شرح اختصار علوم الحديث (12)

الزيادة في نسب الراوي:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

قال الإمام الحافظ ابن كثيرٍ -رحمه الله تعالى- وغفر الله له ولنا ولشيخنا والسامعين:

فرعٌ: وتجوز الزيادة في نسب الراوي إذا بين أن الزيادة من عنده، وهذا محكيٌ عن أحمد بن حنبل وجمهور المحدثين، والله أعلم.

يقول -رحمه الله تعالى-: "تجوز الزيادة -في نسب الشيخ- في نسب الراوي" أما في نسب شيخ المحدث فلا يحتاج إلى بيان، له أن يقول: حدثنا فلان بن فلان بن فلان إلى آخره الفلاني، لا يحتاج إلى بيان؛ لأنه هو الذي يحكي فالكلام منسوبٌ إليه، لكن إذا زاد في نسب شيخ شيخه أو من فوقه على ما رُوي له..، الآن الإمام البخاري له أن يزيد في نسب شيخه محمد بن بشار مثلاً، لكن هل له أن يزيد على قوله: حدثنا محمد بن بشار هذا له أن يزيد ما شاء، لكن بعد ذلك إذا قال: حدثنا غُندر هل له أن يقول: غندر محمد بن جعفر، له أن يزيد على أن يبين؛ لأن محمد بن بشار قال له: حدثنا غندر، فالإمام البخاري ليس له أن يزيد، وإن كان الأمر سهل، لكن هذا من دقة أهل الحديث، فلا بد أن يبين بأن يقول: هو محمد بن جعفر، أو يقول: يعني محمد بن جعفر وهكذا، فإذا جاء بـ(هو) بين أن هذه الزيادة من عنده، وكذا في نسب شيخ شيخ الشيخ وهكذا إلى آخر الإسناد، مثلاً لو قال: حُميد عن أنس، فجاء فقال: أنس يعني ابن مالك أو هو ابن مالك لا بأس.

وهنا يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "وتجوز الزيادة في نسب الراوي إذا بين أن الزيادة من عنده، وهذا محكيٌ عن أحمد بن حنبل وجمهور المحدثين" لكن إن زاد من غير بيان الأمر سهل، ما عدا الواقع، لكن الأولى أن يقتصر على ما روِّي له من ألفاظ الشيوخ، ولا سيما في صيغ الأداء، وفي أنساب الشيوخ ينبغي أيضاً أن يقتصر على ما روِّي له، وإذا أراد أن يزيد من أجل البيان فلا بد أن يقول: هو ابن فلان، أو يعني ابن فلان.

فرعٌ: جرت عادةُ المحدثين إذا قرؤوا يقولون: أخبرك فلان؟ قال: أخبرنا فلان، قال: أخبرنا فلان، ومنهم من يحذف لفظة (قال)، وهو سائغ عند الأكثرين، وما كان من الأحاديث بإسنادٍ واحد كنسخة عبد الرزاق عن معمرٍ عن همام عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، ومحمد بن عمروٍ عن أبي سلمة عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وعمروِ بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله عنه-، وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- ونحو ذلك، فله إعادة الإسناد عند كل حديث، وله أن يذكر الإسناد عند أول حديث منها، ثم يقول: وبالإسناد أو وبه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال كذا وكذا، ثم له أن يرويه كما سمعه، وله أن يذكر عند كل حديث الإسناد.

قلتُ: والأمر في هذا قريبٌ سهل يسير، والله أعلم، وأما إذا قدم ذكر المتن على الإسناد كما إذا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا وكذا، ثم قال: أخبرنا به وأسنده، فهل للراوي عنه أن يقدم الإسناد أولاً ويتبعه بذكر متن الحديث؟ فيه خلافٌ ذكره الخطيب وابن الصلاح، والأشبه عندي جواز ذلك، والله أعلم.

ولهذا يعيد محدثو زماننا إسناد الشيخ بعد فراغ الخبر؛ لأن من الناس من يسمع من أثنائه بفوتٍ فيتصل له سماعُ ذلك من الشيخ، وله روايته عنه كما يشاء من تقديمِ إسناده وتأخيره، والله أعلم.

يقول -رحمه الله-: "جرت عاد المحدثين إذا قرؤوا يقولون: أخبرك فلان" يعني إذا قرؤوا على من يروي الحديث بإسناده يخاطبونه بهذا، يقولون: أخبرك فلان، قال: أخبرنا فلان، وفي النهاية هل يقول: نعم؟ إذا قرأ الحديث يلزم أن يقول: نعم؟ جمهور المحدثين على أنه لا يلزم أن يقول المحدث: نعم؛ لأن أخبرك فلان سؤال، يعني هل أخبرك فلان؟ هل يلزمه أن يقول: نعم؟ الظاهرية يقولون: لا بد أن يقول: نعم، أخبرك فلان قال: أخبرنا فلان إلى آخره يقول الشيخ: نعم، لا بد أن يقر، لكن الجمهور جروا على أنه لا يلزم الإقرار، والفرع مسوق لبيان قال، أخبرك فلان قال: أخبرنا فلان قال: أخبرنا فلان، ولفظ (قال) محذوفة في الكتب، وفي الخط، لكنهم ينطقون بها، منهم من يقول: إنه لا بد من الإتيان بها، حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان إلى آخره، ومنهم من يقول: حذفها لا يوقع في لبس، إذاً لا يلزم الإتيان بها، والحذف في الخط كثير، وفي النطق منهم من يلزم من الإتيان بها، ومنهم من يقول: ما دام أنه لا يوقع في لبس فالأمر يسير.

قال: "وهو سائغٌ عند الأكثرين لا سيما في الخط" الصحف والنُسخ التي تروى بإسنادٍ واحد، وتشتمل على جمل كصحيفة همام ابن منبه، عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة قال: هذا ما حدثنا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة)) ثم سرد جملاً تبلغ أكثر من ثلاثين ومائة، كل جملة منها تصلح حديثاً منفرداً، سيقت مساقاً واحداً في المسند، وهي موجودة في صحيفة مستقلة محققة، وهي صحيحة، سيقت مساقاً واحداً في المسند لماذا؟ لأنها في مسند يجمع أحاديث الصحابي الواحد في مكانٍ واحد، فسيقت مساقاً واحداً، وهذا موضعها في مسند أبي هريرة.

البخاري -رحمه الله تعالى- يقطع هذه الصحيفة، ويأتي في كل موضعٍ منها بجملة تناسب المقام، ومسلم كذلك، ما ساقوا الصحيفة مساقاً واحداً، بل قطعوها في الأبواب، ولكلٍ منهما طريقته، فطريقة الإمام البخاري يذكر الجملة الأولى: ((نحن الآخرون السابقون)) بعد أن يذكر الإسناد يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة)) ثم يأتي بالجملة التي يحتاج إليها، القطعة التي يحتاج إليها من الحديث أو من الصحيفة.

مسلم -رحمه الله تعالى- بعد أن يسوق الإسناد عن همام عن أبي هريرة هذا ما حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر أحاديث منها ثم يذكر الجملة التي يريدها، ولكلٍ منهم طريقته، وهذه الطريقة مناسبة، وتلك أيضاً.

إذا ذكر الإسناد في الموضع الأول احتاج إلى جملة في أول الكتاب، ثم احتاج في أثنائه مراراً، وفي آخره، هل يحتاج أن يكرر الإسناد أو يقول: بالإسناد السابق عن أبي هريرة قال: هذا ما حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر أحاديث، يحتاج أن يذكر الإسناد أو يحيله إلى الإسناد السابق؟ منهم من يفعل هذا، ومنهم من يفعل هذا، والأمر واسع، ما دام ذكر الإسناد في أول موضع.

طالب:........

