كتاب الغصب والشفعة من المحرر في الحديث - 05

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "وعن أنس -رضي الله عنه- قال: مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتمرة وفي الطريق قال: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها»هذا شُرح في الدرس الماضي، وهو مما يستدل به أهل العلم على أن الشيء اليسير الذي لا تلتفت إليه همة أوساط الناس أنه يؤخذ ويُملَك بغير تعريف من غير تعريف؛ لأن المانع للنبي -عليه الصلاة والسلام- من أكلها خشية أن تكون من الصدقة لا لكونها لقطة، خشية أن تكون من الصدقة، والصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد.

 قد يقول قائل: لو أن رجلاً غنيًّا لا تحل له الزكاة وجد مثل هذه التمرة في الطريق فهو ممنوع من أخذ الزكاة، لا يجوز له أن يأخذ الزكاة، كما أن الزكاة والصدقة عمومًا لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، فكذلك الزكاة لا تحل للأغنياء، إنما تؤخذ من الأغنياء، وتُرَد في الفقراء، فإذا وجد رجلٌ من الأغنياء تمرة، ألا يخشى أن تكون من الزكاة من تمر الزكاة؟ فهل يتركها أم يأكلها؟ العلماء يستدلون بهذا على أن الشيء اليسير الذي لا تلتفت إليه همة أوساط الناس فإنه يؤخَذ ويُتَمَلَّك ويُؤكَل من غير تعريف؛ لأن المانع من أكل هذه التمرة منه -عليه الصلاة والسلام- خشية أن تكون من الصدقة، طيب الغني يخشى أيضًا أن تكون من الزكاة، وهي لا تحل له، فهل يتركها أم يأخذها؟

 هذه أمور تعارَف الناس على التسامح فيها، تعارَف الناس على التسامح فيها، ولا شك أن تركها في الطريق يعرضها للامتهان وإهانة النعمة، والمطلوب حفظها وصيانتها وإكرامها، ومثل هذا أمره يسير، ويتسامح فيه، فإذا أخذه المسلم إما محتاجًا إليه فهذا لا إشكال وإن كان غير محتاج إليها وأخذها صيانة لها وحفظًا لها من الإهانة، ويوجد أحد يدوسها فله ذلك، ومثل هذا لا يلتفت إليه الناس، ولا يتشاحّون فيه.

 "متفق عليه، واللفظ للبخاري".

 قال -رحمه الله-: "وعن سنين أبي جميلة، وعن سنين أبي جميلة أنه وجد منبوذًا" يعني لقيطًا رُمِيَ في مكان، فوجده سُنَيْن أبو جميلة وكثيرًا ما يوضع هؤلاء في المساجد، في المساجد يأتي من أراد نبذه ووضعه في وقت غير وقت صلاة ويتحسس ويشوف إذا ما رأى أحدًا وضعه وهرب، وذكرنا في الدرس الماضي أن اللقيط في الغالب، بل هو الأصل أنه إذا كان ولد زنى ولد زنى، سنين أبو جميلة وجد هذا الطفل المنبوذ.

 "في زمان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، في زمان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، قال: فجئت به إلى عمر فقال عمر -رضي الله عنه-: ما حملك على أخذ هذه النَّسْمة؟" ما حملك على أخذها؟ "فقال: وجدتها ضائعة"، هل عمر ظن به أنه أخذه من بين أهله وذويه؟ في صحيح البخاري بابٌ إذا زكى رجلٌ رجلاً كفاه، بابٌ إذا زكى رجلٌ رجلاً كفاه، يعني يكفي في التزكية واحد.

وصُحِّح اكتفاؤهم بالواحد

 

 

 

 

جرحًا وتعديلاً خلاف الشاهد

 

 

وصُحِّح اكتفاؤهم بالواحد

 

 

 

جرحًا وتعديلاً خلاف الشاهد

 

 

قال: وقال سنين أبو جميلة: وجدت طفلاً منبوذًا، يعني في صحيح البخاري، لكنه معلَّق، فجئتُ به إلى عمر فقال عمر -رضي الله عنه-: عسى الغوير أبؤسًا، عسى الغُوَيْر أبؤسًا، قال سنين: كأنه يتهمني، كأنه يتهمني، كأنه يتهمني، هل يفهم من قوله: عسى الغوير أبؤسًا اتهام؟

طالب: .........

