كتاب الصلاة من المحرر في الحديث - 46

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سم.

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

قال الإمام ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى- في كتابه المحرر:

وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: "صبحكم ومساكم" ويقول: ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: ((أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) ثم يقول: ((أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي)) رواه مسلم، وفي لفظ له: "كانت خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة يحمد الله، ويثني عليه، ثم يقول على إثر ذلك وقد علا صوته، وفي لفظ: "يحمد الله، ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: ((من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله)) ورواه النسائي، وزاد عليه بعد ضلالة: ((وكل ضلالة في النار)).

وعن أبي وائل قال: خطبنا عمار فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست؟ فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان لسحراً)) رواه مسلم.

وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطول الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة" رواه النسائي وابن حبان.

وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: "لقد كان تنورنا وتنور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واحداً سنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [(1) سورة ق] إلا عن لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس" رواه مسلم.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت)) متفق عليه.

وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصا فقد لغا)) رواه مسلم.

وفي لفظ له: ((من اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قُدر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته ثم يصلي معه، غفر له ما بينه وما بين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام)).

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: أنصت ليس له جمعة)) رواه أحمد من رواية مجالد، وليس بالقوي.

وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "دخل رجل يوم الجمعة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب فقال: ((أصليت؟)) قال: لا، قال: ((قم فصلِ ركعتين)) متفق عليه.

 وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم * تَنزِيلُ} [(1-2) سورة السجدة] السجدة، و{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} [(1) سورة الإنسان] وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في صلاة الجمعة: سورة الجمعة والمنافقين، رواه مسلم.
وله عن النعمان بن بشير -رضي الله عنها- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في العيدين وفي الجمعة: بـ
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [(1) سورة الأعلى] و{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [(1) سورة الغاشية] قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضاً في الصلاتين.

يكفي، بركة.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" الأسلوب يدل على الاستمرار، وهذا الأصل فيه "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته" كان -عليه الصلاة والسلام- يتحمس لخطبة الجمعة، وتحمر عيناه، ويعلو صوته، "واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: "صبحكم ومساكم" هو منذر -عليه الصلاة والسلام-، كما أنه أيضاً مبشر، فهو ينذر عذاب الله وغضب الله، لا سيما إذا وجد السبب الداعي لذلك، فتحمر عيناه، ويعلو صوته، ويشتد غضبه، عادته -عليه الصلاة والسلام- في الإنكار الرفق واللين، وما غضب -عليه الصلاة والسلام- لنفسه أبداً إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله، والنبي -عليه الصلاة والسلام- ينذر ويحذر "كأنه منذر جيش" ومقتضى ذلك أن يرتفع الصوت ويعلو ويشتد الغضب، لا سيما إذا كانت المعصية من الكبائر، أو كانت ممن يظن به أنه لا يخفى عليه حكمها، مثل هذا يحتاج لمثل هذا الإنكار، وأحياناً يُلحظ على بعض الناس أنه يشدد في الإنكار، ويرفع صوته، فيلام على ذلك، ويقال له: إن اللين والرفق ما دخل في شيء إلا زانه، وهو الأصل، وهذه طريقته -عليه الصلاة والسلام- في الإنكار والتعليم؛ لما أنكر الصحابة -رضوان الله عليهم- على الأعرابي الذي بال في المسجد، وشددوا عليه، قال: ((دعوه، لا تزرموه)).

المقصود أن المواطن تختلف، ولكل مقام مقال، فرق أن تسمع الموسيقى من جوال عامل أعجمي جاء من بلاد اعتادوا هذه الأمور من غير نكير، وبين أن تسمعها من شخص عربي يفهم الكلام، إذا أنكرت عليه فهم، لكنه جاء من بلدان توجد فيها هذه الأشياء، هذه مرتبة ثانية، فللأول طريقة وللثاني طريقة، وبين شخص عامي من أهل هذه البلاد الذين نشأوا على أن الموسيقى محرمة، وأن الأغاني حرام، وبين طالب علم يعرف الحكم بدليله، ومع ذلك تسمع الموسيقى من جواله، لكل مقام مقال، فالإنكار على الأول يختلف عن الإنكار على الثاني، والإنكار على الثاني يختلف عن الإنكار على الثالث والرابع وهكذا، فكلٌ له ما يناسبه، النبي -عليه الصلاة والسلام- لما شفع أسامة في حد من حدود الله غضب النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((أتشفع في حد من حدود الله؟!)) غضب، وأنكر عليه، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- في هذه المواطن وهو ينذر الناس ويحذرهم من عقاب الله -جل وعلا-، وهكذا ينبغي أن تكون الخطب مؤثرة في الناس؛ لأنها إذا ألقيت كما اعتاده كثير من الخطباء يكتب الخطبة في ورقة، ثم يقرأها على الناس بأسلوب عادي غير مؤثر، هذه لا تجدي هذه الخطبة، ولا تترتب عليها آثارها التي من أجلها شرعت، بعض الناس ينام، بل كثير من الناس ينامون والإمام يخطب؛ لماذا؟ لأنها غير مؤثرة، ولا شك أن الأسلوب له أثره، وطريقة الأداء لها أثرها.