على كل حال إذا خشي من أحدٍٍ أن يلتبس عليه لا بد من البيان، وهنا يقول: "وما كان من الأحاديث بإسنادٍ واحد كنسخة عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة ومحمد بن عمروٍ عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وغير ذلك فله إعادة الإسناد عند كل حديث، وله أن يذكر الإسناد عند أول حديثٍ منها ثم يقول: وبالإسناد" يعني يشير إلى أنه تقدم ذكر الإسناد، "أو وبه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: كذا وكذا، ثم له أو يرويه كما سمعه، وله أن يذكر عند كل حديثٍ الإسناد" له أن يرويه ويحيله على الإسناد السابق، وله أيضاً أن يذكر الإسناد في كل قطعة يحتاج إليها.

إذا روى كتاب كامل بإسنادٍ واحد هل يلزمه أن يذكر إسناده إلى صاحب الكتاب في كل حديث؟ أو يذكره في أول موضع، ويحيل إليه فيما بعد؟ وبه الشراح يكتفون بذكر الأسانيد في موضعٍ واحد، وبقية الأحاديث: وبه إلى الإمام البخاري قال: حدثنا إلى آخره، وهذا الأمر فيه سهل، ولذا يقول الحافظ -رحمه الله تعالى-: "والأمر في هذا قريبٌ سهل يسير" سواءً ذكر الإسناد في كل موضع، أو أحال إليه، ذكره في الموضع الأول ثم أحال إليه.

"وأما إذا قدم المتن على الإسناد كما إذا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا وكذا، ثم قال: أخبرنا به" الأصل تقديم الإسناد على المتن، يقول الإمام البخاري: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان..، نعم؟

طالب:........

هاه؟ حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان عن محمد بن إبراهيم التيمي، نعم، عن علقمة بن وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، نعم؟

طالب:........

محمد بن سعيد..، يحيى بن سعيد، يحيى بن سعيد، نعم.

قال الإمام البخاري: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص عن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)) فهل للإنسان أن ينقل هذا الحديث من البخاري ويقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدثنا به الحميدي قال: حدثنا سفيان إلى آخره، فيقدم المتن على الإسناد خلافاً على القاعدة خلاف الأصل؟ له ذلك، فلا فرق بين أن يذكر الإسناد قبل أو بعد، ما لم يعرف من اصطلاح المؤلف أنه لا يؤخر الإسناد إلا لعلة كابن خزيمة، ابن خزيمة لا يقدم المتن على الإسناد فيؤخر الإسناد إلا إذا كان الحديث فيه مقال، وعلى هذا ويقول: قد صرح ابن خزيمة بأن من رواه على غير الوجه الذي ساقه عليه بأنه ليس منه في حل، فأنت إذا سمعت الحديث منسوب إلى ابن خزيمة وقدم فيه الإسناد عرفتَ أنه ليس فيه مقال؛ لأنك تعرف منهج ابن خزيمة وعادة ابن خزيمة، لكن إذا سيق المتن أولاً ثم عقب بالإسناد عرفتَ أن فيه مقالاً، هذه طريقة ابن خزيمة، ومن عداه الأمر فيه سهل؛ لأنه صرح بذلك.

طالب:........

أي الكتب؟

طالب:........

ابن خزيمة هذا في الصحيح.......، وشرطه في التوحيد شرطه في الصحيح، نعم.

طالب:........

شرطه في الصحيح شرطه في التوحيد ما يختلف.

طالب:........

إيه عرفنا أن فيه علة، إذا جاء بالإسناد بعد المتن عرفنا أن في الحديث مقال، ولو من وجهة نظره.

يقول: "فهل للراوي عنه أن يقدم الإسناد أولاً ويتبعه بذكر المتن؟ فيه خلافٌ ذكره الخطيب وابن الصلاح" يعني المسألة عكسية، يعني إذا روى عن شيخه المتن ثم ذكر الإسناد هل له أن يقدم الإسناد على القاعدة المطردة على الجادة؟ يعني لو افترضنا أنك رويت حديث من صحيح ابن خزيمة المتن مقدم، فهل لك أن تقدم الإسناد؟ لا ليس لك، وقفت على حديث المتن فيه مقدم في صحيح ابن حبان مثلاً، هل لك أن تقدم الإسناد؟ الأمر فيه سعة.

يقول: "والأشبه عندي جواز ذلك، والله أعلم، ولهذا يعيد محدثو زماننا إسناد الشيخ بعد فراغ الخبر" يذكرونه في الأول ثم في الأخير؛ لأنه عندهم لا فرق، لماذا؟ لأن من الشيخ من يسمع في أثنائه بفوتٍ، يعني يفوته ذكر الإسناد، يفوته سماع الإسناد، فيتصل سماع ذلك من الشيخ، فيذكر الإسناد في الأول وفي الآخر، وما دام جاز ذكره في الأول وفي الآخر فيجوز في أحدهما، "وله روايته عنه كما يشاء من تقديم إسناده وتأخيره، والله أعلم".

سم.

فرعٌ: إذا روى حديثاً بسنده ثم أتبعه بإسنادٍ له آخر وقال في آخره: مثله، أو نحوه، وهو ضابطٌ محرر، فهل يجوز روايته لفظ الحديث الأول بإسناد الثاني؟ قال شعبة: لا، وقال الثوري: نعم، حكاه عنهما وكيع، وقال يحيى بن معين: يجوز في قوله: مثله، ولا يجوز في نحوه، قال الخطيب: إذا قيل بالرواية على المعنى فلا فرق بين قوله: مثله أو نحوه، ومع هذا أختارُ قول ابن معين، والله أعلم.

أما إذا أورد السند وذكر بعض الحديث ثم قال: الحديث أو الحديث بتمامه أو بطوله أو إلى آخره، كما جرت به عادة كثيرٍ من الرواة فهل للسامع أن يسوق الحديث بتمامه على هذا الإسناد؟ رخص في ذلك بعضهم ومنع منه آخرون منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الفقيه الأصولي، وسأل أبو بكرٍ البرقاني شيخه أبا بكرٍ الإسماعيلي عن ذلك، وقال: إن كان الشيخ والقارئ يعرفان الحديث فأرجو أن يجوز ذلك، والبيان أولى.

قال ابن الصلاح: قلتُ: وإذا جوزنا ذلك فالتحقيق أنه يكون بطريقِ الإجازة الأكيدة القوية، قلتُ أنا: وينبغي أن يفصّل فيقال: إن كان قد سمع الحديث المشار إليه قبل ذلك على الشيخ في ذلك المجلس أو في غيره فتجوز الرواية وتكون الإشارة إلى شيء قد سلف بيانه، وتحقق سماعه، والله أعلم.

"إذا روى حديثاً بسنده" يعني مثل ما يصنع الإمام مسلم كثيراً يسوق الأحاديث من طرق كثيرة، فيسوق اللفظ في بعضها، ويحيل في البعض الآخر، ويذكر ما بين الروايات من فروق، "فإذا روى الحديث بسنده ثم أتبعه بإسنادٍ آخر" روى الحديث بالسند والمتن، ثم قال: وحدثنا به فلان عن فلان عن فلان مثله، أو قال: نحوه، وهو ضابطٌ محرر، يعني مثل مسلم ضابط محرر يعتني بألفاظ الشيوخ، ويبين ما بينها من الفروق، فإذا وقفتَ في صحيح مسلم على حديثٍ ذكر لفظه ثم ذكر إسناد الثاني وقال: مثله، أو قال: بلفظه؛ لأن المثل تعني اللفظ، والنحو يعني المعنى، فإذا قال: مثله فهل يجوز لك أن تروي الحديث بالإسناد الثاني الذي أحيل به على اللفظ الأول؟ تروي لفظ الحديث الذي سيق إسناده أولاً وأحيل على اللفظ بإسنادٍ ثاني، فهل لك أن تروي اللفظ الأول وتركب عليه الإسناد الثاني؟ لأن مسلماً قال: بمثله أو مثله أو بلفظه، افترض أنه قال: بلفظه، لك ذلك أو ليس لك ذلك؟ منهم من تسمَّح، شعبة يقول: لا، وهو معروفٌ بالشدة والاحتياط، والثوري يقول: نعم، ويسوي الثوري بين مثله ونحوه، مع أن بينهما فرق؛ لأن مثله تعني اللفظ، ونحوه تعني المعنى مع الاختلاف اليسير في الألفاظ.