ما معناه؟

طالب: ..........

أنت ما تعرف معناه؟ ما أخذته في شروح الألفية؟

طالب: ..........

ما معناه؟

من يعرف معناه؟

أولاً: يقدِّرون في الجملة عسى الغوير أن يكون أبؤسًا، والغُوَيْر تصغير غار، اختلفوا في أول من قال هذا؛ فمنهم من يقول: إن أول من قالها الزَّبَّاء في القصة المشهورة حينما حصلت الحيلة وحُمل الرجال على الجمال ومعهم ما يخفيهم، فخشيت على نفسها، وظنت بهم واتهمتهم فقالت: عسى الغوير أبؤسًا يعني الغار في الغالب أنه يخفي من فيه، وما معهم من شجر أو نحوه يستظلون به يخفيهم، فهي اتهمتهم، ووقع ما خافته، وقع ما خافته، فهي جملة تقال للاتهام، ولذلك قال سنين: كأنه يتهمني.

 "فقال: ما حملك على أخذ هذه النسْمة؟ قال: وجدتها ضائعة" وجه الاتهام إما أن يكون أخذه من بين أهله وذويه خلسة وخفية فعمر بن الخطاب يقول: هو لك، يعني عبد رقيق أو غير ذلك من وجوه الظنون والاتهام.

 "فقال: وجدتها ضائعة" يعني مرمية فأخذتها، "فقال له عريفه، فقال له عريفه" يعني المسؤول عن القبيلة، وهو لفظ واصطلاح معروف إلى الآن، العرفاء معروفون، وعملهم قريب من عمل العمدة يعرِّفون بالناس.

 "قال له عريفه: يا أمير المؤمنين، إنه رجل صالح" يعني بعيد عن الظن والتهمة هذا ما يُتَّهَم رجل صالح، "فقال له عمر: كذلك" مادام رجلًا صالحًا كذلك.

 "قال: نعم" نعم رجل صالح فعريفه زكاه، وهو واحد، ولم يطلب عمر -رضي الله عنه- رجلاً آخر يزكيه، ولذلك في التزكية في التوثيق ومثله التجريح يكتفى بواحد.

وصحح اكتفاؤهم بالواحد

 

 

 

 

جرحًا وتعديلاً خلاف الشاهد

 

 

الشاهد لا بد من تزكية اثنين، "قال: نعم، قال عمر -رضي الله عنه-: اذهب فهو حر"، الولد حر، ولد الزنى ليس بعبد حر، وإن لم يُعرَف أبوه، وإن لم يكن له أب شرعًا فالولد للفراش، وللعاهر الذي هو الزاني الحجر، فإذا حصلت الجريمة، وحصلت هذه الفاحشة، ونتج عنها حمل فالأصل أن الولد لزوج هذه المرأة ما لم ينفيه بلعان، فإذا نفاه بلعان سقط الحد عن المرأة باللعان، وانتفى الولد، وصار ينسب إلى أمه.

 "قال: نعم، فقال عمر: اذهب فهو حر"، فالالتقاط لا يخوِّل للملتقط تملُّك الملتقَط، "ولك ولاؤه" لك ولاؤه إذا لم يوجد من يرثه فأنت ترثه على خلاف بين أهل العلم في الولاء في غير الرِّق كمن أسلم على يديه أو أنقذه من هلكة كما هنا قال: "ولك ولاؤه، وعلينا نفقته"، نفقته من بيت المال كما هو الحال في دور الرعاية التي يُجمَع فيها أمثال هؤلاء، وجاءت النصوص في الترغيب في كفالة الأيتام، في كفالة الأيتام، واليتيم من مات أبوه قبل بلوغ الحلم قبل الاحتلام، وهذا في حكمه أو أشد منه مثل هذا قد يكون وضعه أشد من وضع اليتيم؛ لأن اليتيم قد يكون له إخوان، وله أعمام، أما هذا فليس له إخوان، وليس له أعمام، ولا يعرف له أخوال، فالعناية به والاهتمام بشأنه أشد، لكن كما قال عمر: وعلينا نفقته يعني من بيت المال.

