التعليق على تفسير القرطبي - سورة سبأ (02)

بسم الله الرحيم الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

قال الإمام القرطبي –رحمه الله تعالى-: "قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}. 

قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} أَيْ فَلَمَّا حَكَمْنَا عَلَى سُلَيْمَانَ بِالْمَوْتِ حَتَّى صَارَ كَالْأَمْرِ الْمَفْرُوغِ مِنْهُ، وَوَقَعَ بِهِ الْمَوْتُ، { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُتَّكِئًا عَلَى الْمِنْسَأَةِ، وَهِيَ الْعَصَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ فِي قَوْلِ السُّدِّيِّ. وَقِيلَ: هِيَ بِلُغَةِ الْيَمَنِ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ".

قوله: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ}، قول المفسر أي فلما حكمنا على سليمان بالموت حتى صار كالأمر المفروغ منه، ووقع به الموت، {قَضَيْنَا} فلما حكمنا، القضاء هو الحكم، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}[الإسراء:23]، ويأتي القضاء بمعنى الفراغ،  وهنا كأن السياق يدل على محذوف، {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ}  فمات ما دلهم على موته، أما قول حكمنا عليه بالموت حتى صار كالأمر المفروغ منه، كأنه ما مات،  ووقع به الموت، كل هذا من أجل أن يقرر أنه مات بالفعل، وأنه ليس بمجرد حكم بالموت دون وقوعه،  {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ}  فمات {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ}.

"{ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ}، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُتَّكِئًا عَلَى الْمِنْسَأَةِ "وَهِيَ الْعَصَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ فِي قَوْلِ السُّدِّيِّ، وَقِيلَ: هِيَ بِلُغَةِ الْيَمَنِ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ، فَمَاتَ كَذَلِكَ، وَبَقِيَ خَافِيَ الْحَالِ إِلَى أَنْ سَقَطَ مَيِّتًا لِانْكِسَارِ الْعَصَا لِأَكْلِ الْأَرَضَةِ إِيَّاهَا، فَعُلِمَ مَوْتُهُ بِذَلِكَ، فَكَانَتِ الْأَرَضَةُ دَالَّةً عَلَى مَوْتِهِ، أَيْ سَبَبًا لِظُهُورِ مَوْتِهِ، وَكَانَ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَلَّا يَعْلَمُوا بِمَوْتِهِ حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ سَنَةٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ سُؤَالِهِ لِذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، قَالَ: كَانَتِ الْجِنُّ تَدَّعِي عِلْمَ الْغَيْبِ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَخَفِيَ مَوْتُهُ عَلَيْهِمْ { تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}".

وهذا القول هو الظاهر، وهو الذي يدل عليه السياق.

"قال ابْنُ مَسْعُودٍ: أَقَامَ حَوْلًا وَالْجِنُّ تَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى أَكَلَتِ الْأَرَضَةُ مِنْسَأَتَهُ فَسَقَطَ. وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ لَمْ يُعْلَمْ مُنْذُ مَاتَ، فَوُضِعَتِ الْأَرَضَةُ عَلَى الْعَصَا فَأَكَلَتْ مِنْهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً ثُمَّ حَسَبُوا عَلَى ذَلِكَ فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ مُنْذُ سَنَةٍ".

يعني نظروا في القدر الذي أكلته في اليوم والليلة، ثم ضربوه في عدد الأيام، فبان لهم يعني نسبة ما أكلته إلى ما بقي في عدد أيام السنة، فبان أنها سنة كاملة، والله أعلم، نعم.

 "وَقِيلَ: كَانَ رُؤَسَاءُ الْجِنِّ سَبْعَةٌ، وَكَانُوا مُنْقَادِينَ لِسُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَكَانَ دَاوُدُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَسَّسَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَلَمَّا مَاتَ أَوْصَى إِلَى سُلَيْمَانَ فِي إِتْمَامِ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَمَرَ سُلَيْمَانُ الْجِنَّ بِهِ، فَلَمَّا دَنَا وَفَاتُهُ قَالَ لِأَهْلِهِ: لَا تُخْبِرُوهُمْ بِمَوْتِي حَتَّى يُتِمُّوا بِنَاءَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ بَقِيَ لِإِتْمَامِهِ سَنَةٌ. وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ كَانَ صَدِيقَهُ فَسَأَلَهُ عَنْ آيَةِ مَوْتِهِ فَقَالَ: أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَوْضِعِ سُجُودِكَ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا: الْخُرْنُوبَةُ، فَلَمْ يَكُنْ يَوْمٌ يُصْبِحُ فِيهِ إِلَّا تَنْبُتُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَجَرَةٌ فَيَسْأَلُهَا: مَا اسْمُكِ؟ فَتَقُولُ الشَّجَرَةُ: اسْمِي كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: وَلِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: لِكَذَا وَلِكَذَا، فَيَأْمُرُ بِهَا فَتُقْطَعُ، وَيَغْرِسُهَا  فِي بُسْتَانٍ لَهُ، وَيَأْمُرُ بِكَتْبِ مَنَافِعِهَا وَمَضَارِّهَا وَاسْمِهَا وَمَا تَصْلُحُ لَهُ فِي الطِّبِّ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ رَأَى شَجَرَةً نَبَتَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ قَالَتْ: الْخُرْنُوبَةُ، قَالَ: وَلِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ قَالَتْ: لِخَرَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُخَرِّبُهُ وَأَنَا حَيٌّ، أَنْتِ الَّتِي عَلَى وَجْهِكِ هَلَاكِي وَهَلَاكُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ! فَنَزَعَهَا وَغَرَسَهَا فِي حَائِطِهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ عَمِّ عَنِ الْجِنِّ مَوْتِي حَتَّى تَعْلَمَ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ. وَكَانَتِ الْجِنُّ تُخْبِرُ الإنس أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مِنَ الْغَيْبِ أَشْيَاءَ، وَأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا فِي غَدٍ، ثُمَّ لَبِسَ كَفَنَهِ وَتَحَنَّطَ وَدَخَلَ الْمِحْرَابَ وَقَامَ يُصَلِّي وَاتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ عَلَى كُرْسِيِّهِ، فَمَاتَ وَلَمْ تَعْلَمِ الْجِنُّ إِلَى أَنْ مَضَتْ سَنَةٌ، وَتَمَّ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ، رَوَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- إِذَا صَلَّى رَأَى شَجَرَةً نَابِتَةً بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَسْأَلُهَا: مَا اسْمُكِ؟ فَإِنْ كَانَتْ لِغَرْسٍ غُرِسَتْ، وَإِنْ كَانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي ذَاتَ يَوْمٍ إِذَا شَجَرَةٌ نَابِتَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: مَا اسْمُكِ؟ قَالَتْ: الْخَرْنُوبَةُ، فَقَالَ: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: لِخَرَابِ هَذَا الْبَيْتِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ عَمِّ عن الْجِنّ مَوْتِي حَتَّى تَعْلَمَ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، فَنَحَتَهَا عَصًا، فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا حَوْلًا لَا يَعْلَمُونَ فَسَقَطَتْ، فَعَلِمَ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، فَنَظَرُوا مِقْدَارَ ذَلِكَ فَوَجَدُوهُ سَنَةً».

 وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: {تَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنْ لَوْ كَانَ الْجِنُّ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ}".

الخبر المرفوع مخرج؟ من رواه؟

طالب: يقول المحقق: باطل، أخرجه الطبري عن ابن عباس وعطاء مثله، ...... ورواه عن عكرمة موقوفًا عليه بأقصر منه، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره، وقال ابن كثير في تفسيره: في رفعه غرابة ونكارة، والأقرب أن يكون موقوفًا.

واضح، واضح من تركيبه ولفظه، مثل الأخبار الإسرائيلية التي قبله.

وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: {تَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنْ لَوْ كَانَ الْجِنُّ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ}. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ فِي رِوَايَةِ رُوَيْسٍ: {تُبِيَّنَتِ الْجِنُّ} غَيْرَ مُسَمَّى الْفَاعِلُ. وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو  {تَأْكُلُ مِنْسَاتَهُ} بِأَلِفٍ بَيْنَ السِّينِ وَالتَّاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ. وَالْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ مَوْضِعَ الْأَلِفِ، لُغَتَانِ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ ذَكْوَانَ أَسْكَنَ الْهَمْزَةَ تَخْفِيفًا، قَالَ الشَّاعِرُ فِي تَرْكِ الْهَمْزَة:

إذَا دَبَيْتَ عَلَى الْمِنْسَاةِ مِنْ كِبَرٍ"
دببت.

دببت بالباء؟

دببت، إنما الشيخ من يدب دبيبًا، نعم.

"إذَا دَبَيْتَ عَلَى الْمِنْسَاةِ مِنْ كِبَرٍ
 

فَقَدْ تَبَاعَدَ عَنْكَ اللَّهْوُ وَالْغَزَلُ
  

وَقَالَ آخَرُ فَهَمَزَ وَفَتَحَ:

ضَرَبْنَا بِمِنْسَأَةٍ وَجْهَ
 

فَصَارَ بِذَاكَ مَهِينًا ذَلِيلًا
  

وَقَالَ آخَرُ:

أَمِنْ أَجْلِ حَبْلٍ لَا أَبَاكَ ضَرَبْتَهُ
 

بِمِنْسَأَةٍ قَدْ جَرَّ حَبْلُكَ أَحْبُلَا"
  

نعم؛ لأنه قد يكون السبب يسيرًا، ينشأ عنه أمور لا تنتهي، وما أسباب هذه المحن وهذه الفتن وهذه الحروب إلا أشياء يسيرة، تكون بين اثنين، أو بين فئتين، ثم بعد ذلك تتطور، وتزيد.

أَمِنْ أَجْلِ حَبْلٍ لَا أَبَاكَ ضَرَبْتَهُ
 

بِمِنْسَأَةٍ قَدْ جَرَّ حَبْلُكَ أَحْبُلَا
  

الله المستعان، نعم.

"وَقَالَ آخَرُ فَسَكَّنَ هَمْزَهَا

وَقَائِمٌ قَدْ قَامَ مِنْ تُكَأْتِهْ
 

كَقَوْمَةِ الشَّيْخِ إِلَى مِنْسَأْتِهْ
  

وَأَصْلُهَا مِنْ: نَسَأْتُ الْغَنَمَ أَيْ زَجَرْتُهَا وَسُقْتُهَا، فَسُمِّيَتِ الْعَصَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُزْجَرُ بِهَا الشَّيْءُ وَيُسَاقُ، وَقَال طَرَفَةُ:

أَمُونٍ كَأَلْوَاحِ الْإِرَانِ نَسَأْتُهَا
 

عَلَى لَاحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهْرُ بُرْجُدِ
  

فَسَكَّنَ هَمْزَهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَاشْتِقَاقُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَهْمُوزَةٌ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ نَسَأْتُهُ أَيْ أَخَّرْتُهُ وَدَفَعْتُهُ فَقِيلَ لَهَا: مِنْسَأَةٌ؛ لِأَنَّهَا يُدْفَعُ بِهَا الشَّيْءُ وَيُؤَخَّرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: هِيَ الْعَصَا، ثُمَّ قَرَأَ (مِنْسَاتَهُ) أَبْدَلَ مِنَ الْهَمْزَةِ أَلِفًا، فَإِنْ قِيلَ: الْبَدَلُ مِنَ الْهَمْزَةِ قَبِيحٌ جِدًّا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ عَلَى بُعْدٍ وَشُذُوذٍ، وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ لَا يَغِيبُ عَنْهُ مِثْلُ هَذَا لَاسِيَّمَا وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ".

يعني التسهيل، تسهيل الهمز وقلبها ألفًا هذا موجود عند كثير من القراء، {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} [يس:10]، {أَأَنذَرْتَهُمْ} تقلب الثانية ألفًا تُسهل، وقد تقلب الثانية ألفًا، قد يُدخل بين الهمزتين ألفًا، قالوا: مع التسهيل وعدمه أربع قراءات، قلب الهمزة إلى ألف، وتسهيلها إلى ألف هذا معروف.

 "فَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَعْمَلَتْ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْبَدَلَ، وَنَطَقُوا بِهَا هَكَذَا كَمَا يَقَعُ الْبَدَلُ فِي غَيْرِ هَذَا وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَلَسْتُ أَدْرِي مِمَّنْ هُوَ إِلَّا أَنَّهَا غَيْرُ مَهْمُوزَةٍ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مَهْمُوزًا فَقَدْ يُتْرَكُ هَمْزُهُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مَهْمُوزًا لَمْ يَجُزْ هَمْزُهُ بِوَجْهٍ. قال الْمَهْدَوِيُّ".

