شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (053)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، للإمام أحمد بن أحمد بن عبد اللطيف الزبيدي، المتوفى: سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة للهجرة.

مع مطلع حلقتنا هذه نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: قال -رحمه الله-: "عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: سابَبْتُ رجلاً فعيَّرته بأمه، فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يا أبا ذر أعيَّرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حديث أبي ذر راويه أبو ذر جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد الغفاري، يقول النووي: كان يقال: اسمه بُرَيْر، أسلم قديمًا، جاء عنه أنه قال: أنا رابع أربعة، ويقال: خامس خمسة، أسلم بمكة، ثم رجع إلى بلاده وقومه، ثم قدم المدينة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحديث إسلامه مشهور في الصحيح وغيره، ومناقبه أكثر من أن تحصى، وزهادته في الدنيا أشهر من أن تُشهَر.

توفي بالرَّبَذَة سنة اثنتين وثلاثين -رضي الله عنه وأرضاه-.

هذا الحديث ترجم عليه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله: بابٌ أو بابُ المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفَّر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنك امرؤ فيك جاهلية» وقول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [سورة النساء 48].

قال ابن حجر: محصَّل الترجمة أنه لمَّا قدَّم أن المعاصي يُطلَق عليها الكفر مجازًا على إرادة كفر النعمة لا كفر الجحود، أراد -رحمه الله تعالى- أن يبيِّن أنه كفر لا يخرج عن الملة خلافًا للخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ونص القرآن يرد عليهم، وهو قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [سورة النساء 48] فصيَّر ما دون الشرك تحت إمكان المغفرة.

قال ابن بطال: غرض البخاري الرد على من يكفر بالذنوب كالخوارج، ويقول: إنَّ من مات على ذلك يخلَّد في النار، والآية ترد عليهم؛ لأن المراد بقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [سورة النساء 48] من مات على كل ذنب سوى الشرك.

ونازع الكرماني ابن بطال في استدلاله بقول أبي ذر: «أعيَّرْته بأمه؟!» فقال: أقول: وفي ثبوت غرض البخاري من الرد عليهم دَغْدَغَة، ما معنى دَغْدَغَة؟ يعني فيه نظر، لا يسلم من نظر، وهذا كناية عن تضعيفه، إذ لا نزاع في أن الصغيرة لا يكفَّر صاحبها، والتعبير بنحو: يا ابن السوداء صغيرة، كذا قال الكرماني.

لكن تسمية هذا القول وهو الترفع على الناس والتطاول عليهم، وتعييرهم بأمَّاتهم لا شك أن هذا قد يصاحبه ما يجعله كبيرة، فيصح استنباط وقول ابن بطال.

قال ابن حجر: قلت: استدلاله عليهم من الآية ظاهر، ولذلك اقتصر عليه ابن بطال، وأما قصة أبي ذر فإنما ذُكرَت ليستدل بها على أن من بقيت فيه خصلة من خصال الجاهلية سوى الشرك لا يخرج عن الإيمان بها، سواء كانت من الصغائر أم الكبائر، وهذا واضح، استدلاله عليهم من الآية ظاهر؛ لأنه قال: والآية ترد عليهم، استدلال ابن بطال ظاهر في الآية، لكن هل ابن بطال استدل بالحديث أو بالآية أو بهما معًا؟

أما استدلاله من الآية فظاهر. يقول: استدلاله عليهم من الآية ظاهر، ولذلك اقتصر عليه ابن بطال، ما تعرَّض للحديث، وأما قصة أبي ذر فإنما ذكرت ليستدل بها على أن من بقيت فيه خصلة من خصال الجاهلية سوى الشرك لا يخرج عن الإيمان بها، سواء كانت من الصغائر أم الكبائر، وهذا واضح.

يقول ابن الجوزي في تفسيره: والمراد من الآية: لا يُغفَر لمشرك مات على شركه، وفي قوله: {لِمَن يَشَاء} [سورة النساء 48] نعمة عظيمة من وجهين: أحدهما: أنها تقتضي أن كل ميِّت على ذنب دون الشرك لا يقطع عليه بالعذاب وإِن مات مُصِرًا، ما دام دون الشرك، والثاني: أن تعليقه بالمشيئة فيه نفع للمسلمين، وهو أن يكونوا على خوف وطمع.

