على رواية الأخ، ورواية الجار عامة للمسلم والكافر والفاسق والصديق والعدو والقريب والأجنبي والأقرب جوارًا والأبعد، فمن اجتمعت فيه الصفات الموجبة لمحبة الخير له فهو في أعلى المراتب، ومن كان فيه أكثرها فهو لاحق به، وهلم جرا، إلى الخصلة الواحدة، فيُعطى كل ذي حق حقه بحسب حاله، وقد أخرج الطبراني من حديث جابر: الجيران ثلاثة؛ جار له حق، وهو المشرك له حق الجوار، وجار له حقان، وهو المسلم له حق الجوار وحق الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق، جار مسلم له رحم له حق الإسلام والرحم والجوار. وأخرج البخاري في الأدب المفرد.."

خرج الحديث؟

نعم.

ماذا يقول عن الحديث؟

حديث الطبراني؟

نعم.

يقول: رواه البزار عن شيخه عبد الله بن محمد الحارثي، وهو وضَّاع كما في مجمع الزوائد.

لكن ما له شاهد ولا له شيء؟

 ما ذكر شيئًا؟

ما ذكر الطبراني ولا ذكر شيئًا.

فيه تخريج للحديث غير هذا؟

طالب: .....

نعم.

طالب: ..........

ضعيفة على كلام المخرِّج هنا ما يكفي أن يكون ضعيفًا.

أحسن الله إليك.

"وأخرج البخاري في الأدب المفرد والترمذي وحسنه عن عبد الله بن عمرو، أنه ذبح شاة، فأهدى منها لجاره اليهودي، فإن كان الجار أخًا أحب له ما يحب لنفسه، وإن كان كافرًا أحب له الدخول في الإسلام أولاً مع ما يحب لنفسه من المنافع، بشرط الإيمان.

 قال الشيخ محمد بن أبي جمرة: حفظ حق الجار من كمال الإيمان، والإضرار به من الكبائر؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره». قال: ويفترق الحال في ذلك بالنسبة إلى الجار الصالح وغيره، والذي يشمل الجميع إرادة الخير، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له إلا في الموضع الذي يحل له الإضرار به بالقول والفعل، والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفه عن الأذى وأمره بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكافر يعرض الإسلام عليه، والترغيب فيه برفق، والفاسقه يعظه بما يناسبه بالرفق، ويستر عليه زلـله، وينهاه بالرفق، فإن نفع وإلا هجره قاصدًا التأديب بذلك مع إعلامه بالسبب؛ ليكف ويقدم.."

نعم؛ لأن الهجر علاج، الهجر علاج، فإن كان أنفع من الصلة تعيَّن، وإلا يُسلَك، يُسلَك مسلك الصلة والاختلاط معه مع إبداء النصيحة له والتحبب إليه بالرفق واللين إلى أن يستجيب.

أحسن الله إليك.

"ويقدم عند التعارض من كان أقرب إليه بابًا، كما في حديث عائشة أنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: «إلى أقربهما بابًا». أخرجه البخاري.

 والحكمة فيه أن الأقرب بابًا يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها، فيتشوف إليها، بخلاف الأبعد، وتقدم أن حد الجار أربعون دارًا من كل جهة. وجاء عن علي -عليه السلام- أنه قال: من سمع النداء فهو جار، وقيل: من صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا» هو الشرك، ويقال له: ند ونديد، «وهو خلقك»، قال: قلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني بحليلة» بفتح الحاء المهملة الزوجة «جارك». متفق عليه."

سميت الزوجة حليلة؛ لأنها تحل مع زوجها حيثما حل.

أحسن الله إليك.

"قال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة:22]، وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ} [سورة الأنعام:151]، والآية الأخرى: خشية إملاق. وقوله: «أن تزاني بحليلة جارك»، أي بزوجته التي تحل، وعبَّر بتزاني بأن معناه تزني بها برضاها، وفيه فاحشة.."

