كتاب الجامع من المحرر في الحديث - 19

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نعم.

طالب: بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، اللهم اغفر لنا وللحاضرين والمستمعين يا رب العالمين.

 قال الإمام ابن عبد الهادي في كتابه المحرر كتاب الجامع: (وعن خولة الأنصارية -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة».

وعن أنس -رضي الله عنه- قال: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إنْ كنا لنعدها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الموبقات».

وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كل معروف صدقة».

وعن عبد الله بن يزيد الأنصاري -رضي الله عنه-: «نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن النهبى والمثلة».

وعن المقدام بن معدي كرب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه».

أخرج هذه الأحاديث البخاري.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «رغم أنفه! ثم رغم أنفه! ثم رغم أنفه! قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك أبويه عند الكبر -أحدهما أو كليهما- فلم يدخل الجنة».

وعنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا! ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان».

 وعنه -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول، فليضطجع».

وعنه -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا قام أحدكم من الليل فليفتح صلاته بركعتين خفيفتين».

وعنه -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء».

 وعن النواس بن سمعان الأنصاري -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن البر والإثم، فقال: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس».

وعن سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن...).

حسبك.

طالب: أحسن الله إليكم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،

 فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما ذكره من أحاديث الجامع، والجامع الكتاب الذي يجمع أبوابًا غير مترابطة، أما الكتب السابقة من كتب هذا الكتاب فإنها تكون في موضوع واحد، وهنا في موضوعات متعددة، وذكرنا في شرح الترجمة أن الإمام مالك هو فيما نعلم هو أول من أدخل الجامع في كتابه؛ لأن المصنف يجمع الأحاديث أو المسائل التي ترتبط بموضوع واحد، فيترجم عليها كالطهارة والصلاة والصيام وهكذا، وتبقى أحاديث لا يمكن أن تدخل في باب من هذه الأبواب أو يمكن أن تدخل في جميع هذه الأبواب أو في أكثر من كتاب من هذه الكتب، فيجمعها ويترجم عليها بالكتاب الجامع.

قال -رحمه الله-: (عن خولة الأنصارية -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حق»).

«إن رجالاً» وإن حرف توكيد، ورجالاً نكرة مؤكدة بإن، والأمر لا يخص الرجال، والنساء شقائق الرجال.

«إن رجالاً يتخوَّضون» والنكرة المبرر بالابتداء بها كونها موصوفة.

«إن رجالاً يتخوَّضون» يعني يتخبطون، «في مال الله بغير حق» سواء كان ذلك في طرق كسبها أو في كيفية صرفها واستخدامها، فتجده لا يبالي كيف كسب هذا المال، لا يبالي هل كسب المال من حله أو من طرق محرمة، فهذا الذي لا يبالي يتخوض ويتخبط، همه جمع المال سواء كان من حلال أو من حرام، لا يهمه ذلك، وإذا أراد أن يصرف فكذلك لا يهمه أن يكون هذا المصرف مما أباحه الله -جل وعلا- أو مما حرمه الله -جل وعلا-، وهذا إذا كان فيما يملكه في نفسه ويسعى ويتعب عليه ويكسبه من طرق مشروعة وغير مشروعة، فإذا كان في مال غيره فالأمر أشد، إذا كان هذا الوعيد على هذا المتخوّض هذا إذا كان في ماله فله -نسأل الله العافية- فله النار، نعوذ بالله، مثل هذا إذا كان في ماله الذي لا ينازعه فيه أحد، فكيف بالمال الذي ليس له سواء كان لفرد من أفراد الناس أو لمجموعة منه أو لبيت المال -نسأل الله العافية- والأمر حينئذٍ أشد.