الشأم أصله بالهمز سُهّل قيل الشام، التأريخ أصله من أرخ يؤرخ تأريخًا، فيترك ويقال: تاريخ، كل هذا صحيح ما فيه إشكال.

"قال الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ فَهُوَ شَاذٌّ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ هَاءَ التَّأْنِيثِ لَا يَكُونُ مَا قَبْلَهَا إِلَّا مُتَحَرِّكًا أَوْ أَلِفًا، لَكِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا سُكِّنَ مِنَ الْمَفْتُوحِ اسْتِخْفَافًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَمَّا أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ أَلِفًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ قَلَبَ الْأَلِفَ هَمْزَةً، كَمَا قَلَبُوهَا فِي قَوْلِهِمُ".

 الْعَأْلِمُ وَالْخَأْتِمُ.

"الْعَأْلِمُ وَالْخَأْتِمُ".

الآن لما سهلوها، وقلبوها ألفًا صارت الألف ساكنة، ثم ردوها إلى الهمز وبقي السكون، هذا توجيه هذه القراءة، لكن هي أضعف القراءات.

 "وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (مِنْ) مَفْصُولَةً (سَأَتِهِ) مَهْمُوزَةً مَكْسُورَةَ التَّاءِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ سِئَةِ الْقَوْسِ فِي لُغَةِ مَنْ هَمَزَهَا، وَقَدْ رُوِيَ هَمْزُ سِيَةِ الْقَوْسِ عَنْ رُؤْبَةَ".

وَقَدْ رُوِيَ هَمْزُ سِيَةِ الْقَوْسِ.

"وَقَدْ رُوِيَ هَمْزُ سِيَةِ الْقَوْسِ عَنْ رُؤْبَةَ".

ابن عجاج الشاعر المعروف، نعم.

قال الجوهري.

"قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: سِيَةُ الْقَوْسِ مَا عُطِفَ مِنْ طَرَفَيْهَا، وَالْجَمْعُ سِيَاتٌ، وَالْهَاءُ عِوَضٌ منِ الْوَاوِ، وَالنِّسْبَةُ إِلَيْهَا سِيَوِيٌّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَ رُؤْبَةُ يَهْمِزُ (سِيَةَ الْقَوْسِ)، وَسَائِرُ الْعَرَبِ لَا يَهْمِزُونَهَا.

 وَفِي {دَابَّةِ الْأَرْضِ} قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْأَرَضَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا. وَقَدْ قُرِئَ (دَابَّةُ الْأَرَضِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَهُوَ جَمْعُ الْأَرَضَةِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.

 الثَّانِي: أَنَّهَا دَابَّةٌ تَأْكُلُ الْعِيدَانَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:  وَالْأَرَضَةُ (بِالتَّحْرِيكِ): دُوَيِّبَةٌ تَأْكُلُ الْخَشَبَ، يُقَالُ: أُرِضَتِ الْخَشَبَةُ تُؤْرَضُ أَرْضًا (بِالتَّسْكِينِ)، فَهِيَ مَأْرُوضَةٌ إِذَا أَكَلَتْهَا".

ما الفرق بين القولين؟ أحدهما أنها الأرَضَة، قاله ابن عباس ومجاهد، وقد قرأت دابة الأرَضَة، الثانية: أنها دابة تأكل العيدان، قاله الجوهري إلى آخره، دويبةٌ تأكل الخشب، يعني أرضة الأرض لا تأكل الخشب؟ تأكل الخشب.

وهي دويبة.

 وهي دويبةٌ ترى بالعين المجردة، ما فيه فرق بين القولين.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَلَمَّا خَرَّ}  أَيْ سَقَطَ {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ مَوْتَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمَعْنَى تَبَيَّنَ أَمْرُ الْجِنِّ، مِثْلُ: { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، وَفِي التَّفْسِيرِ بِالْأَسَانِيدِ الصِّحَاحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقَامَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ -عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حَوْلًا لَا يُعْلَمُ بِمَوْتِهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَصَاهُ، وَالْجِنُّ مُنْصَرِفَةٌ فِيمَا كَانَ أَمَرَهَا بِهِ، ثُمَّ سَقَطَ بَعْدَ حَوْلٍ، فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنْ لَوْ كَانَ الْجِنُّ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ {مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مِنِ ابْن عَبَّاسٍ عَلَى جِهَةِ التَّفْسِيرِ. وَفِي الْخَبَرِ: أَنَّ الْجِنَّ شَكَرَتْ ذَلِكَ لِلْأَرَضَةِ، فَأَيْنَمَا كَانَتْ يَأْتُونَهَا بِالْمَاءِ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَالطِّينُ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الطِّينِ الَّذِي يَكُونُ فِي جَوْفِ الْخَشَبِ فَإِنَّهُ مِمَّا يَأْتِيهَا بِهِ الشَّيَاطِينُ شُكْرًا، وَقَالَتْ: لَوْ كُنْتِ تَأْكُلِينَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ لَأَتَيْنَاكِ بِهِمَا".

ارتاحوا، ارتاحوا من الخدمة بعد وفاة سليمان -عليه السلام-، ارتاحوا من الخدمة، لكنهم سنة كاملة يعملون بأعمالٍ شاقَّة دل على أنهم لا يعلمون الغيب، لو يعلمون الغيب لعرفوا أنه قد مات، فشكروا للأرضة التي أكلت العصا فسقط -عليه السلام-، هم شياطين.

طالب:...........

نعم، أحيانًا يكون في مكان ما فيه طين أصلًا، تكون في مكان ليس فيه طين أصلًا، ولا يمنع أن هذه الدويبة تنقل الطين من بعيد، ما يمنع؛ لأنها كثيرة والله أعلم، نعم. {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، الله المستعان.

 وهذه الدويبة ضررها على الكتب كثير جدًّا، يعنى كم من كتاب من نفائس الكتب مخطوط، أو مطبوع إذا تركته أيامًا وجدته قد تلف، وهذه حكمة إلهية يعني عقوبة إلهية، للذين يجمعون، ولا يقرءون، أما الكتب التي تُقرأ فما يجيئها أرضة، ولا غيرها، الكتب التي تُقرأ ويعاد النظر فيها هذه ما تجيئها أرضة، أما الكتب التي تركن بالسنة، والسنتين، والسنين ما تُفتح هذه يعاقب صاحبها؛ لأن هذا كنز، الكتب التي لا يُستفاد منها كنز، وقد ذكر الخطيب -رحمه الله- الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل، أن كانز الكتب ككانز الفضة والذهب، الكتب التي لا يُستفاد منها كنز، والله المستعان.

طالب:............

لا، هذا إذا أعدت للتجارة، إذا أعدت للتجارة، إذا أعدت للبيع والشراء.

 "وَ(أَنْ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْجِنِّ، وَالتَّقْدِيرُ: تَبَيَّنَ أَمْرُ الْجِنِّ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، أَيْ تَبَيَّنَ وَظَهَرَ لِلْإِنْسِ وَانْكَشَفَ لَهُمْ أَمْرُ الْجِنِّ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَهَذَا بَدَلُ الِاشْتِمَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ اللَّامِ. و{لَبِثُوا} أَقَامُوا، و{الْعَذَابِ الْمُهِينِ} السُّخْرَةِ وَالْحَمْلِ وَالْبُنْيَانِ وَغَيْرِ ذَلِك، وَعُمِّر سُلَيْمَانُ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمُدَّةُ مُلْكِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَمَلَكَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَة عَشْرَةَ سَنَةً".

ثلاثَ.

 "فَمَلَكَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَابْتَدَأَ فِي بُنْيَانِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ عُمُرُ سُلَيْمَانَ سَبْعًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَمَلَكَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَابْتَدَأَ فِي بُنْيَانِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ مُلْكُهُ خَمْسِينَ سَنَةً. وَحُكِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ابْتَدَأَ بُنْيَانَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ مُلْكِهِ، وَقَرَّبَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ ثَوْرٍ وَمِائَةً وَعِشْرِينَ أَلْفِ شَاةٍ، وَاتَّخَذَ الْيَوْمَ الَّذِي فَرَغَ فِيهِ مِنْ بِنَائِهِ عِيدًا، وَقَامَ عَلَى الصَّخْرَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ وَهَبْتَ لِي هَذَا السُّلْطَانَ، وَقَوَّيْتَنِي عَلَى بِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ، اللَّهُمَّ فَأَوْزِعْنِي شُكْرَكَ عَلَى مَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ، وَتَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِكَ، وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ لِمَنْ دَخَلَ هَذَا الْمَسْجِدَ خَمْسَ خِصَالٍ: لَا يَدْخُلُهُ مُذْنِبٌ دَخَلَ لِلتَّوْبَةِ إِلَّا غَفَرْتَ لَهُ وَتُبْتَ عَلَيْهِ، وَلَا خَائِفٌ إِلَّا أَمَّنْتَهُ، وَلَا سَقِيمٌ إِلَّا شَفَيْتَهُ. وَلَا فَقِيرٌ إِلَّا أَغْنَيْتَهُ. وَالْخَامِسَةُ: أَلَّا تَصْرِفَ نَظَرَكَ عَمَّنْ دَخَلَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، إِلَّا مَنْ أَرَادَ إِلْحَادًا أَوْ ظُلْمًا، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.

 قُلْتُ: وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَفْرُغْ بِنَاؤُهُ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَا خَرَّجَه النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى خِلَالًا ثَلَاثَةً: حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَائِهِ الْمَسْجِدَ أَلَّا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْم".

كيومَ

"«أَلَّا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ»"

يعني «لَا يَنْهَزُهُ»؛ لا يخرجه إلا الصلاة.

"«إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»".

يوم ظرف أضيف إلى جملة صدرها مبنى، فبني على الفتح.

" وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْحَدِيثَ فِي (آلِ عِمْرَانَ)، وَذَكَرْنَا بِنَاءَهُ فِي (سُبْحَانَ)".

ماذا قال عن الحديث؟ رواه النسائي؟ في آل عمران، هي في آل عمران، لكن على كل حال خرجه النسائي بإسناد صحيح.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ}  قَرَأَ نَافِعٌ وَغَيْرُهُ بِالصَّرْفِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ حَيٍّ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمُ رَجُلٍ، جَاءَ بِذَلِكَ التَّوْقِيفُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَوَى التِّرْمِذِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَكَمِ النَّخَعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَبْرَةَ النَّخَعِيُّ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيَّ قَالَ: « أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أُقَاتِلُ مَنْ أَدْبَرَ مِنْ قَوْمِي بِمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ؟ فَأَذِنَ لِي فِي قِتَالِهِمْ وَأَمَّرَنِي، فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ سَأَلَ عَنِّي: مَا فَعَلَ الْغُطَيْفِيُّ؟ فَأُخْبِرَ أَنِّي قَدْ سِرْتُ، قَالَ: فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَرَدَّنِي فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: ادْعُ الْقَوْمَ فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَاقْبَلْ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَلَا تَعْجَلْ حَتَّى أُحْدِثَ إِلَيْكَ، قَالَ: وَأُنْزِلَ فِي سَبَأٍ مَا أُنْزِلَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا سَبَأٌ؟ أَرْضٌ أَوِ امْرَأَةٌ؟ قَالَ: لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلَا بِامْرَأَةٍ وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ وَلَدَ عَشَرَةً مِنَ الْعَرَبِ فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا فَلَخْمُ وَجُذَامُ وَغَسَّانُ وَعَامِلَةُ. وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا فَالْأَزْدُ وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَحِمْيَرُ وَكِنْدَةُ وَمَذْحِجُ وَأَنْمَارُ»".

يعني تَشَاءَمُوا؛ ذهبوا إلى الشام، وتَيَامَنُوا ذهبوا إلى اليمن.

 فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا أَنْمَارُ؟ قَالَ: الَّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبَجِيلَةُ». وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ".

مخرَّج؟

طالب: يقول المحقق: جيد، أخرجه الترمذي والطبري والحاكم من حديث ... حسنه الترمذي وسكت عليه الحاكم والذهبي، وأخرجه الحاكم من حديث ابن عباس وصححه ووافقه الذهبي، ومن حديث يزيد بن حصين أخرجه الطبراني، وقال في المجمع: رجاله رجال الصحيح، غير علي بن الحسن شيخ الطبراني لم أعرفه، انتهى كلامه. وترجمه الخطيب في تاريخه ولم يذكر فيه جرحًا، والحديث يقوى بهذه الشواهد والطرق، وقد حسَّنه ابن كثير...