يحيى بن معين يجوز في مثله ولا يجوز في نحوه، وكلُّ هذا جارٍ على جواز الرواية بالمعنى إذا قيل: مثله أو قيل: نحوه، إذا قيل: نحوه لا نضمن أن الألفاظ المذكورة بالطريق الثاني هي الألفاظ المذكورة في الطريق الأول؛ لأن نحوه تعني معناه، وعلى جواز الرواية بالمعنى الخطب سهل، أقول: الأمر سهل، نفترض أننا رويناه بالمعنى، فلا فرق حينئذٍ، وهذا يقوي قول الثوري، لكن لا شك أن الاحتياط ينبغي أن يسلك في مثل هذه الأمور، فإذا أردت المتن وأردت الإسناد الثاني لعلو مثلاً، أو لإمامة في هؤلاء الرواة دون أولئك فإنك تذكر الإسناد كاملاً، وتقول: بنحو حديثٍ قبله لفظه كذا، أو بمثل حديثٍ قبله لفظه كذا، هذا هو الاحتياط في الرواية.

يقول الحافظ ابن كثير: "ومع هذا أختارُ قول ابن معين" أنه يجوز في مثله ولا يجوز في نحوه، إذا أورد السند وذكر بعض الحديث ثم قال: الحديث، أو أورد بعض الآية وقال: الآية، أولاً: الحديثَ بالنصب، والآيةَ بالنصب أيضاً يعني: اقرأ الحديث، أو اقرأ الآية، أو أكمل الحديث، أو أكمل الآية، فهي بالنصب "أو الحديث بتمامه أو بطوله أو إلى آخره كما جرت به عادة كثيرٍ من الرواة" ساق طرف الحديث ثم قال: الحديث، فهل لك أن تسوق الحديث بتمامه؟ لأنه أحالك وقال لك: الحديث، يعني: أكمل الحديث، "فهل للسامع أن يسوق الحديث بتمامه على هذا الإسناد؟ رخص في ذلك بعضهم، ومنع منه آخرون، منهم أبو إسحاق الإسفراييني" من الأئمة الفقهاء الأصوليين كما هو معروف، أبو بكر البلقاني سأل شيخه أبو بكر الإسماعيلي عن ذلك، وهو إمام من أئمة هذا الشأن، أبو بكر الإسماعيلي إمام من أئمة الشأن، حتى قال الحافظ الذهبي -رحمه الله-: من عرف حال هذا الرجل جزم يقيناً أن المتأخرين على يأسٍ تام من لحاق المتقدمين، على كل حال البرقاني سأل الإسماعيلي عن ذلك فقال: "إن كان الشيخ -فصّل- إن كان الشيخ والقارئ يعرفان الحديث فأرجو أن يجوز ذلك" يعني تكون معرفتهما بالحديث واحدة، لاحتمال أن يكون عند الطالب، عند التلميذ زيادة ليست عند الشيخ، يكون هذا التلميذ يروي الحديث من طريق آخر، شيخٍ آخر وفيه طول، والقدر الذي يرويه الشيخ هنا أخصر مما يرويه هذا التلميذ عن شيخٍ آخر، فإذا قيل له: الحديث احتمال أن يأتي باللفظ الذي يحفظه عن غير هذا الشيخ، فإذا كانت معرفتهما بالحديث واحدة فلا بأس حينئذٍ، "فأرجو أن يجوز ذلك، والبيان أولى" فيقتصر على القدر الذي ذكره الشيخ، قال: وأحال بباقي الحديث على حفظي مثلاً، أو على روايتي، أو قال: الحديث يعني أكمل الحديث وهذا تمامه، فذكر طرفاً من الحديث وتمامه كذا إلى آخره، البيان أولى.

"قال ابن الصلاح: قلتُ: وإذا جوزنا ذلك فالتحقيق أن يكون بطريق الإجازة الأكيدة القوية" لأنه أذن له في إتمام الحديث، أو برواية باقي الحديث عنه، أذن له برواية باقي الحديث عنه، والإجازة هي الإذن بالرواية، ومثل هذه الإجازة، ومثل هذا الإذن من أقوى أنواع الإجازات؛ لأنها من معين إلى معين في حديثٍ معين، فمثل هذه الإجازة تجوز من باب أولى عند من يقول: بجواز الإجازة، وتقدم الكلام في هذا.

قال: "وينبغي أن يفصل فيقال: إن كان قد سمع الحديث المشار إليه قبل ذلك على الشيخ في ذلك المجلس أو في غيره فتجوز الرواية، وتكون الإشارة إلى شيء قد سلف بيانه وتحقق سماعه" يعني أنت إذا كان الطالب قد سمع الحديث من الشيخ في مجلسٍ آخر أو في المجلس نفسه قبل ذلك، ويعرف لفظ الحديث الذي يرويه هذا الشيخ، والشيخ أحال على ما سمع منه سابقاً فلا بأس حينئذٍ أن يكمل الحديث؛ لأننا أمنا مفسدة أن يكون في ذهنه من متن الحديث ما لم يروه هذا الشيخ بعينه، بل رواه من طريق شيخٍ آخر، نعم.

طالب:........

أستاذ إيش فيه؟ نعم؟

طالب:........

معروف أن الأستاذ هو الأصل عند أهل العلم، في مقام الشيخ، الشيخ ترى حادثة ما هي..، الشيخ فلان أبداً، بل هي من ألفاظ التليين عند أهل الحديث، نعم إذا قالوا: شيخ ترى ما هو..، نعم لو رجعت ألفاظ الجرح والتعديل..، لكن العرف جرى على أن الشيخ هو من أهل العلم عند المتأخرين الشيخ، لكن في عرف المتقدمين لا، الإمام مسلم يقول للبخاري: يا أستاذ الأستاذين، والأستاذ معروف عندهم كما هو معلوم.

طالب:........

على كل حال الأعراف محكمة في مثل هذا، نعم.

إبدال لفظ الرسول بالنبي أو النبي بالرسول:

فرعٌ: إبدال لفظ الرسول بالنبي أو النبي بالرسول، قال ابن الصلاح: الظاهر أنه لا يجوز ذلك، وإن جازت الرواية بالمعنى، يعني لاختلاف معنييهما، ونقل عن عبد الله بن أحمد أن أباه كان يشدد في ذلك، فإذا كان في الكتاب النبي فكتب المحدث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضرب على رسول وكتب النبي.

قال الخطيب: وهذا منه استحبابٌ، فإن مذهبه الترخص في ذلك، قال صالح: سألتُ أبي عن ذلك فقال: أرجو أنه لا بأس به، وروي عن حماد بن سلمة أن عفان وبهزاً كانا يفعلان ذلك بين يديه، فقال لهما: أما أنتما فلا تفقهان أبداً.

إبدال لفظ الرسول بالنبي والعكس، فإذا قال الصحابي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هل يجوز لمن روى عنه أن يقول قال: النبي -عليه الصلاة والسلام- أو العكس؟ الآن النقل نقل الخبر عن ذاتٍ واحدة متصفة بوصفين نبوة ورسالة، فهل يختلف الأمر إذا قال الصحابي: قال رسول الله، أو قال نبي الله -عليه الصلاة والسلام-؟ لا يختلف؛ لأن مرد الأمرين إلى ذاتٍ واحدة لا تختلف، ولا مانع من ذلك أصلاً هذا في السند، لكن لو جاء لفظ الرسول بمتن حديث هل يجوز لنا إبدال لفظ الرسول بالنبي -عليه الصلاة والسلام- أو العكس؟ لا شك أن لكلٍ من الرسالة والنبوة معنىً يختص به، فالنبوة تختلف عن الرسالة على خلافٍ بين أهل العلم في الفرق بين الرسول والنبي، وعلى كل حال إذا كان اللفظ مما يتعبد به كالأذكار فلا، وإن كان اللفظ مما لا يتعبد به فعلى القول بجواز الرواية بالمعنى لا بأس.