"كان -عليه الصلاة والسلام- إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم" يعني: أثر كثير من الخطباء في السامعين ضعيف حتى أن بعض السامعين أو كثير من السامعين إذا خرج تسأله عن الخطبة؟ يقول: ما أدري إيش قال؟ يعني ما في شيء يجذب السامع، ما يدري، فيوافق المنافقين في قولهم: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} [(16) سورة محمد] يسمعون ما قال، ثم يسألون الصحابة، يسألون ابن مسعود وغير ابن مسعود {مَاذَا قَالَ آنِفًا} [(16) سورة محمد] فلا تكن سبباً في ذلك، بل اقتدِ بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، ولذلك أثرت طريقته في صحابته -رضوان الله عليهم-، فصاروا يحفظون عنه كل ما يقول، ولم يضع من كلامه شيء -عليه الصلاة والسلام-.

"كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم" أي جاءكم العدو في الصباح، أو جاءكم العدو في المساء، ونحن لا نأمن مكر الله أن يأتينا في الصباح، أو يأتينا ضحى، أو يأتينا في الليل "يقول: صبحكم ومساكم" ويقول -عليه الصلاة والسلام-: ((بعثتُ أنا والساعة كهاتين)) يعني ما بعده نبي، ما بعده إلا الساعة -عليه الصلاة والسلام-، فالذي يليه قيام الساعة، لا يليه نبي آخر، هو خاتم الأنبياء -عليه الصلاة والسلام-، ويقول: ((بعثتُ أنا والساعة كهاتين)) ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى.

ويقول في خطبته بعد أن يحمد الله، ويثني عليه على ما سيأتي، ويشهد لله -جل وعلا- بالوحدانية، ويشهد له بالرسالة -عليه الصلاة والسلام-، يقول: ((أما بعدُ)) (أما) حرف شرط و(بعدُ) قائم مقام الشرط، والجواب: ((فإن خير الحديث كتاب الله)) ما اقترنت به الفاء، و(بعدُ) مبني على الضم؛ لأن قبل وبعد والجهات الست لها حالات ثلاث:

إما أن تضاف فتعرب {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [(137) سورة آل عمران] أو تقطع عن الإضافة مع نية المضاف إليه فتبنى على الضم، كما هنا: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [(4) سورة الروم] "أما بعدُ" أو تقطع عن الإضافة مع عدم نية المضاف إليه فتعرب منونة.

فساغ لي الشراب وكنت قبلاً
ج

 

...................................
ج

((أما بعد)) يقول أهل العلم أو بعضهم أنها هي فصل الخطاب الذي أتيه داود، والإتيان بها سنة في الخطب والرسائل، يؤتى بها سنة اقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، فكان يقولوها في خطبه، ورواها عنه من الصحابة اثنان وثلاثون صحابياً، وهي أيضاً في كتبه إلى الملوك وغيرهم، فهو يلزمها في خطبه ورسائله، فهي سنة، الإتيان بها سنة بهذا اللفظ: ((أما بعدُ)) في العصور المتأخرة جعلوا الواو مقام (أما) فتجدون كثير من الكتابات فيها "وبعدُ" وهي ليست حديثة، يعني: في شرح المواهب للزرقاني قال: إن الواو قائمة مقام (أما) لكن ما الداعي إلى أن نأتي بالواو، ونترك ما أثرناه عن النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ ما الداعي لذلك؟ وهي بالإمكان! وهل يتم الاقتداء بقولنا: "وبعد" عن قولنا: "أما بعد"؟ لا يتم الاقتداء، ولو قالوا: إنها قائمة مقامها، إن قلت: "وبعد" معناه لا تأتي بالفاء التي هي في جواب الشرط، إنما يتم الاقتداء بهذا اللفظ: "أما بعد" وبعض الناس يذكر (ثم) قبلها، يبدأ كلامه بالحمد والثناء والصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- ثم يقول: "ثم أما بعد" ثم هذه لا داعي لها، إن احتاج إليها مرة ثانية بعد (أما بعد) الأولى لا مانع من أن يقول: (ثم أما بعد) لا مانع، أما في الموضع الأول لا يأتي بـ(ثم).

((أما بعد)) يختلف أهل العلم في أول من قالها.

جرى الخلف (أما بعد) من كان بادئاً
ويعقوب وأيوب الصبور وآدم

 

بها عُد أقوالاً وداود أقربُ
وقس وسحبان وكعب ويعربُ

 

ثمانية أقوال.

((أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله)) لا أفضل من كلام الله؛ لأنك وأنت تقرأه كأنك تخاطب الله -جل وعلا-.

هو الكتاب الذي من قام يقرأه

 

كأنما خاطب الرحمن بالكلمِ

وفضله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه، يعني تصور أنك تخاطب الله -جل وعلا-، وإذا كنت تتلذذ بخطاب فلان وعلان من الناس الذي يكون فيه المطلوب، ويكون فيه الممنوع، فأنت إذا قرأت كلام الله تؤجر على هذه القراءة بكل حرف عشر حسنات هذا أقل تقدير، وهو الكلام الوحيد الذي لا يشركه أي كلام في كونه متعبداً بتلاوته، لو تقول: أجعل لي ورد، جزء من القرآن، وعشرة أحاديث من البخاري في كل يوم، تقرأ أحاديث البخاري لا على سبيل الاستفادة والتفقه وإنما مجرد تلاوة، كما تفعل مع القرآن، نقول: ما تؤجر، المتعبد بتلاوته فقط هو القرآن، لكن إن قرأت صحيح البخاري من أجل الإفادة والتفقه من هذا الكتاب العظيم لك أجر طالب العلم، والاشتغال بالعلم من أفضل القربات، لكن إذا قلت: مجرد تلاوة، نقول: لا تؤجر على ذلك، لا تؤجر إلا على قراءة القرآن، ولو قرأته لمجرد التلاوة فقراءة القرآن إما أن يقرأ لتحصيل أجر الحروف، أو يقرأ للتعلم والتفقه والعمل به، هذا له شأن وهذا له شأن.

((فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-)) خير الحديث..، العلماء يقابلون الكتاب بالحديث، فإذا قوبل الكتاب بالحديث فالكتاب هو القرآن والحديث هو كلام النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي هو السنة {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا} [(23) سورة الزمر] يعني أفضل ما يتحدث به كلام الله، وقالوا أيضاً: شر الأحاديث الموضوعات لأنها يتحدث بها، فالإطلاق الشامل يشمل كل كلام، ولذا قال: ((فإن خير الحديث كتاب الله)) يعني: بالإطلاق الشامل يشمل، لكن لا عكس؛ لأن بعض العامة ينظر إلى الكتب من كُتب الحديث والفقه والعقائد والتواريخ ينظر إلى مكتبة كاملة يقول: ما أكثر هذه المصاحف، ما أكثر هذه القرآنات، لا، لا، القرآن خاص، كتاب الله خاص بالمصحف، وأما الحديث والأحاديث فهي شاملة لكل ما يتحدث به، ولذا قال: ((فإن خير الحديث)) وهو أيضاً وإن كان كلام الله على مذهب السلف قديم النوع فإنه متجدد حادث الآحاد، فالله -جل وعلا- يتكلم بكلام حادث، مقرون بمشيئته متى شاء، خلافاً لمن يقول: إن كلام الله قديم تكلم فيه بالأزل، ولا يتكلم بعد ذلك، ويجعلون الحديث الذي هو حديث النبي -عليه الصلاة والسلام- في مقابل القديم الذي هو القرآن، فكلام الله لا شك أنه قديم النوع حادث الآحاد، ولذا أضيف للحديث فقال: ((فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-)) خير الهدي هكذا ضبط في أكثر الروايات بفتح الهاء، وسكون الدال، وقد تُكسر، وضُبط أيضاً بضم الهاء وفتح الدال ((الهُدَى هُدَى محمد -صلى الله عليه وسلم-)) الهدي الذي هو الطريق طريقة النبي -عليه الصلاة والسلام- خير طريقة عرفتها البشرية ((وخير الهُدَى)) الهُدَى معناه الدلالة والإرشاد وهداية الناس إلى الحق، والذي يملكه النبي -عليه الصلاة والسلام- منها هي هداية الدلالة والإرشاد والبيان {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [(52) سورة الشورى] وأما هداية التوفيق والقبول فهي بيد الله وحده لا يملكها أحد {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [(56) سورة القصص] ((وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-)).

وابن القيم -رحمه الله- جمع من هدي النبي -عليه الصلاة والسلام- في زاد المعاد كماً كبيراً، وفاته أشياء، ولا يمكن أن يحاط في كتاب واحد بجميع ما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام-، لكن الكتاب في الجملة نافع.

((وشر الأمور محدثاتها)) شر الأمور المحدثات، ما يحدث في الدين ويزعم أنه من الدين وليس له أصل في شرع الله، لا من كتاب الله ولا من سنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، فكل قول أو فعل مخترع مبتدع يتعبد به لله -جل وعلا-، ولم يسبق له شرعية من الكتاب أو السنة فهذه هي المحدثات، وهي شر الأمور، وقد يكون القصد حسناً، لكن كم مريد للخير لا يصيبه، فلا بد مع حسن القصد الإصابة، وأن يكون موافقاً لما جاء عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام-، هذه المحدثات التي يتعبد بها كثير من الناس في كثير من الأقطار المنتسبة إلى الإسلام لا دليل عليها، فهي من شر الأمور، شر الأمور محدثاتها، وهذه المحدثات منها ما هو مخرج عن الملة -نسأل الله السلامة والعافية-، وإن تُعبد به لله -جل وعلا-، ومنها ما هو عظيم من عظائم الأمور، لكنه لا يصل إلى حد الإخراج من الملة، ومنها ما هو أخف من ذلك، فهي متفاوتة، وتجتمع كلها في كونها شر الأمور هذه المحدثات وهذه البدع، وكل شيء لم يسبق له شرعية من الكتاب والسنة فإنه محدث، بدعة.