وإضافة المال إلى الله -جل وعلا-؛ لأنه هو المالك الحقيقي: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]. ويضاف المال إلى الشخص باعتباره المتسبب والموكول إليه التصرف فيه بإذنه وأمره -جل وعلا-، فهو ماله؛ لأنه كسبه، ويتصرف فيه بإذن الله -جل وعلا- سواء كان تصرفه حلالاً في وجوه حلال، أو حرام، والله -جل وعلا- سيتولى حسابه، ولكن المال حقيقته للمالك الحقيقي والمتصرف والواهب والرازق، وهو الله -جل وعلا-، ولذا قال: «في مال الله».

«إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق» أما الذي يتخوض في مال الله بحق فهذا لا ضير عليه، وعلى حسب هذا الصرف وهذا الكسب إن كان من طرق مباحة وصرف في أمور مباحة فلا شيء عليه، وإن كان في وجوه الخير، وبعضها مما يجب، وبعضها مما يستحب فهذا مما يمدح عليه، ويثاب عليه، وإن كان تخوّضه فيما حرم الله عليه سواء كان ابتداءً في كسبه أو انتهاءً في صرفه فهذا هو محل الحديث.

«بغير حق فلهم النار يوم القيامة»، ولا شك أن الصرف من مال الله له ضوابط ولو كان في وجوه مباحة في الأصل، لكن عليه أن يلتزم بالضوابط الشرعية، فلا يزيد على ما أُذن له فيه فيدخل في حيز الإسراف والتبذير، ولو كان في وجوه مباحة، مع أنه لا سرف في الخير، يعني إذا أنفق في وجوه الخير ولو أكثر منها، ولو زاد على ما أوجب الله عليه، ولو زاد على ما طلب منه، لكنه في وجوه الخير ما لم يكن هذا الصرف على حساب غيره مما أوجب الله مما لم يضر بمن تلزمه نفقته فيقصر عليهم، ولو كان صرفه في وجوه خير، المسألة كما هو معروف من قواعد الشرع أن هناك مفاضلات، وهناك فاضل ومفضول وأفضل، فعلى المسلم أن يختار الأفضل، ويصرف فيه، والواجب أولى بالصرف من السنة والمندوب، ومن أوجب الواجبات النفقة على من تلزمه نفقته.

«فلهم النار» -نسأل الله العافية- يعني لهم العذاب في النار؛ بسبب هذا التخوض في مال الله، وشواهد الأحوال فيمن حولنا من الأفراد والجماعات ومن الرجال والنساء كثير في هذا التخوض، تجد الإنسان دخله وأمواله بالملايين، ومع ذلك ينفقها، ويصرفها فيما يدخل تحت هذا الوعيد. شاعر من الشعراء اسمه سلم، لقبوه بالخاسر، سلم الخاسر، وهناك أكثر من سبب قيل فيه، قيل: إنه ورث أموالاً طائلة من والده، ففرقها على الشعراء وعلى أمثالهم، ولم ينفقها في سبيل الله، فقيل له: الخاسر، ومما قيل فيه أنه ورث مصحفًا من أبيه، فباعه واشترى بثمنه طُنبورًا، ولذلك قيل له: الخاسر. هذا مثال يسير، لكنه في حقيقته عظيم يدل له دلالة.. يسير، فكيف بالذين ينفقون الملايين في وجوه محرمة؟ والله المستعان.

وفي الجملة النساء إذا ملكن الأموال تصرفهن في هذه الأموال لا يسلم، وهذا كثير في النساء أنها تنفق في شيء لا يعينها لا على دينها ولا على دنياها، ولا ينفعها، ولذلك أكثر النساء تحتاج إلى ولي في أمر دنياها: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]، فالرجل أحزم في الجملة من المرأة، وتجد المرأة لا عليها نفقة، ولا عليها شيء، النفقة على زوجها، وراتبها أحيانًا أكثر من راتبه، ويمضي الشهر وليس عندها شيء؛ لأنها تتخبط، ولا تضبط أمورها.

وعلى كل حال الواجب على المسلم أن يتحرى في كسبه، فلا يأخذ المال إلا مما أباح الله له من طرق الحلال، ولا ينفقه إلا فيما أحل الله له وأباحه له من المباح والمندوب والواجب، فبمثل هذا تُصرف الأموال.