لو افترضنا أنه جاء حديث سيق فيه {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [(40) سورة الحاقة] على أساس أنه من لفظ النبي -عليه الصلاة والسلام-، هذه الجملة وردت في متن حديث بغض النظر عن كونها في القرآن، هل نستطيع أن نقول: "إنه لقول نبي كريم"؟ لأن لفظ الرسالة هنا مقصودة نعم؛ لأن لها دلالة تدل على أن هذا الرسول له مرسِل، وهو الذي تكلم بهذا الكلام، فلفظ الرسول هنا يدل على أن الرسول مبلغ عن غيره، ولذا لا يمكن الطعن في القرآن حينما أضيف إلى الرسول في الموضعين من القرآن، سواءً كان الرسول من البشر أو الرسول من الملائكة، لماذا؟ لأن الرسول الأصل فيه أن يبلغ عن مرسله، لو افترضنا أن مثل هذا السياق جاء في متن حديث هل نقول..، هل يختلف المعنى فيما إذا قلنا: قول نبي؟ النبي قد يجتهد ويقول من تلقاء نفسه، وهذا من دقائق الفروق التي نبه عليها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-.

على كل حال إذا جاء في المتن متن الحديث الذي هو غير متعبد بلفظه كالأذكار فإنه حينئذٍ لا بأس عند جمهور أهل العلم الذين يقولون بجواز الرواية بالمعنى، أما إذا جاء في خبرٍ متعبد بلفظه كالأذكار، في حديث النوم في حديث البراء، حينما علمه النبي -عليه الصلاة والسلام- حديث النوم، وطلب منه الإعادة، فقال: "ورسولك الذي أرسلت" قال: ((لا، قل: ونبيك الذي أرسلت)) وحينئذٍ لا يجوز في مثل هذا النص إبدال لفظ الرسول بالنبي ولا العكس، والله المستعان.

يقول: "نقل عن عبد الله بن أحمد أن أباه كان يشدد في ذلك فإذا كان في الكتاب النبي فكتب المحدث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضرب على رسول الله وكتب النبي، قال الخطيب: وهذا منه استحباب" لا شك أن هذا في باب اتباع اللفظ وهو أحوط، "فإن مذهبه الترخيص في ذلك، قال صالح: سألت أبي عن ذلك؟ فقال: أرجو أنه لا بأس به" وينبغي أن نعرف أن هذا في إضافة القول للنبي -عليه الصلاة والسلام- أو للرسول لا فرق ينبغي أن يرخص فيه.

"وروي عن حماد بن سلمة أن عفان وبهزاً كانا يفعلان ذلك بين يديه فقال لهما: أما أنتما فلا تفقهان أبداً" لا شك أن التزام اللفظ مع تيسره ومعرفته أولى من اقتحام المعنى وإن أجازه الجمهور؛ لأن الذي يجيز الراوية بالمعنى لا يصحح الرواية باللفظ؟ نعم من باب أولى، إن صحح الرواية بالمعنى صحح الرواية باللفظ، وهو أحوط، وهو يدل أيضاً على ضبط وإتقان من الراوي، وأهل العلم الذين أجازوا الرواية بالمعنى يصرحون أنك إذا نقلت الحديث من كتاب لا بد أن تنقله بلفظه، لماذا؟ لأنه لا يتعذر ولا يتعسر عليك الإتيان بلفظه، أما أن تنقل من كتاب وترويه بالمعنى، ثم ينقل عنك شخص بالمعنى، ثم الأول الذي نقلت عنه رواه بالمعنى، يعني ينتهي، ينتهي الحديث.

الرواية في حال المذاكرة:

فرعٌ: الرواية في حال المذاكرة هل يجوز الرواية بها؟ حكى ابن الصلاح عن ابن مهدي وابن المبارك وأبي زرعة المنع من التحديث بها؛ لما يقع فيها من المساهلة والحفظ خوان، قال ابن الصلاح: ولهذا امتنع جماعة من أعلام الحفاظ من رواية ما يحفظونه إلا من كتبهم، منهم أحمد بن حنبل، قال: فإذا حدث بها فليقل: حدثنا فلان مذاكرة، أو في المذاكرة، ولا يطلق ذلك فيقع في نوع من التدليس، والله أعلم.

الرواية في حال المذاكرة، الرواية في حال المذاكرة يعني يجلس مجموعة من طلاب العلم فيتذاكرون، ما تحفظ في هذا الباب؟ ما تحفظ..؟ هل عندك دليل لهذه المسألة؟ في مذاكرة، التحديث غير مقصود، ويحصل في المذاكرة التساهل الكثير، أحفظ في هذه المسألة خبر فلان، أو الحديث الفلاني، أو ما أشبه ذلك، هذه يحصل التساهل فيها كثيراً، ولا تذكر الأحاديث بالألفاظ، وحينئذٍ تورع بعضهم عن روايتها، وهو الأولى والأحوط أن لا تساق مساق الرواية، بل يقول المحدث: حدثني فلان مذاكرة، ونظير ذلك ما يرد من الأحكام على ألسنة أهل العلم في التقرير على كتاب أو شرح مسألة، ويمر على لسان الشيخ شيء ما احتاط له، بمعنى أنه لم يذكره على أساس أنه ينقل عنه كفتوى، يتساهلون في التقارير وفي التعاليق على الكتب، ويحتاطون للفتاوى، ولذا لا بد أن ينبه على أن هذا نقل عن الشيخ على أساس أنه تقرير، لا على أساس أنه فتوى محررة، تتداول على هذا الأساس.

نعود إلى المذاكرة، نعم؟

طالب:........

نعم إيه، بس فرق بين أن يسأل الشيخ قصداً عن هذه المسألة فيجيب بكلامٍ محرر يلتزم بلوازمه، وبين أن تمر المسألة عرضاً ضمن كلام على جملة أو شرح لمسألة أو شيء من هذا، فهم يفرقون بين التقرير والفتوى، كما أن رواية الحديث تختلف، فالشيخ إذا أراد أن يروِّي الحديث لطلابه عليه أن يحتاط ويهتم، ولذا كان بعضهم لا يروي إلا من الكتاب؛ لأن الحفظ خوان، أما في حال المذاكرة سهل أن تأتي بطرف الخبر وتحيل بباقيه على نباهة السامع.

فإذا رويت عن شخصٍ سمعتَ منه شيئاً في حال المذاكرة تقول: حدثني فلان مذاكرة، منهم من يرى أن الإمام البخاري لا يقول: قال فلان -من شيوخه- إلا إذا كان الحديث مروي بطريق المذاكرة، لكن هذا ليس عليه دليل، منهم من يطلق أن الإمام البخاري لا يأتي بصيغة قال: قال فلان إلا إذا كان قد روى الحديث في حال المذاكرة، لكن لا دليل على ذلك، وإن ادعاه بعضهم، على كل حال سماع الخبر من الشيخ أو من الزميل أو المتحدث في حال المذاكرة غير سماعه في حال التحديث الذي ينبغي أن يحتاط له، ومثله ما ذكرنا ونظرنا به سماع الحكم في حال التقرير غير سماع الحكم في حال الفتوى المقصودة المحررة المضبوطة نعم.

طالب:........

وين؟

طالب:........

هم قالوا: غاية ما يقال في (قال) إنها مثل (عن) مثل (عن) محمولة على الاتصال بالشرطين المعروفين، نعم.

طالب:........

هاه؟ من شيوخه روى عنه بصيغة التحديث مثل هشام بن عمار معروف.

....................أما الـــذي
عنعنةٍ كخبر المعازفِ

 

لشيخه عزا بـ(قال) فكذي
لا تصغِ لابن حزمٍ المخالفِ

هذا تقدم، نعم.