 "رواه الإمام مالك في الموطَّأ" ورواه أيضًا البخاري في صحيحه تعليقًا في الباب الذي ذكرناه علَّقه تعليقًا مجزومًا به قال: وقال سنين أبو جميلة كذا إلى آخره.

 قال- رحمه الله -: باب الوقف.

نعم.

"قال -رحمه الله-: باب الوقف:

 عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا مات الإنسان إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له»."

أو علمٍ أو ولدٍ كلها معطوفة على الأول كلها بدل من ثلاثة.

أحسن الله إليك.

"أو علمٍ ينتفع به أو ولدٍ صالح.."

ما عندك من بعده؟ «أو علمٍ ينتفع به من بعده» ما فيه؟ نعم، هذه موجودة في بعض النسخ دون بعض.

أحسن الله إليك.

"رواه مسلم.

 وعن ابن عون عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر فأتى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟

قال: «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها» قال: فتصدق بها عمر، أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا تورَّث، ولا توهَب، قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقًا غير متموِّل فيه.

 قال: فحدثت بهذا الحديث محمدًا فلما بلغت هذا المكان: غير متموِّل فيه، قال محمد: غير متأثل مالاً. قال ابن عون: وأنبأني من قرأ هذا الكتاب من قرأ هذا الكتابَ أن فيه غير متأثل مالاً، متفق عليه، واللفظ لمسلم.

 وللبخاري من رواية صخر بن جويرية عن نافع فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تصدق بأصله، لا يباع، ولا يوهَب، ولا يورَث، ولكن يُنفَق ثمره»، فتصدق به عمر.. الحديث، وذكر أن هذا المال كان نخلاً."

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "باب الوقف، باب الوقف" الوقف مصدر، مصدر وقَفَ يَقِف وقْفًا، والوَقْف هو تحبيس الأصل، تحبيس الأصل، فالأصل محبوس، أو مُحَبَّس، بمعنى أنه يُمنَع التصرف فيه، وتسبيل المنفعة، ويُطلَق على الوقف السبيل، فالأصل يُحَبَّس، ومنفعته تأخذ حكم الأصل باعتبار أنها لا ترجع إلى صاحبها، فهي صدقة خرجت من يده إذا أوقفها وقفًا منجَزًا، وفي حكمها في حكمه الوصية إذا لزمت بموت الموصِي؛ لأن الوقف يثبت بمجرد التوقيف في الحياة، والوصية لا تثبت إلا بالموت.

 والوقف لا يُعرَف قبل الإسلام، وجاء ما يدل على أن وقف عمر- رضي الله عنه- الآتي هو أول وقف في الإسلام، أول وقف في الإسلام، وكان الوقف لا يُعرَف على ما سيأتي.

 قال -رحمه الله-: "عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا مات الإنسان، إذا مات الإنسان»" كثير من طلاب العلم يحفظ هذا الحديث كما ذكر ابن حجر في البلوغ: «إذا مات ابن آدم»، ولفظه كما في صحيح مسلم: إذا مات الإنسان، ففيما جاء في كتاب المحرر أدق مما جاء في البلوغ.

 قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله» أي إنسان ينقطع عنه عمله، انتهى إلا ما كان الإنسان سببًا فيه فهو لا ينقطع سواء كان عمل خير أو عمل شر.

 «انقطع عمله إلا من ثلاثة، إلا من ثلاثةٍ» يعني ثلاثة أشياء، وفي رواية: «إلا من ثلاث» يعني ثلاث خصال، «إلا من ثلاثة؛ صدقة جارية» ثلاثةٍ المقتضي أن تكون الثلاثة ذكور مذكرة قال: «إلا من ثلاثة؛ صدقة جارية» في الرواية الأخرى: «إلا من ثلاث خصال» أوفق من ثلاثة؛ لأن البدل لاسيما الأول من الأبدال الثلاثة مؤنث، والثاني مذكر، والثالث مذكر، فيكون تذكير ثلاثة بناءً على الغالب، من أجل أن اثنين من الثلاثة مذكرة، وواحدًا مؤنث، وذُكِّر من أجل مراعاة الغالب.