جيد، نعم.

"وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: (لِسَبَأَ) بِغَيْرِ صَرْفٍ، جَعَلَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ بِأَنَّ بَعْدَهُ (فِي مَسَاكِنِهِمْ) قال النَّحَّاسُ: وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَكَانَ فِي مَسَاكِنِهَا".

يعنى القبيلة مساكنها يُعاد إليها الضمير بالتأنيث.

 "وَقَدْ مَضَى فِي (النَّمْلِ) زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي الصَّرْفِ:

الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ
 

قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الْجَوَامِيسِ
  

وَقَالَ آخَرُ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ:

مِنْ سَبَأَ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبَ إِذْ
 

يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِهَا الْعَرِمَا
  

وَقَرَأَ قُنْبُلُ وَأَبُو حَيوةَ وَالْجَحْدَرِيُّ :(لِسَبَأْ) بِإِسْكَانِ الْهَمْزَةِ.

(فِي مَسَاكِنِهِمْ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْجَمْعِ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ؛ لِأَنَّ لَهُمْ مَسَاكِنَ كَثِيرَةً وَلَيْسَ بِمَسْكَنٍ وَاحِدٍ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ: (مَسْكَنِهِمْ) مُوَحَّدًا، إِلَّا أَنَّهُمْ فَتَحُوا الْكَافَ. وَقَرَأ يَحْيَى وَالْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ مُوَحَّدًا كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَسَرُوا الْكَافَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالسَّاكِنُ فِي هَذَا أَبْيَنُ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى، فَإِذَا قُلْتَ: (مَسْكَنِهِمْ) كَانَ فِيهِ تَقْدِيرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا يُؤَدِّي عَنِ الْجَمْعِ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ}[البقرة:7] فَجَاءَ بِالسَّمْعِ مُوَحَّدًا. وَكَذَا { مَقْعَدِ صِدْقٍ } [القمر:55] وَ(مَسْكَنٌ)".

مسكِن مسكِن.

والواحد في مثل هذه الصيغة، يجوز جمعه، ويجوز إفراده، كالمجلس والمجالس، وقد قرئ بهما {تَفَسَّحُوا فِي}[المجادلة:11]، تفسحوا في المجلس، مثله المساكن والمسكن، نعم.

"وَكَذَا { مَقْعَدِ صِدْقٍ } [القمر:55] وَ(مَسْكِنٌ) مِثْلُ مَسْجِدٍ، خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ إِلَّا سَمَاعًا.

{آيَةٌ} اسْمُ كَانَ، أَيْ عَلَامَةٌ دَالَّةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ لَهُمْ خَالِقًا خَلَقَهُمْ، وَأَنَّ كُلَّ الْخَلَائِقِ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ الْخَشَبَةِ ثَمَرَةً لَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِ الثِّمَارِ وَأَلْوَانِهَا وَطُعُومِهَا وَرَوَائِحِهَا وَأَزْهَارِهَا، وَفِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ عَالِمٍ قَادِرٍ.

{جَنَّتَانِ} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ {آيَةٌ}، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، فَيُوقَفُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى آيَةٍ، وَلَيْسَ بِتَمَامٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيِ الْآيَةُ {جَنَّتَانِ}، فَجَنَّتَانِ رُفِعَ؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: رُفِعَ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَنْصِبَ {آيَةٌ} عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ كَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَنْصِبَ الْجَنَّتَيْنِ عَلَى الْخَبَرِ أَيْضًا فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ".

على أنها خبر، واسم كان آية مؤخر، أو العكس، يعني يجوز أن يكون الخبر مقدمًا، واسمها مؤخر والعكس، كما في: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ»، و«يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها»، فيجوز هذا وهذا.

"وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي كَانَتْ لِأَهْلِ سَبَأٍ". 

 لكن الإعراب الذي يظهر، ويتغير به صورة الكتابة، لا يجوز إلا بتوقيف، برواية، الصورة {جَنَّتَانِ}،  فلا يجوز أن يُقرأ جنتين إلا لو ثبتت هذه بالتواتر عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، فالإعراب الذي يُجوِّزه أهل العلم في غير القرآن، وأما في القرآن فما تختلف صورته ولم يرد به قراءة، لا يجوز بوجه من الوجوه.

 "وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي كَانَتْ لِأَهْلِ سَبَأٍ فِي مَسَاكِنِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا فِيهَا بَعُوضَةً قَطُّ وَلَا ذُبَابًا وَلَا بُرْغُوثًا وَلَا قَمْلَةً وَلَا عَقْرَبًا وَلَا حَيَّةً وَلَا غَيْرَهَا مِنَ الْهَوَامِّ، وَإِذَا جَاءَهُمُ الرَّكْبُ فِي ثِيَابِهِمُ الْقَمْلُ وَالدَّوَابُّ فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ مَاتَتِ الدَّوَابُّ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ هِيَ الْجَنَّتَانِ".

من هذه الأمور هذا التفسير مُتلقى من بني إسرائيل، يعني مثل ما قالوا عن منى أنه لا يدخلها الذباب وذكر هذا في كتب المناسك أنه لا يدخلها الذباب، مع ذلك موجود، الذباب موجود. 

"وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ هِيَ الْجَنَّتَانِ، كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَمْشِي فِيهِمَا وَعَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلٌ فَيَمْتَلِئُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهَا بِيَدِهَا، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَرُوِيَ أَنَّ الْجَنَّتَيْنِ كَانَتَا بَيْنَ جَبَلَيْنِ بِالْيَمَنِ. قَالَ سُفْيَانُ".

إن كان المقصود من كثرته، وأنه يتساقط بكثرة، وأنه يقع في هذا المكتل شيء، فهذا الذي يقع في الأرض منه أكثر، وأما قوله: لا يقع إلا في المكتل فهذه من صفات الجنة، ليس من صفات الدنيا، أن يقع في المكتل دون أن يقع في الأرض هذه صفات الجنة، إذا تمنى الإنسان وهو على سريره أن يأتيه الطير المشوي هذا في الجنة.

"قَالَ سُفْيَانُ: وُجِدَ فِيهِمَا قَصْرَانِ مَكْتُوبٌ عَلَى أَحَدِهِمَا: نَحْنُ بَنَيْنَا سَلْحِينَ فِي سَبْعِينَ خَرِيفًا دَائِبِينَ، وَعَلَى الْآخَرِ مَكْتُوبٌ: نَحْنُ بَنَيْنَا صِرْوَاحَ، مَقِيلَ وَمَرَاحَ، فَكَانَتْ إِحْدَى الْجَنَّتَيْنِ عَنْ يَمِينِ الْوَادِي، وَالْأُخْرَى عَنْ شِمَالِهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَلَمْ يُرِدْ جَنَّتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، بَلْ أَرَادَ مِنَ الْجَنَّتَيْنِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، أَيْ كَانَتْ بِلَادُهُمْ ذَاتَ بَسَاتِينَ وَأَشْجَارٍ وَثِمَارٍ، تَسْتَتِرُ النَّاسُ بِظِلَالِهَ.  

{كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ } أَيْ قِيلَ لَهُمْ: كُلُوا، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ أَمْرٌ، وَلَكِنَّهُمْ تَمَكَّنُوا مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ. وَقِيلَ: أَيْ قَالَتِ الرُّسُلُ لَهُمْ: قَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَكُمْ ذَلِكَ، أَيْ أَبَاحَ لَكُمْ هَذِهِ النِّعَمَ فَاشْكُرُوهُ بِالطَّاعَةِ. { مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} أَيْ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّتَيْنِ. {وَاشْكُرُوا لَهُ} يَعْنِي عَلَى مَا رَزَقَكُمْ.

{ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، أَيْ هَذِهِ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أَيْ كَثِيرَةُ الثِّمَارِ".

وجود مثل هذه الأشياء، وهذه المناظر، وهذه الثمار، وهذه البساتين، ليست بدلالة، ولا علامة على الرضا من الله -جل وعلا-، ولذلك نصيب بلاد الكفر أكثر من نصيب بلاد المسلمين منها، عندهم الجنان، وعندهم الأنهار، وعندهم المروج، وعندهم الأشجار، وعندهم، عندهم الجنان، ولكنها ليست بعلامة رضى، فالدنيا كما جاء بالحديث «جنة الكافر»، وهي «سجن المؤمن»، المؤمن لا يلقي لهذه الأمور بالًا، لا يلقي لهذه الأمور بالًا، وإنما باله لما خُلق من أجله، وهو تحقيق العبودية لله -جل وعلا-، وإذا وُجِدت هذه الأمور في بيته، أو قربه، في شارعه، في بلده، فإنما يستدل بها على عظمة الله -جل وعلا-، ويستعملها فيما يرضيه فقط، وإلا فهو مخلوق لتحقيق العبودية، ولذا لا يُعرف في أوقات الجد من تاريخ المسلمين أن فئامًا من المسلمين يذهبون إلى بلاد الكفر من أجل أن يستمتعوا بهذه المناظر، أبدًا، ويضيعوا أمر الله ويرتكبوا نواهيه من أجل هذه المناظر، والآن صار جزءًا بل أمرًا حتمًا في حياة كثير من المسلمين، يعني لا تجد الناس في أوقات العطل، والإجازات إلا في هذه الأماكن عند كثير من المسلمين، مع الأسف الشديد يذهبون لمشاهدة هذه المنكرات، بل إلى ارتكابها أحيانًا، قد يكون المسلم عنده ما يحميه من ارتكاب المحرمات في بلده؛ لعدم كثرة مشاهدتها، ولصعوبة منالها وحصولها، لكن إذا سافر إلى بلاد الإباحية، وإلى بلاد الكفر بزعمه أنه يسوح في أرض الله، ويتنزه، ويتمتع بهذه المناظر، ثم بعد ذلك لا يلبس أن يقترف المحرمات، وهذا كثير، لأن كثرة الإمساس تذهب الإحساس، ولذا لما أعرضوا جاءهم سيل العرم فأهلكهم مع زروعهم ومع بساتينهم، -نسأل الله السلامة والعافية-.

 "وَقِيلَ: غَيْرُ سَبْخَةٍ. وَقِيلَ: {طَيِّبَةٌ} لَيْسَ فِيهَا هَوَامٌّ لِطِيبِ هَوَائِهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ هِيَ صَنْعَاءُ. { وَرَبٌّ غَفُورٌ} أَيْ وَالْمُنْعِمُ بِهَا عَلَيْكُمْ رَبٌّ غَفُورٌ يَسْتُرُ ذُنُوبَكُمْ، فَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ مَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِمْ وَطِيبِ بَلَدِهِمْ، وَلَمْ يَجْمَعْ ذَلِكَ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ مُشِيرًا إِلَى أَنَّ الرِّزْقَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ حَرَامٌ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي أَوَّلِ (الْبَقَرَةِ)".

خلافًا للمعتزلة الذين يقولون: الكسب الحرام ليس برزق، الكسب الحرام ليس برزق، وعامة أهل العلم على أن، وجميع من يُعتد بقوله من أهل العلم على أن الكسب رزق سواء كان حلالًا أو حرامًا، هو رزق من الله -جل وعلا-، إذًا من أين؟ وأهل العلم بمن فيهم المفسر في سورة البقرة مضى الكلام فيها قبل بضعة عشر سنة، نعم، ذكروا أنه لو حبس صبي عند اللصوص، وأطعموه من كسبهم إلى أن مات، فالمعتزلة يقولون: إنه ما أكل من رزق الله شيئًا، مع أنه مكتوب له وهو في بطن أمه رزقه،  وأهل السُنة وغيرهم من الطوائف ما عدا المعتزلة يقولون: أخذ نصيبه ورزقه من هذه الحياة الدنيا، كونه يعاقب، أو لا يعاقب إذا كان مكلفًا هذا أمر ثانٍ، لكن هذا رزقه، وهذا نصيبه من هذه الدنيا قد يكون حلالًا، وقد يكون حرامًا.

" وَقِيلَ: إِنَّمَا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِعَفْوِهِ عَنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ بِتَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبُوهُ مِنْ سَالِفِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى أَنِ اسْتَدَامُوا الْإِصْرَارَ فَاسْتُؤْصِلُوا".