أقول: إطلاق الشرك {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء 48] الإطلاق ينصرف إلى الأكبر، وهو الذي لا يُغفَر، وإن كان عمومه يشمل الأصغر، ولذا اختُلِف في الشرك الأصغر هل يدخل في عدم المغفرة باعتباره شركًا فيتناوله عموم الآية؟ وقد جاء في النصوص تسميته كذلك، فلا بد أن يعذَّب مرتكبه لقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء 48] أو هو داخل فيما دون الشرك الأكبر وحينئذٍ يكون حكمه حكم الكبائر كما هو قول الأكثر؟ لأن مرتكبه لا يخلَّد كسائر أصحاب المعاصي، ففيه وجه شبَه من الشرك الأكبر؛ لأنه جاء في النصوص تسميته شركًا، وفيه شبه من وجه آخر في المعاصي التي هي دون الشرك للاتفاق على أن صاحبه لا يخلَّد في النار.

المقدم: لكن الصغائر منفية تمامًا في هذا الحديث، وبالتالي التعيير من قال مثل ابن بطال أنه صغيرة إلا إذا اقترنت باستعلاء نفس هذا لا يدخل.

لا، ما قال ابن بطال، ابن بطال اقتصر على الآية، الذي قرر أنه صغيرة الكرماني، قرر أنه صغيرة، وأنا أقول: قد يكون صغيرة مع الغفلة وسبْق اللسان، وما أشبه ذلك، أما مع الإصرار والاستعلاء والاستكبار وغمط الناس لا شك أنه كبيرة؛ لأنه مقارِن للكبر، وهو أيضًا من أعمال الجاهلية.

يقول القسطلاني: احتُرِز بالارتكاب عن الاعتقاد، فلو اعتقد حِلَّ حرام معلوم من الدين بالضرورة كفر قطعًا، يعني في ترجمة الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ماذا يقول على الحديث؟ باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفَّر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، ما قال باعتقادها، ولا يكفَّر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، يقول القسطلاني: احترز بالارتكاب عن الاعتقاد فلو اعتقد حل حرام معلوم من الدين بالضرورة كفر قطعًا، ويأتي توضيحه في كلام النووي -إن شاء الله تعالى-.

قال أبو ذر -رضي الله عنه-: "سابَبْت" وفي رواية: "شاتَمْت" وهما بمعنًى، بمعنًى واحد، السب هو الشتم، وفي الأدب للمؤلف في صحيحه كما سيأتي: "كان بيني وبين رجل كلام وكانت أمه أعجمية" وأول الخبر كما في الأصل عن المعرور وهو ابن سويد قال: "لقيت أبا ذر بالرَّبَذَة وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك فقال: إني سابَبْت"... الحديث.

والصيغة تدل على أن السب حصل من الطرفين، سابَبْت فاعلت، والصيغة تدل على أن السب حصل من الطرفين لما تقتضيه المفاعلة، على أن المفاعلة قد تُطلَق على الفعل من طرف واحد كالمسافرة إذا قال: سافرت وهو وحده، والمطارقة والمعاقبة ونحو ذلك.

في صحيح مسلم ما يبيَّن ذلك قال: «أعيَّرته بأمه؟!» فقلت: من سبَّ الرجال سبُّوا أباه وأمه، فدل على أن السبَّ كان من الطرفين، فالمفاعلة على بابها، وفي معناها المشاتمة كما جاء في رواية الإسماعيلي، والمراد وقع بيني وبينه سبَاب بالتخفيف، وهو من السبِّ بالتشديد، وأصله القطع.

"رجلاً" قال ابن حجر: قيل إن الرجل المذكور هو بلال المؤذِّن، مولى أبي بكر، روى ذلك الوليد بن مسلم منقطعًا.

"فعيَّرْته بأمه" أي نسبته إلى العار، أي عيَّبته، وزاد المؤلف في الأدب: "وكانت أمه أعجمية، فنلت منها" بلال من أين؟

المقدم: من الحبشة.

الحبشة أعاجم؟

المقدم: نعم.

نعم، الآن العُرْف في الأعاجم.

المقدم: ما لم يكونوا عَرَبًا.

هذا حقيقته اللغوية، لكن في عرف الناس الأعاجم أهل...

المقدم: أهل الفُرس.

أهل المشرق نعم.