يعني فيه مفاعلة، تزاني مفاعلة، ولا تكون المفاعلة إلا من الطرفين، فزناه ليس إكراهًا لها بحيث يبقى في قلبها مودة زوجها والاحتفاظ بحقه، إنما هو برضاها الذي من مقتضاه القضاء على حق الزوج، والله المستعان.

أحسن الله إليك.

"وفيه فاحشة الزنا، وإفساد المرأة على زوجها، واستمالة قلبها إلى غيره، وكل ذلك فاحشة عظيمة، وكونها حليلة الجار أعظم؛ لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه.."

وقد استفحل هذا الأمر في إفساد النساء بعد أن كثرت وتيسرت وسائل الاتصال، ونسمع في هذا الباب شيئًا لا يطاق سماعه، وفيه كثرة، نسأل الله- جل وعلا- أن يلطف بالمسلمين، وأن يحمي أعراضهم، يخشى من كثرة الخبث الذي رُتِّب عليه الهلاك؛ لأنه قال: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثر الخبث». والله المستعان.

أحسن الله إليك.

"وكل ذلك فاحشة عظيمة، وكونها حليلة الجار أعظم؛ لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه، ويأمن بوائقه، ويركن إليه، وقد أمر الله تعالى برعاية حقه، والإحسان إليه، فإذا قابل هذا بالزنا بامرأته وإفسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن منها غيره كان غاية في القبح.

 والحديث دليل على أن أعظم المعاصي الشرك، ثم القتل بغير حق، وعليه نص الشافعي، ثم تختلف الكبائر باختبار مفاسدها الناشئة عنها.

 وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه»، قيل: وهل يسب الرجل والديه؟ قال: «نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه». متفق عليه.

 قوله: «شتم الرجل والديه» أي يتسبب إلى شتمهما.."

وإن لم يلفظ به صراحة، وإن لم يلفظ به صراحة، لكنه لما كان سببًا، لما كان سببًا لهذا السب ولهذا الشتم صار بمنزلة المباشِر، صار بمنزلة المباشِر.

أحسن الله إليك.

"أي يتسبب إلى شتمهما، فهو من المجاز المرسَل، فهو من المجاز المرسَل استعمال للسبب في المسبَّب عنه، وقد بينه -صلى الله عليه وسلم- بجوابه عمن سأله بقوله: «نعم»، وفيه تحريم التسبب إلى أذية الوالدين وشتمهما، ويأثم الغير لسبه لهما، قال ابن بطال.."

بلا شك لا يعني أن كون الولد يأثم أن الساب لا يأثم، فالمتسبِّب آثم، والمباشِر آثم، بعض الناس يعاقَب بأذية غيره له، ثم يقال له: هذه لا شك أنها عقوبة من الله -جل وعلا- على ذنب أصبته، هل يعني هذا أن الذي آذاه ولو كان بسببه ولو كان عقوبة له هل يعني أنه بريء من الإثم؟ لا، عليه إثم المباشَرة.

أحسن الله إليك.

"قال ابن بطال: هذا الحديث أصل في سد الذرائع.."

لما كان سب أب الغير ذريعة إلى سب الأب أخذ حكمه، {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الأنعام:108]، لما كان سب الآلهة ذريعة إلى سب الله- جل وعلا- نهي عنه.

أحسن الله إليك.

"ويؤخذ منه أنه إن آل أمره إلى محرم حرم عليه الفعل، وإن لم يقصد المحرم، وعليه دل قوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الأنعام:108].

 واستنبط منه الماوردي في الحديث تحريم بيع الثوب الحرير إلى من يتحقق منه لبسه، والغلام الأمرد إلى من يتحقق منه فعل الفاحشة، والعصير إلى من يتخذه خمرًا. وفي الحديث دليل على أنه يُعمَل بالغالب؛ لأن الذي يسب أبا الرجل قد لا يجازيه بالسب، لكن الغالب المجازاة."

يعني غالب من يُسب أنه يرد، هذا هو الغالب، وإن وجد من يكتم ولا يرد، لكنه قليل.

والله أعلم.

 

 اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.