فالبدعة في الدين أمرها عظيم، وشرها مستطير، تحجب السنن، ما عمل شخص ببدعة إلا حرم من سنة -نسأل الله السلامة والعافية-، البدع والمحدثات أُلفت فيها المصنفات، وحذر منها أهل العلم وشددوا في ذلك، لا سيما في أوائل نشأة هذه البدع، وأطلقوا ألفاظ منفرة من هذه البدع، ومع ذلك استمر الناس أو المبتدعة على بدعهم، وزادت ولا زالت موجودة إلى الآن، يعني: البدع التي في الصدر الأول موجودة إلى الآن، ولكل قوم وارث؛ لأن بعض الناس يقول: لا داعي أن نقرأ كتب الجهمية والمعتزلة والردود على الجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم لا داعي؛ لأنها هذه بدع انقرضت، عندنا بدع جديدة لم تنقرض، بل هي موجودة معمول بها إلى الآن، هناك بدع -نسأل الله السلامة والعافية- بدع من غلاة الصوفية بحيث ينسبون التصرف في الكون إلى بعض الأشخاص، وما زالت موجودة إلى الآن، وهي قديمة، فالكتب التي ألفها أهل العلم في الردود على هذه الطوائف المبتدعة على طالب العلم أن يُعنى بها، وكتبهم موجودة إلى الآن، تتداول بينهم، وانتشرت انتشاراً توفرت حتى عند طلاب العلم من أهل السنة، يعني: كان الكتاب يتداوله الناس بالخط، فلا يكتبون إلا ما يحتاجون؛ لأن الخط ليس أمره سهلاً، يعني: كتاب في مجلدات تكتبه كتاب بدعة ما..، لكن الآن تشتريه بأبخس الأثمان من أجل الاطلاع عليه وبنية الرد عليه، ثم بعد ذلك يطلع عليه غيرك وأنت لا تشعر، كان الناس يوصون بإتلاف كتب المبتدعة، وإحراق كتب المبتدعة لأنها يمكن إتلافها في البلد نسخة واحدة يمكن، أو نسختين أو موجودة عند بعض الناس، لكن الآن كيف تتلف؟ يصعب إتلافها مع هذه الألوف المؤلفة من النسخ التي إلى وقت قريب كانت ممنوعة من الدخول، وتداولها بين الناس لا سيما في هذه البلاد ممنوعة، الآن ما صار شيء، سهُل الأمر، وصارت تدخل، والعلم والثقافة للجميع، ولعله يوجد من يرد عليها ويبين خطأها، لكن كثير من طلاب العلم لا سيما المبتدئين والمتوسطين لا يسوغ لهم النظر في بعض هذه الكتب لأن فيها شبه قد تعلق في قلوبهم لا يستطيعون دفعها ولو بعد حين؛ لأن بعض الشبه قوية، وبعض المبتدعة عنده طريقة وأسلوب في صياغة الشبهة وتجلية الشبهة، ثم يضعف الرد عليها، نظير ذلك هذه المناظرات التي ابتلي بها الناس في القنوات ووسائل الإعلام، تجد هذا المبتدع فصيح اللسان، واضح العبارة، حاضر الذهن، ومقابله أقل منه، لا شك أنه سوف يغلبه في الحجة، وعامة الناس ما يدريهم أن هذا هو الحق وذاك هو الباطل، فيتأثر عامة الناس وأشباه العوام بهذه المناظرات، وهذه فيها خطر عظيم على عوام المسلمين، ونسمع بعض من يسأل وهو لا يقرأ ولا يكتب عن بعض الشبه؛ لأنه سمع في هذه القنوات وهذه المناظرات، فهذه المناظرات العلنية لا شك أن خطرها عظيم، لكن إذا انبرى المبتدع للمناظرة، وأراد أن ينفث سمومه ولا راد له ولا رادع لا بد أن يرد عليه، فيبحث عن أولى الناس بالرد، لا يؤتى بأي شخص؛ لأنه إذا انقطع الخصم كأن الناس قالوا: غُلب، وانقطعت حجته، وعلى هذا يتبعه مذهبه، فلا بد أن ننتقي لهذه المناظرات من يجتمع فيهم العلم التام المناسب لمناظرة مثل هذا المبتدع، وأيضاً حضور الحجة، حضور الحجة لا بد منه؛ لأن بعض الناس عنده علم، وعنده أدلة، وعنده نصوص، لكنه إذا أرادها غابت، فإذا استلقى على فراشه فطن، وذكر الدليل، وذكر الحجة هذا ما ينفع؛ لأنه إذا انقطع المناظر انقطع مذهبه، ما يقال: والله فلان عجز، يقال: أهل السنة عجزوا.

فعلى كل حال هذه البدع شرها عظيم، وهي شر الأمور على الإطلاق هذه المحدثات.