تبعًا لما قلنا من أن الأحظ من البلدان بهذه البساتين، وهذه المناظرة الطبيعية الجذابة، الأحظ بذلك بلاد الكفر، مكة أشرف البقاع، وأخلص البقاع {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}[إبراهيم:37]، ولا فيها بساتين، ولا فيها أشجار، ولا فيها إلا ما يزرعه الإنسان على ضعفه؛ لأنها ليست كغيرها، والله المستعان.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَعْرَضُوا} يَعْنِي عَنْ أَمْرِهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ قَالَ السُّدِّيُّ وَوَهْبٌ: بَعَثَ إِلَى أَهْلِ سَبَأٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ".

ثلاثةَ مبني على فتح الجزأين.

بُعَثَ إِلَى أَهْلِ سَبَأٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا فَكَذَّبُوهُمْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَكَانَ لَهُمْ رَئِيسٌ يُلَقَّبُ بِالْحِمَارِ، وَكَانُوا فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِما وَسَلَّمَ-. وَقِيلَ: كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَمَاتَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَبَزَقَ وَكَفَرَ، وَلِهَذَا يُقَالُ: أَكْفَرُ مِنْ حِمَارٍ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَقَوْلُهُمْ: أَكْفَرُ مِنْ حِمَارٍ هُوَ رَجُلٌ مِنْ عَادٍ مَاتَ لَهُ أَوْلَادٌ فَكَفَرَ كُفْرًا عَظِيمًا".

وما الذي استفاده لما كفر، هل رجع أولاده؟ إنما خسر الدنيا والآخرة -نسأل الله السلامة والعافية-.

 "فَلَا يَمُرُّ بِأَرْضِهِ أَحَدٌ إِلَّا دَعَاهُ إِلَى الْكُفْرِ، فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا قَتَلَهُ. ثُمَّ لَمَّا سَالَ السَّيْلُ بِجَنَّتَيْهِمْ تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَلِهَذَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ: تَفَرَّقُوا أَيَادِي سَبَأَ. وَقِيلَ: الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ مِنْهُم. { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ}".

ولذلك لا تجد قطرًا من أقطار الدنيا إلى يومنا هذا، لا تجد قطرًا لا يوجد فيه من أهل تلك الجهات أحد.

 "{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} وَ{الْعَرِمِ} فِيمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاس السَّدُّ، فَالتَّقْدِيرُ: سَيْلَ السَّدِّ الْعَرِمِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: { الْعَرِمِ} اسْمُ الْوَادِي. وقال قَتَادَةُ: {الْعَرِمِ}  وَادِي سَبَأٍ، كَانَتْ تَجْتَمِعُ إِلَيْهِ مَسَايِلُ مِنَ الْأَوْدِيَةِ، قِيلَ: مِنَ الْبَحْرِ وَأَوْدِيَةِ الْيَمَنِ، فَرَدَمُوا رَدْمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ وَجَعَلُوا فِي ذَلِكَ الرَّدْمِ ثَلَاثَةَ أَبْوَابٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، فَكَانُوا يَسْقُونَ مِنَ الْأَعْلَى ثُمَّ مِنَ الثَّانِي ثُمَّ مِنَ الثَّالِثِ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ، فَأَخْصَبُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ، فَلَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْفَأْرَ فَنَقَبَ الرَّدْمَ. قَالَ وَهْبٌ: كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي عِلْمِهِمْ وَكِهَانَتِهِمْ أَنَّهُ يُخَرِّبُ سَدَّهُمْ فَأْرَةٌ، فَلَمْ يَتْرُكُوا فُرْجَةً بَيْنَ صَخْرَتَيْنِ إِلَّا رَبَطُوا إِلَى جَانِبِهَا هِرَّةٌ، فَلَمَّا جَاءَ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ أَقْبَلَتْ فَأْرَةٌ حَمْرَاءُ إِلَى بَعْضِ تِلْكَ الْهِرَرِ فَسَاوَرَتْهَا حَتَّى اسْتَأْخَرَتْ عَنِ الصَّخْرَةِ ثم وثبت ودَخَلَتْ فِي الْفُرْجَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهَا وَنَقَبَتِ السَّدَّ حَتَّى أَوْهَنَتْهُ لِلسَّيْلِ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ".

إذا أراد الله شيء يسَّر أسبابه.

"فَلَمَّا جَاءَ السَّيْلُ دَخَلَ تِلْكَ الْخِلَلَ حَتَّى بَلَغَ السَّدَّ وَفَاضَ الْمَاءُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَغَرَّقَهَا وَدَفَنَ بُيُوتَهُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: {الْعَرِمِ} اسْمُ للْجُرَذِ الَّذِي نَقَبَ السِّكْرَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الْخُلْدُ، وَقَالَهُ قَتَادَةُ أَيْضًا فَنُسِبَ السَّيْلُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَيْضًا: {الْعَرِمِ} مِنْ أَسْمَاءِ الْفَأْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: {الْعَرِمِ} مَاءٌ أَحْمَرُ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي السَّدِّ فَشَقَّهُ وَهَدَمَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ {الْعَرِمِ} الْمَطَرُ الشَّدِيدُ. وَقِيلَ: (الْعَرْمِ)".

نعم، تكون من إضافة الموصوف إلى صفته، سيل العرم يعني السيل الموصوف بكونه عرمًا، يعني شديدًا، فهو المطر الشديد.

"وَقِيلَ: (الْعَرْمِ) بِسُكُونِ الرَّاءِ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ كَانُوا فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ: (الْعَرِمِ) الْمُسَنَّاةُ، وَقَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وقَيلَ: وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَيُقَالُ: وَاحِدُهَا عَرِمَةٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: (الْعَرِمِ) كُلُّ شَيْءٍ حَاجِزٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ".

محمد بن يزيد أبو العباس المبرد، الشيخ الحافظ الحكمي في ميميته يقول:

والعُجْبَ فاحْذَرْهُ  إنَّ  العُجْبَ  مُجْتَرِفٌ
 

أعْمالَ  صاحِبِهِ  في سَيْلِهِ العَرِم
  

فالسيل العرم يعني الشديد، يجترف كل ما أمامه.

 "وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى السِّكْرُ، وَهُوَ جَمْعُ عِرْمَةٍ. قال النَّحَّاسُ: وَمَا يَجْتَمِعُ مِنْ مَطَرٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ وَفِي وَجْهِهِ مُسَنَّاةٌ فَهُوَ الْعَرِمُ، وَالْمُسَنَّاةُ هِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا أَهْلُ مِصْرَ الْجِسْرَ، فَكَانُوا يَفْتَحُونَهَا إِذَا شَاءُوا فَإِذَا رُوِيَتْ جَنَّتَاهُمْ سَدُّوهَا. قَالَ الْهَرَوِيُّ: الْمُسَنَّاةُ الضَّفِيرَةُ تُبْنَى لِلسَّيْلِ تَرُدُّهُ".

يعني حبس، أو سد، وما أشبه ذلك.

 "سُمِّيَتْ مُسَنَّاةً؛ لِأَنَّ فِيهَا مفتاحَ الْمَاءِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْعَرِمَ سَدٌّ بَنَتْهُ بِلْقِيسُ صَاحِبَةُ سُلَيْمَانَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَهُوَ الْمُسَنَّاةُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ، بَنَتْهُ بِالصَّخْرِ وَالْقَارِ، وَجَعَلَتْ لَهُ أَبْوَابًا ثَلَاثَةً بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَرَامَةِ وَهِيَ الشِّدَّةُ، وَمِنْهُ: رَجُلٌ عَارِمٌ، أَيْ شَدِيدٌ".

عارم من الرواة لقب محمد بن فضل السدوسي لقبه عارم، من رواة الصحيحين وغيرهما، نعم.

" وَعَرَمْتُ الْعَظْمَ أَعْرِمُهُ وَأَعْرُمهُ عَرْمًا إِذَا عَرَقْتُهُ".

يعني إذا نهسته، وعرقت تعرقت ما فيه، وأكلته.

 "وَكَذَلِكَ عَرَمَتِ الْإِبِلُ الشَّجَرَ أَيْ نَالَتْ مِنْهُ. وَالْعُرَامُ بِالضَّمِّ: الْعُرَاقُ مِنَ الْعَظْمِ وَالشَّجَرِ. وَتَعَرَّمْتُ الْعَظْمَ تَعَرَّقْتُهُ. وَصَبِيٌّ عَارِمٌ بَيِّنُ الْعُرَامِ (بِالضَّمِّ) أَيْ شَرِسٌ. وَقَدْ عَرِمَ يَعْرُمُ وَيَعْرِمُ عَرَامَةً (بِالْفَتْحِ). وَالْعَرِمُ الْعَارِمُ، عَنِ الْجَوْهَرِيِّ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ}  وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو :{أُكُلِ خَمْطٍ} بِغَيْرِ تَنْوِينٍ مُضَافًا. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالْخَلِيلُ: الْخَمْطُ الْأَرَاكُ. الْجَوْهَرِيُّ: الْخَمْطُ ضَرْبٌ مِنَ الْأَرَاكِ لَهُ حَمْلٌ يُؤْكَلُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ كُلُّ شَجَرٍ ذِي شَوْكٍ فِيهِ مَرَارَةٌ. قال الزَّجَّاجُ: كُلُّ نَبْتٍ فِيهِ مَرَارَةٌ لَا يُمْكِنُ أَكْلُهُ. وقال الْمُبَرِّدُ: الْخَمْطُ كُلُّ مَا تَغَيَّرَ إِلَى مَا لَا يُشْتَهَى. وَاللَّبَنُ خَمْطٌ إِذَا حَمُضَ. وَالْأَوْلَى عِنْدَهُ فِي الْقِرَاءَةِ { ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ}  بِالتَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِ(أُكُلٍ) أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأُكُلَ هُوَ الْخَمْطُ بِعَيْنِهِ عِنْدَهُ، فَأَمَّا الْإِضَافَةُ فَبَابُ جَوَازِهَا أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهَا ذَوَاتَيْ أُكُلِ حُمُوضَةٍ أَوْ أُكُلِ مَرَارَةٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَالْإِضَافَةُ أَحْسَنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: ثَوْبُ خَزٍّ. وَالْخَمْطُ: اللَّبَنُ الْحَامِضُ".

تكون الإضافة بيانية حينئذٍ، تكون الإضافة بيانية؛ لأن ثوب خز، وخاتم حديد بيان، وفيها شوب تبعيض؛ لأن الثوب من الخز، والخاتم من الحديد، وإذا كان المضاف يصح عمله في المضاف إليه فإنه يجوز الإضافة والقطع عن الإضافة، لكن إن كانت دلالته على ماضٍ فالإضافة، وإن كانت دلالته على حاضر أو مستقبل فالقطع، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا}[النازعات:45]، الفرق بين من يقول: أنا قاتل زيدٍ وبين من يقول: أنا قاتلٌ زيدًا، الذي يقول: أنا قاتل زيدٍ هذا يعترف على نفسه، والثاني الذي يقول: أنا قاتلٌ زيدًا هذا يهدد أن يقتله في المستقبل، والمعاني لها مدخل كبير في ترجيح الإضافة والقطع.

 "وَالْخَمْطُ: اللَّبَنُ الْحَامِضُ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ اللَّبَنَ إِذَا ذَهَبَ عَنْهُ حَلَاوَةُ الْحَلْبِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ فَهُوَ سَامِطٌ، وَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الرِّيحِ فَهُوَ خَامِطٌ وَخَمِيطٌ، فَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ طَعْمٍ فَهُوَ مُمَحَّلٌ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ طَعْمُ الْحَلَاوَةِ فَهُوَ فُوَّهَةٌ. وَتَخَمَّطَ الْفَحْلُ: هَدَرَ. وَتَخَمَّطَ فُلَانٌ أَيْ غَضِبَ وَتَكَبَّرَ. وَتَخَمَّطَ الْبَحْرُ أَيِ الْتَطَمَ. وَخَمَطْتُ الشَّاةَ أَخْمِطُهَا خَمْطًا: إِذَا نَزَعْت جِلْدَهَا وَشَوَيْتُهَا فَهِيَ خَمِيطٌ، فَإِنْ نَزَعْتُ شَعْرَهَا وَشَوَيْتُهَا فَهِيَ سَمِيطٌ".

عندنا أيضًا هذا اللفظ يستعمل في أخذ الشيء على جهة السرعة، أخذ الشيء على جهة السرعة.