«فلهم النار يوم القيامة» -نسأل الله العافية- هذا وعيد شديد، مما يدل على أن هذا التخوض في مال الله من كبائر الذنوب؛ لأنه تُوعِّد عليه بالنار، فهو من الكبائر -نسأل الله العافية-.

ثم قال -رحمه الله-: (وعن أنس -رضي الله عنه- قال: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدّها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات).

كثير من الناس لا يبالي بما يقول وما يعمل، كثير ولا سيما ما يتعلق باللسان من القيل والقال، يتكلم بما يعِنّ له، ولا يلقي بالاً لما يقوله، «وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفًا»، كلمة وهي في نظر قائلها أدق من الشعرة؛ ليضحك الناس أو ليأتي بخبر لم يُسبق إليه، فيهوي بها في النار سبعين خريفًا.

(إنكم لتعملون أعمالاً) والعمل أعم من أن يكون عمل بدن، فلذلك يشمل عمل اللسان وعمل القلب، تظنونها يسيرة جدًّا، وتتداولونها فيما بينكم وتتناقلونها، وما أكثر هذا النوع من الإشاعات التي يتداولها الناس في مجالسهم وفي أجهزتهم، يظنونها سهلة، يظنونها لا أثر لها، وهي تعمل في الناس أكثر من عمل السحر أحيانًا، والنمام يفسد في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة؛ لأنه يفسد ويخرب البيوت، ولذا جاء الوعيد الشديد على النمام: «لا يدخل الجنة قتات»، وهو النمام، ورأى النبي -عليه الصلاة والسلام- رجلين يعذبان في قبورهما، «وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أحدهما كان يمشي بالنميمة، والآخر كان لا يستنزه من البول».

المقصود أن إطلاق اللسان بالقيل والقال مما لا يحسب له حساب هذا داخل في الحديث؛ لأن صاحبه يظن أن أمره يسير، ولو استحضر ما يترتب عليه من عقوبة ما عمله، يراه يسيرًا، وهي على عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- تعد من الموبقات يعني المهلكات، قال أبو عبد الله البخاري بعد روايته: يعني المهلكات، تكون حينئذٍ من الكبائر، والموبقات أشد الكبائر -نسأل الله العافية-.

(هي أدق في أعينكم من الشعر) يعني في أعينكم أو في تقديركم من أمور سواء كانت من الأقوال أو من الأفعال، والحسد كالذي يكثر في الناس، وهو عمل قلبي، وكثير في الناس يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، الإنسان عليه أن يسيطر على نفسه وعلى لسانه وعلى قلبه وعلى جوارحه، ولا يترك الحبل كما يقول الناس: الحبل على الغارب، كل ما عنَّ له ارتكبه أو قاله.

(هي أدق في أعينكم من الشعر، إنْ كنا) إنْ مخففة من الثقيلة، (إن كنا نعدها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات).