((وكل بدعة ضلالة)) ننظر إلى هذا التعميم من النبي -عليه الصلاة والسلام- ((كل بدعة ضلالة)) جميع البدع التي يتعبد بها الناس لله -جل وعلا- من غير دليل من الكتاب والسنة كلها ضلالة، وبهذا يرد على من قسم البدع إلى بدع حسنة وبدع سيئة قبيحة، وإلى بدع واجبة، وبدع مستحبة، وبدع مباحة، وبدع مكروهة، وبدع محرمة، نعم قُسمت البدع إلى الأحكام الخمسة، وممن ذكر هذا التقسيم العز بن عبد السلام والنووي وابن حجر وجمع من أهل العلم، لكن هذا التقسيم كما قال الشاطبي في الاعتصام: "تقسيم مخترع مبتدع لا يدل عليه دليل من كتاب ولا سنة، وهو مصادم مصادمة ومناقض مناقضة تامة لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((كل بدعة ضلالة)) فليس في البدع من يوصل إلى الله ويقرب إليه، كلها ضلالة، وإخراج بعض البدع عن هذا العموم بدون دليل، قد يستدل بعضهم بقول عمر -رضي الله تعالى عنه-: "نعمت البدعة" النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى بأصحابه في رمضان جماعة ليلتين أو ثلاث ثم ترك، اجتمعوا، غص المسجد بالصحابة، امتلأ المسجد فلم يخرج إليهم، فلما قيل له: قال: ((إنه لم يخفَ عليّ مكانكم؛ لكن خشيت أن تفرض عليكم)) فلماذا تركها النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ تركها رفعاً لحكمها، نسخاً لها، أو خشية أن تفرض عليهم؟ خشية أن تفرض عليهم، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قد يترك العمل لا رفعاً لحكمه، وإنما رفقاً بأمته -عليه الصلاة والسلام-، تركها النبي -عليه الصلاة والسلام- بقية عهده وعهد أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر، ثم جمع الناس على إمام واحد، على أبي بن كعب، فصار يصلي بالناس جماعة، فخرج عمر -رضي الله تعالى عنه- والناس يصلون، فقال: "نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل منها" يعني صلاة آخر الليل، نعمت البدعة فمدحها وسماها بدعة، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((كل بدعة ضلالة)) فكيف يقول عمر الخليفة الراشد الذي أمرنا بالاقتداء به: نعمت البدعة، وهذا في الصحيح؟ يقول أهل العلم..، شيخ الإسلام يقول: هذه بدعة لغوية، ولم يرد عمر البدعة الشرعية، لكن إذا كانت البدعة اللغوية ما عمل على غير مثال سابق لا نجد هذا التعريف يسعف شيخ الإسلام في قوله لأنها عملت على مثال سابق صليت جماعة، وبعضهم يقول: مجاز، كما قال الشاطبي -رحمه الله- يقول: مجاز ليست بدعة لغوية ولا شرعية، وليست مجاز؛ لأن المجاز منفي عند أهل التحقيق، إذ لا مجاز في لغة العرب عندهم، طيب ماذا تكون؟ الأقرب -والله أعلم- أنها مشاكلة ومجانسة في اللفظ، والمشاكلة لا يلزم أن يكون اللفظ المشاكل حقيقة موجوداً، إنما يكون حقيقة هذا هو الأصل وقد يكون تقديراً، كأن قائلاً قال لعمر: ابتدعت يا عمر، قال: نعمت البدعة، خشي عمر أن يقال له: ابتدعت، فقال: نعمت البدعة.

قالوا: اقترح شيئاً نجد لك طبخه

 

قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا

الجبة والقميص ما تطبخ لكنها مشاكلة {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [(40) سورة الشورى] معاقبة الجاني ليست سيئة فهي مشاكلة ومجانسة في التعبير وفي الأسلوب.

((وكل بدعة ضلالة)) اللفظ باقي على عمومه، فكل ما يحدث في الدين ضلالة.

ثم يقول: ((أنا أولى بكل مؤمن من نفسه)) {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [(6) سورة الأحزاب] وهو أرأف بهم وأرحم بهم من أنفسهم {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [(128) سورة التوبة] -عليه الصلاة والسلام-، وهو أرفق الخلق، وأنفع الخلق للخلق؛ لأنه بُعث رحمة للعالمين ((أنا أولى بكل مؤمن من نفسه)) ولذا يجب على المؤمن أن يحب النبي -عليه الصلاة والسلام- أكثر من حبه لنفسه فضلاً عن غيره لهذا.

((أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله)) لسنا بحاجة إلى ماله لورثته ((ومن ترك ديناً أو ضياعاً)) شيئاً يخشى عليه من الضياع من الذرية وغيرهم ((فإلي وعليّ)) فأنا أتكفل بهم، أتكفل بوفاء الديون، ويتكفل أيضاً بمن يخشى عليه من الضياع من الذرية، يُنفَق عليهم من بيت المال، وهذا واجب في بيت المال، قضاء الديون، لا سيما إذا عُرف أن هذه الديون ليست بسبب تساهل وتفريط من المدين؛ لأن بعض الناس يسمع مثل هذا الكلام ويقول: أستكثر وأستمتع وأتوسع ويسدد عنه، نقول له: مو بصحيح، أنت جنيت على نفسك فتحمل مسئوليتك، ولا شيء أعظم، بل أمر الدين عظيم، فإذا كانت الشهادة في سبيل الله تكفر كل شيء إلا الدين فعلى الإنسان أن يحتاط لنفسه، ويبرأ من العهدة، وأما من كان دينه بسبب قوته وقوت ولده وحاجاته الضرورية فمثل هذا يقضى من بيت المال ((من ترك ديناً أو ضياعاً)) ذرية ضعفاء هؤلاء على بيت المال ينفق عليهم.

