كتاب الطهارة من المحرر في الحديث - 26

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نعم.

بسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 قال الإمام ابن عبد الهادي -يرحمه الله تعالى- في كتابه المحرر: باب إزالة النجاسة، وذكر بعض الأعيان النجسة.

 عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الخمر تتخذ خلاًّ قال: «لا»، رواه مسلم.

 وعن عبد ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تنجسوا موتاكم، فإن المسلم ليس بنجس حيًّا ولا ميتًا»، رواه الترمذي والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه، وقال البخاري: وقال ابن عباس: المسلم لا ينجس حيًّا ولا ميتًا.

وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره، هكذا رواه البخاري، ورواه مسلم ولفظه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة وأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر فقال: احلقه فحلقه، وأعطاه أبا طلحة فقال: اقسمه بين الناس.

 وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم خيبر جاء فقال: يا رسول الله، أكلت الحمر ثم جاء فقال: يا رسول الله، أفنيت الحمر، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا طلحة، فنادى إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر، فإنها رجس أو نجس، قال: فأُكفئت القدور بما فيها، متفق عليه، ولفظه لمسلم.

 وفي الصحيح في حديث أبي سلمة أنهم أخبروه أنهم يوقدون على لحم الحمر الأنسية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أهريقوها واكسروها»، فقال رجل: يا رسول الله، أنهريقها ونغسلها؟ فقال: «أوذاك».

 وعن عمرو بن خارجة قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنى وهو على راحلته، وهي تقصع بجَرتها.."

بِجرتها بجِرتها.

"وهي تقصع بجِرتها ولعابها يسيل بين كتفي، الحديث، ورواه أحمد وابن ماجه والنسائي والترمذي وصححه.

 وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة»، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة قالوا: يا رسول الله، لمَ فعلت هذا؟ قال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا»، متفق عليه، ولفظه للبخاري، وقد روي بثلاثة ألفاظ يستتر ويستنزه ويستبرئ، فالأولان متفق عليهما، والأخير انفرد به البخاري.

 وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه، متفق عليه، واللفظ لمسلم. وفي رواية له عن عائشة -رضي الله عنها-: لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فركًا فيصلي فيه.

 وله أيضًا عنها: لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بظفري.

 وعن أبي السمح قال: كنت أخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتي بحسن أو حسين فبال على صدره -صلى الله عليه وسلم-، فجئت أغسله فقال: «يغسَل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام»، رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي والدارقطني والحاكم وصححه، وقال أبو زرعة الرازي: لا أعرف اسم أبي السمح هذا."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "باب إزالة النجاسة" باب إزالة النجاسة، النجاسة تقدم ذكرها، وأنها تنقسم إلى عينية وحكمية، فالعينية هي المصاحِبة للعين من الأصل بحيث لا يمكن انفكاكها عنها، فإذا قلنا: إن الكلب نجس نجاسة عينية، يعني أنه لا يمكن تطهيره ولو غسل بجميع مياه الدنيا؛ لأن نجاسته عينية، وهناك ما يسمى بالنجاسة الحكمية وهي النجاسة الطارئة على المحل الطاهر، ولا بد من إزالة النجاسة، ولا بد من هجر هذه النجاسة ومفارقتها، وإزالتها شرط من شروط صحة الصلاة، شرط من شروط صحة الصلاة، وهذه النجاسة التي يريد المؤلف الحديث عنها في هذا الباب هي النجاسة العينية؛ لأنه ذكر بعض الأعيان النجسة، ذكر بعض الأعيان النجسة، وإذا عطف في الترجمة قال: باب إزالة النجاسة، قال المحقق: ضبط المعطوف بالضم فقال: وذكْرُ بعض الأعيان النجسة، والمقرر والمرجح أنه بالجر؛ لأنه "باب إزالةِ النجاسة وذكْرِ بعض الأعيان النجسة"؛ لأن العطف على نية تكرار العامل والعامل مؤثر للجر الذي هو باب إزالة، باب مضاف، وإعرابه خبر مبتدأ محذوف كما تقدم مرارًا، أي هذا باب إزالة مضاف إليه، والنجاسة مضاف إليه أيضًا، مضاف للمضاف إليه.

 وذكر معطوف على إزالة بعض الأعيان النجسة، وقد تقطع باب عن الإضافة فيقال: بابٌ إزالةُ النجاسةِ وذكرُ بعض الأعيان النجسة، لكن لا بد من تقدير خبر بابٌ إزالةُ النجاسة لا بد أن نقول مثلاً: واجبة، ثم بعد ذلك وذكرُ بعض الأعيان النجسة، بعض الأعيان النجسة نجاسة عينية بحيث لا يمكن تطهيرها.

 ثم بدأ المؤلف- رحمه الله تعالى- بذكر الخمر وهو جارٍ على قول جماهير أهل العلم، ومنهم أرباب المذاهب الأربعة المتبوعة كلهم على أن الخمرة نجسة، ونجاستها عينية، بحيث لا يمكن تطهيرها، ذكروا عن بعض الأشياء الأصل أنها من مواد طاهرة، من عنب، أو تمر، أو ما أشبههما مع الماء بحيث يترك حتى يشتد ويقذف بالزبد فيتخمر، هو مركّب من أعيان طاهرة، لكنه لما تركّب وحصل منه هذه المادة التي هي الخمر.

 وسميت الخمر خمرًا؛ لأنها تخامر العقول وتغطيها، أصل أعيانها طاهرة، لكن لما تركبت صارت نجسة، ونجاستها عينية بحيث لا يمكن تطهيرها، بحيث لا يمكن تطهيرها، ولذا قال- رحمه الله-: "عن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الخمر تتخذ خلاًّ قال: «لا»، رواه مسلم".

 الخمر عند أهل العلم ما خامر العقل وغطاه من أي مادة كان، ما خامر العقل وغطاه من أي مادة كان، سواء كان من العنب أو من التمر أو من الزبيب أو من الشعير أو من العسل أو غير ذلك.

 المقصود أنه يخامر العقل ويغطيه مع نشوة مطربة لا مجرد تغطية العقل فقط؛ ليخرج مثل البنج، نعم البنج يغطي العقل، يغطي العقل، لكنه ليس معه نشوة، ولا طرب، فإذا كان هذا الخمر المتخذ من أي مادة كان وهذا قول الجمهور يغطي العقل ويخامره، ويحصل له مع ذلك للشارب مع ذلك نشوة وإطراب فإنه يسمى خمرًا، ويوجب الحد الذي هو الجلد ثمانين جلدة، هذا قول جمهور أهل العلم أن الخمر من أي مادة كان، والحنفية يقولون: لا يسمى خمرًا إلا إذا كان متخَذًا من العنب فقط، إلا إذا كان من العنب فقط.

 طيب إذا اتخذ من من التمر وخامر العقل وغطاه وأنشا وأطرب لا يسمى خمرًا؟ قالوا: لا يسمى خمرًا في حقيقته اللغوية، وإن كان مقيسًا على الخمر من العنب المتخذ من العنب في وجوب الحد في وجوب الحد فحده لا بالنص، وإنما بالقياس، لو رجعنا إلى كتب اللغة التي تخدم المذاهب الفقهية لوجدنا أن التعاريف تختلف عندهم تبعًا لتأثير هذه المذاهب، يعني تعريف الخمر عندهم، ففي المطلع مثلاً وهو يخدم المذهب الحنبلي كتاب غريب، كتاب لغة لكنه لغة الفقهاء، فهو يخدم المذهب الحنبلي، ويعرِّف هذه المادة تبعًا لما يعتنقه من مذهب فالمذهب مؤثِّر في مثل هذا.

