شرح كتاب الإيمان من صحيح مسلم (22)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فيقول الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- فيما ترجم عليه النووي بقوله: "باب غِلَظ تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون" باب تحريم أو باب غلظ تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون قال -رحمه الله-: "حدثني زهير بن حرب قال: حدثنا هاشم بن القاسم قال: حدثنا عكرمة بن عمار قال: حدثني سماك الحنفي أبو زُمَيْل قال: حدثني عبد الله بن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم خيبر" خيبر فُتحت في السنة السابعة من الهجرة، وجاء في بعض نسخ الصحيح يوم حنين وهو وهم، والصواب كما أُثبِتَ هنا خيبر، لما كان يوم خيبر كان هذه تامة؛ لأنها تأتي تامة فعل ماضٍ تام، ومعناه وُجد وحصل.
يوم خيبر فاعل يكون، يوم فاعل بخلاف ما لو كانت ناقصة، فهي لا ترفع فاعلاً، وإنما ترفع المبتدأ باعتباره اسمًا لها، وتنصب الخبر باعتباره خبرًا لها، وهنا تامة شأنها شأن الأفعال التامة من قام وقعد ضرب وأكل وشرب.
"لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-" النفر الجماعة من الثلاثة إلى التسعة أو العشرة من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابة وصحب وأصحاب كله بمعنى واحد، والمراد بواحدهم الصحابي من صحب النبي -عليه الصلاة والسلام- أو من رأى النبي، من رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- مؤمنًا به، ومات على ذلك، هذا هو الصحابي عند جمهور أهل العلم، ومنهم من اشترط مفهوم الصحبة وهي طول المجالسة والبقاء والمقام معه، لكن من رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- نال شرف الصحبة التي لا ينالها أحد كائنًا من كان ممن لم يصحبه -عليه الصلاة والسلام-، ومن كان ممن قيل له فيه: له أجر خمسين من الصحابة، فإنه لا ينال شرف الصحبة.
«طوبى للعامل» يعني في آخر الزمان إذا لم يكن له من يعينه على العمل «له أجر خمسين» قال الصحابة: منا أو منهم؟ قال: «منكم»، لكن مع ذلك شرف الصحبة برؤيته -عليه الصلاة والسلام- مع الإيمان به هذا لا يناله من أتى بعدهم مهما عمل من الأعمال، ولن ينال مد أحدهم ولا نصيفه كما جاء في الحديث الصحيح "من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد" بدؤوا يعددون القتلى بناءً على الظاهر أنه قُتل في سبيل الله، وما أخرجه- في ظنهم- إلا أنه خرج ليقاتل أعداء الله؛ لإعلاء كلمة الله، ومن قتل في هذه الحالة مقبلاً غير مدبر، وقصده بجهاده إعلاء كلمة الله فهو شهيد عند الله -جل وعلا-، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما عددوا من عددوا ممن قتل قال: "حتى مروا على رجل" وسيأتي في الروايات الأخرى أن اسمه مِدْعَم مولى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى مروا على رجل "فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «كلا»" زجر وردع مع تضمنه النفي.
"«كلا إني رأيته في النار، إني رأيته في النار»" هذا موجِب للخوف والوجَل لمن يعمل الأعمال الصالحة؛ خشية ألا تُقبَل منه {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [سورة المؤمنون:60] خائفة قالت عائشة للنبي: -عليه الصلاة والسلام- أهم الذين يزنون ويسرقون ويقتلون ويفعلون ويفعلون يعني من المنكرات والجرائم؟ قال: «لا، يا ابنة الصديق، هم الذين يصلون ويصومون ويحجون ويعملون الأعمال الصالحة ويخشون ويجلون ويشفقون ألا تقبل منهم هذه الأعمال» المسألة في غاية الدقة، الإنسان أحيانًا يركن إلى عمله وهو لا يدري أمقبول هو أو مردود؛ لأن الأعمال معلَّقة بالنيات، وقبولها بالإخلاص قد ينخدش، الإخلاص والنية شرود في أضيق الأوقات قد تعمل العمل وأنت تزعم أنك عملته لله وقد دخله ما دخله من الرياء، من مراءاة الغير بعمل الخير، فمثل هذا مردود على صاحبه حابط عمله «أخوف ما أخاف على أمتي» يقول -عليه الصلاة والسلام-: «الشرك الخفي» قالوا: ما هو؟ قال: «الرياء» فهو شرك، وعند كثير من أهل العلم لا تشمله المغفرة، بل لا بد أن يُعذّب عليه، بل هو داخل في قوله -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [سورة النساء:48].