" وَالْخَمْطَةُ: الْخَمْرُ الَّتِي قَدْ أَخَذَتْ رِيحَ الْإِدْرَاكِ كَرِيحِ التُّفَّاحِ وَلَمْ تُدْرِكْ بَعْدُ. وَيُقَالُ: هِيَ الْحَامِضَةُ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ فِي أَدَبِ الْكَاتِبِ: يُقَالُ لِلْحَامِضَةِ خَمْطَةٌ، وَيُقَالُ: الْخَمْطَةُ الَّتِي قَدْ أَخَذَتْ شَيْئًا مِنَ الرِّيحِ، وَأَنْشَدَ: 

عُقَارٌ كَمَاءِ النِّيءِ لَيْسَتْ بِخَمْطَةٍ
 

وَلَا خَلَّةٍ يَكْوِي الشُّرُوبَ شِهَابُهَا
  

{وَأَثْلٍ} قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ شَبِيهٌ بِالطَّرْفَاءِ إِلَّا أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْهُ طُولًا، ومِنْهُ اتُّخِذَ مِنْبَرُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلِلْأَثْلِ أُصُولٌ غَلِيظَةٌ يُتَّخَذُ مِنْهُ الْأَبْوَابُ، وَوَرَقُهُ كَوَرَقِ الطَّرْفَاءِ، الْوَاحِدَةُ أَثْلَةٌ، وَالْجَمْعُ أَثَلَاتٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأَثْلُ الْخَشَبُ. قال قَتَادَةُ: هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْخَشَبِ يُشْبِهُ الطَّرْفَاءَ رَأَيْتُهُ بِفَيْدِ".

فَيْدِ، هذه قرية معروفة، موجودة إلى الآن، وتعريفها عند ياقوت وغيره ممن كتب في البلدان من القدامى، يقول: موضع بين مكة والبصرة، يعني إذا جاء الحجاج من هذا، معروف إذا جاء الحجاج من  البصرة مروا بها، وإذا رجعوا مروا بها.

طالب:............

نعم؟

طالب:............

نعم معروفة معروفة كلام ياقوت، وغيره يقولون: موضعٌ بين مكة والبصرة.

طالب:.............

يعني هذا خلاص أنت إذا استصحبت هذا الوصف تبقى ضائع ًا إن شاء الله.

طالب: ................

 إحداثية إحداثية هذي خلاص على طول تبقى، لكن عندهم الطرق معروفة طرق الحجاج معروفة، يعني من حج من البصرة إلى مكة خلاص يصل البيت يمر عليها، فهم بهذا يتسامحون في التعريف، وإلا فأين؟ المسألة ألوف مؤلفة من الكيلوات.

 "وَقِيلَ: هُوَ السَّمُرُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ شَجَرُ النُّضَارِ. النُّضَارُ: الذَّهَبُ".

نُضار، نُضار، النُضار.

 "قيل: هُوَ شَجَرُ النُّضَارِ. النُّضَارُ: الذَّهَبُ. وَالنُّضَارُ: خَشَبٌ يُعْمَلُ مِنْهُ قِصَاعٌ، وَمِنْهُ: قَدَحٌ نُضَارٌ".

أبو حيان، أبو حيان الأندلسي صاحب التفسير، كان له حيان ولده، وبنت اسمها نُضار، ويصف هذه البنت بالذكاء، وجودة التحصيل، وأنها أفضل من حيان بكثير، فماتت فألف كتابًا في سيرتها، وما حصل لهما من مواقف، اسماه النُضار في المسلاة عن نُضار، نُضار، يعني الذهب في المسلاة يعنى تسلى به عن نُضار، وكان أيضًا يتسلى بالذهب، فقد عُرف بجمعه، ومعروف له سيرة مذكورة في نفح الطيب، سيرةٍ يقال: بخيل ولا يقال: فقير، كان يمسك -رحمه الله-، كان لا يشتري الكتب، يستعير، يقول: الكتب تجد من يعيرها، لكن الدراهم ما تجد من يعيرها -رحمه الله-، الله المستعان. النُضار في المسلاة عن نُضار يتسلى بهذا الكتاب- والله المستعان- عن هذه البنت، والمصيبة تكون أعظم إذا كان يعني الولد أو البنت متعوبًا عليه، وأبدى شيئًا من الإنتاج، إذا بدأ بالإنتاج، ثم بعد ذلك يقتطع دونها فهذه مصيبة عظيمة، وأجرها عند الله أعظم.

طالب: ................

نعم.

"{ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}  قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ السَّمُرُ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: السِّدْرُ مِنَ الشَّجَرِ سِدْرَانِ: بَرِّيٌّ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يَصْلُحُ وَرَقُهُ لِلْغَسُولِ وَلَهُ ثَمَرٌ عَفِصٌ لَا يُؤْكَلُ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الضَّالَ. وَالثَّانِي: سِدْرٌ يَنْبُتُ عَلَى الْمَاءِ وَثَمَرُهُ النَّبِقُ وَوَرَقُهُ غَسُولٌ يُشْبِهُ شَجَرَ الْعُنَّابِ. قَالَ قَتَادَةُ: بَيْنَمَا شَجَرُ الْقَوْمِ مِنْ خَيْرِ شَجَرٍ إِذْ صَيَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَرِّ الشَّجَرِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَأَهْلَكَ أَشْجَارَهُمُ الْمُثْمِرَةَ.

فَأَهْلَكَ أَشْجَارَهُمُ الْمُثْمِرَةَ وَأَنْبَتَ بَدَلَهَا الْأَرَاكَ وَالطَّرْفَاءَ وَالسِّدْرَ. قال الْقُشَيْرِيُّ: وَأَشْجَارُ الْبَوَادِي لَا تُسَمَّى جَنَّةً وَبُسْتَانًا، وَلَكِنْ لَمَّا وَقَعَتِ الثَّانِيَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْأُولَى أُطْلِقَ لَفْظُ الْجَنَّةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا }[الشورى:40]".

يعني من باب المقابلة والمجانسة في التعبير، مشاكلة، نعم.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ قَوْلُهُ {قَلِيلٍ} إِلَى جُمْلَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْخَمْطِ وَالْأَثْلِ وَالسِّدْرِ".

يعني ليس فيها من النبات والإفادة مثل ما في الجنتين الأوليين، لكن لو لم يكن فيها إلا أنها يُستظل بها.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} أَيْ هَذَا التَّبْدِيلُ جَزَاءُ كُفْرِهِمْ. وَمَوْضِعُ ذَلِكَ نَصْبٌ، أَيْ جَزَيْنَاهُمْ ذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ، { وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}  قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (يُجَازَى) بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَزَايٍ مَفْتُوحَةٍ، {الْكَفُورَ}  رَفْعًا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: نُجَازِي بِالنُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ، {الْكَفُورَ}  بِالنَّصْبِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، قَالَا: لِأَنَّ قَبْلَهُ {جَزَيْنَاهُمْ} وَلَمْ يَقُلْ جُوزُوا. قال النَّحَّاسُ: وَالْأَمْرُ فِي هَذَا وَاسِعٌ، وَالْمَعْنَى فِيهِ بَيِّنٌ".

سواء بُني الفعل للمعلوم، أو للمجهول، فالذي يجازي على كل حال هو الله – جل وعلا-، في قوله -جل وعلا-: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}[النساء:28] {خُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} هل يشك أحد أن الخالق هو الله -جل وعلا-؟! فإذا لم يوجد لبس استوى الأمران.

"وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ طِينٍ، وَقَالَ آخَرُ: خُلِقَ آدَمُ مِنْ طِينٍ، لَكَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا. 

مَسْأَلَةٌ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ لَيْسَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَشَدُّ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لِمَ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُجَازَاةَ بِالْكَفُورِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابَ الْمَعَاصِي؟ فَتَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا، فَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ يُجَازَى بِهَذَا الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ الِاصْطِلَامُ وَالْإِهْلَاكُ إِلَّا مَنْ كَفَرَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُجَازَى بِمَعْنَى يُعَاقَبُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُكَفِّرُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَيِّئَاتَهُ، وَالْكَافِرُ يُجَازَى بِكُلِ سُوءِ عَمله، فَالْمُؤْمِنُ يُجْزَى وَلَا يُجَازَى؛ لِأَنَّهُ يُثَابُ. وَقَالَ طَاوُسٌ: هُوَ الْمُنَاقَشَةُ فِي الْحِسَابِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا يُنَاقَشُ الْحِسَابَ".

ولو قيل: إن معنى {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}[سبأ:17] أن يتحتم جزاؤه، من يتحتم جزاؤه هو الكفور، وأما غير الكفور من العصاة فقد يجازى، وقد لا يجازى، قد يُعفى عنه، ولذا إطلاقهم الوفاء بالوعد، وأن الوعيد قد يُخلف.

وإني وإن أوعدته أو وعدته
 

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
  

يعني ما يلزم أن يُخلف قد يكون حتمًا الإيعاد لاسيما إذا كان داخلًا في قوله -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}[النساء:48]، أما بالنسبة للعصاة ومن دون الكفار فهذا أمرهم تحت المشيئة مثل هذا لا يجازى إلا الكفور، يعني لا يتحتم جزاؤه إلا الكفور، نعم.

"وَقَالَ طَاوُسٌ: هُوَ الْمُنَاقَشَةُ فِي الْحِسَابِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا يُنَاقَشُ الْحِسَابَ. وَقَالَ قُطْرُبٌ خِلَافَ هَذَا، فَجَعَلَهَا فِي أَهْلِ الْمَعَاصِي غَيْرِ الْكُفَّارِ، وَقَالَ: الْمَعْنَى عَلَى مَنْ كَفَرَ بِالنِّعَمِ وَعَمِلَ بِالْكَبَائِرِ. قال النَّحَّاسُ: وَأَوْلَى مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَجَلُّ مَا رُوِيَ فِيهَا: أَنَّ الْحَسَنَ قَالَ: مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَعَنْ عَائِشَةَ  رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ حُوسِبَ هَلَكَ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَيْنَ قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَزّ-: { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا }؟ قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ»"

إنما، إنما ذلكِ خطاب للمؤنث.

"«قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ»، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَشَرْحُهُ: أَنَّ الْكَافِرَ يُكَافَأُ عَلَى أَعْمَالِهِ وَيُحَاسَبُ عَلَيْهَا، وَيُحْبَطُ مَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ، وَيُبَيِّنُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا}، وَفِي الثَّانِي: (وَهَلْ يُجَازَى إِلَّا الْكَفُورُ) وَمَعْنَى (يُجَازَى): يُكَافَأُ بِكُلِ عَمَلٍ عَمِلَهُ، وَمَعْنَى {جَزَيْنَاهُمْ}. وَفَّيْنَاهُمْ، فَهَذَا حَقِيقَةُ اللُّغَةِ، وَإِنْ كَانَ (جَازَى) يَقَعُ بِمَعْنَى (جَزَى). مَجَازًا".

الأصل أن جازى تكون مفاعلة بين طرفين، وقد تأتي بمعنى فعل التي هي من طرفٍ واحد، مثل سافر، طارق النعل، وما أشبه ذلك، فالعمل من الإنسان، والجزاء من الله -جل وعلا-، فباعتباره في مقابلة عمل يكون مجازة، كالمفاعلة بين طرفين، وبكونه من الله -جل وعلا- دون غيره فهو جزاء.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي بَيْنَ الْيَمَنِ وَالشَّامِ. وَالْقُرَى الَّتِي بُورِكَ فِيهَا: الشَّامُ وَالْأُرْدُنُ وَفِلَسْطِينُ .وَالْبَرَكَةُ: قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَسَبْعَمِائَةِ قَرْيَةٍ بُورِكَ فِيهَا بِالشَّجَرِ وَالثَّمَرِ وَالْمَاءِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ { بَارَكْنَا فِيهَا}  بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ. { قُرًى ظَاهِرَةً}  قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى {ظَاهِرَةً}: مُتَّصِلَةٌ عَلَى الطَرِيقٍ يَغْدُونَ فَيَقِيلُونَ فِي قَرْيَةٍ وَيَرُوحُونَ فَيَبِيتُونَ فِي قَرْيَةٍ. وَقِيلَ: كَانَ عَلَى كُلِّ مِيلٍ قَرْيَةٌ بِسُوقٍ، وَهُوَ سَبَبُ أَمْنِ الطَّرِيقِ.