 «صدقة جارية، صدقة جارية» بدل، والبدل له حكم المبدل من ثلاثةٍ مجرور، صدقة بدل يجوز أن يقال: صدقةٌ جارية، يعني هي تقدر مبتدأ، فيكون هي صدقة جارية، لكن الرواية جاءت على هذا، ولا شك أنه أولى، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا} [سورة النحل:76] إلى آخره على التقدير.

 «صدقة جارية»، وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة، يعني صدقة مستمرة تستمر، يعني دوامها وثباتها مضمون، وهذا أنفع ما يكون للمشاريع الخيرية الأوقاف؛ لأنها تضمن الاستمرار، أما التبرعات فتحل إشكالات آنية، لكن إذا انتهت فلا بد من جمع تبرعات أخرى، أما الأوقاف الثابتة المحبَّسة المسبَّلة فهذه لا شك أنها أضمن للاستمرار، وقد يطرأ عليها ما يعطل منافعها، ولا شيء مضمون في هذه الدنيا، لكن إذا تعطلت منافعه فالوقف يُنقل.

 «صدقة جارية» وقلنا: إن هذا هو الشاهد من الحديث للترجمة، ويراد بها الوقف.

 «أو علم ينتفع به من بعده» من بعده هذه موجودة في بعض النسخ دون بعض، ولو لم توجَد فالأمر سهل، يعني ما تؤثر، «علم ينتفع به»؛ لأنه قال: «إذا مات، إذا مات الإنسان»، فإذا مات الانتفاع بالعلم لا بد أن يكون من بعده، وهذا لا يعني أن الانتفاع بعلم العالم وقت حياته أنه لا ينتفع به، لكن الكلام والحديث كله بصدد الحديث أو الكلام فيما إذا مات الإنسان، أما مادام موجودًا فهو ينتفع بجهده وعمله وما تسبب فيه.

 «أو علم ينتفع به» بأن يعلم الناس الخير العلم الشرعي بهذا القيد أن يكون مما ينتفع به، وقد يقول قائل: إن ينتفع به أعم من أن يكون علمًا شرعيًّا أو دنيويًّا؛ لأن الدنيوي ينتفع به، يعلم الناس الطب ينتفعون، يعلم الناس الهندسة ينتفعون، فهل يدخل في هذا الحديث، أو نقول: إن العلم الذي جاءت النصوص في فضله وبيان شرفه ومنزلة أهله هو العلم الموروث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- العلماء ورثة الأنبياء، فهل المهندس والطبيب وارث من ميراث النبوة؟ لا، ولا شك أن هذه العلوم وغيرها مما تحتاجه الأمة من فروض الكفايات، من فروض الكفايات، وإذا نوى بها المتعلم نية صالحة فإنه يؤجَر عليها، لكن المراد بالعلم الذي جاءت النصوص الحث عليه هو العلم الموروث عن النبي -عليه الصلاة والسلام- علم ينتفع به هذا يستمر.

 طيب شخص علَّم الناس علمًا دنيويًّا، واستمروا ينتفعون به في زراعة، في صناعة، وما أخذ على ذلك أجرًا ونوى به نية صالحة يكون انتفاعه بقدر ما في نيته، بقدر ما نواه، علم ينتفع به، فإذا علَّم الناس الخير وهداهم إليه ودلهم عليه كان له مثل أجورهم، ويستمر أجره باستمرار أثر هذا التعليم في الناس، فهو علَّم جيلًا، وهذا الجيل من طلابه علموا جيلاً آخر، لهم مثل أجورهم «من دل على هدى فله مثل أجر فاعله»، وهذه الأجور لا يعلم قدرها إلا الله -جل وعلا- بحسب انتشار هذا الخير الذي سعى فيه، أو ألف كتبًا ينتفع بها الناس، ألف كتًاب ينتفع بها الناس، واستمرت، ونحن نرى المؤلفات من القرن الثاني إلى يومنا هذا، وهي موجودة، فعلى مدى اثني عشر قرنًا أو أكثر تمشي أجور المؤلفين.