لكن كانت أمه أعجمية فنِلْتُ منها، هو يقصد أم بلال وهي حبشية، وفي رواية: "قلت له: يا ابن السوداء" والأعجمي من لا يفصح باللسان العربي، يعني ولو كان عربيًّا، لو كان عربيًّا يعني نشأ في غير بلاد العرب، ولم يعرف من العربية شيء فهو أعجمي.

والفاء في "فعيَّرته" قيل: هي تفسيرية، كأنه بيَّن أن التعيير هو السب، وعدَّى عيرته بالباء، عيَّرته بأمه عداه بالباء، "فعيرته بأمه" ففيه جواز ذلك تعدية عيَّر بالباء، وقد أنكره ابن قتيبة، وتبعه بعضهم، وأثبت آخرون أنها لغة في درة الغُوَّاص في أوهام الخواص للحريري يقولون: عيَّرته بالكذب، والأفصح أن يقال: عيَّرته الكذب، بحذف الباء كما قال أبو ذؤيب:

وعيَّرني الواشون أني أحبها

 

...................................

ولم يُسمع، يقول الحريري: ولم يُسمَع في كلام بليغ، ولا شعر فصيح تعدية عيرته بالباء، فأما ما روي من بيت المقنع الكندي:

يعيرني بالدين قومي وإنما

 

تدينت في أشياء تكسبهم حمدًا

 

فهو تحريف من الراوي، والرواية الصحيحة: "يعاتبني في الدين قومي". يقول هذا: "يعيرني بالدين" تحريف من الراوي، والرواية الصحيحة: "يعاتبني في الدين قومي".

لكن في شرح الدرة للخفاجي قال ابن بري: قد جاء تعديته عيرته بالباء في كلام الفصحاء من العرب، كقول عدي بن زيد:

أيها الشامت المعير بالدهر

 

 

...................................

 

وقال أيضًا:

أيها الشامت المعير بالشيب

 

 

...................................

وقال الصلْتان لجرير:

أعيرتنا بالنخل أن كان مالنا

 

 

...................................

 

يقول: ثم إنه لا شاهد له فيما أنشده على تعدِّيْه بنفسه لاطراد حرف الجر مع (إن) و(أن) ويكفي من القلادة ما أحاط بالجِيْد، وإذا اتسع الخاتم سقط، ما معنى هذا الكلام؟ الحريري في درة الغُوَّاص، وهو كتاب فيه تنبيهات على بعض أوهام الخواص من الناس، أوهام حصلت لبعضهم فنبه عليها الحريري، ووهم في كثير منها، رُدَّ عليه من قِبَل الشراح، استدرك عليه كثير منها، ومنها ما معنا.

يقول: عيرته بالكذب، والأفصح أن يقال: عيرته الكذب بحذف الباء، ولم يسمع في كلام بليغ، ولا شعر فصيح تعدية عيرته بالباء، فأما ما روي فهو تحريف من الراوي، هذا كلام الحريري.

رد عليه الشهاب الخفاجي في شرح الدرة وكلا الكتابين نفيس.

المقدم: شرح درة الغُوَّاص؟

نعم.

المقدم: للشهاب؟

للشهاب الخفاجي، كلاهما نفيس، هذا ينبه على ألفاظ الحريري على ألفاظ خفيت على كثير من الخواص، ووهموا فيها، وهذا ينبه على أوهام الحريري.

في شرح الدرة للشهاب الخفاجي: قال ابن بري: قد جاء تعديت عيَّرته بالباء في كلام الفصحاء من العرب، ثم أورد الشواهد، ومنه ما معنا من الحديث.

يقول: يكفي من القلادة ما أحاط بالجِيْد، يعني لا يلزم الاستطراد في مثل هذه المسألة، وقد ثبتت بقول الفصحاء، يقول: وإذا اتسع الخاتم سقط، يعني إذا توسعنا في الكلام قد يكون في الكلام إذا اضطررنا إلى كلام نرد به على كلام الحريري من الجَيِّد وما دونه قد يسقط بعضه بعضًا، وهذا ينفع في باب الرد، وفي باب المناظرة، الذي يتولى الرد على المخالفات، أو يتولى مناظرة المخالفين ينبغي أن يقتصر على أجود ما عنده، ولا يستطرد فيستدل بالأقوى والقوي، ثم بعد ذلكم يستطرد في ذكر الضعيف؛ لئلا يشتغل المناظر والمردود عليه برد الضعيف فيُضعِف الرد الأصلي؛ لأنه يفتح مجال على نفسه، ولذا يقول: وإذا اتسع الخاتم سقط.