 قَالَ الْحَسَنُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَخْرُجُ مَعَهَا مِغْزَلُهَا وَعَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلُهَا، ثُمَّ تَلْتَهِي بِمِغْزَلِهَا فَلَا تَأْتِي بَيْتَهَا حَتَّى يَمْتَلِئَ مِكْتَلُهَا مِنْ كُلِّ الثِّمَارِ، فَكَانَ مَا بَيْنَ الشَّامِ وَالْيَمَنِ كَذَلِكَ. وَقِيلَ: {ظَاهِرَةً} أَيْ مُرْتَفِعَةً، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قِيلَ لَهَا: {ظَاهِرَةً} لِظُهُورِهَا، أَيْ إِذَا خَرَجت عَنْ هَذِهِ ظَهَرَتْ لَكَ الْأُخْرَى، فَكَانَتْ قُرًى ظَاهِرَةً أَيْ مَعْرُوفَةً، يُقَالُ: هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ أَيْ مَعْرُوفٌ. { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْر} أَيْ جَعَلْنَا السَّيْرَ بَيْنَ قُرَاهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا سَيْرًا".

ولو قيل: إن القرى قرى ظاهرة يعني قرى بارزة، يراها المسافر ويقصدها، بخلاف القرى غير البارزة التي تقع في مهبط من الأرض، أو بين جبلين، وما أشبه ذلك التي يمر بها المسافر، ولا يشعر بها.

 "أَيْ جَعَلْنَا السَّيْرَ بَيْنَ قُرَاهُمْ وَبَيْنَ {الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} سَيْرًا مُقَدَّرًا مِنْ مَنْزِلٍ إِلَى مَنْزِلٍ، وَمِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ، أَيْ جَعَلْنَا بَيْنَ كُلِّ قَرْيَتَيْنِ نِصْفَ يَوْمٍ حَتَّى يَكُونَ الْمَقِيلُ فِي قَرْيَةٍ وَالْمَبِيتُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى. وَإِنَّمَا يُبَالِغُ الْإِنْسَانُ فِي السَّيْرِ لِعَدَمِ الزَّادِ وَالْمَاءِ وَلِخَوْفِ الطَّرِيقِ، فَإِذَا وَجَدَ الزَّادَ وَالْأَمْنَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى نَفْسِهِ الْمَشَقَّةَ وَنَزَلَ أَيْنَمَا أَرَادَ. { سِيرُوا فِيهَا} أَيْ وَقُلْنَا لَهُمْ { سِيرُوا فِيهَا}، أَيْ فِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ فَهُوَ أَمْرُ تَمْكِينٍ، أَيْ كَانُوا يَسِيرُونَ فِيهَا إِلَى مَقَاصِدِهِمْ إِذَا أَرَادُوا آمِنِينَ، فَهُوَ أَمْرٌ بِمَعْنَى الْخَبَرِ، وَفِيهِ إِضْمَارُ الْقَوْلِ".

وليس معنى الأمر أن يكون بمعنى الإلزام بالسير، وإنما أُبيح لهم أن يسيروا فيها، ومُكنوا من السير فيها.

"{لَيَالِيَ وَأَيَّامًا} ظَرْفَانِ {آمِنِينَ} نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَقَالَ: { لَيَالِيَ وَأَيَّامًا} بِلَفْظِ النَّكِرَةِ تَنْبِيهًا عَلَى قِصَرِ أَسْفَارِهِمْ، أَيْ كَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى طُولِ السَّفَرِ؛ لِوُجُودِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَسِيرُونَ غَيْرَ خَائِفِينَ وَلَا جِيَاعٍ وَلَا ظِمَاءٍ، وَكَانُوا يَسِيرُونَ مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي أَمَانٍ لَا يُحَرِّكُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ لَا يُحَرِّكُهُ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} لَمَّا بَطِرُوا وَطَغَوْا وَسَئِمُوا الرَّاحَةَ وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى الْعَافِيَةِ تَمَنَّوْا طُولَ الْأَسْفَارِ وَالْكَدْحَ فِي الْمَعِيشَةِ، كَقَوْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: { فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا}[البقرة:61] الْآيَةَ".

ملوا من الطعام الرغيد، والعيش الوفير، المن والسلوى دون تعب، ولا نصب مع طيبه، قالوا: { فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} استبدلوا {الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61]، ملوا من الطيب فلجئوا، أو طلبوا الأدون، وهؤلاء ملوا من سهولة الأسفار، والتنقل بين البلدان، فطلبوا أن يُشق عليهم في ذلك، {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}، وهذا على رأي بعض الناس أن الأسفار لا بد فيها من المشقة، والذي يظهر ويبرز ويسافر إلى رحلة، أو نزهة وما حصل له شيء من التعب، والعنت والمشقة يقولون: هذا ما سافر، هذا موجود على ألسنة اليوم الناس، وهذا- سبحان الله- الملل ولو كان من الخير، يعني العيش الرغيد يُمل عند كثير من الناس، فيطلب أن يُغيَّر، وبعض الجهات ملوا من ولاتهم، وتمنّوا تغييرهم بمن هو شرٌ منهم، وحصل ما تمنوا ومازالوا يجنون ثمار تلك الأماني، حصلت الانقلابات والمشاكل، وانظر البلدان المجاورة لما ملوا من ولاتهم الأولين الذين مشوا على نوع من، عندهم ظلم،  وعندهم أشياء، ولكن لا يقارنون بمن جاء بعدهم،  فملوا تلك الحياة الرتيبة، وتمنوا التغيير، فغيروا ومع ذلك ما رأوا بعد ذلك خيرًا، والله المستعان.

"وَكَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ حِينَ قَالَ: { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ}[الأنفال:32] فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَقُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ صَبْرًا، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ تَبَدَّدُوا فِي الدُّنْيَا وَمُزِّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَجُعِلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ فَلَوَاتٌ وَمَفَاوِزُ يَرْكَبُونَ فِيهَا الرَّوَاحِلَ وَيَتَزَوَّدُونَ الْأَزْوَادَ.

وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ {رَبَّنَا} بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ نِدَاءٌ مُضَافٌ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ؛ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: نَادَيْتُ وَدَعَوْتُ. {بَاعِدْ} سَأَلُوا الْمُبَاعَدَةَ فِي أَسْفَارِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِر: {رَبَّنَا}  كَذَلِكَ عَلَى الدُّعَاءِ (بَعِّد)".

 بَعِّد؟

أو بعَّدَ، بعِّد من التبعيد.

"(بَعِّد) مِنَ التَّبْعِيدِ. قال النَّحَّاسُ: وَبَاعِدْ وَبَعِّدْ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، كَمَا تَقُولُ: قَارِبْ وَقَرِّبْ. وَقَرَأَ أَبُو صَالِحٍ وَمُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (رَبُّنَا) رَفْعًا (بَاعَدَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالدَّالِ عَلَى الْخَبَرِ، تَقْدِيرُهُ: لَقَدْ بَاعَدَ رَبُّنَا بَيْنَ أَسْفَارِنَا، كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: قَرَّبْنَا لَهُمْ أَسْفَارَهُمْ فَقَالُوا أَشَرًا وَبَطَرًا: لَقَدْ بُوعِدَتْ عَلَيْنَا أَسْفَارُنَا".

ولم يصدقوا في هذا، لم يصدقوا في هذا، قرّبت لهم الأسفار فزعموا وادعوا أنها بعيدة، نعم.

 "وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ قَالَ: لِأَنَّهُمْ مَا طَلَبُوا التَّبْعِيدَ إِنَّمَا طَلَبُوا أَقْرَبَ مِنْ ذَلِكَ الْقُرْبِ بَطَرًا وَعَجَبًا مَعَ كُفْرِهِمْ. وَقِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ وَتُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَبَّنَا بَعِّدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) بِشَدِّ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَفَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: شَكَوْا أَنَّ رَبَّهُمْ بَاعَدَ بَيْنَ أَسْفَارِهِمْ. وَقِرَاءَةُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَخِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: (رَبَّنَا بَعِّدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا). رَبَّنَا نِدَاءٌ مُضَافٌ، ثُمَّ أَخْبَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالُوا: (بَعُدَ بَيْنُ أَسْفَارِنَا)، وَرُفِعَ (بَيْنُ) بِالْفِعْلِ، أَيْ، بَعُدَ مَا يَتَّصِلُ بِأَسْفَارِنَا. وَرَوَى الْفَرَّاءُ وَأَبُو إِسْحَاقُ قِرَاءَةً سَادِسَةً مِثْلَ الَّتِي قَبْلَهَا فِي ضَمِّ الْعَيْنِ إِلَّا أَنَّكَ تَنْصِبُ (بَيْنَ) عَلَى ظَرْفٍ، وَتَقْدِيرُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ: بَعُدَ سَيْرُنَا بَيْنَ أَسْفَارِنَا. قال النَّحَّاسُ :وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ إِذَا اخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: إِحْدَاهَا أَجْوَدُ مِنَ الْأُخْرَى، كَمَا لَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ إِذَا اخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا، وَلَكِنْ خُبِّرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ دَعَوْا رَبَّهُمْ أَنْ يُبْعِدَ بَيْنَ أَسْفَارِهِمْ بَطَرًا وَأَشَرًا، وَخُبِّرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمَّا فُعِلَ ذَلِكَ بِهِمْ خَبَّرُوا بِهِ وَشَكَوْا، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} أَيْ بِكُفْرِهِمْ".

نقول: إذا اختلفت هذه القراءات، وإذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال: إحداها أجود من الأخرى، هذه في القراءات المتواترة ما فيه أشكال؛ لأنها كلها ثابتة عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، مع أن هذه القراءات من حيث المعنى، قد يكون بعضها أرجح من بعض من حيث المعنى، يعني مثل {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4] مثل ملك هذه لها ما يرجحها، وتلك لها ما يرجحها، {لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2]؛ أو {لا رَيْبَ} هذا بالوقف {فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} قالوا: إن الوقف على فيه أولى؛ لأنه إذا وقفنا على ريب {لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} يقول: ليس كله هدى، إنما فيه هدى، بينما إذا قلنا: {لا رَيْبَ فِيهِ}، ثم قلنا: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} صار كله هدىً للمتقين، فالترجيح بين القراءات، والروايات- وإن كانت متواترة- وارد.

" كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} أَيْ بِكُفْرِهِمْ {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أَيْ يُتَحَدَّثُ بِأَخْبَارِهِمْ، وَتَقْدِيرُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ: ذَوِي أَحَادِيثَ. { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أَيْ لَمَّا لَحِقَهُمْ مَا لَحِقَهُمْ تَفَرَّقُوا وَتَمَزَّقُوا. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَلَحِقَتِ الْأَنْصَارُ بِيَثْرِبَ، وَغَسَّانُ بِالشَّامِ، وَالْأَسْدُ بِعُمَانَ، وَخُزَاعَةُ بِتِهَامَةَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَضْرِبُ بِهِمُ الْمَثَلَ فَتَقُولُ: تَفَرَّقُوا أَيْدِي سَبَأٍ وَأَيَادِي سَبَأٍ، أَيْ مَذَاهِبَ سَبَأٍ وَطُرُقَهَا. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} الصَّبَّارُ الَّذِي يَصْبِرُ عَنِ الْمَعَاصِي، وَهُوَ تَكْثِيرُ صَابِرٍ يُمْدَحُ بِهَذَا الِاسْمِ".

صيغة مبالغة، نعم.

" فَإِنْ أَرَدْتَ أَنَّهُ صَبَرَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيهِ إِلَّا صَبَّارٌ عَنْ كَذَا".

نعم، فرق بين المرغوب فيه، والمرغوب عنه، فالمعصية مرغوبٌ عنها فهو صبارٌ عنها، والطاعة مرغوبٌ فيها فهو صبارٌ فيها.

 "شَكُورٌ لِنِعَمِهِ، وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي (الْبَقَرَةِ)".

وهي أيضًا صيغة مبالغة، يعني أنه يتكرر من الشكر، وهو ملازم له.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} فِيهِ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ: قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ: (وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ) بِالتَّخْفِيفِ  (إِبْلِيسُ) بِالرَّفْعِ {ظَنَّهُ} بِالنَّصْبِ، أَيْ فِي ظَنِّهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ، صَدَقَ عَلَيْهِمْ ظَنًّا ظَنُّهُ إِذْ صَدَقَ فِي ظَنِّهِ".

لكن على التقدير الأول في ظنه يكون منصوبًا على نزع الخافض.

"فَنُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى الظَّرْفِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: ظَنَّهُ نُصِبَ؛ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ صَدَقَ الظَّنُّ الَّذِي ظَنَّهُ إِذْ قَالَ: { لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف:16] وَقَالَ: { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:39] وَيَجُوزُ تَعْدِيَةُ الصِّدْقِ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَيُقَالُ: صَدَقَ الْحَدِيثَ، أَيْ فِي الْحَدِيثِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: {صَدَّقَ} بِالتَّشْدِيدِ {ظَنَّهُ} بِالنَّصْبِ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: ظَنَّ ظَنًّا فَكَانَ كَمَا ظَنَّ فَصَدَّقَ ظَنَّهُ. وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَبُو الْهَجَّهاجِ (صَدَقَ عَلَيْهِمْ) بِالتَّخْفِيفِ (إِبْلِيسَ) بِالنَّصْبِ (ظَنُّهُ) بِالرَّفْعِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا وَجْهَ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ عِنْدِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ أَجَازَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْفَرَّاءُ وَذَكَرَهَا الزَّجَّاجُ وَجَعَلَ الظَّنَّ فَاعِلَ (صَدَقَ) (إِبْلِيسَ) مَفْعُولٌ بِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِبْلِيسَ سَوَّلَ لَهُ ظَنُّهُ فِيهِمْ شَيْئًا فَصَدَقَ ظَنُّهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ ظَنُّ إِبْلِيسَ. وَ(عَلَى) مُتَعَلِّقَةٌ بِ (صَدَقَ)، كَمَا تَقُولُ: صَدَقْتُ عَلَيْكَ فِيمَا ظَنَنْتُهُ بِكَ، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِالظَّنِّ؛ لِاسْتِحَالَةِ تَقَدُّمِ شَيْءٍ مِنَ الصِّلَةِ عَلَى الْمَوْصُولِ. وَالْقِرَاءَةُ الرَّابِعَةُ".

إبليس {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ}[محمد:25] فاستجابوا، كان ظن فيهم هذا الظن فسعى وجهد أن يضلهم وأن يغويهم؛ ليكثر السواد معه في النار -نسأل الله العافية-، فصدق هذا الظن الذي ظنه أولًا، صدقه بفعله، بوسوسته، بإغوائه، وامتثالهم لهذه الوساوس.

 وَالْقِرَاءَةُ الرَّابِعَةُ: (وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنُّهُ) بِرَفْعِ إِبْلِيسَ وَالظَّنِّ، مَعَ التَّخْفِيفِ فِي (صَدَقَ) عَلَى أَنْ يَكُونَ (ظَنُّهُ) بَدَلًا مِنْ (إِبْلِيسُ) وَهُوَ بَدَل الِاشْتِمَالِ. ثُمَّ قِيلَ: هَذَا فِي أَهْلِ سَبَأٍ، أَيْ كَفَرُوا وَغَيَّرُوا وَبَدَّلُوا بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ إِلَّا قَوْمًا مِنْهُمْ آمَنُوا بِرُسُلِهِمْ. وَقِيلَ: هَذَا عَامٌّ، أَيْ صَدَّقَ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ إِلَّا مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا أُهْبِطَ آدَمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ حَوَّاءُ وَهَبَطَ إِبْلِيسُ قَالَ إِبْلِيسُ: أَمَا إِذْ أَصَبْتُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مَا أَصَبْتُ فَالذُّرِّيَّةُ أَضْعَفُ وَأَضْعَفُ! فَكَانَ ذَلِكَ ظَنًّا مِنْ إِبْلِيسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ}  وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: خُلِقْتُ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِنْ طِينٍ وَالنَّارُ تُحْرِقُ كُلَّ شَيْءٍ، {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:62] فَصَدَّقَ ظَنَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: يَا رَبِّ أَرَأَيْتَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَرَّمْتَهُمْ وَشَرَّفْتَهُمْ وَفَضَّلْتَهُمْ عَلَيَّ لَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ، ظَنًّا مِنْهُ فَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ".

يعني مجرد توقع في أول الأمر مجرد توقع؛ لأنه غيب، فلما وقع صدق، وصدق الظن وهذا التوقع.

 "وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ إِنْ أَغْوَاهُمْ أَجَابُوهُ، وَإِنْ أَضَلَّهُمْ أَطَاعُوهُ، فَصَدَّقَ ظَنَّهُ. فَاتَّبَعُوهُ قَالَ الْحَسَنُ: مَا ضَرَبَهُمْ بِسُوءٍ وَلَا بِعَصًا وَإِنَّمَا ظَنَّ ظَنًّا فَكَانَ كَمَا ظَنَّ بِوَسْوَسَتِهِ.

 { إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يُذْنِبُ وَيَنْقَادُ لِإِبْلِيسَ فِي بَعْضِ الْمَعَاصِي، أَيْ مَا سَلِمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا إِلَّا فَرِيقٌ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}  فَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ، فَ(مِنْ) عَلَى هَذَا لِلتَّبْيِينِ لَا لِلتَّبْعِيضِ".

يعنى بيانية كما في قوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30]، فهي بيانية، وليست تبعيضية، والوجه الأول وجيه أيضًا في الأول { إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بحيث لم يطيعوه في شيء لا في صغير ولا كبير، وغالب المؤمنين قارفوا بعض المعاصي استجابة لطلبه ووسوسته، وعلى الثاني أن من بيانية يكون جميع المؤمنين عصموا منه، عصموا منه من اتباعه على الكفر لا على المعاصي.

 "فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَلِمَ إِبْلِيسُ صِدْقَ ظَنِّهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ؟ قِيلَ لَهُ: لَمَّا نُفِّذَ لَهُ فِي آدَمَ مَا نُفِّذَ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُنَفَّذُ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَقَدْ وَقَعَ لَهُ تَحْقِيقُ مَا ظَنَّ. وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ مَا أُجِيبَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}[الإسراء:64] فَأُعْطِيَ الْقُوَّةَ وَالِاسْتِطَاعَةَ، فَظَنَّ أَنَّهُ يَمْلِكُهُمْ كُلَّهُمْ بِذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ تَابَ عَلَى آدَمَ، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ نَسْلٌ. يَتَّبِعُونَهُ إِلَى الْجَنَّةِ وَقَالَ: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الإسراء:65]، عَلِمَ أَنَّ لَهُ تَبَعًا وَلِآدَمَ تَبَعًا، فَظَنَّ أَنَّ تَبَعَهُ أَكْثَرُ مِنْ تَبَعِ آدَمَ؛ لِمَا وُضِعَ فِي يَدَيْهِ مِنْ سُلْطَانِ الشَّهَوَاتِ، وَوُضِعَتِ الشَّهَوَاتُ فِي أَجْوَافِ الْآدَمِيِّينَ، فَخَرَجَ عَلَى مَا ظَنَّ حَيْثُ نَفَخَ فِيهِمْ وَزَيَّنَ فِي أَعْيُنِهِمْ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ، وَمَدَّهُمْ إِلَيْهَا بِالْأَمَانِيِّ وَالْخَدَائِعِ، فَصَدَّقَ عَلَيْهِمُ الظن الَّذِي ظَنَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

يبيِّن هذا أن الله -جل وعلا- يقول لآدم:  أخرج بعث النار، فيُخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فهم أكثر {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[الأنعام:116]، الله المستعان.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ } أَيْ لَمْ يَقْهَرْهُمْ إِبْلِيسُ عَلَى الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْهُ الدُّعَاءُ وَالتَّزْيِينُ. وَالسُّلْطَانُ: الْقُوَّةُ. وَقِيلَ: الْحُجَّةُ، أَيْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ يَسْتَتْبِعُهُمْ بِهَا، وَإِنَّمَا اتَّبَعُوهُ بِشَهْوَةٍ وَتَقْلِيدٍ وَهَوَى نَفْسٍ، لَا عَنْ حُجَّةٍ وَدَلِيلٍ. { إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ} يُرِيدُ عِلْمَ الشَّهَادَةِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، فَأَمَّا الْغَيْبُ فَقَدْ عَلِمَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَمَذْهَبُ الْفَرَّاءِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِلَّا لِنَعْلَمَ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ، كَمَا قَالَ: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ}، عَلَى قَوْلِكُمْ وَعِنْدَكُمْ".

يعني على حد زعمكم {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}.

 "وَلَيْسَ قَوْلُهُ: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} جَوَابَ {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ}  فِي ظَاهِرِهِ إِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ".

يعني الله -جل وعلا- يبتلي عباده بهذا الشيطان، بهذا الإبليس الذي خلقه ابتلاءً وامتحانًا للناس، لكن ليس لغيره -جل وعلا- أن يبتلي الناس ويقول: هم أحرار نوجد لهم هذه الأمور، نفتح لهم الآفاق، نفتح لهم أبواب الخير والشر وهم يختارون، لا، على ولي الأمر أن يأطر الناس على الخير، هذه وظيفته، ما يقولون: مسألة اختيارية أننا نفتح الأبواب مثل ما فُعل، مثل ما خُلق إبليس، وأرسلت الرسل، الناس أحرار، هذا الكلام ليس بصحيح، الله -جل وعلا- الذي خلق العباد له أن يبتليهم، وله أن يختبرهم، لكن غيره هو مُبتلىً، ومُختبر، بحمل الناس على الخير وأطرهم عليه، وهذه هي وظيفة الولاة، نعم.

 

 "إِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ وَمَا جَعَلْنَا لَهُ سُلْطَانًا إِلَّا لِنَعْلَمَ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّا ابْتَلَيْنَاهُمْ بِوَسْوَسَتِهِ لِنَعْلَمَ، فَ{إِلَّا} بِمَعْنَى لَكِنْ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ، أَيْ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ، غَيْرَ أَنَّا سَلَّطْنَاهُ عَلَيْهِمْ لِيَتِمَّ الِابْتِلَاءُ. وَقِيلَ: كَانَ زَائِدَةٌ، أَيْ وَمَا لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ، كَقَوْلِهِ: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110] أَيْ أَنْتُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ. وَقِيلَ: لَمَّا اتَّصَلَ طَرَفٌ مِنْهُ بِقِصَّةِ سَبَأٍ قَالَ: وَمَا كَانَ لِإِبْلِيسَ عَلَى أُولَئِكَ الْكُفَّارِ مِنْ سُلْطَانٍ. وَقِيلَ: وَمَا كَانَ لَهُ فِي قَضَائِنَا السَّابِقِ سُلْطَانٌ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} إِلَّا لِنُظْهِرَ، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: النَّارُ تُحْرِقُ الْحَطَبَ، فَيَقُولُ آخَرُ: لَا بَلِ الْحَطَبُ يُحْرِقُ النَّارَ، فَيَقُولُ الْأَوَّلُ: تَعَالَ حَتَّى نُجَرِّبَ النَّارَ وَالْحَطَبَ؛ لِنَعْلَمَ أَيُّهُمَا يُحْرِقُ صَاحِبَهُ، أَيْ لِنُظْهِرَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا لَهُمْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِلَّا لِتَعْلَمُوا أَنْتُمْ. وَقِيلَ: إلا لِيَعْلَمَ أَوْلِيَاؤُنَا وَالْمَلَائِكَةُ، كَقَوْلِه: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[المائدة:33] أَيْ يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقِيلَ: أَيْ لِيَمِيزَ، كَقَوْلِهِ: { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37]، وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي (الْبَقَرَةِ) وَغَيْرِهَا.

وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: (إِلَّا لِيُعْلَمَ) عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أَيْ أَنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِ شَيْءٍ. وَقِيلَ: يَحْفَظُ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يُجَازِيَهُ عَلَيْهِ".

نعم، فيكون فعيل بمعنى فاعل، وحفيظ بمعنى حافظ، وإخراج الأمور من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، هذا فيه كثير مما يتعلق بالعباد، الموازين الله -جل وعلا- يعرف أن هذا مآله إلى الجنة، وأن حسناته راجحة، ويعلم أن هذا مآله إلى النار، وأن سيئاته راجحة، ويعلم أن هذا كافر، وهذا مسلم، ما الداعي إلى هذه الموازين؟ إنما ليظهر ذلك من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، والله -جل وعلا- اقتضت حكمته ألا يحكم بعلمه، هو يعلم، لكن لا يحكم بعلمه، فيقول المحاسَب: لا أرتضي إلا شاهدًا من نفسي، فيُختم على فيه، فتنطق جوارحه فتشهد عليه، كل هذا من أجل أن يظهر الأمر من عالم الغيب؛ لئلا  يُدعي الظلم، إلى عالم الشهادة.

قوله: وما كان لله في قضائنا السابق.

ماذا؟

قوله: وقيل وما كان له في قضائنا السابق سلطان.