وإذا كان الحديث عن اثنين جاز ذكر ثقةٍ منهما وإسقاط الآخر ثقةً كان أو ضعيفاً، وهذا صنيع مسلم -رحمه الله تعالى- في ابن لهيعة غالباً، وأما أحمد بن حنبل -رحمه الله- فلا يسقطه بل يذكره، والله أعلم.

إذا كان الحديث عن اثنين جملة الحديث عن كل واحدٍ منهما، ما يصير الحديث ملفق من رواية اثنين، لا، الحديث كامل يرويه البخاري عن مالك، ويرويه البخاري أيضاً عن ابن لهيعة، لا مانع من أن يسقط ابن لهيعة ويقتصر على مالك، هل فيه ضير أن لا يذكر ابن لهيعة؟ يسقط ابن لهيعة، وهذا ليس من تدليس التسوية؛ لأن هذا الضعيف ليس بين ثقتين، بل هو مع ثقة، فرق بين أن يكون الضعيف بين ثقتين فيسقط الضعيف، وبين أن يكون مقروناً بثقة يروي الحديث في طبقة ثقة أسقط الضعيف وأعتمد على الثقة فلا إشكال، الإمام البخاري يسقط، وقد فعل، روى الحديث من طريق مالك وابن لهيعة فأسقط ابن لهيعة، والإمام مسلم يبهمه فيقول: حدثنا فلان وآخر، ويقصد به ابن لهيعة.

على كل حال الإمام البخاري ومسلم لا يذكران الضعفاء في كتبهم؛ لأنهم اشترطوا الصحة، أما غيرهم كالإمام أحمد يسقط ابن لهيعة أو لا يسقطه؟ لا داعي لإسقاطه لماذا؟ لأنه روى عن من هو أقل من ابن لهيعة، فلا مانع من أن يذكر ابن لهيعة، أما كتاب اُشترط فيه الصحة، التزمت فيه الصحة ونظافة الأسانيد ينبغي أن يسقط مثل ابن لهيعة فلا يذكر، نعم رووا عن أناس -أعني البخاري ومسلم- أقل من شرطهم في المتابعات في الشواهد لا بأس، ومع ذلكم يقال في كتب الرجال: أخرجه له البخاري مقروناً، وأخرج له مسلم مقروناً هكذا، نعم.

طالب:........

عن ثقة، يقول هذا الثقة: وآخر؛ ليبين أن الحديث عنده من أكثر من طريق، لكنه لا يسميه؛ لأنه ليس من شرط الكتاب، البخاري يسقطه ويرتاح منه.

شرح: النوع السابع والعشرون: في آداب المحدث:

النوع السابع والعشرون: في آداب المحدث: وقد ألف الخطيب البغدادي -رحمه الله- في ذلك كتاباً سماه: (الجامع لآداب الراوي والسامع) وقد تقدم من ذلك مهمات في عيون الأنواع المذكورة.

قال ابن خلاد وغيره: ينبغي للشيخ ألا يتصدى للتحديث إلا بعد استكمال خمسين سنة, وقال غيره أربعين سنة, وقد أنكر القاضي عياض ذلك بأن أقواماً حدثوا قبل الأربعين، بل قبل الثلاثين، منهم مالك بن أنس ازدحم الناس عليه وكثير من مشايخه أحياء، قال ابن خلاد: فإذا بلغ الثمانين أحببت له أن يمسك خشية أن يكون قد اختلط.

وقد استدركوا عليه بأن جماعة من الصحابة وغيرهم حدثوا بعد هذا السن منهم أنس بن مالك, وسهل بن سعد, وعبد الله بن أبي أوفى وخلق ممن بعدهم, وقد حدث آخرون بعد استكمال مائة سنة منهم الحسن بن عرفة, وأبو القاسم البغوي, وأبو إسحاق الهجيمي, والقاضي أبو الطيب الطبري -أحد أئمة الشافعية- قلتُ: وجماعة كثيرون، لكن إذا كان الاعتماد على حفظ الشيخ الراوي فينبغي الاحتراز من اختلاطه إذا طعن في السن.

وأما إذا كان الاعتماد على حفظ غيره وخطه وضبطه فهاهنا كلما كان السن عالياً كان الناس أرغب بالسماع عليه، كما اتفق لشيخنا أبي العباس أحمد بن أبي طالب الحجار فإنه جاوز المائة محققاً، سمع على الزبيدي سنة ثلاثين وستمائة صحيح البخاري، وأسمعه في سنة ثلاثين وسبعمائة، وكان شيخاً كبيراً عامياً لا يضبط شيئاً، ولا يتعقل كثيراً من المعاني الظاهرة، ومع هذا تداعى الناس إلى السماع منه عند تفرده عن الزبيدي، وسمع منه نحوٌ من مائة ألفٍ أو يزيدون...

يقول -رحمه الله تعالى-: "النوع السابع والعشرون: في آداب المحدث" وهذا النوع والذي يليه من أولى ما ينبغي أن يعتني به طالب العلم؛ لأن طالب العلم بحاجة إلى الأدب؛ لأنه بصدد أن يؤدب الناس، فإذا لم يتأدب بنفسه كيف يؤدب غيره؟ فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه، لا بد أن يعتني بنفسه لكي يستطيع أن يؤثر في الناس.

يقول: "ألف الخطيب البغدادي في ذلك كتاباً سماه: "الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع" وهو كتاب نفيس مطبوع في مجلدين طبعات متعددة، ولعل من أجودها طبعة محمد عجاج الخطيب، طبع قبل ذلك بتحقيق محمد رأفت سعيد، وتحقيق محمود الطحان، لكن طبعة عجاج الخطيب أجودها.

هو كتابٌ نفيس لا يستغني طالب حديث عنه، "تقدم من ذلك مهمات في عيون الأنواع المذكورة" يمر في ثنايا الأبواب ما ينبغي أن يعتني به طالب العلم، مما ينفعه في دينه ودنياه، "قال ابن خلاد -يعني الرامهرمزي صاحب كتاب: (المحدث الفاصل)- وغيره: ينبغي للشيخ أن لا يتصدى للحديث إلا بعد استكمال خمسين سنة" يعني إذا بدأ يضعف، ولا دليل على ذلك، نعم هو كمل نضوجه الآن، لكن ما الذي يضمن له أن يبقى إلى الخمسين ليستفاد منه؟ فقد يموت قبل الخمسين، وكم من إمام من أئمة المسلمين نفع الله به وبعلمه ومات لم يكمل الخمسين كالنووي مثلاً، النووي -رحمه الله تعالى- مات ولم يبلغ خمسين خمسة وأربعين سنة، كتب كُتب صار لها من الصدى والأثر ما ليس لغيرها، وكتابه: (المجموع) لو اجتمعت اللجان الكثيرة لأن تعمل مثله ما استطاعت، وهذا لا شك أن علامات الإخلاص ظاهرة فيه، شرحه لمسلم على اختصاره فيه نفعٌ لا يتصور، لا يتصوره إلا من كرر النظر فيه، وأدام النظر فيه، فيه فوائد وعجائب على اختصاره، كتابه: (رياض الصالحين) الذي سرى في الأمة، وانتشر انتشاراً واسعاً بحيث لا يفوقه في ذلك إلا المصحف، لو قيل: إن انتشاره أكثر من انتشار صحيح البخاري ما هو بعيد، انتشار رياض الصالحين؛ لأنه يصلح لجميع طبقات الناس، كتابه: (الأذكار) أيضاً كتابٌ نافع وماتع ونفيس، لا يستغني عنه متدين، كما قال النووي نفسه.

على كل حال قد يموت الإنسان ولم يبلغ الخمسين، إذا سمع مثل هذا الكلام: لا تعلم الناس حتى تبلغ الخمسين، هذا قولٌ مهجور، بل هو قولٌ ضعيف، لا حظ له من النظر، والواقع يرده، كثيرٌ من أئمة الإسلام درّسوا قبل الخمسين، بل قبل الأربعين، بل قبل الثلاثين، بل منهم من تصدى للتحديث قبل العشرين كمالك -رحمه الله تعالى-، ونفع الله بهم نفعاً عظيماً، فكون الإنسان يمني نفسه أن يدرس بعد الخمسين بعد الستين سبحان الله من يضمن لك أن تبقى؟ لا شك أن مثل هذا حرمان أن يبقى، نعم طلب العلم لا حد له، يستمر يطلب العلم ويعلم بقدر ما عنده من العلم، أما ألا ينفع الناس ولا يفيدهم حتى يكمل الخمسين! هذا لا حظ له من النظر، "وقال غيره: أربعين سنة".