 الذين ألفوا هذه الكتب النافعة في العقائد في الأحكام في التفسير، في الحديث، جميع الفنون التي ينتفع بها الناس إذا ألَّف فيها استمر الانتفاع بها إلى أن يعتريها ما يعتريها مما يسبب الانقطاع، وكل شيء بقدرة الله وإرادته، وما كان لله بقي، يعني بعض الكتب، شخص يؤلَّف كتابًا ما يُكتَب له قبول، ولا ينتشر في الناس، وقد يتعرض لآفة؛ أرضة تأكله، أو نار، أو سيل يغرقه، أو ما أشبه ذلك، ينتهي الانتفاع به، لكن لا يحرَم النية الصالحة أثناء تأليفه من أجل أن يستمر عمله، وأحيانًا يُكتَب القبول لكتاب، وليس هو الغاية في بابه، وما هو أمثل منه وأنفع يكون رواجه في الناس أقل، والانتفاع به أقل.

 التلخيص الحبير لابن حجر مأخوذ من البدر المنير لابن الملقِّن، مختصر منه اختصارًا شديدًا، يعني في أقل من ربع حجمه، وطُبِع المختصر قبل الأصل بأكثر من مائة سنة، وانتفع الناس به وتداولوه وطبع مرارًا، ولايزال الأصل محبوسًا إلى أن نشر قريبًا، وبينهما بون شاسع في الفائدة، الأصل لا شك أنه أنفس وأنفع، لكن الله -جل وعلا- هو الذي يكتب الرواج والكساد، كتب كثيرة جدًّا يروج ذكرها في الكتب وعلى ألسنة أهل العلم، وأصولها موجودة، ومع ذلك الانتفاع بالفروع أكثر من الانتفاع بالأصول؛ لأن الله -جل وعلا- قدَّر وكتب لهذا الشخص أن يعظم الانتفاع بكتابه، وأما الآخر فلا يُحرَم الأجر بقدر ما ينتفع من هذا الكتاب، فالله -جل وعلا- لا يُسأل عما يفعل.

 نقرأ في الشروح، شروح الحديث، يُكثِرون من قولهم: قال صاحب المطالع، وحكى صاحب المطالع، بكثرة، وأصله المشارق، مشارق الأنوار للقاضي عياض، مع أن المشارق مطبوع من مائة سنة، وذاك ما طبع إلا من سنة المطالع، والانتفاع بالفرع أكثر من الانتفاع بالأصل، هذه أسرار الله -جل وعلا-، هو الذي يقدرها، وتسير بإرادته وحكمته -جل وعلا-، والأمثلة على ذلك كثيرة.

 علم ينتفع به عرفنا أن المقصود بالعلم هو العلم الشرعي الذي جاء الحث عليه في نصوص الكتاب والسنة، وقد ينتفع بعلم من علوم الدنيا فيكون له من الأجر بقدر نيته في نفع الناس، لكن لا يدخل في هذا الحديث العلم الذي لا ينتفع به أو العلم الذي يضر، علم أدب مثلاً إذا كان من الأدب المباح العفيف هذا قد يقول قائل: إنه لا يُنتفع به إلا إذا قرأه طالب العلم من باب راحة الذهن والاستجمام؛ ليستقوي وينشط به على طلب العلم الشرعي المتين فهذا يكون مثل النوم، ومثل الأكل، يستعين به على طاعة، وغير ذلك من المؤلفات، أما العلوم الضارّة ككتب السحر وكتب التنجيم وغيرها فلا شك أن هذه تجري أوزار من عمل بها، ويُكتَب لمؤلفيها مثل أوزار من تأثَّر بها، وكذلك كتب البدع، كتب الشرك، كتب الضلال، كلها، قلنا: إن كتب العلم النافعة هذه ينتفع بها مؤلفوها بعد موتهم، وتلك الكتب يتضرر بها مؤلفوها؛ «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة»، وبالمقابل «من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

 هناك كتب ضلال أُلِّفَت من أكثر من ألف سنة، أو أكثر من ألف ومائتين سنة في القِدَم، ومع ذلك تقرأ وتقرَّر ويستفيد منها الأشرار، يتأثرون بها ويقررونها، ويلزمون الناس بها، نسأل الله السلامة والعافية، وكما قال الله -جل وعلا-: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [سورة الليل:4]، هذا تجري له الأجور إلى قيام الساعة، وهذا تضاعف عليه الأوزار إلى قيام الساعة، والتوفيق بيد الله -جل وعلا-.