فالشرك الأصغر كالرياء وما جاء في معناه مما سمي شركًا مما لا يبلغ حد الشرك الأكبر هذا خطير جدًّا لا يُغفَر، ويختلف عن الشرك الأكبر أنه لا يخلَّد في النار، الشرك الأكبر يخلد في النار، وأما الشرك الأصغر فيتحتم عقابه ثم يخرج من النار، ومنهم من يقول: حكمه حكم الكبائر، كبائر الذنوب.
المقصود أن مثل هذه الأمور التي تحبط العمل في دقتها وخفائها تجعل الإنسان يخاف، يفعل يعمل الأعمال الصالحة وهو خائف ألا تُقبَل منه كما قال -جل وعلا- في مدح المؤمنين الخُلَّص: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [سورة المؤمنون:60] خائفة، قد يقول قائل: هذا الذي عمل العمل، وصام النهار وتعب، وقام الليل، وأنفق الأموال، كيف يهون عليه أن يضيع هذه الأعمال التي تعب عليها في مراءاة فلان من الناس، وقد لا يكون له شأن هذا المرائى نقول: هذا الذي قدم مهجته وقُتِل في الصف لما غَلَّ عباءة أو شملة دخل بها النار، والثلاثة الذين هم أول من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة من قُتِل فيما يظهر في سبيل الله، وإنما قُتل لما قُتل ليقال: جريء شجاع، وقل مثل هذا في العالم الذي أفنى عمره، قد يكون يتعلم ويعلم الناس سبعين سنة أو أكثر من ذلك، ثم في النهاية يكون من أول من تُسعَّر بهم النار لماذا؟
لأنه كان يفعل ذلك ليقال: عالِم، وقد قيل، وقد قيل، ومثل هذا المتصدِّق الذي تعب على جمع الأموال وأنفقها، في الظاهر أنها في سبيل الله، ولوجه الله، ولابتغاء مرضاة الله، ولكنه في حقيقة الأمر أنه تصدق ليقال: جواد، ليقال جواد، هؤلاء الثلاثة هم أول من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة، ما أفضل من هذه الأعمال الثلاثة التي أفنوا أعمارهم فيها؛ الجهاد والعلم والبذل في سبيل الله؟ هذا قال حتى مروا على رجل يقال له كما سيأتي في الرواية الثانية هو عبد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- اسمه مِدْعَم كما سيأتي، حتى مروا على رجل "فقالوا: شهيد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كلا، إني رأيته في النار، إني رأيته في النار في بردة غَلَّها أو عباءة»" يعني غلها، الغلول الخيانة في الغنيمة، والأخذ منها قبل القسمة {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة آل عمران:161]، والبردة كساء أسود مربَّع صغير، وقيل: هي الشملة والعباءة معروفة.
"ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا ابن الخطاب»" يخاطب عمر -رضي الله عنه- "«اذهب فنادِ في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، اذهب فنادِ في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون»" قال: فخرجت فناديتظ: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، هذا الذي غل هذه العباءة أو هذه البردة أو تلك الشملة لم يخرج من دائرة الإسلام، وكونه يعذب على هذا الذنب لا يعني أنه يخلَّد في النار، وليس معنى هذا أنه قد انتفى عنه دخول الجنة، وفي قوله: «لا يدخل الجنة إلا المؤمنون» المراد من أول وهلة من غير عذاب إلا المؤمنون، أو ممن منَّ الله عليهم بالعفو عنهم من أصحاب الكبائر.