"((فإلي وعليّ)) رواه مسلم، وفي لفظ له" يعني لمسلم: "كان خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة يحمد الله، ويثني عليه" فمن شرط الخطبة عند جمع من أهل العلم اشتمالها على الحمد والثناء والشهادة والصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام-، وقراءة القرآن، بعضهم يشترط هذه الأمور في الخطبة، لو تخلف شيء منها ما صحت الخطبة، لا تصح الخطبة لو تخلف شيء منها، ومنهم من يقول: إن هذه أمور تكميلية جاءت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- من قوله، ولم يأتِ الأمر بها، لزم النبي -عليه الصلاة والسلام- افتتاح الخطب بالحمد، وقال: ((كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء)) ولزم قراءة القرآن على ما سيأتي، فالمتجه أن هذه الأمور واجبة؛ لأنه لم يتركها النبي -عليه الصلاة والسلام- في خطبة من خطبه لبيان الجواز، ومنهم من يقول: يجزئ ما يسمى خطبة عرفاً، يكفي ما يسمى خطبة عرفاً، وبعضهم توسع توسعاً غير مرضي فقال: يكفي الذكر، فلو قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر يكفي، لكن هذه ليست بخطبة لا لغة ولا شرعاً ولا عرفاً، فلا تجزئ مثل هذه الكلمات وإن كانت هي الباقيات الصالحات، لا تجزئ في هذا المقام، لا تكفي خطبة.

وفي لفظ له: "كانت خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة يحمد الله، ويثني عليه، ثم يقول على إثر ذلك" يعني بعد ذلك "وقد علا صوته، واحمرت عيناه، واشتد غضبه" على ما تقدم "وفي لفظ: "يحمد الله، ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: ((من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله))".

((من يهده الله فلا مضل له)) الهادي والمضل هو الله -جل وعلا-، فإذا أراد الله هداية شخص لو اجتمعت الخلائق على إضلاله فلن يستطيعوا، ومن أراد الله ضلاله فلو اجتمعت الأمم على هدايته لم يستطيعوا، والعبرة بأبي طالب الذي نفع النبي -عليه الصلاة والسلام- بماله وجاهه، وانتفعت به الدعوة، ومع ذلك حرص عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يقول: لا إله إلا الله عند احتضاره عند وفاته ((قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)) وعنده قرناء السوء "أترغب عن ملة عبد المطلب؟" فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، فأنزل الله -جل وعلا-: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [(56) سورة القصص] هذه عبرة، نعم على الإنسان أن يحرص على هداية والديه وعلى هداية أولاده وزوجه وأقاربه ومعارفه الأقرب فالأقرب، ثم يشمل خيره ودعوته إلى الأقارب والجيران والجماعة، ثم يمتد نفعه إلى الأمة، لكن لا يضمن، عليك بذل السبب، وأما النتيجة والاستجابة بيد الله -جل وعلا-، وإذا نظرنا في سير الأنبياء وجدنا بعضهم لم يستجب له أحد ألبتة، يأتي النبي وليس معه أحد، يأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، يأتي النبي ومعه الرهط، وبعض الأنبياء أقرب الناس إليه كنوح زوجته وولده ما استطاع هدايتهم هداية التوفيق والقبول، وإن كان قد بذل السبب إلى آخر لحظة في هدايتهم هداية الدلالة والإرشاد، وبهذا يُعلم أن الإنسان لا يهدي مهما بذل ومهما كان عنده من علم وطريقة وأسلوب، فلا يقول: إنه يهدي.

وتجد بعض العامة الذين ليس لديهم شيء من العلم تجد العالم العامل الحريص المتحري المحترق على نفع الناس لا سيما الأقارب تجده يحرص ويبذل الغالي والرخيص لنفع أولاده فلا يستطيع، وشخص من عامة الناس يقول: والله ما علمت أن أولاده يحفظون القرآن حتى دعي إلى الحفل، وكان من بين الحفظة كاملاً اثنان من أولاده هل هذا بذل شيء؟ الهداية بيد الله -جل وعلا-، لكن مع ذلك لا نقول: الهداية بيد الله ولا نبذل السبب، نحن مطالبون ببذل السبب.

"((من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله)) رواه النسائي، وزاد عليه بعد ضلالة: ((وكل ضلالة في النار))" والمراد صاحبها، الضلالة معنى والمعاني قد تتجسد لتوزن، فلا يقول قائل: هذه الضلالة إذا جسدت ووزنت ألقيت في النار ليبرر لنفسه ويزعم لنفسه السلامة، هذا ليس بصحيح، مثلما يقول بعضهم: ((ما أسفل من الكعبين ففي النار)) قال: سهل قماش خليه يصير بالنار، المراد صاحبه، والضلالة المراد صاحبها، أما لو كانت الضلالة هذه البدعة جسدت ووضعت في ميزان السيئات، ثم ألقيت في النار الأمر سهل، لكن جسدت ووضعت في الميزان ورجحت الكفة يلقى صاحبها في النار، وإلا ما الفائدة من الوزن من وزن الأعمال؟ وما الفائدة من التكاليف؟ إلا ليتميز الشقي من السعيد.