السيوطي لما كمل الأربعين انقطع عن التدريس، عكس ما يقوله هؤلاء، لما كمل الأربعين انقطع عن التدريس، وعن الإفتاء، وعن كل شيء، تفرغ للتأليف، ولذا صار..، عُد من المكثرين، حتى بلغت مؤلفاته الستمائة، وهي متفاوته من ورقة إلى المجلدات، على كل حال من تأهل للتعليم فليبادر؛ لأن نفع التعليم متعدي، وله -إذا خلصت نيته بهذا القيد- من الأجر ما لا يحصى، وكل شخصٍ يستفيد منه له مثل أجره، لكن بالقيد المذكور، إحسان النية وإخلاص العمل لله -سبحانه وتعالى-، والله المستعان.

يقول: "وقد أنكر القاضي عياض ذلك بأن أقواماً حدثوا قبل الأربعين، بل قبل الثلاثين، منهم الإمام مالك ابن أنس -رحمه الله تعالى- نجم السنن- ازدحم الناس عليه، وكثيرٌ من مشايخه أحياء"، يُدرس وربيعة موجود في المسجد، ربيعة بن عبد الرحمن شيخ الإمام مالك، كثير من شيوخه أحياء هم عنده في المسجد وهو يدرس، حدث صغير، لكن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، تجد الصغير عنده الفئام، والكبير عنده الأقل، والله المستعان.

وقبل جلوسه للتدريس ينبغي أن يتحسس ويتفقد نيته؛ لأن النية شرود، والنفس ميالة وحيافة، تميل إلى حب المدح والثناء، وتقديم العاجل على الآجل، لكن إذا عرفنا أن الحديث من علوم الآخرة المحضة فهو عبادة لا يجوز التشريك فيه، فعلينا أن نكون على ذكرٍ دائم للنية، والله المستعان.

"قال ابن خلاد –الرامهرمزي-: فإذا بلغ الثمانين أحببت له أن يمسك خشية أن يكون قد اختلط" وهذا مثل ما تقدم، وقد تقدم أيضاً أن بداية الطلب ليس له سن معين، بل متى فهم الخطاب، ورد الجواب ينبغي أن يبادر بطلب العلم، فلا يحدد بسن، وسبق أن ذكر المؤلف كغيره أن من أهل العلم من أهل البصرة والكوفة والشام كلٌ حدَّ سناً معيناً، منهم من قال: عشر يبدأ يطلب الحديث، ومنهم من قال: عشرين، ومنهم من قال: يبدأ يطلب الحديث ثلاثين، ومنهم من قال: أربعين واكتمل الأشد، طيب إيش يسوي.....، قبل الأربعين، قبل الثلاثين ماذا يصنع؟ يقول: يحفظ القرآن، ويعرف الأحكام، يعني الحلال والحرام، لكن ماذا؟ على ما يعتمد في معرفة الأحكام؟ كيف يعرف الأحكام ولم يعرف الحديث؟ جلُّ الأحكام مأخوذة من الأحاديث، فينبغي أن يبادر بعلم الكتاب والسنة، والعلوم متكاملة يكمل بعضها بعضاً، فينبغي أن تؤخذ معاً بالتدريج؛ لأنها متكاملة، أما الذي يقول: أنا أقتصر على حفظ القرآن وقراءة كتب التفسير فإذا أتقنت ذلك انتقلت إلى السنة، متى ينتقل إلى السنة؟ نعم عليه أن يحفظ من القرآن القدر الكافي لتصحيح صلاته، ويحفظ منه أيضاً المفصل على أقل تقدير، ويحفظ من السنة ما يعينه على تحرير الأحكام....... أحاديث الأحكام مثلاً، وما يرغبه في الآخرة، كأحاديث الترغيب ونحوها.

على كل حال الطريقة المتبعة عند أهل العلم لا سيما في المشرق حفظ بعض القرآن وإدخال العلوم الأخرى، بينما طريقة المغاربة يتفرغون لحفظ القرآن قبل كل شيء، ثم بعد حفظه وإتقانه ينتقلون إلى العلوم الأخرى، وفي كلٍ خير، على ألا ينسى القرآن؛ لأنه يخشى من تزاحم العلوم ينسى القرآن، فإذا التفت إليه في آخر عمره وجد أنه لا يستطيع أن يحفظ، يصعب عليه الحفظ، والله المستعان، وكلٌ على خير -إن شاء الله تعالى-.

فليس لبداية الطلب سن معينة، وليس لبداية التدريس والإقراء سن، وليس لنهاية التعليم سن، بل مرد ذلك كله إلى التأهل والحاجة، فإذا تأهل الإنسان للتحمل عليه أن يبادر، إذا تأهل الإنسان للتعليم واحتاج الناس إليه عليه أن يبادر، إذا تأهل الإنسان للتأليف عليه أن يبادر؛ ليغتنم الوقت، إذا خشي من الاختلاط فليكف، ويمتنع من التدريس، والله المستعان.

يقول: "فإذا بلغ الثمانين أحببت له أن يمسك خشية أن يكون قد اختلط" جماعة من الصحابة حدثوا بعد الثمانين، من التابعين كذلك، من أهل العلم من بلغ المائة، بل منهم من جاوز المائة وهو يحدث، ويعلم الناس على أحسن حال، نعم الثمانين فما بعدها مظنة للضعف الشديد، ومظنة للخرف والاختلاط، لكن إذا وجد منه شيء من ذلك يمسك، وإذا لم يشعر هو بذلك ينبغي أن يؤخذ على يده، "وقد استدركوا عليه بأن جماعة من الصحابة وغيرهم حدثوا بعد هذا السن، منهم أنس بن مالك وسهل بن سعد وعبد الله بن أبي أوفى، وخلقٌ ممن بعدهم، وقد حدث آخرون بعد استكمال مائة سنة، منهم الحسن بن عرفة -صاحب الجزء المشهور- وأبو القاسم البغوي وأبو إسحاق الهجيمي والقاضي أبو الطيب الطبري أحد أئمة الشافعية وجماعة كثيرون".

لكن إذا كان الاعتماد على حفظ الراوي فينبغي الاحتراز من اختلاطه إذا طعن في السن، هو مظنة للاختلاط، مظنة للنسيان، لكن ليس الأصل هو النسيان، نعم ينبغي أن يكون الإنسان على حذر، "وأما إذا كان اعتماده على حفظ غيره وخطه وضبطه فهاهنا كلما كان السن عالياً كان أرغب في السماع عليه"؛ لأنه إذا تفرد برواية أحاديث أو برواية كتب أو كتاب فإنه يكون حينئذٍ سنده عالياً، والعلو مطلوب عند أهل العلم، والمراد بالعلو قلة الوسائط بين الراوي والنبي -عليه الصلاة والسلام-، فكلما قل الوسائط وقل رجال الإسناد كان تطرق الخلل إليه أو احتمال تطرق الخلل إليه أقل؛ لأنه ما من راوي من الرواة وإلا ويحتمل أنه نسي أو أخطأ، أو وهم، أو ما أشبه ذلك، فإذا قلت الوسائط قلت هذه الاحتمالات.

يقول: "كما اتفق لشيخنا أبي العباس أحمد بن أبي طالب الحجار فإنه جاوز المائة محققاً، سمع على الزبيدي سنة ثلاثين وستمائة صحيح البخاري، وأسمعه في سنة ثلاثين وسبعمائة" بعد مائة سنة، يقول: "وكان شيخاً كبيراً عامياً.."