قال: فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، ثم قال: "وحدثني أبو الطاهر" ما اسمه؟ ما اسمه؟ لا تناظر في الكتاب ما يعطيك شيئًا! حرملة، اسمه حرملة بن يحيى "قال: أخبرني ابن وهب" عبد الله بن وهب الإمام المشهور، "عن مالك بن أنس" إمام دار الهجرة ونجم السنن.
"عن ثور بن زيد الدؤلي" ثور بلفظ الحيوان المعروف، ولا يستنكفون من التسمية بأسماء الحيوانات، العرب ما هم أهل تنميق وتزويق، صحابي جليل له حديث في مسلم وغيره اسمه عياض بن حمار، وسموا كليبًا، وسموا ذئبًا، وسموا أسدًا، سموا بالحيوانات، لكن هذا عن ثور بلفظ الحيوان، وهو ذكر البقر، ابن زيد الدؤلي، الدُّؤَلِي وقد يقال: الدِّيْلِي، وقد يقال: الدُّوْلِي، وهو من بني الدُّئِل في المنسوب إليه، الدُّئِل عينه مكسورة، وفي النسبة مفتوحة، الدُّئِل مكسورة والدُّؤَلي مفتوحة، وهذه هي الجادة في النسبة إلى مكسور الثاني يُفتَح في النسب، كما تقول: أبو عمر بن عبد البر النَّمَري وهو من بني النَّمِر، وتقول: هذا مَلَكي، وهو منسوب إلى مَلِك وهكذا.
"عن سالم أبي الغيث" عن سالم أبي الغيث "مولى ابن مطيع عن" الصحابي "الجليل أبي هريرة" -رضي الله عنه-، "ح" حاء التحويل من إسناد إلى آخر، وهي في صحيح مسلم بكثرة، لكن كونها في منتهى الإسناد قليل جدًّا في مسلم، توجد بكثرة عند البخاري في نهاية الإسناد، لكنها في مسلم في أثناء الإسناد، عند ملتقى الأسانيد، "ح وحدثنا قتيبة بن سعيد، وهذا حديثه" يعني هذا لفظه قال: "حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد" وهو الدراوردي هو الدراوردي، "عن ثور" بن زيد المذكور في الإسناد السابق، "عن أبي الغيث" سالم المذكور "عن أبي هريرة قال: خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى خيبر ففتح الله علينا" ففتح الله علينا خيبر، "فلم نغنم ذهبًا ولا وَرِقًا" ما غنموا لا ذهب ولا فضة، "غنمنا المتاع والطعام والثياب" غنمنا المتاع الأثاث والطعام والثياب.
"ثم انطلقنا إلى الوادي، ومع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد له" عبد له هو مِدْعَم السابق، وقيل غيره، وقيل: كَرْكَرَة، اسم هذا العبد، اسمه كَرْكَرَة، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا يترتب عليها فائدة كبيرة، "عبد له وهبه له رجل من جُذام يُدعَى رفاعة بن زيد من بني الضبيب" وهبه له رجل من جذام يُدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب، وهو مشرك، وقبل النبي -عليه الصلاة والسلام- هدية المشرِك إما من باب التأليف له؛ علَّه أن يسلم، وإلا فقد ثبت عنه أنه رد هدية المشرِك وقَبِل من المقوقس، عظيم القبط في مصر، قَبِل منه الهدية، التي منها مارية القبطية، فإذا ترتب على قبولها مصلحة، فإنه يقبلها إذا كانت راجحة، وإذا لم يترتب عليها مصلحة، فإن منة المشرِك تُتَحاشا بقدر الإمكان، إلا إذا كان هناك حاجة ماسة إليها.