يقول: ثم إن قوله: الأفصح ينافي قوله لم يُسمَع؛ لأن الأفصح لا تمنع أو لا تنفي أن يكون قد سُمِع مما هو فصيح أيضًا؛ لأن قوله: لم يسمع، يعني لم يسمع لا أفصح ولا فصيح ولا غير فصيح، لم يسمع ألبتة، يعني كما نقول: وهذا العمل لم يَرِدْ في حديث صحيح ولا ضعيف ولا موضوع، نفي بالكلية، لكن إذا قلنا: لم يَرِد في حديث صحيح لا ينفي أن يكون العمل ورد بخبر حسن أو ضعيف وهكذا، إذا قلنا لا يثبت هذا العمل عن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يمنع أن يكون قد ورد بخبر غير ثابت، لكن قوله: لم يُسمع يدل على أنه لم يسمع ألبتة عن العرب لا فصيح ولا أفصح ولا ضعيف، وهنا يقول: الأفصح، يدل على أن هناك ما هو فصيح.

يقول: ثم إن قوله: الأفصح ينافي قوله: لم يُسمع في كلام بليغ، ولا شعر فصيح، وذكر يقول الإمام المرزوقي: أنهما جائزان، وكذا في شرح البخاري: عيرته نسبته إلى العار، وعيبته، يقال: عيرته كذا وبكذا، يعني أنه يتعدَّى بنفسه وأيضًا بالباء.

وفي أدب الكاتب لابن قتيبة: تقول: عيرتني كذا، ولا يقال: عيرتني بكذا، قال النابغة: "وعيَّرَتْني بنو ذبيان" وقال المتلمِّس:

تعيرني أمي رجال ولن ترى

 

 

أخا كرم إلا بأن يتكرما

 

وقالت ليلة الأخيلية:

عيرتني داء بأمك مثله

 

 

...................................

إلى آخره، المقصود أنهم يريدون أن ينفوا تعدية عيَّر بالباء وهو ثابت، ثابت في الفصيح من كلام العرب وفي السنة الصحيحة على ما تقدم ذكره في الاحتجاج بالحديث في المسائل اللغوية.

"فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «يا أبا ذر أعيرته بأمه؟‍!»" استفهام على وجه الإنكار التوبيخي «إنك امرؤ فيك جاهلية» أي خصلة من خصال الجاهلية، ولا يعني أن يكون المرء جاهليًّا، يعني إذا تلبَّس بصفة أو بوصف من أوصاف قوم لا يعني أنه منهم، كما أن مَن فيه خصلة من خصال النفاق لا يكون منافقًا خالصًا، وكذلكم من كان فيه نوع بدعة، يعني وافق المبتدعة في مسألة من المسائل، هل يقال: إنه مبتدع، أو فيه بدعة؟ كما أن مَن فيه وصف من أوصاف الجاهلية يقال: فيه جاهلية، أبو ذر لا يمكن أن يقال: جاهلي، إنما يقال: في كلامه هذا فيه جاهلية، وفلان فيه نفاق؛ لأنه يكذب، أو يخلف الوعد، أو يغدر، أو ما أشبه ذلك، نقول: فيه نفاق، ولا نقول: هو منافق، فمثلاً من وافق المعتزلة في قول من أقوالهم، يعني منذر بن سعيد البلُّوطي حينما قال بفناء الجنة والنار مثلاً، هل نقول: إنه جهمي؟ هو وافق الجهمية، إنما فيه تجهم، ولا نقول: جهمي، وهكذا.

وتقدم قول الحافظ ابن رجب في أهل الكتاب وهل يسمَّون مشركين أو لا يسمَّون؟ كونهم فيهم شرك فيهم شرك، أشركوا مع الله غيره، لكن هل هم مشركون تقدم في كلام الحافظ ابن رجب واستطراده في هذا، وعطفهم على المشركين يدل على أنهم لا يطلق عليهم أنهم مشركون.