وكذا لو نظرنا إلى المصباح المنير في مادة الخمر خمر لوجدناه يخدم المذهب الشافعي في تعميمه الخمر من أي مادة كان ولو رجعنا إلى المطَرِّزي لوجدناه يخدم المذهب الحنفي، فهو متأثر بهذا المذهب، وهكذا، وعلى هذا وهذه رددناها مرارًا على طالب العلم ألا يعتمد على هذه الكتب مقصرًا عليها؛ لأن بعض الناس بين يديه المصباح المنير باستمرار بين يديه المصباح المنير، ولا شك أنه كتاب مفيد ونافع والفائدة قريبة، والكلام على هذه المواد بشيء من التوسع أو معه تهذيب الأسماء واللغات للنووي أو غيرهما من الكتب، لكن هذه كتب تخدم مذاهب، فلا يؤخذ منها التعريف إلا في إطار هذا المذهب، إذًا ماذا يصنع طالب العلم هل يستفيد من هذه الكتب، أو لا يستفيد؟

 نقول: نعم، لكن لا يعتمد عليها، ويقتصر عليها، فليجمع ما كُتب في المذاهب كلها ليعرف مدى التأثُّر في هذه الكتب من هذه المذاهب، كذلك المذاهب العقدية فما كتبه اللغوي الذي عنده شوب بدعة لا شك أن هذه البدعة سوف تؤثر على مؤلفه؛ لأنه ما من كلمة  إلا ما ندر إلا وتجد فيها في لغة العرب أكثر من معنى، معاني كثيرة، لو رجعت إلى أي مادة من المواد ونظرت في الكتب الجوامع مثل لسان العرب التي جمعت مادة كبيرة من لغة العرب؛ لأنه يقال: فيه ثمانون ألف مادة، يذكر لك في شرح هذه المادة عشرة معاني مثلاً أو عشرين معنى أحيانًا، فتجد المتأثر بهذا المذهب ينتقي من هذه المذاهب من هذه المعاني ما يناسب مذهبه ويترك الباقي وإن كان راجحًا، سواء كان المذهب كعقديًّ أو فرعيًّا.

 فعلى طالب العلم الذي يطلب الحق وينشده ألا يقتصر على هذه الكتب، قد يقول قائل: الفائق للزمخشري مثلاً كتاب مفيد ونافع، لا بد أن يكون بين يدي طلاب العلم، لكنه مؤلفه تأثر بمذهب المعتزلة، ولا بد أن يتأثر الكتاب شاء مؤلفه أو أبى عن قصد أو عن غير قصد؛ لأنه تشبع بهذا المذهب، ولذا تجدون من تفقه على مذهب معين ولو بلغ مرتبة الاجتهاد، تجد النفس دائمًا يميل إلى هذا المذهب الذي تفقه فيه، فأقول: لا يعتمد طالب العلم على المصباح المنير بمفرده، ولا على المطلع بمفرده، ولا على المغرب، ولا على تهذيب الأسماء واللغات بمفرده، بل إما أن يجمع كتب المذاهب كلها الأربعة، وحينئذ إذا اتفقت على شيء، على معنى من المعاني نجد أنه هو المعتمد مثلاً، وإذا نظر في لسان العرب أو في غيره مع أن الذي ينصح به من كتب اللغة أن يطلع طالب العلم. فرق أن يقرأ في تهذيب الأزهري، وفي صحاح الجوهري الكتب المتقدمة، الكتب التي أدركوا شيئًا من صفاء العربية، لكن جاء ابن منظور وغيره مثلاً في تاج العروس جمعوا مواد كثيرة قد لا توجد عند صاحب الصحاح، ولا عند الأزهري في التهذيب، جمعوا هذه الكتب كلها في كتاب واحد مثل لسان العرب، طالب العلم عليه أن ينتقي من المعاني ما يناسب السياق.

 يعني جاءت لفظة في حديث، ونفس اللفظة جاءت في حديث آخر، ينتقي من المعاني التي ذكرها ابن منظور العشرين مثلاً ما يناسب هذا السياق، ولا يركب هذه الكلمة التي في هذا الحديث لحديث آخر، أو العكس، ولذا يشترطون فيمن يتصدى لشرح الحديث وبيان غريبه أن يكون جامعًا بين اللغة والحديث، ما يكفي أن يكون لغويًّا يشرح الحديث، ولا يكفي أن يكون محدثًا يشرح الحديث، لا بد أن يجمع بينهما، لماذا؟

لأن المحدث يعرف ما يناسب هذا السياق من الألفاظ، واللغوي هي مهنته وصنعته، لكن قد يغيب عنه أحاديث أخرى هي أنسب لهذه اللفظة من هذا المكان، فلا يتصدى لتفسير كلام النبي- عليه الصلاة والسلام- كما قرر أهل العلم إلا من جمع بين اللغة والحديث، يكون مطلعًا على المتون، مطلعًا على المتون؛ ليعرف أن هذه اللفظة مناسبة لهذا السياق، أو غير مناسبة.

 وقل مثل هذا في تفسير القرآن، بل أولى، فلا يتصدى لتفسير القرآن من عرف فنًّا واحدًا، إنما يتصدى له من جمع بين الفنون، والذي دعانا إلى هذا أننا قد نقف على كتاب في اللغة متأثر بمذهب الحنفية، فيقصر الخمر على المتخذ من العنب، أو مذهب الجمهور فيعمم، والمسألة إذا أردنا تعريفها من حيث اللغة، وربطناها بالمعنى الشرعي فلا بد أن نكون على بينة تامة من مثل هذا الأمر، وقل مثل هذا في كثير من الألفاظ التي يختلف تحديدها في المذاهب.

 فمثلاً الفقير والمسكين، الفقير والمسكين الجمهور على أن الفقير أشد حاجة من المسكين، والحنفية يعكسون يقولون: لا، المسكين أشد حاجة، فتجد الكتب المتأثرة بمذهب الحنفية ينتقون مما يخدم مذهبهم في كون المسكين أشد حاجة من الفقير، وهكذا.

 "سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الخمر" تتخذ خلاًّ، يعني تعالج حتى تكون خلاًّ، والخل طيب طاهر، «نعم الإدام الخل»، تكون إدامًا ممدوحًا في الشرع قال: «لا»، يعني لا يجوز تخليلها، ولا يجوز حبسها حتى تتخلل بنفسها، لكن إن تخللت بنفسها من غير فعل فاعل، ومن غير قصد، ومن غير حبس لها حتى تتخلل، حينئذ تطيب؛ لأنها انقلبت عينها من النجاسة إلى الطهارة، ومن الخبث إلى الطيب، حينئذ تكون حلالاً، أما أن تتخذ وتخلل بمعالجة الآدمي فإنه لا يجوز ذلك؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «لا».

 رواه مسلم" وعلى هذا المؤلف إنما أدخل الحديث في هذه الترجمة؛ لأنه يرى أن الخمر نجسة، الخمرة نجسة، {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ} [سورة المائدة:90]، رجس، والرجس النجس كما جاء تفسيره في الحديث، وسيأتي في حديث الحمر أنها ركس، وفي روثة الحمار التي أتى بها ابن مسعود من أجل أن يستنجي بها النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «إنها رجس»، فهي نجسة، الرجس النجس والشيطان الرجيم على ما جاء في حديث الدخول، دخول الخلاء.

