التعليق على تفسير القرطبي - سورة مريم (06)

ربنا ييسر، ننظر في حل؛ لأن الجمعة الآن، الإشكال الأسفار، أنا كنت مسافرًا الأسبوع هذا، لكن من أجل الدرس حضرت، ومع ذلكم فيه مشقة عظيمة، يعني ما وصلت إلا في وقتٍ متأخرٍ جدًّا البارحة، فنجعل الدرس يوم الأحد بعد العشاء إلى أن نرى ترتيبًا ثانيًا، كثرة الارتباطات في أواخر الأسابيع، يعني خارج الرياض، الأسبوع القادم مكة، والتالي بالحفر، والذي بعده بالمدينة، والذي بعده ما أدري أين بعد، يمكن فيه شيء ثانٍ، فبعد صلاة العشاء إن شاء الله يوم الأحد بعد درس الموطأ نجلس ونقرأ في التفسير، إن شاء الله تعالى.

والعصر يا شيخ؟

لا العصر ما يناسب، ما عاد فيه وقت عصر الآن، كله مشغول.

طالب: والأسبوع القادم؟

بعد غد إن شاء الله.

بعد غد؟

إن شاء الله، من يوم الأحد القادم القريب هذا إن شاء الله تعالى.

 هذا يسأل يقول: السلام عليكم.

 عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

هل يجوز قراءة القرآن من الكمبيوتر أو الجوال بدون وضوء؟

على كل حال إذا ظهرت حروف القرآن على الشاشة فحكمها حكم الورق، حكمها حكم الورق، لا تُمس، فإذا قرأ من غير مس فلا إشكال، إن شاء الله تعالى.

وهذا أورد الحديث، حديث الورود، {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] هذا في المسند يقول: قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- قال: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا غالب بن سليمان أبو صالح عن كثير بن زياد البرساني عن أبي سمية قال: اختلفنا هاهنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعًا ثم ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- فقلت له: إنا اختلفنا هاهنا في الورود فقال: يردونها جميعًا، قال سليمان: مرة يدخلونها جميعًا، فقلت له: إنا اختلفنا في ذلك الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعًا، فأهوى بأصبعيه إلى أذنيه وقال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: «الورود الدخول، لا يبقى برٌّ ولا فاجرٌ إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار أو قال: لجهنم ضجيجًا من بردهم»

{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72] جثيًا.

 قال شعيب الأرنؤوط ومساعدوه: إسناده ضعيف؛ لجهالة أبي سمية، وأخرجه عبد بن حميد والبخاري في التاريخ كما في ترجمة أبي سمية من التهذيب، وسقط من التاريخ المطبوع، والبيهقي في الشعب من طريق سليمان بن حرب بهذا الإسناد، وأخرجه الحاكم من طريق سليمان بن حرب عن أبي صالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد عن أبي سهلٍ عن مُسة، تحرف في المطبوع إلى مُنية الأسدية، عن عبد الرحمن بن شيبة عن جابر، وسقط جابر في المطبوع. انظر الإتحاف، ومسة هذه لم يروِ عنها غير كثير بن زياد، وقد اضطرب في هذا الحديث كما ترى، ومع ذلك فقد صحح الحاكم هذا الإسناد.

نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

 قال الإمام القرطبي –رحمه الله تعالى-:

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أَيْ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} وَقَالَ فِيهِمْ: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} أَيْ هَؤُلَاءِ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ تَعَزَّزُوا بِالدُّنْيَا، وَقَالُوا: فَمَا بَالُنَا إِنْ كُنَّا عَلَى بَاطِلٍ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا؟ وَغَرَضُهُمْ إِدْخَالُ الشُّبْهَةِ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَإِيهَامُهُمْ أَنَّ مَنْ كَثُرَ مَالُهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ الْمُحِقُّ فِي دِينِهِ".

كأنهم يرون أن هذا رضى من الله -جل وعلا- عنهم وعن صنيعهم، فأغدق عليهم الأموال، ولم يرضَ عن صنيع غيرهم فأحوجهم وأفقرهم، وهذا استدلالٌ باطل؛ لأن الدنيا يعطيها الله –جل وعلا- لمن يحب ومن لا يحب، لكن الدين لا يعطيه إلا لمن يحب.

 "وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا فِي الْكُفَّارِ فَقِيرًا وَلَا فِي الْمُسْلِمِينَ غَنِيًّا، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَحَّى أَوْلِيَاءَهُ عَنِ الِاغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا وَفَرْطِ الْمَيْلِ إِلَيْهَا.

وَ"بَيِّنَاتٍ" مَعْنَاهُ مُرَتَّلَاتُ الْأَلْفَاظِ مُلَخَّصَةُ الْمَعَانِي، مُبَيِّنَاتُ الْمَقَاصِدِ؛ إِمَّا مُحْكَمَاتٌ، أَوْ مُتَشَابِهَاتٌ قَدْ تَبِعَهَا الْبَيَانُ بِالْمُحْكَمَاتِ، أَوْ تَبْيِينُ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوْ ظَاهِرَاتُ الْإِعْجَازِ تُحُدِّيَ بِهَا فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى مُعَارَضَتِهَا. أَوْ حُجَجًا وَبَرَاهِينَ. وَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مُؤَكَّدَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة:91]؛ لِأَنَّ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَكُونُ إِلَّا وَاضِحَةً وَحُجَجًا.

 {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يُرِيدُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَأَصْحَابَهُ".