 العلماء لهم أو عندهم مكتبات، كل عالم أو طالب علم عنده مكتبة ليست من تأليفه، وإنما هي من اقتنائه، انتفع بها في حياته فأوقفها بعد وفاته، فضل الله واسع، أجور المؤلفين ثابتة، وأجور من أعان عليها ويسرها لطلاب العلم أيضًا ثابتة والله -جل وعلا- يدخل في السهم الواحد ثلاثة، لكن يحذر كل الحذر أن يورِّث كتابًا فيه ضرر، يورث كتبًا نافعة، لا يورث كتبًا ضارة وييسر العمل بها لمن يقرأ فيها من ورثته ومن غيرهم ممن يطلع على هذه الكتب، قد يحتاج العالم أو طالب العلم إلى كتب فيها شيء من المخالفات، مثل هذه الكتب ينبِّه عليها، هذا كتاب فيه أخطاء عقدية، وهذا كتاب فيه كذا، وهذا كتاب فيه إلى آخره.

 أحسن شيء يضع ختمًا: هذا كتاب على مذهب الأشاعرة، هذا كتاب على مذهب المعتزلة، هذا كتاب على مذهب الشيعة، هذا على مذهب الإباضية، هذا.. كذا إذا ختم عليه.

 وقْف الكتب من أنفع الأمور؛ لأنه ينتفع بها في أشرف الأمور، وهو العلم الشرعي، والوقف كما هو معلوم لا يجوز بيعه، ونحن نرى في الأسواق كتبًا وقفية وكتبًا مملوكة لمكتبات عامة وتباع في الأسواق، وهذه لا يجوز تداولها، لا بيعها ولا شراؤها؛ لأن الوقف لا يجوز بيعه، الحنفية يسهِّلون في مثل هذا، ويجوِّزون البيع، لكن ما فيه أحد يجوز سرقة الكتب من أصحابها، أو من الأفراد، أو من المكتبات العامة، ثم تباع، إما أن تبقى أختامها أو تمسح، كل هذا لا يجوز بحال. بعض الأوقاف وقفت على جهات من الكتب، جهات ليست على الجادّة، كتاب نفيس ينتفع به أوقف على ضريح، أو أوقف على زاوية صوفية، فهل الوقف صحيح، وينقل إلى مكان ينتفع به انتفاعًا شرعيًّا، أو نقول: إن الوقف باطل من أصله فيباع؟ لأن الوقف على مثل هذه الجهات حرام، تقف مصحفًا أو صحيح البخاري، وهذا كثير على الضريح الفلاني، أو تقف مصحف أو أحد الصحيحين أو غيرهما من كتب السنة على زاوية تيجانية، أو على زاوية رفاعية، أو على زاوية أو غيرها من الزوايا الشاذلية.

 يأتينا من المشرق والمغرب كتب موقوفة على هذا، والإنسان يتردد في شرائها؛ لأن الاحتمال في الحكم متردد بين أمرين: إما أن يبطل الوقف أصلاً، وإذا أبطل الوقف جاز البيع، أو يقال: إن نية الموقِف إخراج الكتاب من يده يقصد بذلك الخير، لكنه ما وُفِّق، فيصرف إلى مكان ينتفع به على الوجه الشرعي كتعديل الوصيلة، كتعديل الجنف في الوصية، وكأن هذا أقرب، كأن هذا أقرب، إن شاء الله تعالى.

طالب: ...........