 وعلى كل حال القول بنجاستها هو قول جماهير أهل العلم بمن في ذلك أرباب المذاهب المتبوعة، وقال قوم بطهارتها، وأنه لا يوجد ما يدل على نجاستها، والأصل في الأعيان الطهارة ما لم يوجد دليل يدل على النجاسة، إضافة إلى أنها لما حرمت أراق الصحابة ما عندهم منها في سكك المدينة، ولو كانت نجسة لما جاز إراقتها في طرقات الناس؛ لأنه جاء النهي عن إيذاء الناس في طرقهم؛ «اتقوا الملاعن الثلاثة»، «اتقوا اللاعنين»، «اتقوا الملاعن» إلى آخرهن ومنها البول في الطريق، البول في الطريق، وإذا قلنا: إن البول في الطريق حرام فكل نجس يلقى في طريق الناس ويؤذيهم يكون حرامًا، وبهذا يستدل من يقول بطهارتها، وعلى هذا إذا جاءنا مثل هذه المسألة وهي مسألة معضلة شائكة ما معنى هذا؟ وما السبب في ذلك؟

السبب أن الإنسان يحتار حينما يقال له: إن الأئمة الأربعة أرباب المذاهب المتبوعة منذ اثني عشر قرنًا يقولون بهذا القول، وأتباعهم إلى يومنا هذا كلهم يقولون بهذا القول، فهل يجرؤ الإنسان أن يخالف هذه الجموع الغفيرة ويعمل بقول من خالفهم كالظاهرية مثلاً أو ممن جاء من المجتهدين المتأخرين ممن عُرِف باتباع السنة والأثر؟ يعني لا نقول: إن هؤلاء قصدهم مخالفة الأئمة، لا، المسألة مسألة دين، نعم نجد كثيرًا في أقوال الصنعاني والشوكاني وغيرهما وقبلهم ابن حزم مثلاً وداود يخالفون الأئمة، ويتفردون بأقوال، وإذا نظرت في أدلة الجميع نظرت، قد يكون الحق مع هؤلاء لا مع الجماهير، وكثيرًا ما يكون هذا في الأوامر والنواهي، في الأوامر والنواهي فيحملها الجمهور على الاستحباب أو الكراهة، ويصر الظاهرية ومن يقول بقولهم وينهج نهجهم في الاقتداء والعمل بالأثر، يصرون على أن النهي للتحريم، والأمر للوجوب، كما هو الأصل، فما موقف طالب العلم إذا جاء مثل هذا؟

 عامة أهل العلم يقولون: الخمرة نجسة، وجاء من يقول بأنها طاهرة، وأبدى ما أبدى من وجهة نظر مقبولة وصحيحة، فهل يرمي بأقوال الأئمة عرض الحائط، ويتبع من قال؛ لأن العبرة، المقرر عند أهل العلم قاطبة أن العبرة بالدليل، وهناك مسائل نقل عليها الإجماع، ولا يعرف دليلها، فلو جاء مخالِف وأبدى دليلاً مناسبًا مقبولاً، هذا أيضًا من فروع هذه المسألة، فهل نجرؤ أن نخالف مثل هذا الإجماع؛ لأن المخالِف المتأخِّر أبدى دليلاً مقبولاً أو نقول: إننا نتهم أنفسنا، وإن الإجماع لا بد أن يعتمد على دليل ولو لم نطلع عليه، ولو لم نطلع عليه، ولذا يرى بعض الأصوليين أن الإجماع حجة قطعية مقدم على الكتاب والسنة؛ لأنه لا يحتمل نسًخا ولا تأويلاً، وأما النصوص من الكتاب والسنة فإنها تحتمل النسخ والتأويل.

 طيب النسخ أين الناسخ؟

التأويل السائغ المقبول إنما يكون عند المعارَضة، فأين المعارِض؟ فهل نقول: إنه مادام ما بين أيدينا شيء يصرف هذا الأمر، أو شيء يصرف هذا النهي، فالأصل فيه الوجوب والتحريم حتى عند الطرف الآخر.

 وهذه يا إخوان، تحصل كثيرًا، ويتحرج كثير من طلاب العلم أن يخالف الأئمة الأربعة ويقول بما قاله أهل الظاهر؛ لأن ظاهر الدليل معهم، هل نقول: إن الأئمة ما خالفوا، ولا صرفوا هذا الأمر أو النهي إلا لدليل، وهم أعلم، وأورع، وأكثر إحاطة ممن جاء بعدهم بالنصوص، فنتهم أنفسنا بالقصور أو التقصير عن وجود مثل هذا الدليل الذي صرف، أو نقول: نحن مطالبون بما بلغنا، ما بلغنا صارف، إذًا الأمر للوجوب، ما بلغنا صارف، إذًا النهي للتحريم.

طالب: .........

نقول بالثاني يعني، ولا يختلف هذا من شخص إلى شخص، يعني شخص صاحب اطلاع واسع وإحاطة، وبذل جهده، واستفرغ وسعه، ما وجد في الدواوين التي بين يديه، ويختلف هذا عن طالب متوسط أو كسول أو ملول لا يتابع البحث، يكتفي بمصدر، مصدرين، ثلاثة، يقول: ما وجدت؛ لأن هذه المسألة تستدعي اجتهادًا، والاجتهاد بذل الجهد، واستفراغ الوسع للوقوف على أصول هذه المسألة ومداركها. فالمسألة ليست بالسهلة.

 يعني أئمة أربعة هم أئمة الإسلام، فمالك مثلاً نجم السنن، الشافعي الإمام، أحمد إمام السنة حافظ الأمة يحفظ سبعمائة ألف حديث، يعني هل عبثًا أن يقول: إن الأمر للاستحباب، وليس عنده ما يصرف؟ أو النهي للكراهة، وليس عنده ما يصرف؟ الإمام الأعظم عند قطاع كبير من المسلمين على مر العصور بفهمه وذكائه، هل يمكن أن يعدل عن هذا إلى هذا مع عدم وجود صارف، وإن كانت مرتبته في الأثر ليست مثل مالك ولا الإمام أحمد، لكن له نصيبه من النظر، والنظر لا شك أنه له مدخل في التفقه، مدخل كبير جدًّا، يعني التفقه مبني على أمرين: أثر، ونظر؛ لأن الأثر وحده كيف يستنبط من عنده الأثر ولا نظر عنده، أو يستنبط صاحب النظر من أثر لا يوجد عنده؟ لا بد من اجتماع الأمرين، لا بد من اجتماع الأمرين. وعلى هذا ماذا نقول في مثل هذه المسألة؟ لأنها تشكل على كثير من طلاب العلم، بعض طلاب العلم لا يجرؤ، ليس عنده الجرأة في مخالفة الأئمة وإن بحث، الجرأة أحيانًا تكون مذمومة، وأحيانًا تكون ممدوحة، تكون مذمومة إذا كانت من طالب طالب علم، أو قل: متعالم تجده يضرب بأقوال الأئمة عرض الحائط، ويجتهد من تلقاء نفسه، أو من خلال نظره القاصر، هذه مذمومة، وهذا ما يقال عنه إنه حصرم قبل أن يزبزب، أو زبزب قبل أن يحصرم، يعني صار زبيبًا قبل أن يكون حِصْرِمًا.

 وهناك جرأة ممن أحاط علمًا بأصول الشريعة وفروعها كجرأة شيخ الإسلام مثلاً؛ لأنه يأوي إلى علم، فمثل هذه الجرأة محمودة، ولذا تجده كثيرًا ما يخالف الأئمة الأربعة حتى قيل عن بعض اختياراتها: إنه خالف فيها الإجماع، فهذه الجرأة محمودة، ولا إمامة إلا بمثل هذه الجرأة، لكن الجرأة، إيش الجرأة التي جاءت من فراغ، من تعالم، من معرفة أحاديث يسيرة، أو من فهم بعض المسائل ودراسة..؟!

طالب:.........