كم عمر الحافظ ابن كثير يوم يسمعه سنة ثلاثين وسبعمائة؟ الحافظ ولد سنة؟ لا تنظرون ما هي مسألة غش، لا، أنا أريد جواب متى ولد؟ ومتى مات؟

طالب:......

سبعمائة ولد، ولد سنة سبعمائة، أو سبعمائة وواحد إيه، ومات سنة أربعة وسبعين وسبعمائة، عن أربعٍ وسبعين سنة.

يقول: "وكان شيخاً كبيراً عامياً، لا يضبط شيئاً، ولا يتعقل كثيراً من المعاني الظاهرة" إذاً ما الفائدة من القراءة عليه؟ هو يروي الحديث، يروي الصحيح بالإسناد المتصل عن شيوخه، وهذه احتيج إليها في الأزمان

المتأخرة حينما صارت الغاية والهدف من الرواية إبقاء سلسلة الإسناد فقط، ولا عمدة على الرواة بعد عصر التدوين، لا عمدة عليهم، يعني كون يكون في طريقك الحجار هذا العامي الذي لا يتحقق كثيراً من المعاني يضر حديثه في صحيح البخاري؟ ما يضره، نعم.

"ومع هذا تداعى الناس إلى السماع منه عند تفرده عن الزبيدي، فسمع منه نحو من مائة ألف أو يزيدون" طلباً لعلو الإسناد كما هو معروف.

قالوا: وينبغي أن يكون المحدث جميل الأخلاق، حسن الطريقة، صحيح النية، فإن عزبت نيته عن الخير فليسمع، فإن العلم يرشده إليه، قال بعض السلف: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله.

"قالوا -وهذا من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المحدث وطالب الحديث أيضاً-: ينبغي أن يكون المحدث جميل الأخلاق" كريم النفس، سهل، سمح، يصبر على جفا الطلاب، وعلى جهل بعضهم، وشدة بعضهم تأسياً بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، قد لقي من الأذى، ولقي من سوء المعاملة من بعض الناس ما لقي، وقال عن موسى -عليه السلام-: ((رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) هذه طريقة الأنبياء، وهي أيضاً ينبغي أن تكون طريقة الوراث، وراث الأنبياء، ورثة الأنبياء، ورثة الأنبياء هم العلماء، ينبغي أن يكون لهم بالأنبياء قدوة وأسوة، فعلى العالم أن يكون جميل الأخلاق، حسن الطريقة، إن لم تكن هذه سجية، وغريزة جبل عليها الإنسان وهذا من فضل الله -سبحانه وتعالى- أن يجبل على مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، إن لم يكن كذلك فليتخلق وليتطبع، فإنه يؤجر على هذا التخلق وهذا التطبع، وفي النهاية يكون خلقاً بعد أن كان اكتساباً يكون جبلياً، والله -سبحانه وتعالى- إذا علم صدق النية أعان.

يقول: "حسن الطريقة" حسن السيرة، حس السمت، حسن الطريقة في هيئته، في ملبسه متوسط لا يبالغ ولا يغالي، وأيضاً لا يكون..، يظهر بمظهر يستقذره الناس ويستقبحونه، بل يكون متوسط في أموره كلها، أيضاً يكون في هيئته ونظراته ومشيته وتعامله مع الناس أسوة وقدوة للناس، وكم من شخصٍ استفاد الناس من هيئته أكثر من علمه، ابن الجوزي ذكر في فهرست شيوخه عن أحد شيوخه أنه استفاد من بكائه أكثر مما استفاد من علمه، لا شك أن مثل هذه الأمور لها أثر في الطلاب، والله المستعان.

حسن الطريقة أيضاً في التعليم، في إيصال المعلومة إلى الطالب، ينبغي أن يكون الشيخ أيضاً يقصد الوضوح في الأسلوب، والتكرار غير الممل، والتغيير في الأساليب التي جربها ووجدها لا تجدي، وأيضاً يحرص كل الحرص على إفادة الطالب والنصح له، وأن يكون "صحيح النية" والمدار عليها؛ لأن العلم الشرعي عبادة إذا طلبت لغير وجه الله -سبحانه وتعالى- ضرت، فالذي يريد زينة الحياة الدنيا ليس لهم في الآخرة -نسأل الله العافية- إلا النار، نسأل الله العافية.

فالعلم الشرعي علم الكتاب والسنة، علم الحلال والحرام المبني على الكتاب والسنة كله شرعي، من علوم الآخرة المحضة التي لا يجوز التشريك فيها، الأجر عظيم، والإثم مع الزلل كبير، فأول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، منهم من تعلم وعلم، فيجاء به يوم القيامة فيقال: ماذا عملت؟ فيقول: تعلمت وعلمت، علمت فيك العلم، قال: كذبت، إنما علمت ليقال: عالم، ومثله المجاهد والمتصدق، والله المستعان، نسأل الله السلامة والعافية.

يقول: "فإذا عزبت نيته عن الخير فليسمع" يعني داخله شيء من الرياء، شيءٌ من المقاصد الأخرى من أمور الدنيا يقول: لا يتوقف، لا يتوقف بحجة أن النية عزبت، ليس العلاج أن تترك، بعض الناس يترك الدراسة في الأقسام الشرعية مثلاً إذا سألته قال: والله عجزت، أبي أخلص وعجزت، فالعلاج نترك الدراسة، ومثل طلاب الحلق، بعضهم يقول: والله إني أتردد على الشيخ سنين والله أعلم بهالنية، نقول: لا تترك هذا ليس بعلاج، جاهد نفسك، جاهد نفسك على الإخلاص، وإذا علم الله -سبحانه وتعالى- صدق النية أعانك، والله المستعان.

"فإذا عزبت نيته عن الخير فليسمع، فإن العلم يرشد إليه" يرشد إلى الإخلاص، يدلك على الإخلاص، كلما زاد علمك زاد إخلاصك، وزاد تواضعك.

"قال بعض السلف: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله" ما نعتمد على مثل هذا الكلام ونسترسل ونقول: خلاص السلف طلبوا العلم بالنيات المدخولة فقادهم العلم الشرعي إلى الإخلاص، ما نقول: نطلب العلم من أجل الوظيفة، أو من أجل الذكر، أو من أجل أن تقدر في المجالس وبعدين تجي النية الصالحة؛ لأن السلف طلبوه لغير الله، وفي النهاية صار لله، لا، من يؤمنك، من يؤمنك أن تخترمك المنايا وأنت ما حصل لك هذا الإخلاص، نسأل الله العافية، نعم.

وقالوا: لا ينبغي أن يحدث بحضرة من هو أولى سناً أو سماعاً، بل كره بعضهم التحديث لمن في البلد أحق منه، وينبغي له أن يدل عليه ويرشد إليه، فإن الدين النصيحة.

قالوا: من الآداب للمحدث أن لا يحدث بحضرة من هو أولى منه سناً أو سماعاً، بل كره بعضهم التحديث، نعم إذا وجد في المجلس شخص أكبر منك سناً أو أعلم منك ينبغي أن تترك له المجال، ما تتحدث بحضرته إلا بقدر الحاجة إلا إذا امتنع الأعلم فإنه حينئذٍ يتحدث من دونه؛ لئلا يحرم الناس، ومثله إذا كان في البلد أكثر من عالم، والبلد لا يحتاج إلا إلى عالمٍ واحد يعلم الناس، ينبغي أن يكون هو الأعلم، فإذا امتنع الأعلم من التحديث يقوم الذي بعده وهكذا؛ لئلا يحرم الناس بحجة أن الأعلم تردد أو رفض.

فإذا كان عند غيره من العلم ما ليس عنده في العلوم كلها أو في بعضها، جاء شخص ليقرأ في كتاب وأنت تعرف أن من أهل العلم من له عناية بهذا الكتاب، من النصيحة -والدين النصيحة- أن تقول لهذا الطالب: اذهب إلى فلان فاقرأ عليه، فهو أولى مني بإقراء هذا الكتاب، فإن الدين النصيحة، لكن الإشكال إن من طلاب العلم من لا يقتنع، خلاص أعجب بفلان يرى أن كل العلوم عنده، تقول: يا أخي اذهب إلى فلان يحسن ويفتح لك مغاليق هذا الكتاب أكثر مما عنده..، لا، لا أريد..، هذا يحصل كثيراً، فالله المستعان.