 والصغائر التي هي في حقيقتها صغائر، يعني ما هي في تقدير الإنسان، وهي في حقيقتها كبائر، الصغائر وهي في حقيقتها صغائر إذا اجتمعت على الإنسان تهلكه؛ لأن الإصرار على الصغيرة يُصيرها كبيرة، وضُرب المثل لذلك بقوم اجتمعوا في مكان، وأرادوا إشعال النار، فذلك أتى بعود، وذاك بعود، وهذا بعود، ثم أشعلوا نارهم، وطبخوا أكلهم، وإن كانت من هذه الأعواد الصغيرة، إذا كثرت واجتمعت على الإنسان تهلكه بلا شك، هذا معروف في المحسوسات، في المحسوسات الإنسان يحتاج في بيته إلى شيء يمشِّي حياته إلى آخر الشهر قبل أن يأتي الراتب، رح يا ولدي هات لنا كذا من البقالة ولو كان بريال، ثم رح يا ولدي هات كذا، ثم هات كذا، ثم آخر الشهر ألوف تجتمع من هذه الريالات، من هذه الأشياء اليسيرة تجتمع ألوف، وأحيانًا لا يستطيع أن يسددها من راتبه، فهي أكثر من راتبه، هذا سببه التساهل وعدم الحزم وضبط الأمور، الأمر سهل ريال ما يضر، ثم يقول لك الولد ....... آخذ كذا من البقالة بريالين الأمر سهل أو ....... أطلب كذا من المطعم سهل ....... أطلب كذا من هؤلاء الذين يبيعون في الإنترنت وغيره كذا وكذا، كل يوم هات هات، ثم في النهاية يعجز، وتلحقه الديون؛ بسبب هذه الديون التي هي في أصلها حقيرة، هذا في أمور الدنيا الحقيرة، لكن ما بالك في أمور تُكتب عليه وتدون في كتاب {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]، لا يترك شيئًا لا كبيرة ولا صغيرة؟ مع عفو أرحم الراحمين، لكن المسألة جد ليست بهزل.

 كثير من الناس إذا كُلم في شيء قال: الله غفور رحيم، ويغفل عن قوله -جل وعلا-: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: 3].

وبعضهم إذا كُلم في أمر يرتكبه أو في أمور يرتكبها مما حرم الله عليه قال: التقوى هاهنا، الرسول قال: «التقوى هاهنا»، لكن ما حقيقة التقوى؟

فعل المأمورات وترك المحظورات، فأنت إذا فعلت محظورًا فهل اتقيت؟ لو اتقيت ما فعلت، إذا تركت الصلاة مثلاً ولو في جماعة أو في وقتها تقول: التقوى هاهنا؟ ما حقيقة التقوى؟ فعل المأمورات، وأنت ما فعلت المأمور، إذن هذه دعوى مجردة، وقد قال عمر بن الخطاب لقدامة بن عثمان بن مظعون لما شرب الخمر مستدلاً بقول الله -جل وعلا-: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93] خلاص اتقينا وآمنا ما علينا جناح أن نشرب الخمر أو نأكل الخنزير أو نأكل كذا أو كذا، ماذا قال له عمر؟ أخطأت استك الحفرة، أما إنك لو اتقيت الله ما شربت الخمر، هذا مناقض لدعواك. فهذا كلام نسمعه من بعض الناس، وكثر في هذه الأيام يتناقلونه ويتداولونه ....... رأس المال تقول: لا إله إلا الله فما عليك شيء؟ {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} لو اتقيت الله ما فعلت المحرم، لو اتقيت الله ما تركت الواجب؛ لأن حقيقة التقوى فعل الواجبات وترك المحظورات، أما كون الإنسان يدعي أنه كذا وكذا هذه مجرد دعاوى لا دليل عليها، وهي كما قيل أصحابها أدعياء.

(كنا نعدها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات) والصحابي إذا قال: على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالحديث له حكم الرفع.

(وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كل معروف صدقة») سواء كان المعروف ببذل المال أو ببذل الجاه أو بخدمة البدن، كل ما عُرف حسنه في الشرع والعقل وبذلته لمسلم أو لذي كبد رطبة فهو صدقة، الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: «كل كبد رطبة فيها أجر»، فإذا بذلت المعروف لهذه الكبد أو لهذا الشخص، بذلته له تعين صانعًا أو تصنع لأخرق هذا صدقة منك عليك، كفك الأذى عن غيرك صدقة منك على نفسك، والفقراء لما جاءوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وقالوا: ذهب أهل الدثور بالأجور، أهل الدثور أهل الأموال ذهبوا بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون، ويحجون، ويتصدقون بفضول أموالهم، وليس عندنا ما نتصدق، وجَّههم النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى أبواب من أبواب الخير والمعروف لا تحتاج إلى مال، فوجههم إلى الأذكار: «كل تسبيحة صدقة، كل تحميدة صدقة، كل تهليلة صدقة»، ثم وجههم إلى ما يتعدى نفعه إلى غيره: «أمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وإعانة الآخرين» إلى آخره، كل هذه صدقات، فالإنسان يصبح على كل سلامى منه صدقة، والسلامى المفاصل قالوا: إنها ثلاثمائة وستون مفصلاً سُلامة، عليك صدقة في هذه السلامى .......