لا لا، يعني بعض الطلاب الذين واصلوا الدراسة، وبحثوا في الرسائل العلمية في الماجستير والدكتوراه وغيرهما، تجده يجرؤ بهذا قال مالك، والذي أراه كذا، بهذا قال الأئمة، والذي أراه.. من أنت؟! يعني أنت بحثت مسألة واحدة أو بابًا واحدًا من أبواب الدين، لكن ماذا عن بقية الأبواب؟ لأن المسألة مسألة متى تكتمل الرؤية بحيث يكون هناك جرأة مدعومة بأصل يعتمد عليه مثل شيخ الإسلام إذا اكتملت الصورة في ذهن الإنسان، أما شخص يتحدث عن هذا الباب، ويخفى عليه ما قبله وما بعده، هذا يكون لديه جرأة. يعني شيخ الإسلام- رحمه الله- لما نظر في الحائض، وطواف الحائض، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «غير ألا تطوفي بالبيت» ويقول أيضًا: «أحابستنا هي؟»، والشيخ -رحمه الله- يقول: هي لا تحبس الرفقة، هل هذا جاء من فراغ أو دعم قوله بقواعد وأصول من أصول الشريعة، يرجع إليها؟ ومع ذلك لا نصوّب رأي شيخ الإسلام في هذه المسألة، لكن نقول: هذه الجرأة ما جاءت من فراغ، إنما جاءت من نظر تام في أصول الشريعة وفروعها، من إحاطة تامة في كثير من مسائل الدين.

 لا نقول: إنه أوتي علم كل شيء، لا، لكن إذا قارنت علمه بعلم أعلم الناس اليوم فماذا؟ ما النسبة بينهما؟ ما فيه نسبة، يعني من غير تنصيص على أحد بعينه، لكن لا نسبة، بحور من العلم فنقول: الجرأة لمن وصل إلى هذا الحد هي الأصل، ولا إمامة إلا بعد هذه الجرأة؛ لأن الذي يتهيب هذه الجرأة ويستمر خلف أهل العلم، يعني سواء كانوا لاسيما إذا كانوا منفردين خلف فلان أو علان، ولا يجرؤ أن يخالف فلانًا، والله، المذهب قال كذا، هذا يستمر، يستمر مقلِّدًا، الشاعر يقول:

ومن يتهيب صعود الجبال

 

يعش أبد الدهر بين الحفر

يعني يستمر مقلدًا، هذا الذي ليس لديه من الجرأة ما يجعله يصدع برأيه بعد تحريره وضبطه وإتقانه وبحث هذه المسألة من جميع أطرافها، ولا يعني هذا أننا نشجع طلاب العلم على الجرأة، لا، طالب العلم يبقى طالب علم حتى يتأهل، حتى يتأهل، والذي ليس عنده محفوظ من السنة ما يؤهله لهذه الجرأة ينبغي أن يقف عند حده، ينبغي أن يقف عند حده، ولذا تبرز هنا أهمية الحفظ والإحاطة بما جاء عن الله وعن رسوله بقدر الجهد والطاقة وبأقوال أهل العلم والنظر في مواطن الإجماع والخلاف.

 وعلى هذا ينبغي لطالب العلم أن يجد ويجتهد في تحصيل العلم، ولا يقتصر على فن واحد، أو باب واحد من أبواب الدين، أو يقول: هذا الباب هو المهم، وذاك أقل، فنتركه يتفقه في الدين بجميع أبوابه، ولذا جاء في الحديث الصحيح: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»، في الدين، الدين إيش؟ الفقه، الأحكام الأربعة التي عند أهل العلم عبارة عن الفقه: العبادات، المعاملات، مناكحات، حدود وجنايات، لا، هذا باب من أبواب الدين، وهو الفقه العملي، وأما الفقه الأكبر عند أهل العلم فهو العقائد، ولذلك في حديث جبريل لما سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإيمان والإسلام والإحسان قال: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم»، فالدين عبارة عن هذه الأمور الثلاثة، والفقه في الدين عبارة عن الفقه في هذه الأبواب الثلاثة، وهي شاملة وجامعة لجميع أبواب الدين، فعلى طالب العلم أن يسعى لتحصيل هذا مستعينًا بالله- جل وعلا- جاعلاً الإخلاص نصب عينيه، والجد والاجتهاد حاديه وسائقه.

 والذي دعانا لمثل هذا مسألة الكلام في الخمر، وهل هو طاهر أو نجس؟ وعامة أهل العلم يقولون بنجاسته، وقيل: بطهارته، فهل نقول بالطهارة؟ فعلى هذا لو أصاب البدن أو الثوب شيء لا يلزم غسله؛ لما أبداه المخالف، لما أبداه المخالِف، أو نقول بنجاسته، تبعًا لعامة أهل العلم، ولا نخرج عن هذا القول، وثقة بهم؟ لأنه لا يمكن أن يقول بنجاسته من فراغ من غير دليل، وتبعًا لما ذكرناه هل يختلف الأمر فيما إذا كان المخالف لجماهير أهل العلم من المتأخرين أو من المتقدمين مثلاً وجدنا قولًا لابن عباس، والأئمة الأربعة على خلافه، هل ننظر في قول ابن عباس أو نقول: إننا هؤلاء الأئمة بأتباعهم، بكتبهم بتحرير مذاهبهم، واطلاعهم على قول ابن عباس أو ابن عمر أحيانًا يكون للأئمة الأربعة قول، وللمذاهب الأربعة قول، فمثلاً أمرنا بإخراج العواتق والحيَّض إلى صلاة العيد وذوات الخدور الأمر هنا عند الجمهور للوجوب أم للاستحباب؟

 للاستحباب، لكن ذكر عن الأئمة الأربعة الخلفاء أنهم قالوا بوجوب الخروج، وألزموا الناس بهذا، وظاهر الأمر أُمرنا أنه للوجوب، فما الصارف؟ الصوارف يعني عند أهل العلم منهم من يقول: إن صلاة العيد في الأصل ليست بواجبة على الرجال، فكيف نوجِب الخروج على النساء؟ هذا صارف عند بعضهم، صارف عند بعضهم من لا يوجب صلاة العيد الذي يقول بوجوبها على الكفاية يقول: سقط الفرض بمن حضر، فلا يلزم البقية من الرجال فضلاً عن النساء هذا صارف، والذي يقول بوجوبها كالحنفية على الأعيان يقول: لا تجب على النساء؛ لأن صلاتها في بيتها خير لها، فكيف تؤمر بالخروج والفرائض الخمس لا تؤمر بالخروج إليها؟ وهذا صارف عندهم، إذًا الأئمة كلهم على أن الأمر للاستحباب، وذكر أبي بكر وعمر وعثمان أنهم يلزمون النساء بالخروج لصلاة العيد حتى قيل صرح بالوجوب أنهم يوجبونه، والقول بوجوبه مروي عن فلان وفلان وفلان، فهل نتهيب القول بالوجوب مع جلالة من قال به؛ لأن الأئمة الأربعة وأتباعهم قالوا بالاستحباب، ويكون هذا نظير ما لو خالف ابن حزم أو الشوكاني أو الصنعاني خالفوا الأئمة الأربعة؛ لأن بعض الناس لا يلقي بالاً لأقوال الصحابة يكتفي بالمذاهب، وينتهي حتى في نقل الخلاف تجد الناس حتى في الرسائل العلمية يعنون بالمذاهب الأربعة الحنفية، قالوا كذا دليلهم، كذا المالكية قالوا، كذا دليلهم كذا الشافعية قالوا كذا دليلهم، الحنابلة قالوا كذا..

دليل الترجيح ما تجد يعنون بأقوال الصحابة وفقه سلف هذه الأمة، ولا تجد أحدًا يعرّج على فقه البخاري مثلاً إلا القليل النادر ممن له نظر في علم الحديث، فهل فقه السلف بهذه المنزلة من قلة الاهتمام والمبالاة من بعض طلاب العلم والعناية بالأئمة الأربعة، نعم الأئمة الأربعة إن شاء الله أنهم أئمة هدى، ولا يظن بهم إلا كل خير ومذاهبهم محررة ومتقنة ومضبوطة، لا أقول راجحة، إنما محررة أتباعهم يحررون وينقحون ويهذبون، وإذا جاء من جاء بعدهم أوضح المسألة بدلائلها، وبحث عن مزيد من الأدلة والتعاليل، فهي محررة ومدروسة، ولاكتها الألسنة والأقلام ودونت في الكتب هي لها ما يرجحها من هذه الحيثية، لكن يبقى أن الأصل الأصل فقه سلف هذه الأمة، لكن بعد أن نتثبت من صحة الخبر إلى أبي بكر صحة الخبر إلى عمر وهكذا هل نقول: إن مثلاً السنة في عهد أبي بكر وعمر ما دونت مشتتة محفوظة في الصدور، ويمكن في المسألة دليل ما بلغ أبا بكر ولا بلغ عمر ولا..