نعم، عندهم شيء يسمونه تجديدًا، تأتي كتب لكن معها وثائق تدل على ذلك، معها بيان أن هذه الكتب استغنت عنها المكتبة بحضور اللجنة المشكَّلة فلان وفلان وفلان وتواقيع أن هذه الكتب قديمة، ولا تصلح لاستعمال الشباب، كتب قديمة، ويؤمَّن مكانها كتب أخرى، فمثل هذه الحالة لا بأس؛ لأنها شبه متعطلة المنافع؛ لأن الآن الشباب كثير منهم لا يعرف كيف يتعامل مع الكتب من الكتب القديمة والمخطوطات، يصعب عليهم التعامل، فييسر لهم من الكتب من المطبوعات الجديدة التي يعرفون كيف يقرؤونها، وتتحمل استعمالهم، مثل هذا أمره سهل.

 «أو ولد صالح يدعو له، أو ولد صالح يدعو له» بهذا القيد؛ لأن غير الصالح مظنة ألا يستجاب دعاؤه، والولد الصالح هو الذي يغلب على الظن أن دعوته مجابة، وهذا يؤكِّد على الآباء الاهتمام بتنشئة أولادهم على الصلاح؛ لأنه إذا لم يوجَد هذا الوصف ما وجد هذا الوعد؛ لأن الوعد مرتَّب على وصف، وهو الصلاح، فإذا كان الولد غير صالح ما استحق الأب هذا الوعد، وهو استمرار العمل، وفي قوله -جل وعلا-: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [سورة الإسراء:24]، العلة معتبَرة، فإذا ما ربياه على الصلاح والخير والاستقامة في حال الصِّغَر فإنه لا يستحق هذه الدعوة؛ لأن الحكم يتبع علته وجودًا وعدمًا.

 «أو ولد صالح يدعو له».

 هذه الأمور الثلاثة جاء في نصوص أخرى زيادة عليها، حتى وصلت إلى عشر خصال، إلى عشر خصال؛ أخرج ابن ماجه بسند حسنه بعض أهل العلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله، إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علمًا نشره، علمًا نشره، وولدًا صالحًا تركه، أو مصحفا ورَّثَه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موتها»، وورد خصال أخرى تبلغ بها أو يبلغ المجموع عشرة نظمها السيوطي بقوله:

إذا مات ابن آدم ليس يجري

 

 

 

 

عليه من فعال غير عشر

 

 

إذا مات ابن آدم ليس يجري

 

 

 

عليه من فعال غير عشر

 

 

علوم بثها ودعاء نجل

 

 

 

......................

 

 

علوم بها ودعاء نجل

 

 

 

.......................

 

 

علم ينتفع به دعاء النجل؛ أو ولد صالح يدعو له.

........................

 

 

 

 

وغرس النخل والصدقات تجري

 

 

وراثة مصحف ورباط ثغر

 

 

 

وحفر البئر أو إجراء نهر

 

 

وبيت للغريب بناه يأوي

 

 

 

إليه أو بناء محل ذكر

 

 

يعني المسجد فهذه عشر خصال.

 "رواه مسلم".

 قال -رحمه الله-: "وعن ابن عون عن نافع عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر، أصاب عمر أرضًا بخيبر. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر أصاب عمر" يعني أباه، فسمَّاه باسمه، ما قال: أصاب أبي، قال: أصاب عمر، ذكر العلماء أنه يجوز، وإن كان خلاف الأصل، خلاف الأدب، من تمام الأدب أن يقول: أبي، كما قال إبراهيم -عليه السلام- لأبيه، وإن كان مشركًا: يا أبتِ، أو أقل الأحوال يكنيه، مع أن التكنية لا تشعر بالرابط ،لا تشعر بالرابط بينهما، كثير من الناس ينادي عمه يا أبا فلان، كأنه واحد من الناس بعيد عنه، لا يربطه به رابط، لكن لو قال: يا عمي أو يا خالي أو يا أخي اشتمل هذا النداء بالرابط الذي يربطه به، فالأولى أن تذكر القرابة، وخديجة قالت لورقة بن نوفل: اسمع من ابن أخيك، اسمع من ابن أخيك، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام- لعمه أبي طالب: «يا عم، قل لا إله إلا الله»، ولا شك أن هذا أولى لكن.