ثم قال: «ويكفي من ذلك ركعتان تركعهما من الضحى»، مما يبين العناية بصلاة الضحى والاهتمام بها وفضلها وأنه لا يتركها إلا محروم، والتسبيح والتحميد والتهليل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر الباقيات الصالحات، وإبراهيم -عليه السلام- يقول لنبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- ليلة الإسراء: «أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر»، أيضًا هي صدقات منك على نفسك، وكف شرك عن الناس صدقة منك على نفسك، لماذا؟

 لأنك إذا لم تكف شرك عن الناس فقد جمعت على نفسك أوزارًا وآثامًا وذنوبًا لهؤلاء الناس الذين هم أحوج يوم القيامة إلى ما يترتب على هذه المظالم التي ظلمتهم بها، وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «لا، المفلس من يأتي بأعمال»، وفي رواية «كالجبال، من صلاة وصدقة وصيام» إلى آخر ما يفعله من أعمال الخير، قد تجده يحرص على ذلك، لكن يأتي يوم القيامة مفلسًا يأتي قد شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته، وبقي عليه شيء من حقوق الناس أُخذ من سيئاتهم فألقيت عليه، فألقي في النار -نسأل الله العافية-.

أنت إذا كففت شرك عن الناس وسلمت من أن تكون مفلسًا يوم القيامة صدقة منك على نفسك؛ لأن الذي تفعله من أعمال الخير يكون لك، وأنت إذا كنت مفلسًا أنت تعمل لغيرك، وفي الغالب أن الذي تعمل له ممن لا تحبه، لو كانت المسألة عقلًا مجردًا عن الشرع مثلاً قال: أنا ما دام مبتلى بالغيبة، وأغتاب من يأخذ من حسناتي، فلماذا لا أبر والدي بهذا؟ لكن ما يصير، تجده يغتاب أبغض الناس إليه، وحسناته تذهب إلى أبغض الناس إليه -نسأل الله العافية-.

على كل حال الصدقات أبوابها كثيرة، والحمد لله الذي هدانا لهذا الدين، الذي فتح لنا أبواب الخير، وأحيانًا يفتح باب لمسلم يلجه ويعمل فيه مما لا يوفق له غيره فيحصل بسببه على أمور عظيمة، ثم يأتي حسود فيتكلم فيه -نسأل الله العافية- فيمنع من هذا الخير، هو على أجره إذا مُنع من غير تسبب منه وعلى أجره، وقد فتح الله له من أبواب الخير غير هذا الباب الشيء الكثير، بعض الناس إذا مُنع من شيء قال: خلاص انتهيت، ما انتهيت، الأبواب مفتوحة وسبل الكسب من الخير والحسنات والأجور العظيمة من الله -جل وعلا- لا يمكن حصرها، فإذا أُغلق باب فُتحت أبواب، ولله الحمد.

(وعن عبد الله بن يزيد الأنصاري -رضي الله عنه-: «نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن النهبى والمثلة»).