وجملة: «فيك جاهلية» مبتدأ قدم خبره، ولعل هذا كان من أبي ذر قبل أن يعرف تحريم ذلك، فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده، فلهذا قال كما في الأدب عند المصنف: قلت: على ساعتي هذه من كبر سني؟ قال: «نعم» كأنه تعجب من خفاء ذلك عليه مع كبر سنه، فبُيِّن له كون هذه الخصلة مذمومة شرعًا، وكان أبو ذر مع ذلك يساوي غلامه في الملبوس وغيره أخْذًا بالأحوط، وإن كان لفظ الحديث يقتضي اشتراط المواساة لا المساواة.

في إرشاد الساري يقول: لعل هذا كان من أبي ذر قبل أن يعرف تحريم ذلك، فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده، ولذا قال له -عليه الصلاة والسلام-: «إنك امرؤ فيك جاهلية» وإلا فأبو ذر من الإيمان بمنزلة عالية، وإنما وبخه بذلك على عظيم منزلته تحذيرًا له عن معاودة مثل ذلك، لا شك أن الإنكار يتفاوت قوةً وخفة من شخص إلى آخر، فمثل أبي ذر في إيمانه، ورسوخ الإيمان في قلبه يشدَّد عليه، لكن لو وُجِد إنسان متساهل، والتشديد عليه ينفِّره يعالَج الأمر بأسلوب أخف، كما أنكر النبي -عليه الصلاة والسلام- على الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد بأسلوب مناسب، يناسب وضع ذلك الرجل؛ لأنه من المؤلفة، أما إذا خالف شخص المفترض فيه أنه لا تقع منه هذه المخالفة، ولا يخفى عليه مثل هذا الأمر، لا مانع من الإغلاظ عليه، ويوكَل حينئذٍ إلى ما وقر في قلبه من الإيمان؛ لأن المفسدة مأمونة حينئذٍ.

يقول النووي في شرحه: الجاهلية ما قبل الإسلام لشدة جهالاتهم.

قوله: «إخوانكم» أي في الإسلام، أو من جهة أنهم أولاد أبينا آدم -عليه السلام- «خَوَلكم» بفتح المعجمة والواو، أي خدمكم أو عبيدكم الذين يتخوَّلون الأمور أي يصلحونها.

قال العيني: «إخوانكم خولكم» في إعرابه وجهان، أحدهما: أن يكون (خولكم) مبتدأ و(إخوانكم) خبره مقدمًا، للاهتمام بالأخوة، لماذا قُدِّم إخوانكم؟ ولا مزيَّة له من حيث العربية تقديمه من حيث الإعراب جائز، لكن لماذا قُدِّمَت الأخوة؟ للاهتمام بها، والآخر، الوجه الآخر: أن يكون اللفظان خبرين، حذف من كل واحد منهما المبتدأ، تقديره: هم إخوانكم، وهم خوَلكم.

«جعلهم الله تحت أيديكم» قال الكرماني: هذا مجاز عن القدرة أو عن الملك والأخوة، هذا مجاز عن القدرة أو عن الملك ومعروف الخلاف في المجاز في إثباته في النصوص وفي اللغة عمومًا، أهل التحقيق ينفون وجود المجاز، من أهل العلم المحققين ينفون وجود المجاز مطلقًا في النصوص الشرعية، وفي لغة العرب، وجرى كثير من المتأخرين على إثباته.

والأخوة أيضًا هنا مجاز عن مطلق القرابة؛ لأن الكل أولاد آدم، أو عن أخوة الإسلام، والمماليك الكفرة إما أن تجعلهم في هذا الحكم تابعين للمماليك المؤمنة، أو يخصص هذا الحكم بالمؤمنة؛ لأن الأخوة خاصة بالمؤمنين {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات 10] مفهومه أن غير المؤمنين ليسوا بإخوة.

المقدم: أحسن الله إليكم.

لعلنا نستكمل ما تبقى الحقيقة في ألفاظ الحديث -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة.

مستمعي الكرام، نصل وإياكم بهذا إلى ختام هذه الحلقة من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. نستكمل -بإذن الله تعالى- بقية الحديث في حلقة قادمة وأنتم على خير. في ختام هذه الحلقة أتوجه بالشكر الجزيل -بعد شكر الله سبحانه وتعالى- إلى صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، شكرًا له، شكرًا لكم أنتم على حسن استماعكم.

نلقاكم -بإذن الله تعالى- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.