والأمثلة على ذلك كثيرة، فيكون فقههم كفقه غيرهم ينظر فيه يعني عمر -رضي الله عنه- خفي عليه خبر الاستئذان، وهو عند أبي موسى وأبي سعيد وجمع من الصحابة ممن هو دون عمر بمراحل، فالإحاطة تتيسر للمتأخر أكثر من تيسرها للمتقدم، لا شك؛ لأن الكتب جمعت، والسنة دونت وكل شيء موجود بين اليدين، وعندنا الآن سبل الإحاطة أكثر وأفضل بكثير ممن تقدمنا من عصر شيوخنا وشيوخهم فضلاً عمن تقدم، يعني بعد وجود هذه الآلات الإحاطة سهلة، بعد الطباعة الإحاطة أسهل من وقت النسخ، وما قبل ذلك أعسر؛ لأن الحصول على الكتب فيه شيء من العسر.

 فنقول: مادام تيسرت الأسباب، ننظر إلى أقوال المتأخرين أكثر من نظرنا إلى أقوال المتقدمين. الشيخ محمد رشيد رضا سئل عن الأئمة الأربعة وشيخ الإسلام ابن تيمية: هل شيخ الإسلام ابن تيمية أعلم من الأئمة الأربعة، أو هم أعلم منه وأفضل؟ فأجاب قال: باعتبار أن الشيخ -رحمه الله- تخرج على كتب الأئمة الأربعة وكتب أتباعهم فلهم الفضل عليه من هذه الحيثية، وباعتبار إحاطته بمذاهب الأئمة الأربعة وكتبهم فهو أرجح منهم من هذه الحيثية، فكون المتأخر يتيسر له الإحاطة أكثر من المتقدم، يعني لو نظرنا في مرويات أبي بكر على جلالة قدره وجدنا أن ممن جاء بعده أكثر منه، لكن علم هؤلاء هل مصدرهم فيه تلقي أقوال أو نظر إلى إسلام عملي يمشي أمامه ليل نهار، وهو النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ فهم أعرف بمقاصد الشريعة وبجميع ما يحتاج إليه من مرجحات ممن جاء بعدهم؛ لأن اكتمال الصورة عند أبي بكر؛ لأنه عايش النبي -عليه الصلاة والسلام-. نعم قد يخفى عليه شيء من أقواله، لكن من أفعاله ما يخفى، وهكذا.

 نعود إلى أصل المسألة وهي هل يمكن الخروج عن المذاهب الأربعة؟ يعني وجدت كلامًا لابن حزم والأئمة الأربعة كلهم على خلافه، هل تجرؤ أن تقول: الراجح قول ابن حزم ولو أجلب على المسألة بما أوتي من قوة وبيان؟ نعم النفس قد ترتاح إلى أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، لكن هل يعني هذا أننا نهدر أقوال الأئمة على حسابهم؟ لا، لا بد من النظر بعين البصيرة والنقد، ويكون القائد لنا الكتاب والسنة، وذكرت مرارًا في مناسبات أنني سألت الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- عن هذه المسألة وقلت له: إذا كان الأئمة الأربعة كلهم على قول، وداود الظاهري يرى قولًا، ومن خلال بحثنا ما وجدنا ما يرجح قول الأئمة الأربعة على قول داود، بل وجدنا الدليل يدل على قول داود. قال: يرجح قول داود، يرجح قول داود، ولا مانع من ذلك، ولا مانع من ذلك أبدًا؛ لأن العبرة بالدليل.

ويبقى أن طالب العلم ينظر إلى نفسه بعين القصور والتقصير بحيث لا يجرؤ في كل مسألة أن يرجح بكل سهولة وهو مرتاح البال أبدًا لا بد أن ينظر في المسألة، وإذا صلى صلاة استخارة وزاد في البحث ونظر؛ لأن وجود المخالِف يجعلك لا تجرؤ مثل هذه الجرأة، فضلاً عن أن يكون المخالف أئمة الإسلام الأربعة مع أتباعهم، وإذا كان القول مرجوحًا في المذهب فلا بد أن يوجد في المذهب من يرجح غير المذهب.

ولذا تجدون في مذهب الشافعية مثلاً، تجدون من يخرج عن مذهب الشافعي؛ لأن قوله مرجوح، لأن قوله مرجوح، تجد مثلاً البيهقي يخرج، النووي يخرج، ابن خزيمة يخرج عن مذهبه؛ لأنه مذهب مرجوح، فإذا تتابع أئمة المذهب بمن فيهم من عرف بالحديث والأثر على ترجيح المذهب فلا مانع من أن يكون هذا المذهب أيضًا له هيبته، وله قيمته، يوجَد في دعاوى الإجماع التي يدعيها بعض العلماء يوجَد خوارم تخرم هذا الإجماع، بل قد ينقل من نقل الإجماع الخلاف، وهذا دعا الشوكاني إلى أن يقول: ودعاوى الإجماع تجعل طالب العلم لا يهاب الإجماع، وأقول: لا بد من هيبة الإجماع، لا بد من هيبته ولو وجد ما يخرقه، أقل الأحوال أن يكون قول جماهير أهل العلم، فلا بد من النظر إليه، وبالمقابل يوجد من يقول: ولا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة، يحرم الخروج عن المذاهب الأربعة، ولو خالفت الكتاب والسنة، وقول الصحابي، هذا ضلال، نسأل الله السلامة والعافية، ثم يقول: لأن الأخذ بظواهر النصوص من أصول الكفر، نسأل الله السلامة والعافية.

 فلا بد في كل مسألة من طرفي نقيض، ووجد التوسط والالتزام، ومن سلك هذا المسلك الوسط تجده لا توجد الشواذ في فقهه، ولا في فتاويه، مثل هذا يسدَّد بإذن الله.

 سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- والسائل معروف أم مجهول؟ ويسمى عند أهل العلم مُبْهَمًا، مُبْهَمًا، والمبهمات لها كتب المبهمات لها كتب، أُلِّف فيها الكتب، الآن كوننا نعرف السائل، وعناية أهل العلم ببيان المبهمات وتأليف الكتب المختصرة والمطولة في بيان هذه المبهمات هل له من فائدة أو لا؟

لها فوائد كثيرة، فوائد كثيرة لو لم يكن فيها إلا معرفة السائل، عين السائل هل هو متقدِّم أو متأخِّر، نعرف هل هو متقدم الإسلام، أو متأخر، صغير أو كبير، ملازم للنبي -عليه الصلاة والسلام- أو غير ملازم، نعرف السائل ويتأثر حينئذ الترجيح إذا وجد المعارِض.

 الأمر الثاني: أنه هل هو صاحب شأن يهمه الأمر أو لا يهمه الأمر، يعني كما جاء في حديث أبي هريرة في اقتناء الكلب وقوله: أو صاحب زرع، وكان صاحب زرع، نستفيد من هذا أن صاحب الشأن الذي يُعنَى به يهتم به وبحفظه فلا ينساه، فيرجَّح على غيره من هذه الحيثية، فأهل العلم عينوا المبهمات، وألفوا فيها المؤلفات سواء كان في ذلك مبهمات القرآن أو مبهمات الأحاديث، ولها فوائد كثيرة مذكورة، لكن لم نقف على السائل هنا.

 سئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الخمر، والسؤال واضح، والجواب واضح، وهذا لا يخص شخصًا بعينه، وإنما يهم الناس كلهم، سئل عن الخمر تتخذ خلاًّ قال: لا، فلا يجوز تخليل الخمر ومعالجتها لتكون خلاًّ، فتكون طيبة بعد أن كانت خبيثة، وهذا يدل على المسارعة في البراءة من النجاسة، النجاسة لا بد من إزالتها وعدم مقارفتها، فلا تترك الخمرة في مكانها حتى تتخلل بنفسها، وهذا من باب المسارعة والمسابقة {سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [سورة آل عمران:133]، المسارعة تكون بفعل الواجبات، وبترك المحرمات، وأيضًا عدم المسارعة في مثل هذا وإبقاء الخمرة وعدم المسارعة في إراقتها قد تسضعف نفسه في وقت من الأوقات، تضعف نفسه في وقت من الأوقات، أقل الأحوال لو بأصبعه؛ لأن الإنسان الذي تعوَّد شربها يحنّ إليها، يقول: الذي في الأصبع ما يؤثر هذا، ثم بعد ذلك مرة ثانية، وهكذا، وهذا استدراج موجود، والنفس ضعيفة، وقد يعمد إليها من لا يعرف حقيقتها فيشرب منها فيسكر مثلاً، فلا بد من المبادرة في إراقتها، فلا يجوز حبسها ولا تخليلها.

 الحديث الذي يليه يقول -رحمه الله تعالى-: "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تنجسوا موتاكم، فإن المسلم ليس بنَجَس حيًّا ولا ميِّتًا»، رواه الدارقطني والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه".

 يشهد له حديث أبي هريرة: «إن المؤمن لا ينجس»، ويشهد له مفهوم قول الله -جل وعلا-: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [سورة التوبة:28]، مفهوم الحصر أن غير المشرك ليس بنجس وغير المشرك هو المؤمن هو المسلم، فالشاهد من حديث أبي هريرة وهو صحيح، والشاهد من الآية من مفهوم الآية يدل على أن الخبر له أصل.

 «لا تنجسوا موتاكم» يعني لا تحكموا عليهم بالنجاسة، «فإن المسلم ليس بنَجَس حيًّا ولا ميتًا»، طيب إذا كان المسلم ليس بنجس فلماذا يؤمر بالاغتسال حيًّا وميًتا؟ لرفع الوصف الحكمي، لرفع الوصف الحكمي، الوصف الحكمي المانع من هذه العبادات لا بد من رفعه، «لا يقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ»، «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل»، أيغتسل أحدنا إذا رأى في المنام، المرأة أو الرجل يجد في منامه ما يجد؟ قال: أيغتسل؟ قال: «نعم».. أتغتسل المرأة إذا رأت ما يرى الرجل؟ قال: «نعم، إذا هي رأت الماء، إذا هي رأت الماء»، فالغسل واجب لرفع الحدث، وهو وصف حكمي لا أثر له على البدن، بمعنى أن لو شخصًا، لو أن شخصًا أحدث حدثًا أصغر أو أكبر، ومس بيده شيئًا رطبًا يتنجس أو لا يتنجس؟

لا يتنجس؛ لأن النجاسة هنا كيف؟

معنوية وليست حسية، والمؤمن لا ينجس، {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [سورة التوبة:28]، «لا تنجسوا موتاكم، فإن المسلم ليس بنجس حيًّا ولا ميتًا».

 وهذا الحديث "رواه الدارقطني والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه" تصحيح الحديث إسناده لا بأس به، يعني جيد، إسناده جيد، فتصحيحه من حيث جودة الإسناد، ولما يشهد له من حديث أبي هريرة ومفهوم الآية.

 طيب البخاري -رحمه الله تعالى-، "وقال ابن عباس: المسلم لا ينجس حيًّا ولا ميتًا" هذا الخبر ذكره البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز عن ابن عباس، وكأن البخاري بهذا الخبر يرجح الوقف على الرفع، "عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تنجسوا موتاكم ،فإن المسلم ليس بنجس»هذا مرفوع، وصححه الحاكم على أساس أنه مرفوع، ويصحح بشواهده؛ لأنه على أنه مرفوع، لكن في قول البخاري- رحمه الله تعالى-: "وقال ابن عباس: المسلم لا نجس حيًّا ولا ميتًا" كأنه بهذا يرجح الموقوف، يرجح الموقوف، طيب هل الموقوف يشهد للمرفوع، أو يكون من باب الاختلاف المؤثِّر فيضعَّف به المرفوع؟ يعني إذا قلنا هنا: الراجح الوقف، البخاري عنده الراجح الوقف، والحاكم عنده الراجح الرفع، لماذا لا نقول: إن الموقوف يدعم المرفوع، وابن عباس أحيانًا يرويه عن النبي -عليه الصلاة والسلام- مرفوعًا، وأحيانًا يفتي به من قوله- رضي الله عنه- لماذا لا نقول بهذا؟

نقول: هل مثل هذا الاختلاف مؤثِّر، أو غير مؤثِّر؟ لأنه عندنا فيه سؤال هنا، فيه سؤال حول هذه المسألة، طيب قريب من هذا يقول: إذا روي الحديث من طريقين أحدهما مرفوع، والآخر مرسل، يعني الرفع يقابل الإرسال، إلا إذا كان مقصوده بالإرسال الوقف، أو مقصوده بالرفع الوصل، لكن الذي يقابل المرفوع هو الموقوف، والذي يقابل الإرسال هو الوصل، وهما مسألتان معروفتان، وحكمهما واحد عند أهل العلم، تعارض الرفع مع الوقف، والإرسال مع الوصل، يقول: والآخر مرسل، والذي أرسل هو أوثق من الذي رفع، ثم وجدنا كثيرًا من الأئمة يحكمون على الحديث بالإرسال، والذي أرسل أوثق من الذي رفع، ثم وجدنا كثيرًا من الأئمة يحكمون على الحديث بالإرسال مع وجود متابعة صحيحة للذي رفعه، فعند الترجيح هل يمكن أن نرجح الإرسال بأن الأئمة أعرضوا عن هذه المتابعة ولو كانت صحيحة، كما حصل من بعض من خرّج حديث عطاء بن أبي يسار عن أبي سعيد في آخر باب التيمم إلى آخره؟ المسألة مسألة تبحث في علوم الحديث، وفي أصول الفقه أيضًا، الأئمة دائمًا ما يختلفون في الحديث الواحد الذي يروى من وجهين أحدهما مرفوع، والثاني موقوف، كالحديث الذي معنا، أو يروى من وجهين؛ أحدهما متصل، والثاني مرسل، يعني موصولًا ومرسلًا.

 فتجد بعض الأئمة يحكمون بالرفع كما هنا للحاكم، وبعضهم يقضي للوقف، كما هنا، كما هو ظاهر من تصرف الإمام البخاري- رحمه الله-، وبعضهم يحكم للإرسال، وبعضهم يحكم للوصل.

 وعلى كل حال لا يوجد قاعدة مطردة تندرج فيها جميع الأحاديث، وإن كانت قواعد المتأخرين على الاطراد، فبعضهم يحكم للرفع مطلقًا، وللوصل مطلقًا، بأن من رفع ومن وصل معه زيادة علم خفيت على من وقف وعلى من أرسل. ومنهم من يحكم للإرسال مطلقًا؛ لأنه متيقن، والرفع مشكوك فيه.

يعني ابن عباس موجود في الطريقين المرفوع والموقوف، فهذا القدر متفق عليه، وهو متيقن، أما رفعه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فهو المشكوك فيه، فنقف على المتيقن ونترك المشكوك فيه، ومنهم من يقول: الحكم للأكثر، ومنهم من يقول: الحكم للأحفظ، وأما من نظر في تصرف الأئمة فإنه لا يجد لهم قاعدة مطردة في مثل هذا حتى الإمام الواحد الإمام الواحد يحكم أحيانًا للحديث بالرفع، وأحيانًا يحكم له بالإرسال بالوقف، وأحيانًا يحكم لحديث بالوصل، وآخر بالإرسال.