النهبى انتهاب المال جهارًا في رؤية من الناس، «ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليهم أبصارها وهو مؤمن»، «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن»، سواء كان أخذ المال خفية على طريق السرقة أو أخذه جهارًا، وانتهبه من يد صاحبه، لا يفعل ذلك وهو مؤمن، فهو أخذ المال جهارًا عن صاحبه. والنهبة منهي عنها ولو كانت مما أبيح جنسه، يعني لو فيه وليمة، والمضيف أتاح هذا الأكل للناس، ثم جاء شخص فأخذ الطعام وهرب به، هذه نهبة، أو كان مما ينثر في المناسبات في العروس كانت عندهم طريقة في العروس ينثرون الأموال فيأتي واحد ينتهبها، وهي ليست ملكًا لك، وإنما صاحبها إنما تركها للعموم، هذا من النهبة المنهي عنها. ولذا جاء النهي عن القران في التمر، الأصل أنه إذا قُدم التمر إلى مجموعة من الناس كل واحد يأخذ تمرة فإذا أكلها أخذ غيرها، لكن يأخذ ثنتين هذا منهي عنه.

«نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن النهبى والمثلة»، المثلة التمثيل بالمقتول أو بمن أريد تعذيبه من جذع أنف أو أذن أو أطراف، ولذا جاء في التمثيل بالعبد: «من جذع عبده جذعناه»؛ لأنه مثلة، فالتمثيل محرم ولو كان في الحرب مع العدو الحربي الذي يجب قتله، وجاءت النصوص بقتلهم والتغليظ عليهم، لكن نهى عن المثلة. ورأى النبي -عليه الصلاة والسلام- شخصًا مُثل به فقال: «من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا»، واحتج بعضهم بفعله -عليه الصلاة والسلام- بالعرنيين الذين قتلوا الراعي، وثملوا عينيه، ففعل بهم النبي -عليه الصلاة والسلام- مثلما فعلوا.

 فالجواب عن هذا أن هذا مماثلة بما فعلوا. هم فعلوا ذلك، والمماثلة عدل، وليست مثلة. فالمقصود أن المثلة محرمة سواء كانت في حربي يجب قتله، أو كانت في عبد أغاظ سيده فأراد أن ينتقم منه أو غير ذلك.

 المقصود أن النبي -عليه الصلاة والسلام- نهى عن المثلة كما نهى عن النهبى. وإذا قال الصحابي: «نهى النبي -عليه الصلاة والسلام-» فهذا مرفوع قطعًا بإضافته إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، ودلالة اللفظ على التحريم كدلالة لا تفعلوا صريح النهي، لكن قال داود الظاهري وبعض المتكلمين إنه لا يدل على التحريم حتى ينقل اللفظ النبوي ....... اللفظ الذي قاله النبي -عليه الصلاة والسلام-، مدعين أن الصحابي قد يسمع لفظًا يظنه نهيًا وفي الحقيقة هذا ليس بنهي، لا بد أن ينقل اللفظ النبوي. وهذا الكلام باطل؛ لأنه من الذي قال: «نهى»؟ الصحابي الذي رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- وسمعه، وهم أعرف بمدلولات الألفاظ ومراد النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنهم عاصروه وعايشوه، فهم أعلم بمراده، فإذا كان الصحابي لا يعرف مدلول اللفظ فمن يعرفه غيره ممن بعده من باب أولى؟

 على كل حال: اللفظ: «نهى النبي -عليه الصلاة والسلام-» مرفوع قطعًا، ودلالته على التحريم قال به عامة أهل العلم، ولم يشذ عن ذلك إلا داود الظاهري وبعض المتكلمين، ولا عبرة به.

لكن إذا قال الصحابي: «أمرنا»، أو قال: «نهينا»، فالأمر كذلك، أُمرنا أو نُهينا هو مرفوع حكمًا ولو لم يصرح للنبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الصحابي لا يطلق الأمر والنهي لا سيما ما يتعلق بالشرع إلا لمن له الأمر والنهي، وهو الرسول -عليه الصلاة والسلام-.

 ممكن أن يقول: أُمرنا بكذا من فعل مأمور أو نُهينا عن فعل محظور إلا لمن له الحق في هذا ممن أيده الله -جل وعلا- بالوحي والتنزيل، فحينئذٍ القول بأن قول: أُمرنا أو نُهينا لا يدل على الأمر ولا على النهي، ولا يلزم أن يكون الآمر أو الناهي هو النبي -عليه الصلاة والسلام-. قول الصحابي: من السنة أو نحو أُمرنا حكمه الرفع، ولو بعد النبي قاله بأعصر على الصحيح، وهو قول الأكثر، وهذا يقول: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كذا وكذا فهو مرفوع قطعًا.