قال: "فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" قام عبد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "يحل رحله" يفكك العفش والمتاح العبد "فرُمي بسهم، فكان فيه حتفه" يعني موته، "فقلنا: هنيئًا له الشهادة" هنيئًا له الشهادة "يا رسول الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كلا، والذي نفسي بيده، إن الشملة لتلتهب عليه نارًا أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسِم»" «كلا، والذي نفس محمد بيده» هذا قسم، يقسم ويحلف النبي -عليه الصلاة والسلام- من غير استحلاف، وهذا يدل على جواز الحلف من غير استحلاف لاسيما في الأمور التي تحتاج إلى تأكيد.
«والذي نفس محمد بيده» فيه إثبات صفة اليد لله -جل وعلا- على ما يليق بجلاله وعظمته، بعض الشراح يقول: روحي في تصرفه، وهذا فرار من إثبات الصفة لله -عز وجل- التي هي اليد على ما يليق بجلاله من غير تشبيه ومن غير تمثيل ولا تعطيل، تفسير باللازم، وإلا كل الناس أرواحهم في تصرف الله -جل وعلا-، «والذي نفس محمد بيده، إن الشملة لتلتهب عليه نارًا، إن الشملة لتلتهب عليه نارًا أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المَقاسم» قال: ففزع الناس، خافوا خوفًا شديدًا لاسيما أن بعض الناس عنده نوع تساهل في هذه الأمور، يتساهلون في أخذ الشيء الطارف ولو كان مملوكًا لغيرهم، كثيرًا ما يسألون: أخذنا من الفندق، أخذنا من الطائرة، أخذنا من كذا، ومروا بمحل تجاري وأكلوا، ومروا يتذوقون، هم يتساهلون في هذه الأمور، وهذه حقوق العباد ومبنية على المشاحَّة، فمثل الفنادق الشيء المستهلَك الذي وُضع من أجلهم وهو مستهلَك لا مانع من أخذه؛ لأنه سوف يرمى، لن يوضع لنزيل بعده، أما المنشفة فتُغسَل وتُرجَّع، وشراشف، وأشياء يمكن أن يستفيد منها من يأتي بعده، فلا يجوز أخذها، والورَع ألا تأخذ شيئًا، والورع ألا تأخذ شيئًا لا مستهلَكًا ولا غير مستهلَك.
قال: "ففزع الناس، فجاء رجل بشِراك أو شِراكين" السير الذي على ظهر النعل، بشِراك أو شِراكين، شك الراوي هل هو واحد أو اثنان، "فقال: يا رسول الله، أصبتُ يوم خيبر فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «شِراك من نار أو شِراكان من نار»" يعني الغلول حصل، والإثم ثبت؛ لأنه حق، حد الغلول الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها موجود، فهذا أخذ من الغنيمة قبل أن تُقسَم فهو غالّ، شراك من نار، أو شراكان من نار، الغال الذي يأخذ من الغنيمة قبل أن تُقسم جاء في حديث أنه يحرَّق متاعه، يُحَرَّق متاعه ويُضرَب، وفي رواية: تُضرَب عنقه، لكن الحديث في أصله ضعف، وهذه الرواية منكَرة، وهنا في هذا الحديث ما حرَّق متاع العبد، ولا متاع الذي جاء بالشراك والشراكين.
أولاً الحديث المعارِض مضعَّف عند أهل العلم، وبعضهم قال: منسوخ، وحديث الباب متأخِّر، شيخ الإسلام يرى أن التحريق ليس بحد يلزم تطبيقه، وإنما هو تعزير إن رأى الإمام المصلحة في تحريق متاعه حرَّق وإلا فلا، الغلول الأخذ من الغنيمة قبل أن تُقسَم، مِن غَلَّ يغُلُّ، وإذا فُك الإدغام صار يغلل؛ {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة آل عمران:161]، نسأل الله العافية، أما غَلَّ يغِلُّ بكسر الغين فهو من الحِقْد، وهو من الغِل، وهو الحقد والحسد، ففي هذا غِلَظ تحريم الغلول، وأنه لا فرق بين قليله وكثيره، بعض العلماء، ومنهم الإمام مالك، ومعروف عند الحنابلة، أن للإنسان أن يأكل ما يحتاج إليه من الغنيمة ويرد الزائد، وبعضهم يشدِّد أنه لا يجوز أن يأخذ ولا العود، لكن إذا كان غيره لا يحتاج إليها مثل عود لا قيمة له، أو حصاة احتاجها هو والجيش لا يحتاجها، أو طعام إن هو بحاجته، وإن لم يأكله فسد على الجميع، يتساهلون في مثل هذا.