 فمثلاً الإمام البخاري هنا حكم بالوقف، وحكم لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- في رفع اليدين بعد الركعتين بالرفع، مع أنه خالفه في الحكم الإمام أحمد فجعله موقوفًا على ابن عمر، فهل نقول: إن الإمام البخاري له قاعدة مطردة؟ لا، ليست له قاعدة مطردة في مثل هذا، وهل نقول: للإمام أحمد قاعدة مطردة؟ أبدًا، ولا لأبي حاتم ولا للدارقطني ولا للأئمة كلهم، ليس لهم قواعد مطردة. إذًا هم يحكمون على أي أساس بالتشهي؟ يعني بالمزاج؟ أعجبه الرفع في مثل هذا فحكم؟

لا، حاشا وكلا، إنما يحكمون بالقرائن المرجحة، وهناك لفتات دقيقة لا يلتفت إليها كثير من طلاب العلم، ومن أراد أن ينظر إلى أنموذج من هذه اللفتات فليقرأ حديث «لا نكاح إلا بولي» من جامع الترمذي، وينظر كيف رجحوا الوصل، وكيف رجح بعضهم الإرسال، والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- رجح الوصل، مع كون من أرسله كالجبل شعبة وسفيان، ومع ذلك رجح الوصل، هل هذا تشهٍّ؟

أبدًا، لكن متى نعرف أن نحكم بمثل أحكامهم؟ هل لآحاد طلاب العلم أن يحكم بمثل هذا؟ أبدًا، إنما المتأهل الذي أكثر من النظر في كلامهم، أدام النظر في كلامهم، وحاكاهم، وحفظ من السنة ما يؤهله أن يجمع أحاديث الباب إذا أراد دراسته وينظر في ما فيها من علل خفية، وما فيها من إشارات دقيقة للرواة وللأئمة قد يوفَّق إلى مثل عملهم وإلا فالأصل أن مثل هذا العمل لم يتكلم فيه من الأئمة الكبار إلا اليسير، إلا العدد اليسير، يعني في عصر الرواية في عصر ازدهار السنة وتدوين السنة، والنظر في أحكام الأئمة، يعني في القرن الثالث في آخر الثاني والثالث، يعني تجد أن من يتكلم في مثل هذه الأمور عدد قليل، لماذا؟

 لأنه يحتاج إلى حافظة قوية تعينه على أن يحكم على الحديث بشمه كما قالوا، فإذا حاكاهم وحفظ من الأحاديث من متون السنة وأسانيدها، ونظر في تصرفات الأئمة ما يؤهله لهذا الأمر فهذا فرضه يا إخوان، فهذا فرضه؛ لأن العمل بالقواعد، قواعد المتأخرين تقليد ومحاكاة الأئمة اجتهاد، اجتهاد، لكن متى يصل الإنسان إلى حد الاجتهاد في هذا الباب؟ دون ذلك خرط القتاد؛ لأنه إذا عرفنا أنه من الأئمة لم يتكلم في هذا الباب إلا العدد القليل الذي هو باب التعليل، العلل الخفية، الحكم بالقرائن تكلم فيه عدد قليل، فكيف بعموم الناس الذين ليس لهم من الحديث إلا الدعوى؟ تجد الإنسان يلقب فلانًا المحدث، لكن لو تسأل: كم حفظ من حديث؟ يعني أحاديث يضبطها ويتقنا بمتونها وأسانيدها ما تجد مائة حديث.

 ولا نقول: إن الأمة عقمت أن تنجب محدثين، فيها من هو مؤهل لهذا العلم، لكن يعني الوصف كبير، كبير أن يقال: فلان الإمام العلامة المحدث وهو واقعه غير ذلك، وهذا فيه تضييع لطلاب العلم، فلا بد أن يعرف الإنسان قدر نفسه، وأمرنا أن ننزل الناس منازلهم، فسهل أن تعجب بشخص؛ لأنك سمعته يحرر مسألة، أو يتكلم على قضية، فمن السهل جدًّا أن تقول" علامة، كيف علامة يا أخي؟!

أعرف أن الشيخ ابن عثيمين -رحمة الله عليه- مرة قيلت في الإذاعة: العلامة الشيخ ابن عثيمين، فأقام دعوى، وكتب إلى وزير الإعلام وما أدري إيش، على ألا تتكرر، وتجد من متوسطي الطلاب لو لم يقل له مثل ذلك يصير في نفسه شيء، {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [سورة الليل:4]، فعلى الإنسان أن يعالِج قلبه قبل كل شيء، ثم بعد ذلك ينظر في نفسه، وينظر في غيره.

 ونعود إلى مسألتنا، مسألة الترجيح في الوقف والرفع، والوصل والإرسال تحتاج إلى إمام يعرف القرائن المرجِّحَة.

 وعلى كل حال، من أدام النظر، ونعرف عندنا نابتة فيهم خير، وفيهم حرص، وفيهم اطلاع على أقوال الأئمة المتقدمين، وفيهم عزوف أيضًا عن أقوال المتأخرين بعد أن عرفوا أقوال المتأخرين، وتخرجوا عليها؛ لأنه ما يمكن أن يأتي رجل طالب علم مبتدئ أو عامي يضطلع إلى محاكاة المتقدمين، هذا مستحيل، لكن هؤلاء مروا بالتجربة، عرفوا قواعد المتأخرين، ثم من معرفة تامة عرفوا أن الأئمة صنيعهم خلاف هذا، نعم صنيعهم خلاف هذا، لكن لا يمكن الوصول إلى صنيع الأئمة إلا بعد المرور على قواعد المتأخرين، فطالب العلم يقرأ في النخبة مثلاً، يضبط النخبة ويتقنها، ثم بعد ذلك اختصار علوم الحديث لابن كثير، ثم في الألفية وشروحها، ثم يكثر من الأمثلة، يخرِّج ويتتبع الطرق، وينظر في الأسانيد وأقوال العلماء في الرجال، ويحكم على الأحاديث، ويطبق أحاكمه على أحكام الأئمة، وإذا أكثر وأدام النظر في هذا العمل يؤهَّل، إن شاء الله تعالى، إذا قارن هذا العمل إخلاص وصدق، لجأ إلى الله- جل وعلا- فإنه لا شك أنه يؤهَّل لأن يحاكي المتقدمين، وإذا تأهل قلنا: هذا فرضه كمن يتأهل للنظر في أقوال العلماء في المسائل الفقهية بأدلتها، ويحيط بالأقوال، ويحيط بالأدلة، وينظر فيها، ويرجح ويوازن، إذا تأهل لذلك ففرضه الاجتهاد.

 وأما من يخاطَب بمثل قول الله- جل وعلا-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} [سورة النحل:43]، فهم العوام ومن في أحكامهم من مبتدئي الطلبة.

 «لا تنجسوا موتاكم» ما معنى لا تنجسوا؟ لا هذه ناهية، «لا تنجسوا موتاكم» يعني لا تصفوهم بأنهم نَجَس، بل هم طاهرون، وقلنا: إنه يشهد لهذا الحديث وإن كان معارَضًا بالموقوف، وإن كان معارَضًا بالموقوف يشهد له مفهوم قول الله- جل وعلا-: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [سورة التوبة:28]، وبحديث أبي هريرة: «إن المؤمن لا ينجس»، لا ينجس سواء كان من حدث أو بموت، وعلى هذا غسله بالنسبة للحدث لرفع المانع من مزاولة العبادات، وبالنسبة للميت تعبُّد، تعبُّد، هو طاهر في الأصل، ومن باب المزيد من التطهير، وإذا كان على بدنه شيء من آثار ما يخرج منه بعد موته؛ لأنه معلوم أنه إذا مات الإنسان تيسر الخروج من كل وجه، يخرج شيء من فمه، وشيء من أنفه، وشيء من دبره، فمثل هذا يزال وإلا فالأصل أن المسلم طاهر حيًّا وميْتًا.