ثم قال: (وعن المقدام بن معدي كرب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه»)، «كيلوا» فعل أمر من الكيل، «طعامكم» وهو المفعول المكيل، «يباركْ» بالجزم على أنه جواب شرط محذوف أو جواب الطلب.

«يبارك لكم فيه»، والبركة الزيادة سواء كانت في المقدار أو في وجوه الانتفاع، أحيانًا يكون المال كثيرًا وفيرًا ثم تجده لا يُنتفع به، وشخص عنده أموال طائلة لا تجد أثرها عليه، ولا ينفقها فيما ينفعه، وتجدها تذهب بسرعة، وآخر أقل، لكن أمواله فيها بركة، المال اليسير يدفعه فينتفع به، الأمور أو أشياء كثيرة جدًّا أكثر مما هو أضعاف أضعافه فيما بذله فلان من الناس، وقل مثل هذا في الوقت: تجد الإنسان يُمضي الأيام والشهور والسنوات وإنتاجه قليل، إذا حاسب نفسه في آخر العام وجد المردود عليه سواء كان في أمور الدنيا أو في أمور الدين ما يرى شيئًا يستحق بذل هذا الجهد أو هذا الزمان، وبعض الناس اليوم له أثر بأنه حَفظ ما أُمر به فحُفظ لا تجده يضيع له شيء، وطاهر بن عبد الله الطبري قد ناهز المائة، قفز قفزة من حفرة لو وقع فيها هلك، فتعجب الناس كيف يقفز هذا الشايب عمره مائة؟ قال: هي أعضاء حفظناها في الصغر فحفظها الله في الكبر.

وأنا شاهدت إمام مسجد كفيفًا يناهز المائة مثل طاهر، وفيه حفريات عند باب المسجد، حفريات أول ما جاءت للمجاري والسيول وكذا عميقة جدًّا، عميقة لا ترى آخرها، فخرج الشيخ من المسجد إمام المسجد ووقع في هذه الحفرة، وتحته مواسير وأشياء تدفن، فأخرجوه من هذه الحفرة لم يصب إلا العصا انكسرت والبشت الذي عليه صار فيه غبار نفضوه وراح يمشي، ما عنده مشكلة. فعلى الإنسان أن يهتم ويحتاط لنفسه، فيحفظ أوامر الله، ويحفظ حدود الله، ويحفظ شرع الله؛ ليحفظ ويبارك له في نفسه وماله وولده.

 كثير من الناس يقول: والله إن السنين هذه ما ندري ماذا يحدث؟ لأنك ما حفظتها، وتجد الإنسان سواءً كان من المتقدمين أو من المتأخرين يموت عن عمر قصير، ويجري ذكره عند الناس إلى قيام الساعة، يعني كم تتصور أن عمر بن عبد العزيز مات وعمره كم؟ ما أتم الأربعين، النووي كم عمره لما مات؟ قليل، يعني فوق الخمسين بشيء يسير، وفلان وفلان من الأمثلة المعاصرة الشيخ حافظ الحكمي توفي عن ثلاث وثلاثين سنة أو أربعة وثلاثين سنة وذكره وكتبه تُحفظ وتقرر، ونفع الله بها نفعًا عظيمًا.

على كل حال على الإنسان أن يهتم بنفسه، ولا يضيع عمره سدى سبهللة إما نوم أو طلعات واستراحات وقيل وقال وسواليف أو نظر في الجوالات وهذه المحدثات، الآن هذه المحدثات التي بأيدي الناس تقضي على أوقاتهم، وهي فتنة عمت .......