ثم بعد هذا قال الإمام مسلم لما ترجم عليه النووي -رحمه الله- "باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر" باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر قال: "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم" الحنظلي المعروف بابن راهويه "جميعًا عن سليمان وهو ابن حرب، "قال أبو بكر" وهو ابن أبي شيبة المذكور في أول الإسناد: "حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن زيد عن حجاج الصواف عن أبي الزبير" محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكي، عن أبي الزبير "عن جابر"، وأبو الزبير معروف بالتدليس، لكنه ثبت سماعه من جابر، وما في الصحيحين من معنعنات المدلِّسين محمولة على السماع كما مر بنا مرارًا.
"عن أبي الزبير عن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي" أن الطفيل بن عمرو الدوسي "أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومنعة؟" الحصن مكان محكَم، العدو لا يصل إليه، ومنعة من قومنا يمتنع ممن يريده بهؤلاء الذين يدافعون عنه مع حصانته وارتفاعه ارتفاع أسواره، هل لك في حصن حصين ومنعة؟ "قال: حصن كان لدوس في الجاهلية" الطفيل بن عمرو يريد أن ينتقل النبي -عليه الصلاة والسلام- من مكة، لما كان يؤذى هو وأصحابه -عليه الصلاة والسلام- يقول: عندنا في دَوْس حصن حصين ما يصل إليكم أحد قال: حصن كان لدوس في الجاهلية قال: فأبى ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-.
"فأبى ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- للذي ادخر الله للأنصار" للذي ادخر الله للأنصار، الأنصار من الأوس والخزرج من المدينة ادخر الله لهم هذه الكرامة، وهي الهجرة إليهم من قِبَله -عليه الصلاة والسلام- من أصحابه، صارت دارهم، دار الهجرة، وثبت لها من الفضائل بسبب هجرته -عليه الصلاة والسلام- إليها ومقامه فيها ما لم يثبت لغيرها من البلدان في مفاضلة بين أهل العلم بين مكة والمدينة، والجمهور على أن مكة أفضل، والمضاعفات فيها أكثر، وقد ورد في سكنى المدينة أحاديث كثيرة ترغِّب في سكناها «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون». وعلى كل حال مسألة المفاضلة لها فروعها وتوابعها وأدلتها مما يطول ذكره.
للذي ادخر الله للأنصار، يعني ادخر الله للأنصار هذا الفضل الذي حصل بهجرته -عليه الصلاة والسلام- ومقامه بين ظهرانيهم، "فلما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو" جاء الطفيل من الحصن الحصين من دوس إلى المدينة "هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه" دَوْسِي "فاجتووا المدينة" اجتووا المدينة يعني استوخموها، وكرهوا المقام بها، يعني ما ناسبتهم، وأصل الجوى داء يصيب الجوف.
المقصود أن المدينة اجتووها، يعني ما ناسبتهم، وأصابهم ما أصابهم من الجوى، "فاجتووا المدينة فمرض" من الذي مرض؟ الرجل الذي جاء مع الطفيل مرض الوفد أو الرهط من عُكْل وعُرَيْنة، اجتووا المدينة فأمر لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بلقاح من إبل الصدق فشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحُّوا، شُفِيَت أجسامهم وبطونهم، قتلوا الراعي، ومثَّلوا به، واستاقوا الإبل، فبعث النبي -عليه الصلاة والسلام- في طلبهم، فما ارتفع النهار حتى جيء بهم ففعل بهم النبي -عليه الصلاة والسلام- ما فعلوا، قطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة يستسقون ولا يسقون حتى ماتوا، قوم لئام يأتون فيمرضون، ويوصف لهم الدواء بالمجان، ويفعلون ما يفعلون؟! يقتلون ويمثِّلون ما يدل على أن قلوبهم مليئة بالحقد والنفاق، يعني ما اكتفوا أن يستاقوا الإبل ويذهبوا بها حتى فعلوا بالراعي، وفي رواية بالرعاة ما فعلوا؟! فجازاهم النبي -عليه الصلاة والسلام- بالمماثلة في القتل.