فليحرص طالب العلم على التلقي عن الكبار، وعندنا -ولله الحمد- في هذه البلاد من أهل العلم من تشد إليه الرحال، نعم فقدنا جملةً منهم، لكن بقي من فيه الخير والبركة، ولا يعني هذا أن الإنسان عنده علم الدنيا كلها، يؤخذ عنه ما يحسنه، وينتقل إلى غيره ليأخذ عنه ما يحسنه، وتنوع الشيوخ أيضاً مطلوب؛ لأن كل شيخ له طريقته ومنهجه، وهم مدارس، كل واحد يمثل مدرسة، وكل واحد عنده ما ليس عند الآخر، فتنويع الشيوخ لا سيما الكبار منهم أمرٌ مطلوب؛ لئلا يندم الطالب لماذا لم يؤخذ عن فلان؟ لو اخترمته المنية ندم ندامة الكسعي، والله المستعان.

"بل كره بعضهم التحديث لمن في البلد أحق منه، وينبغي أن يدل عليه، ويرشد إليه" جاءك شخص يريد أنك تقرأ كتاب في العقائد تقول: اذهب إلى فلان، اذهب إلى فلان هو في هذا الباب راسخ، في الفقه اذهب إلى فلان، في أصول الفقه اذهب إلى فلان وهكذا، لأنك لا تجد عالم واحد يحيط بالدنيا كلها، بعضهم يقول: أنا أحدد الجهة، وأتعامل مع شخصٍ واحد أعرف نفسيته وكيفيته وطريقته أحسن لي من أن أتنقل من حلقة إلى حلقة، وكل يوم عند شيخ، وكل واحد يعطيني من العلم ما يختلف عن الآخر وهكذا، هذه وجهة نظر على كل حال، ومن أهل العلم السابقين من فعل ذلك يقرأ العلوم كلها، لكن ينبغي أن نقدر الرجال، ونعرف أقدارهم، وننزلهم منازلهم؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمرنا أن ننزل..، قالت عائشة: "أمرنا أن ننزل الناس منازلهم".

....باقي؟ نسرده؟ وهو سهل نعم، أعطينا إياه.

قالوا: وينبغي عقد مجلس التحديث، وليكن المسمع على أكمل الهيئات، كما كان مالكٌ -رحمه الله تعالى- إذا حضر مجلس التحديث توضأ، وربما اغتسل وتطيب، ولبس أحسن ثيابه، وعلاه الوقار والهيبة، وتمكن في جلوسه، وزبر من يرفع صوته، وينبغي افتتاح ذلك بقراءة شيءٍ من القرآن تبركاً وتيمناً بتلاوته، ثم بعده التحميد الحسن التام، والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليكن القارئ حسن الصوت، جيد الأداء، فصيح العبارة، وكلما مرَّ بذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى عليه وسلم.

قال الخطيب -رحمه الله-: ويرفع صوته بذلك، وإذا مرَّ بصحابيٍ ترضى عنه، وحسنٌ أن يثني على شيخه كما كان عطاء يقول: حدثني الحبر البحر عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، وكان وكيعٌ يقول: حدثني سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث، وينبغي أن لا يذكر أحداً بلقبٍ يكرهه، فأما لقبٌ يتميز به فلا بأس.

يقول -رحمه الله تعالى-: "قالوا: وينبغي عقد مجلس التحديث" ينبغي للمحدث أن يعقد مجلساً للتحديث يقصد فيه تبليغ ما حمله عن النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى الطلاب، كما أنه ينبغي أن يعقد مجالس للإملاء وهذه سنة متبعة عند أهل العلم، "وليكن المسمع –الشيخ- على أكمل الهيئات" لماذا؟ لأنه بصدد نقل كلام النبي -عليه الصلاة والسلام-، تكون هيئته وجلسته مناسبة، كان الإمام مالك -رحمه الله تعالى- "إذا حضر مجلس التحديث توضأ، وربما اغتسل وتطيب، ولبس أحسن ثيابه، وعلاه الوقار والهيبة، وتمكن في جلوسه"، كل هذا احتراماً لحديث النبي -عليه الصلاة والسلام-.

"وزبر من يرفع صوته" أخذاً من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [(2) سورة الحجرات] فالذي يسمع قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرفع صوته أكثر من هذا الصوت كان الإمام مالك -رحمه الله- يراه رفع صوتٍ فوق صوت النبي، وإن كان الصوت صوت القارئ، الصوت صوت القارئ بلا شك، لكن باعتبار هذا القارئ يقرأ حديث النبي -عليه الصلاة والسلام- فكأنه رفع صوته على صوت النبي -عليه الصلاة والسلام- فحصلت مخالفة الآية من هذه الحيثية.

يقول: "وينبغي افتتاح ذلك -يعني مجلس التحديث- بقراءة شيء من القرآن تبركاً وتيمناً" كان الصحابة والسلف من بعدهم إذا اجتمعوا استمعوا إلى قراءة قارئ حسن الصوت في بداية المجلس أو في نهايته، أو فيهما معاً، ثم بعد هذه القراءة يبدأ المجلس بالتحميد الحسن التام، والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والتحميد والتمجيد لله -سبحانه وتعالى-، وذكر نعمه وآلائه، ثم الصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- وآله من أهل بيته وذريته وأصحابه وأعوانه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ لأن من دعا بظهر الغيب لأحد قيل: ولك بمثله، ومثله إذا دعا وذكر الله في ملأ ذكره الله -سبحانه وتعالى- في ملأٍ خيرٍ منهم، "وليكن القارئ حسن الصوت، جيد الأداء" لأن حسن الصوت سواءً كان في القرآن، أو في الحديث، أو في غيره يجعل للكلام قبول، ولذا أمرنا أن نزين القرآن بأصواتنا، ((زينوا القرآن بأصواتكم)).

"جيد الأداء" أداء الحروف، ويخرج الحروف من مخارجها، ولا يأكل بعض الحروف مثل بعض القراء، بعض القراء يأكل بعض الحروف، والله المستعان، وبعض المتكلمين أيضاً يأكل بعض الحروف.

"فصيح العبارة" واضح الكلام، يخرج من فمه واضحاً، بحيث لا يخفى على السامع، "وكلما مرَّ بذكر النبي -عليه الصلاة والسلام-... صلى عليه وسلم"، فيقرن بين الصلاة والتسليم؛ ليتم امتثاله لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [(56) سورة الأحزاب] ((من صلى عليَّ مرةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً)) والنصوص في الصلاة عليه -عليه الصلاة والسلام- كثيرة، "قال الخطيب: ويرفع صوته بذلك" بالصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام-، "وإذا مر بصحابيٍ ترضى عنه"، ومن بعد الصحابة يترحم عليهم، وأهل العلم يثنى عليهم، ويذكرون بخير، ويدعى لهم.

يقول: "وحسنٌ أن يثني على شيخه" نعم حسنٌ أن يثني عليه إذا كان بغير حضرته، والشيخ بحاجة إلى الدعاء أكثر من حاجته إلى الثناء، "كما كان عطاء يقول: حدثني الحبر البحر ابن عباس، وكان وكيعٌ يقول: حدثني سفيان الثوري أميرُ المؤمنين في الحديث، وينبغي أن لا يذكر أحداً بلقبٍ يكرهه"، إذا كان قصده النبز بهذا اللقب فهو حرام، وإذا كان قصده مجرد التعريف بهذا اللقب بحيث لا يعرف، أو يغمض عند السامع إلا بذكر اللقب كالأعرج والأعمش، وما أشبه ذلك فلا بأس به، وهو مشهور مستفيض متداول عند أهل العلم، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.