وقيل: وما كان له في قضائنا السابق سلطان عليهم إلا من استُثني، إلا من اتبعه.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أَيْ هَذَا الَّذِي مَضَى ذِكْرُهُ مِنْ أَمْرِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَقِصَّةِ سَبَأٍ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِي، فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ هَلْ عِنْدَ شُرَكَائِكُمْ قُدْرَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا خِطَابُ تَوْبِيخٍ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ: أَيِ ادْعُوَا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ آلِهَةٌ لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِتَنْفَعَكُمْ أَوْ لِتَدْفَعَ عَنْكُمْ مَا قَضَاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْكُمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ ذَلِكَ، و{ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} أَيْ مَا لِلَّهِ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ مُعِينٍ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ، بَلِ اللَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِيجَادِ، فَهُوَ الَّذِي يُعْبَدُ، وَعِبَادَةُ غَيْرِهِ مُحَالٌ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} أَيْ شَفَاعَةُ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ. عِنْدَهُ أَيْ عِنْدَ اللَّهِ. { إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}  قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ: {أَذِنَ} بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوَّلًا. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (أُذِنَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَالْآذِنُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَ(مَنْ) يَجُوزُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الشَّافِعِينَ، وَيَجُوزَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الْمَشْفُوعِ لَهُمْ. { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} ".

الإذن للشافعين، والرضى عن المشفوع لهم، كما دلت على ذلك الأدلة، وأمل التجويز بالنسبة للضمائر الموجودة في هذه الآية، فهو محكوم بأدلة أخرى.

"{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُلِّيَ عَنْ قُلُوبِهِمُ الْفَزَعُ. وقال  قُطْرُبٌ: أُخْرِجَ مَا فِيهَا مِنَ الْخَوْفِ .وقال مُجَاهِدٌ: كُشِفَ عَنْ قُلُوبِهِمُ الْغِطَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَكُونُ مِنْ أَحَدِ هَؤُلَاءِ الْمَعْبُودِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَصْنَامِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْذَنُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ فِي الشَّفَاعَةِ وَهُمْ عَلَى غَايَةِ الْفَزَعِ مِنَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ: { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]  وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا أُذِنَ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ وَوَرَدَ عَلَيْهِمْ كَلَامُ اللَّهِ فَزِعُوا؛ لِمَا يَقْتَرِنُ بِتِلْكَ الْحَالِ مِنَ الْأَمْرِ الْهَائِلِ وَالْخَوْفِ أَنْ يَقَعَ فِي تَنْفِيذِ مَا أُذِنَ لَهُمْ فِيهِ تَقْصِيرٌ، فَإِذَا سُرِّيَ عَنْهُمْ قَالُوا لِلْمَلَائِكَةِ فَوْقَهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ يُورِدُونَ عَلَيْهِمُ الْوَحْيَ بِالْإِذْنِ: { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} أَيْ مَاذَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؟ فَيَقُولُونَ لَهُمْ: {قَالُوا الْحَقَّ} وَهُوَ أَنَّهُ أَذِنَ لَكُمْ فِي الشَّفَاعَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ. {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} فَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِي عِبَادِهِ بِمَا يُرِيدُ. ثم يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِذْنًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي شَفَاعَةِ أَقْوَامٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. فَفَزِعَ لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِذْنِ تَهَيُّبًا لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى إِذَا ذَهَبَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ أَجَابَ بِالِانْقِيَادِ".

لا شك أن الشفاعة في الآخرة، الشفاعة إنما تكون في الآخرة عند الله -جل وعلا- أما بالنسبة للشفاعة بين المخلوقين أنفسهم فهي في الدنيا.

"وَقِيلَ: هَذَا الْفَزَعُ يَكُونُ الْيَوْمَ لِلْمَلَائِكَةِ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَأْمُرُ بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى، أَيْ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمُ الْيَوْمَ فَزِعُونَ، مُطِيعُونَ لِلَّهِ تَعَالَى دُونَ الْجَمَادَاتِ وَالشَّيَاطِينِ. وَفِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا قَضَى اللَّهُ فِي السَّمَاءِ أَمْرًا ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهَا سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ قَالَ: وَالشَّيَاطِينُ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ». قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".

نعم، بعضهم فوق بعض ليسترقوا السمع، من أجل استراق السمع، فمنهم من يخطف الكلمة قبل أن يدركه الشهاب، ومنهم من يُحرق قبل ذلك.

 "وَقَالَ النَّوَّاسُ بْنُ سَمْعَانَ :قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوحِيَ بِالْأَمْرِ تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ أَخَذَتِ السَّمَاوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ أَوْ رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ ذَلِكَ صَعِقُوا وَخَرُّوا لِلَّهِ تَعَالَى سُجَّدًا فَيَكُونُ أَوَّلُ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَقُولُ لَهُ مِنْ وَحْيِهِ مَا أَرَادَ ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِيلُ بِالْمَلَائِكَةِ كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ سَأَلَهُ مَلَائِكَتُهَا: مَاذَا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيلُ؟  فَيَقُولُ  جِبْرِيلُ  قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، قَالَ: فَيَقُولُ كُلُّهُمْ كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ، فَيَنْتَهِي جِبْرِيلُ  بِالْوَحْيِ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى».  وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} قَالَ: كَانَ لِكُلِّ قَبِيلٍ مِنَ الْجِنِّ مَقْعَدٌ مِنَ السَّمَاءِ يَسْتَمِعُونَ مِنْهُ الْوَحْيَ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ الْوَحْيُ سُمِعَ لَهُ صَوْتٌ كَإِمْرَارِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ، فَلَا يَنْزِلُ عَلَى أَهْلِ سَمَاءٍ إِلَّا صَعِقُوا، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَكُونُ الْعَامُ كَذَا وَيَكُونُ كَذَا فَتَسْمَعُهُ الْجِنُّ فَيُخْبِرُونَ بِهِ الْكَهَنَةَ، وَالْكَهَنَةُ النَّاسَ يَقُولُونَ يَكُونُ الْعَامُ كَذَا وَكَذَا فَيَجِدُونَهُ كَذَلِكَ".

الذين يدعون الغيب.

طالب:.......

فيخبرون الكهنة، فيخبرون به الكهنة، الجن يخبرون به الكهنة، والكهنةُ الناسَ، يعني والكهنة يخبرون الناسُ، معطوف على، الجن يخبرون به الكهنة، والكهنة الناس يعني يخبرون به الناس.

طالب:........

 الكهنة من الإنس، لكن لهم ارتباط  بالشياطين.

" فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دُحِرُوا بِالشُّهُبِ فَقَالَتِ الْعَرَبُ حِينَ لَمْ تُخْبِرْهُمُ الْجِنُّ بِذَلِكَ: هَلَكَ مَنْ فِي السَّمَاءِ، فَجَعَلَ صَاحِبُ الْإِبِلِ يَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ بَعِيرًا، وَصَاحِبُ الْبَقَرِ يَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ بَقَرَةً، وَصَاحِبُ الْغَنَمِ يَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ شَاةً، حَتَّى أَسْرَعُوا فِي أَمْوَالِهِمْ فَقَالَتْ ثَقِيفُ وَكَانَتْ أَعْقَلَ الْعَرَبِ: أَيُّهَا النَّاسُ! أَمْسِكُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَمُتْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِانْتِثَارٍ، أَلَسْتُمْ تَرَوْنَ مَعَالِمَكُمْ مِنَ النُّجُومِ كَمَا هِيَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ! قَالَ: فَقَالَ إِبْلِيسُ: لَقَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ الْيَوْمَ حَدَثٌ، فَأْتُونِي مِنْ تُرْبَةِ كُلِّ أَرْضٍ فَأَتَوْهُ بِهَا، فَجَعَلَ يَشُمُّهَا فَلَمَّا شَمَّ تُرْبَةَ مَكَّةَ قَالَ مِنْ هَاهُنَا جَاءَ الْحَدَثُ، فَنَصَتُوا، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ بُعِثَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا مُخْتَصَرًا فِي سُورَةِ (الْحِجْرِ). وَمَعْنَى الْقَوْلِ أَيْضًا فِي رَمْيِهِمْ بِالشُّهُبِ وَإِحْرَاقِهِمْ بِهَا".

مضى؟

نعم.

ولو قدرت أن العطف على نية تكرار العامل، فإن قلت: وقد مضى هذا المعنى مرفوعًا مختصرًا في سورة الحجر، ومضى معنى القول أيضًا في رميهم بالشهب.

"وَمضى الْقَوْلِ أَيْضًا فِي رَمْيِهِمْ بِالشُّهُبِ وَإِحْرَاقِهِمْ بِهَا وَيَأْتِي فِي سُورَةِ (الْجِنِّ) بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِنَّمَا يُفَزَّعُونَ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَكَعْبُ: كَانَ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- فَتْرَةُ خَمْسِمِائَةٍ وَخَمْسُونَ سَنَةً لَا يَجِيءُ فِيهَا الرُّسُلُ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ بِالرِّسَالَةِ، فَلَمَّا سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ الْكَلَامَ ظَنُّوا أَنَّهَا السَّاعَةُ قَدْ قَامَتْ، فَصَعِقُوا مِمَّا سَمِعُوا، فَلَمَّا انْحَدَرَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- جَعَلَ يَمُرُّ بِكُلِ سَمَاءٍ فَيَكْشِفُ عَنْهُمْ فَيَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَلَمْ يَدْرُوا مَا قَالَ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: قَالَ {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، وَذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عِنْدَ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُعَقِّبَاتِ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ، يُرْسِلُهُمُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِذَا انْحَدَرُوا سُمِعَ لَهُمْ صَوْتٌ شَدِيدٌ، فَيَحْسَبُ الَّذِينَ هُمْ أَسْفَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ، فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا وَيَصْعَقُونَ، حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ.

 وَهَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِخْبَارٌ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ اصْطِفَائِهِمْ وَرِفْعَتِهِمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَشْفَعُوا لِأَحَدٍ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُمْ، فَإِذَا أُذِنَ لَهُمْ وَسَمِعُوا صَعِقُوا، وَكَانَ هَذِهِ حَالَهُمْ، فَكَيْفَ تَشْفَعُ الْأَصْنَامُ؟ أَوْ كَيْفَ تُؤَمِّلُونَ أَنْتُمُ الشَّفَاعَةَ، وَلَا تَعْتَرِفُونَ بِالْقِيَامَةِ؟ وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٌ: حَتَّى إِذَا كُشِفَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَوْتِ، إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فِي الدُّنْيَا {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، فَأَقَرُّوا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِقْرَارُ، أَيْ قَالُوا: قَالَ الْحَقَّ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ { فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}  وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: { فَزَّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}  مُسَمَّى الْفَاعِلِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَنْ بَنَاهُ لِلْمَفْعُولِ فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْفِعْلُ فِي الْمَعْنَى لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَالْمَعْنَى فِي الْقِرَاءَتَيْنِ: أُزِيلَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَمِثْلُهُ: أَشْكَاهُ، إِذَا أَزَالَ عَنْهُ مَا يَشْكُوهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: فُزع".

«شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حر الرمضاء فلم يشكنا»، فلم يشكنا أي لم يُزل هذه الشكوى -عليه الصلاة والسلام-.

 "وَقَرَأَ الْحَسَنُ: (فُزِعَ) مِثْلَ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الزَّايَ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْضًا، وَهُوَ كَقَوْلِكَ: انْصَرَفَ عَنْ كَذَا إِلَى كَذَا. وَكَذَا مَعْنَى (فُرِغَ) بِالرَّاءِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالتَّخْفِيفِ، غَيْرَ مُسَمَّى الْفَاعِلِ، رُوِيَتْ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا وَقَتَادَةَ. وَعَنْهُمَا أَيْضًا (فَرَغَ) بِالرَّاءِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مُسَمَّى الْفَاعِلِ، وَالْمَعْنَى: فَرَغَ اللَّهُ تَعَالَى قُلُوبَهُمْ أَيْ كَشَفَ عَنْهَا، أَيْ فَرَغَهَا مِنَ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ، وَإِلَى ذَلِكَ يَرْجِعُ الْبِنَاءُ لِلْمَفْعُولِ، عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا (فَرَّغَ) بِالتَّشْدِيدِ.

اللهم صلِّ على محمد، وعلى آله وسلم.

فيه درس الجمعة إن شاء الله.

طالب: معنى القرأة؟

يعني أكثر القراء.