فاجتووا المدينة فمرض الرجل الذي هاجر مع الطفيل "فجزع" ما تحمَّل المرض، "فأخذ مشاقص" فجزع فأخذ مشاقص، واحد المشاقص مِشْقَاص، وهو السهم، "مشاقص له، فقطع بها براجمه" البراجم مفاصل الأصابع، فقطع بها براجمه، "فشخبت يداه" خرج منها الدم بكثرة وبقوة صار نزيفًا، "فشخبت يداه حتى مات" حتى مات، "فرآه" صاحبه "الطفيل بن عمرو في منامه" فرآه في هيئته، فرآه "وهيئته حسنة" فرآه وهيئته حسنة، حسن الهيئة، لا لأنه فعل ما فعل من الجزع وقطع البراجم، لا، لأنه هاجر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- "فرآه.. حسنة ورآه مغطيًا يديه" يعني محل الذنب غطاه فرآه مغطيًا يديه "فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما لي أراك مغطيًا يديك؟" ما لي أراك مغطيًا يديك؟ "قال" لي قال قيل ليقال "قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت" أنت الذي أفسدت يدك فقطعت البراجم، "لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيل" هذه الرؤيا قصها الطفيل على "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم وليَديه فاغفر، اللهم وليَديه فاغفر»" دعا له النبي -عليه الصلاة والسلام- وأُجيبت دعوته -عليه الصلاة والسلام-.
هذا الحديث، الرجل تسبب في قتل نفسه، ولم يباشر قتل نفسه، تسبَّب وهو تسبُّب يغلب على الظن أنه يصل إلى الحد الذي هو الموت، ما فعل ذلك إلا من أجل أن يموت، والقاتل لنفسه أو لغيره متعمِّدًا جاء الوعيد الشديد في آية النساء أنه يُخَلَّد في النار، أنه يُخَلَّد في النار، لكنه غُفِر له بسبب هجرته إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وشملت المغفرة يديه؛ لدعوة النبي -عليه الصلاة والسلام-.
ففيه رَدٌّ على الخوارج، ففيه رد على الخوارج الذين يرون أنه يكفر بمثل هذا العمل، مرتكب الكبيرة كافر عند الخوارج، رد على المعتزلة الذين يرون أنه خالد مخلَّد في النار، وهذا غُفِر له حتى يديه موضع الجريمة غفر له، مما يدل على مذهب أهل السنة والجماعة، أن مرتكب الكبيرة لا يُخلَّد في النار، وهو مستحق للعقوبة، لكنه تحت المشيئة، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له، وهنا غفر له بدعاء النبي -عليه الصلاة والسلام-، فيه رد على المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، لا يضر مع الإيمان ذنب، هذا جاء للمدينة مهاجِرًا مسلمًا دخل في الإسلام، وأذنب هذا الذنب.
المرجئة يقولون: ما يضره، إذًا لماذا غطى يديه إلا أنه عوقب بذلك، عوقب بذلك، فالذنب يضر، لكنه تحت المشيئة، لا يقال بقول الخوارج: إنه يكفر، ولا بقول المعتزلة: إنه في المنزلة بين المنزلتين، ويتحتم عذابه ودخوله النار ويخلَّد فيها، ولا بقول المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان عمل لمن قال: لا إله إلا الله أن يصنع ما شاء من الجرائم والمنكرات مهما كانت في عظمها وكثرتها ما تضر، هو في الجنة ما عليه شيء، يقولون: كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، فكذلك لا ينفع أو لا يضر مع الإيمان معصية، ومذهب أهل السنة وسط بين هذه الفِرَق، المعاصي والذنوب لاسيما الكبائر تضر صاحبها، وهو متوعَّد بالعذاب إن لم يعف الله عنه، ولكنه ليس كما يقول الخوارج والمعتزلة: يُخَلَّد في النار، بل يدخل النار إن لم يعف عنه ويغفر له ربُّه ويتجاوز عنه، يدخل ويُعَذَّب بقدر ذنبه، فإذا طهر ونقي خرج من النار إلى الجنة.