"وعن أبي وائل -شقيق بن سلمة- قال: خطبنا عمار" وهو ابن ياسر "فأوجز وأبلغ" أوجز يعني اختصر، وأبلغ، وفى المقام حقه، كشف ما يريده بأبسط أو بأبلغ عبارة وأوجزها "خطبنا عمار فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت" أبلغت فهمنا عنك ما تريد، لكنك أوجزت "فلو كنت تنفست" يعني بسطت "فلو كنت تنفست" يعني بسطت في الكلام وأطلت وزدت في الإيضاح "فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه))" طول صلاة الرجل الذي لا يدخل في ((من أم الناس فليخفف)) يعني لا يخرج عن هذا ويدخل ((أفتان يا معاذ؟)) بحيث يطيل الصلاة فيدخل في الممنوع، طول مناسب، لا يقتصر على آية أو آيتين، وإنما يقرأ بما قرأ به النبي -عليه الصلاة والسلام- مما سيأتي، ويقصر الخطبة لا يمل الناس، ونسمع بعض الخطباء يخطب نصف ساعة أو أكثر من نصف ساعة، بل بعضهم بلغ الساعة، وتجد مثل هذا في الغالب سببه التكرار وعدم التركيز على المراد، تجد بعض الناس يعتمد على ما عنده من ثقافة، وعُرف بأنه يتكلم في المناسبات فتجده لا يهتم بالخطبة ولا يحضر لها، ولا يعتني بها ولا بموضوعها، وعنده استعداد يخطب ساعة أو ساعتين، لكن مثل هذا في الغالب لا يكون كلامه مركزاً على شيء معين، تجده يطوح يمين وشمال، ويضرب في كل موضوع ولا يوفيه حقه، فيتأخر على الناس، ويمل الناس، ولا يخرج بنتيجة.

أما الذي له هم لموضوع معين تجده يدور حول الموضوع، ولذا بعضهم يفضل الكتابة لأنها تحصر الموضوع، ولا تشتت الموضوع، ولا شك أن النبي -عليه الصلاة والسلام- خطبه ارتجالاً، والاقتداء به هو الأصل، لكن على الإنسان أن يهتم في الموضوع الذي يريده بحيث لا يتعداه إلا لما يخدمه، يعني لا يبعد عنه بعيداً؛ لأن وقت الخطبة محدود وقصير، فلو أراد الإنسان أن يقول: كل ما يريد شق على الناس ((إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه)) علامة على فقهه، دلالة على فقهه، تجد بعض الخطباء يصعد المنبر ثم يتكلم في موضوعات شتى، ويشرق ويغرب، ويطيل على الناس، ثم إذا نظر إلى الساعة فإذا به قد أطال فخشية من أن يتذمر الناس من إطالته تكون الضحية الصلاة، فيؤديها في دقيقتين أو ثلاث، هذا ليس هو بالفقيه، إنما الفقيه الذي يعالج موضوع معين محدد أو موضوعات متقاربة يمكن إيضاحها وبيانها للمستمعين في أقصر عبارة وأوجز عبارة وأبلغ أسلوب.

((فأطيلوا الصلاة)) إطلالة لا تشق على المأمومين ((أيكم أم الناس فليخفف)) فلا نأخذ من ((أطيلوا الصلاة)) الإطالة التي تشق على المأمومين، ولا نأخذ من قوله: ((أيكم أم الناس فليخفف)) تأصيلاً وتشريعاً للنقارين في الصلاة، ولذا إذا شرحوا حديث معاذ قالوا: ليس فيه حجة للنقارين الذين ينقرون الصلاة نقر الغراب، الذي جاء النهي عنه.

((فأطيلوا الصلاة)) إطالة نسبية ((واقصروا الخطبة)) قصر نسبي، لا يقول القائل: إن القصر هذا بحيث تتأدى الخطبة بدقيقة أو دقيقتين، لا، إنما هو قصر نسبي، فإذا أديت الخطبة عشر دقائق ربع ساعة هذه خطبة ليست بالطويلة، وتؤدي الغرض، ثم بعد ذلك الصلاة تحتاج إلى مثل هذا الوقت، ولا يعني أن وقت الصلاة يكون أطول من وقت الخطبة، ليس بالضرورة أن يكون وقت الصلاة أطول من الخطبة لنطبق هذا الحديث، إنما الطول والقصر نسبي، وكل شيء بما يناسبه.

((وإن من البيان سحراً)) وفي بعض الروايات:  ((لسحراً)).

((إن من البيان لسحراً)) هل هذا أسلوب مدح أو أسلوب ذم؟

طالب:.......

البيان هل يمدح الإنسان ببيانه أو يذم؟

طالب:.......

نعم، هل يمدح الإنسان بقوة بصره أو يذم؟ هل يمدح الإنسان بقوة سمعه أو يذم؟ العبرة بما تستعمل فيه هذه النعم، البيان نعمة {خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [(3-4) سورة الرحمن] امتن الله -جل وعلا- على الإنسان بالبيان، وهو نعمة من النعم، امتن الله على الإنسان بالنعم كالسمع والبصر وغيرهما، لكن هذه النعم إن استغلت فيما يرضي الله، وأدي حق الله فيها فإنها نعم، وإن استغلت فيما لا يرضي الله فهي نقم، فالبصر إذا استعمل في طاعة الله -جل وعلا- فقرأ بواسطته كلام الله والعلم الوارد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهذا نعمة، وإن قرأ فيه أو نظر فيه إلى المحرم كان نقمة، وقل مثل هذا في السمع إذا استمعت إلى الخير إلى القرآن إلى العلم كان هذا نعمة، وإذا استمعت إلى الأغاني والموسيقى والغيبة والنميمة كان هذا نقمة، وقل مثل هذا في البيان فهو نعمة من نعم الله على الإنسان، إذا استعمل في بيان الحق والدفاع عن الحق صار نعمة، وإذا استعمل في بيان الباطل والدفاع عنه صار نقمة، فهو سحر باعتبار أنه ينفذ إلى القلوب ويؤثر في النفوس كتأثير السحر، والأسلوب يحتمل أن يكون مدحاً وأن يكون ذماً على حسب ما يستعمل فيه هذا البيان.

"وعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر الذكر" هذه صفته -عليه الصلاة والسلام- وصفة أتباعه، وجاء مدح الذكر في نصوص كثيرة جداً {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [(35) سورة الأحزاب] ((سبق المفردون)) ((مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره كمثل الحي والميت)) المقصود أن الأحاديث الدالة على الذكر وفائدة الذكر كثيرة جداً، يراجع لها مقدمة الوابل الصيب، ومقدمة الأذكار، وأبواب الذكر من كتب السنة كلها ذكرت ما ورد في الذكر.

"وكان -عليه الصلاة والسلام- يكثر الذكر، ويقل اللغو" يقل اللغو يعني الكلام المباح الذي لا فائدة فيه، قليل جداً، قد يمزح -عليه الصلاة والسلام-، لكنه لا يقول إلا حقاًَ، هذا لا مانع منه، الشيء اليسير من ذلك لا مانع، وهو يقل هذا الشيء، بينما لو فتشنا عن كثير من الناس وجدناه أكثر كلامه لغو، لا فائدة منه، وإن لم يكن محرماً، ووجدنا بعض الناس كلامه فيه المباح والحرام، والذكر عنده قليل، وكل شيء له ضريبة، وكل شيء له عقوبة، فمن أكثر اللغو قل الذكر عنده، ومن كثر الذكر عنده قل اللغو عنده {جَزَاء وِفَاقًا} [(26) سورة النبأ].

"ويطول الصلاة" هذه علامة الفقه في حديث عمار الذي تقدم، ويقصر الخطبة فهو شاهد للحديث الذي قبله، وإن كان فيه كلام، الحديث فيه كلام لأهل العلم، لكن أقل أحواله أن يكون حسناً؛ لأنه شاهد للذي قبله.

"ولا يأنف" لا يستنكف ولا يستكبر "أن يمشي مع الأرملة" بعض الناس يأنف أن يمشي مع الفقير، وأن يأكل مع الفقير، أو يجالس الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام؛ لأنه في الغالب نفوسهم منكسرة، وثيابهم رثة، وهو عند نفسه شيء يأنف ويستنكف أن يجالس هؤلاء، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لا يأنف أن يمشي مع الأرملة التي مات عنها زوجها، ومعلوم أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- معصوم، فلا يقال: إن هذه أرملة توفي عنها زوجها، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يمشي مع الأرامل، أنا أمشي معها مع عدم أمن الفتنة، نعم إذا كان أرملة بقدر أمك أو جدتك وانعدمت الفتنة، وصار لها حاجة إليك مع عدم الخلوة لا مانع، لكن بعض الناس يسمع مثل هذا الكلام، وقد يستدل به على أنه لا مانع من مخالطة النساء لأنهن أرامل، وقد يكون في الأرامل الشواب، يعني من مات عنها زوجها وهي شابة، فتجد بعض الناس يطنطن حول هذه الأمور، ويستمسك بأدنى شيء كمن استدل بآية المباهلة {نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ} [(61) سورة آل عمران] يقول: هذا فيه دليل على الاختلاط، شلون ندعو نساءنا ونساءكم، وكل واحد يعتزل الرجال..؟! هذا مرض في القلب، يعني تتبع مثل هذه النصوص مرض في القلب، فمثل هذه الأرملة بالشروط والضوابط المعروفة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كما هو معلوم معصوم، ولا يمكن أن يخلو بامرأة، ولا مست يده يد امرأة قط، فلا يستدل بمثل هذا على أنه لا مانع من الدخول على المرأة الأرملة والمشي معها، لا، هذا تحكمه نصوص محكمة.

"مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة" يعني السعي في الحاجات في حاجات المساكين والأرامل والمحتاجين وإعانة الناس هذه من الصدقات على نفسك، ومن زكاة البدن الإعانة بالبدن، ومن زكاة المال الإعانة بالمال، وجاء في حديث: ((يصبح على سلامى كل واحد منكم صدقة)) ثلاثمائة وستين مفصل في الإنسان فهو محتاج إلى أن يتصدق بثلاثمائة وستين صدقة، كل تسبيحة صدقة، كل تحميدة صدقة، يعني أمر عظيم، لكن الشرع خففه علينا، جعل كل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكذلك بقية الأذكار، ومن ذلك إعانة صاحب الحاجة، ترفع له حاجته إلى دابته صدقة، تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق هذه صدقة منك على نفسك.

"فيقضي له الحاجة" رواه النسائي وابن حبان" وقلنا: إن الحديث حسن -إن شاء الله تعالى-، وهو شاهد للذي قبله، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

طالب:..... حديث... الأسلمية.

إيه وش فيه؟

طالب:.......

((لعلك ترجين النكاح)) إيه.

طالب: ترجين.

ترجين إيه.

طالب: طيب كيف رآها متجملة؟

هاه؟

طالب: كيف رآها متجملة؟

لمحة ما يلزم أن يكون، أقول: ما يلزم أن يكون جلوس لمحة.

طالب: يعني رأى وجهها مكشوفاً.

لا، من غير قصد...

"