 رأينا من الأئمة الذين يصلون بالناس مجرد ما ينصرف إلى الجماعة بعد السلام ينظر في الجوال! انتظر لن يفوتك شيء، لكن مع ذلك هذه الفتنة تجد الإنسان كأن يده مربوطة متى تُطلق حتى يأخذ الجوال، يا أخي خذ كتاب الله، اقرأ ما تيسر لك، الحرف بعشر حسنات، ماذا تجد في هذا الجوال؟ الأمور مقدور عليها ولن تفوت، وإن فاتت فالأمر سهل، لكن عمرك أنفاسك المعدودة عليك وهي حياتك، وفي الحقيقة أنت لا تضيعها سدى، تضيع الأوقات بدون فائدة. بعض الناس يقول: إنه ينفق من الوقت على الجوال شيئًا ما يخطر على البال، لكنها فتنة، يعني لو أن الإنسان أخذ المصحف أو قرأ من حفظه جزءًا من القرآن بمائة ألف حسنة، هذا إذا قرأه قراءة حروف من غير تدبر ولا ترتيل على كل حرف عشر حسنات، والجزء عشرة آلاف حرف، هذه مائة ألف حسنة تقرأ بربع ساعة أو ثلث ساعة، وأنت انظر الناس يبذلون الساعات المتواصلة في هذه الآلات أو في مجالس لا خير فيها أو فيها نوع خير، لكنه يسير بالنسبة لما يُحصل من جهات أخرى من النفع والانتفاع.

«كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه»، عائشة -رضي الله عنها- كان عندها شعير تأكل منه، فطال أمده واستمر مدة طويلة، وهو قليل، وهذا من البركة، قالت: فكلته ففني، مفاد حديث عائشة أن الكيل يذهب البركة، والحديث الذي معنا، وهو في الصحيح: «كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه»، منهم من يقول: إن الكيل في البيع والشراء؛ لئلا يحصل الظلم إما على المشتري من قبل البائع أو على البائع من قبل المشتري إذا اشتري من دون كيل إما أن يزيد المشتري في الاستيفاء أو ينقص البائع عند البيع والوفاء، وعدم كيله للأكل إذا كان للأكل فما فيه ظلم ولا فيه شيء أنت ملكته تأكل منه حتى يفنى. وبعض الناس تجده يوميًّا يمر المستودع، ويتفقد الأغراض، وكذا وكذا، يبارك له فيه، الغفلة مطلوبة. وليس معنى هذا أن الإنسان يغفل ولا يخطط ولا ينظر فيما يحتاجه من مستقبل على إطلاقه؛ لأنه قد يحتاج في شهر أكثر مما يحتاجه في الشهر الذي قبله أو العكس فيضبط أموره، فالضبط مطلوب، لكن لا يعني أن يكون مصحوبًا بشح النفس وحرصها؛ لأن بعض الناس الداعي لهذا التفكر الحرص والشح لا ينتهي إذا نقص شيء عاتب المرء أين راح؟ أين جاء؟ هذا الذي تُنزع معه البركات.

«كيلوا طعامكم»، أخرج هذه الأحاديث كلها الإمام البخاري.

ثم قال: (وعن أبي هريرة) بدأ يخرج من صحيح مسلم (وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه» قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة»).

«رغم» كما يقول أهل الغريب: لصق أنفه بالرغام، وهو التراب، «رغم أنفه» يعني إذا لصق أنفه في التراب فماذا عن باقيه؟

الأنف هو مقدمة الوجه، وإذا لصق بالتراب فمعناه أنه سوف يتضرر بدخول التراب إلى أنفه، فيصل إلى رئته، إلى غير ذلك، هذه دعوة تتضمن ضررًا عظيمًا، وضَعةً إذا وصل الأنف إلى التراب فهذا امتهان شديد لهذا الشخص؛ ولذا لما دخل تيمور دمشق وفعل فيها ما فعل قالوا: إنه يأتي بالغبار الناعم...