ثم قال الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- فيما ترجم عليه النووي: "بابٌ في الريح التي تكون قرب القيامة" بابٌ في الريح التي تكون قُرْب القيامة، "تقبض من في قلبه" من في قلبه "شيء من الإيمان" الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، ولا تقوم الساعة والأرض يقال فيها: الله الله، فماذا عمن يبقى من المؤمنين إلى قرب قيام الساعة؟ تأتي ريح يأتي وصفها، فتقبض أرواحهم، وفي الحديث: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين» إلى آخر الحديث، فيقول الإمام مسلم -رحمه الله تعالى-: "حدثنا أحمد بن عبدة الضبِّي قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد" هو الدراوردي، "وأبو علقمة" عبد الله بن محمد بن أبي فروة "الفَرْوي" المدني، "قالا: حدثنا صفوان بن سليم" قالا: حدثنا صفوان بن سليم "عن عبد الله بن سلمان عن أبيه" عن عبد الله، كذا في نسخ الصحيح، وفي تاريخ البخاري: عن عبيد الله بالتصغير ابن سلمان الأغر عن أبيه.
"عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يبعث ريحًا من اليمن، إن الله يبعث ريحًا من اليمن ألين من الحرير، فلا تدع أحدًا في قلبه» قال أبو علقمة: «مثقال حبة»، وقال عبد العزيز: «مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته»" قال أبو علقمة: «مثقال حبة» وقال عبد العزيز -صاحبه الدراوردي الذي روى الحديث من طريقهما- قال: «مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته» الحديث «إن الله يبعث ريحًا من اليمن»، وفي الكتاب نفسه في صحيح مسلم في الفتن التي في آخر الكتاب قال من الشام «ريحًا من قِبَل الشام»، فيحتمل أنهما ريحان هذه من الجنوب من اليمن، وهذه من الشمال من الشام، يلتقيان كل ما مر عليه من المؤمنين تقبضهم، هذه تقبض، وهذه تقبض، فيلتقيان، ويحتمل أن تكون البداءة من اليمن وتصل إلى الشام أو العكس من الشام وتصل إلى اليمن، فيحتمل أنهما ريحان، واحدة تأتي من الشمال من جهة الشام، والثانية من الجنوب من جهة اليمن، والاحتمال الثاني أنها تخرج من اليمن وتصل إلى الشام أو العكس.
المقصود أن هذا الحاصل ريح في آخر الزمان، والحديث في الصحيح، فتقبض كل من في قلبه مثقال حبة من إيمان أو ذرة من إيمان، جاء الحديث أنه لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، وهذه الريح قبل قيام الساعة، فالمراد بالحديث الثاني إلى قرب قيام الساعة، يعني بداية علاماتها الكبار، إذا قربت الساعة جاءت الريح فتقبض أرواح المؤمنين؛ لأنه لا يبقى إلا وقت يسير بين هذه الريح وقيام الساعة، فكأنه بالنسبة لطول الدنيا لا شيء، أو أن المراد بقيام الساعة قيام ساعة هؤلاء الأخيار، وأما وجود الأشرار بعدهم فوجود كأنه العدم، كأنه العدم، وجودهم كعدمهم، هؤلاء ذرة من إيمان أو حبة من إيمان حبة خردل، هذا كله يدل على المذهب الحق الصحيح أن الإيمان يزيد وينقص، ينقص حتى يصير لحد الحبة، ويزيد إلى أن يكون أمثال الجبال، وهو يزيد وينقص كما هو مقرَّر عند أهل السنة.