 قال -رحمه الله- "وعن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره"، حديث أنس أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره قال: "هكذا رواه البخاري، ورواه مسلم ولفظه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري وأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر فقال: «احلقه»، فحلقه وأعطاه أبا طلحة، فقال: «أقسمه بين الناس»".

 المؤلف -رحمه الله تعالى- إنما أدخل هذا الحديث في الترجمة، الحديث الأول أدخله؛ ليخرج الميتة المسلم الميت من عموم الميتة، جنس الميتة، الميتة نجسة بالإجماع، يخرج من ذلك المسلم، استثنى من ذلك المسلم، واستثنى من ذلك «أحلت لنا ميتتان»، فلئلا يتوهم أن الإجماع على نجاسة الميتة، الإجماع على نجاسة الميتة يتناول المسلم، نص عليه المؤلف، وهنا المؤلف- رحمه الله تعالى- ذكر ما أُخذ من الشعر؛ لأن المقرر عند أهل العلم أن ما أبين من حي فهو كميتته، ما أبين من حي فهو كميتته، فما أبين من الآدمي فهو طاهر؛ لأن الميت من الآدمي طاهر، والشعر أبين من الآدمي، فهو طاهر.

 طيب ما أبين من الميتة التي تنجس كبدها وأليتها وسنامها مثلاً يكون نجسًا، التي تنجس بالموت ما أبين منها فهو نجس، لكن ما أبين من عظمها، من سنها، من ظفرها، من شعرها ينجس أم ما ينجس؟ الشعر والظفر هل هو في حكم المتصل أو في حكم المنفصل؟ في حكم المنفصل، والمسألة خلافية بين أهل العلم، لكنه في حكم المنفصل، بمعنى أنه يجوز لك أن تجز من الشاه الشعر، ويكون طاهرًا، لماذا؟

القاعدة المقررة ما أبين من حي فهو كميتته، هذا أبين من حية، هل نقول بنجاسته، أو نقول: هو طاهر؛ لأن الأصل في الشعر أنه في حكم المنفصل، وكانوا يجزون الصوف ويستعملونه، ولا يحتاجون إلى غسله، فهو طاهر، وكذلك الظفر؛ لأنه في حكم المنفصل، وهذه قاعدة مقررة عند أهل العلم، والخلاف فيها معروف حتى قال بعضهم: إن الشعر الذي يبان من الآدمي نجس، إذا كان الآدمي إذا مات طاهرًا، فكيف نقول بأن ما يبان منه من الشعر نجس؟ وهذا الكلام أشار إليه النووي في شرح المهذب، وهذا قول في غاية الغرابة، وإنما فعله النبي -عليه الصلاة والسلام- للمعارِض الراجح، وهو كونه منه -عليه الصلاة والسلام-، ويتبرك به، من أجل أن يتبرك به، وهذه مصلحة راجحة، وإلا فالأصل أن الشعر نجس، يعني كيف يتبرك؟! يعني هل يقبل العقل أن يتبرك بنجاسة؟!

يعني قول في غاية الشذوذ، هل يقبل عقل سوي أن يتبرك بنجاسة؟! هذا القول في غاية السقوط، والشعر من غيره -عليه الصلاة والسلام- طاهر، بل مما ينجس بالموت شعره طاهر، فضلاً عن شعر الآدمي، فضلاً عن شعر النبي -عليه الصلاة والسلام-، فالمؤلف أدخله من هذه الحيثية؛ لأن ما أبين من حي فهو كميتته، فما أبين من المسلم فلا شك في طهارته سواء كان في حكم المتصل كاليد والرجل والألية والسنام..

أستغفر الله وأتوب إليه..

بالنسبة للآدمي سواء كان في يده أو رجله أو أي شيء يحتاج إلى قطعه هذا طاهر؛ لأن المسلم لا ينجس بالموت، فما أبين منه فهو في حكمه طاهر.

 الشعر المقرر عند أهل العلم أنه في حكم المنفصل سواء كان مما ينجس بالموت أو مما لا ينجس، فلا تحله النجاسة، وكما أنه لا تحله الحياة ولا الموت، لا تحله حياة ولا موت، فلا يتبع البهيمة إذا ماتت، فيمكن أن يجز، والبهيمة لا تحس به؛ إذ إن الحياة لا تحله، فكذلك الحياة لا تفارقه، فلا يأخذ حكم الميتة، حياة الشعر ليست كحياة الحيوان، بمعنى أن الروح تفارقه فيتغير وضعه بمعنى أنه لا يتأثر الحيوان إذا قص منه، ونماؤه يدل على حياته، زيادته تدل على حياته، لكنها حياة مثل حياة النبات لا مثل حياة الحيوان، حياة الشعر التي يدل عليها نماؤه وزيادته إنما هي بمثابة حياة النبات، لا بمثابة حياة الحيوان، وعلى هذا لا ينجس إذا أُخذ من البهيمة التي تنجس بالموت لا في حال الحياة ولا بعد الممات.

 "ورواه مسلم، ولفظه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري وأعطاه إياه".

 والتبرك بآثاره -عليه الصلاة والسلام- فعله الصحابة، لكن هذا خاص به، لا يتبرك بغيره، لا يتبرك بغيره، ولذا لم يعمد أحد من الصحابة إلى أبي بكر بأن يأخذوا من شعره أو مما يفضل منه شيئًا أبدًا، ولا عمدوا إلى عمر فأخذوا من آثاره شيئًا أبدًا، بل هذا خاص به -عليه الصلاة والسلام-.

 ومثل ذلك التحنيكن الصحابة يأتون بأولادهم إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فيحنك أطفالهم، لكن هل جاؤوا لأبي بكر أو عمر ليحنك أولادهم؟ أبدًا، ما عُرف شيء من هذا، ما عرف شيء من حال الصحابة أنهم جاؤوا بأولادهم إلى أبي بكر أو عمر، مع أنهم خيار الأمة، فيبقى أن النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا من خصائصه أنه يتبرك بآثاره، ويبقى أن الدعاوى التي مرت على مدى العصور إلى يومنا هذا ويُدَّعى أن هذا من آثار النبي -عليه الصلاة والسلام- دون إثباته خرط القتاد، يعني لو جاءنا شخص بشعر قديم وقال: هذا من شعر النبي -عليه الصلاة والسلام- قلنا: عليك أن تثبت، ودون الإثبات خرط القتاد، لا يمكن أن يثبت، إذا جاءنا وقال: هذه بردة النبي -عليه الصلاة والسلام- قلنا: أثبت، ولا يمكن أن يثبت، وإذا قال: هذا سيف النبي -عليه الصلاة والسلام-، وفي بعض الجهات التي يكثر فيها الغلو بالنبي -عليه الصلاة والسلام- أثبتوا شيئًا لا يليق به -عليه الصلاة والسلام-، قالوا: هذه مكحلة النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذا ميله، والصناعة حديثة، بل في بعض الجهات جاؤوا بمصحف قالوا: هذا مصحف النبي -عليه الصلاة والسلام-، صحيح مضحكات هذه، أولاً الجامع متأخر، كتابة القرآن في مصحف في عهد عثمان -رضي الله عنه-، والنبي -عليه الصلاة والسلام- أمي لا يقرأ ولا يكتب، لكن هذا من باب الدجل، ومن باب كسب الأموال بالباطل، فلا يمكن أن يصدق من يقول: إن هذا شعر النبي -عليه الصلاة والسلام-، أو هذا سيف النبي -عليه الصلاة والسلام-، أو هذا شيء من آثاره -عليه الصلاة والسلام-.

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"