 "أصاب عمر أرضًا بخيبر" قالوا: يجوز أن يذكره باسمه من غير كنية ولا لقب، إذا لم يتضمن ذلك التنقص أو عدم الاعتراف بحقه، ولا يُظَن بابن عمر أنه يتنقص أباه، أو لا يحترم أباه، هذا لا يُظَن به.

 على كل حال الأولى أن يقول: يا أبتِ أو أصاب أبي.

أصاب عمر أرضًا بخيبر، خيبر معروفة شمال المدينة، على كم مرحلة؟

طالب: ..........

أربع مراحل من المدينة، وهي قائمة إلى الآن، فتحها النبي -عليه الصلاة والسلام- سنة سبع من الهجرة.

 "أصاب أرضًا بخيبر"، وعند البخاري في رواية: بثمغ، ثمغ بالثاء المثلثة والميم والغين، فإما أن يكون هذا اسمها، وهي في خيبر أو يقال: إنها غيرها، لكن الذي يغلب على الظن أنها واحدة، وإما أن تكون من نصيبه حينما قسم النبي -عليه الصلاة والسلام- خيبر، أو تكون اشتراها مائة سهم في خيبر اشتراها بمائة رأس من الغنم، كما جاء في بعض الروايات.

 "أصاب عمر أرضًا بخيبر فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأمره فيها" يستأمره السين والتاء للطلب، إذًا يطلب أمره فيها -عليه الصلاة والسلام-، والاستشارة شرعية ومرغَّب فيها، لكن مَن يستشير؟ يستشير أهل العلم، في المسائل الشرعية يستشير أهل العلم، وفي أمور الدنيا يستشير أهل الحكمة والعقل والرأي السديد، عمر استشار النبي -عليه الصلاة والسلام-، يستأمره فيها، ماذا أصنع بها؟

"فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، إني أصبت أرضًا لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه" الضمير يعود إلى الأرض، والأرض مؤنثة أم مذكرة؟ مؤنثة، هو أنفس عندي منها هذا الأصل، لكن الضمير يعود على الأرض باعتبارها مالًا، ولذلك قال: "لم.. أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟" يطلب أمر النبي -عليه الصلاة والسلام-، وجهني يا رسول الله كيف أصنع؟ "قال: «إن شئت حبَسْت»وفي بعض الروايات: «حبَّسْت أصلها، وتصدقت بها»، يعني تحبِّس الأصل بمعنى أنه لا يباع ولا يوهَب ولا يورَث إلى غير ذلك مما سيأتي ذكره، «وتصدقت بها» يعني بغلتها ونتاجها.

 "قال: فتصدق بها عمر" تصدق بها عمر هذه كناية، وليست صريحة في التوقيف، لكن الجمل اللاحقة تبين أن هذه الكناية يراد بها الوقف، وليست الصدقة العادية التي تنقطع. "فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يورَث، ولا يوهَب" الكلام هل هو من قول عمر أو من أمره -عليه الصلاة والسلام-؟ "تصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها، أنه لا يباع أصلها"، يعني الظاهر أنه من كلام عمر -رضي الله عنه-، لكن جاء في روايات صحيحة في البخاري وغيره أنه من كلام النبي -عليه الصلاة والسلام-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يورَث، ولا يوهَب»، هذه طبيعة الوقف أنه لا يباع، خلاص مادام ثبت وقفيته فإنه لا يجوز بيعه ولا شراؤه، ولا ينتقل إلى الورثة من المورِّث، ولا يوهَب، وهذه لازمة في كل وقف، ويقول بعض الحنفية: إن أبا حنيفة لو وقَف على هذه القيود من كلامه -عليه الصلاة والسلام- ما قال بجواز بيع الوقف.

 "قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى" يعني غلتها تصرف للفقراء، لاسيما ذوي القربى؛ لأن الصدقة على البعيد صدقة، وعلى القريب صدقة وصلة، فهي أفضل.

 "وفي القربى وفي الرقاب" تعتق منها الرقاب، "وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف" في القربى في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل، الصدقات المندوبة أمرها أوسع من الزكوات، فالزكوات مصارفها الثمانية معروفة، لا يجوز الزيادة عليها، لكن الصدقات المندوبة ومنها الأوقاف يجوز أن يوقِف على..