على كل حال معنى البيناتٍ: الواضحات، الواضحات سواءٌ كانت واضحة من غير بيانٍ وإيضاح، وهذا موجود في القرآن من القدر المشترك لا يخفى على الناس متعلمهم وغير متعلمهم، وهناك ما يخفى على طلاب العلم، وهناك ما يخفى على كثير من أهل العلم، فالبيان والخفاء أمرٌ نسبي، وعلى كل حال ما يحتاج إلى بيان بيَّنه النبي –عليه الصلاة والسلام- فهي وظيفته، نعم.

"{لِلَّذِينَ آمَنُوا} يَعْنِي فُقَرَاءَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَتْ فِيهِمْ قَشَافَةٌ، وَفِي عَيْشِهِمْ خُشُونَةٌ، وَفِي ثِيَابِهِمْ رَثَاثَةٌ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ، يُرَجِّلُونَ شُعُورَهُمْ وَيَدْهُنُونَ رُءُوسَهُمْ، وَيَلْبَسُونَ خَيْرَ ثِيَابِهِمْ، فَقَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}.

 قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَشِبْلُ بْنُ عَبَّادٍ: {مُقَامًا} بِضَمِّ الْمِيمِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ. والْبَاقُونَ: "مَقَامًا" بِالْفَتْحِ؛ أَيْ مَنْزِلًا وَمَسْكَنًا. وَقِيلَ: الْمُقَامُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُقَامُ فِيهِ بِالْأُمُورِ الْجَلِيلَةِ؛ أَيْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَكْثَرُ جَاهًا وَأَنْصَارًا. {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} أَيْ مَجْلِسًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الْمَنْظَرُ، وَهُوَ الْمَجْلِسُ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ النَّادِي، وَمِنْهُ دَارُ النَّدْوَةِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَتَشَاوَرُونَ فِيهَا فِي أُمُورِهِمْ وَنَادَاهُ جَالَسَهُ فِي النَّادِي قَالَ:

أُنَادِي بِهِ آلَ الْوَلِيدِ وَجَعْفَرَا 

وَالنَّدِيُّ عَلَى فَعِيلٍ: مَجْلِسُ الْقَوْمِ وَمُتَحَدَّثُهُمْ، وَكَذَلِكَ النَّدْوَةُ وَالنَّادِي".

وَكَذَلِكَ النَّدْوَةُ وَالنَّادِي وَالْمُتَنَدَّى.

 "وَكَذَلِكَ النَّدْوَةُ وَالنَّادِي وَالْمُتَنَدَّى، فَإِنْ تَفَرَّقَ الْقَوْمُ فَلَيْسَ بِنَدِيٍّ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ".

المقام، المقام يطلق على المكان، مكان الإقامة، ومن هذا مقام إبراهيم، المقصود به مقاماته في إقامة شعيرة النسك، فيشمل جميع أماكن الشعائر التي تُؤدَّى فيها الأنساك، فيكون المطاف من مقام إبراهيم، والمسعى من مقام إبراهيم، منى من مقام إبراهيم، وهكذا، ويصح إطلاق المقام باعتباره ينصرف إلى أكثر، لكن بيان النبي –عليه الصلاة والسلام- لما تلا قول الله –جل وعلا-: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] وقصد المقام الذي هو الحجر، وصلى خلفه ركعتين تبين المراد من قوله –جل وعلا-: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]، وإن كانت مقامات إبراهيم في هذه الشعيرة العظيمة كلها مما يجب أن يقتدى به فيها مما أقره الإسلام، فهي مقامات، لكن المراد به في الآية هو الحجر أو مكانه، الحجر أو مكان الحجر، معناه أنه لو ارتفع الحجر، ارتفع الحجر، حصل له ما حصل على الحجر الأسود، سُرق من الحرم مثلًا كما أُخذ الحجر الأسود فنحن مرتبطون بالحجر الذي هو نفسه أم مكانه، والمقام يطلق على هذا وهذا، باعتبار أن إبراهيم قام عليه فهو مقام، والمكان أيضًا مقام، محل الإقامة، ويترتب على هذا أنه لو أزيح عن مكانه هل نتبع الحجر بالصلاة؟ لو رأى أهل الحل والعقد أنه الآن يسبب إشكالًا في المطاف، وأرادوا إبعاده عن مكانه، ويدخل في الأروقة، فأين نصلى الركعتين؟ نقصد هذا الحجر نصلى خلفه أو المكان الذي كان فيه المقام؟ وكان هذا الحجر ملاصقًا لجدار الكعبة، ملاصقًا لجدار الكعبة. فإذا قلنا: المقصود بالمكان فإننا لا نصلى خلف الحجر الموجود الآن، وإنما نصلى خلف مكانه الأول، وإذا قلنا: إنه الحجر فنتبعه أينما كان لو أدى الاجتهاد أنه يؤخر أيضًا عن مكانه الذي فيه الآن كما أخر سابقًا إلى داخل الأروقة؛ ليتسع المطاف، فنتبعه نصلي وراءه، نتخذ من مقام إبراهيم مصلى، فالجواب؟

نتبعه أم ما نتبعه؟

طالب:..............

طيب، فعل غير عمر لو اقتضت المصلحة إبعاده عن مكانه الآن ليس شرعي؟

طالب:..................

يعني قد يقول قائل: إننا نتبع فعل عمر في أصل تغيير المكان، في الأصل عمر غيَّر، نغير، وتغيير عمر يدل على أن مكانه ليس بتوقيف، ليس بلازم، وفي المسألة كتبٌ ومؤلفات لمكان مقام إبراهيم، هل يجوز تقديمه أو تأخيره؟ المعلم اليماني -رحمه الله-، وفيه رد عليه الشيخ سليمان بن حمدان، فيه رد أيضًا للشيخ سليمان، المقصود أن المسألة خلافية وخلافها قوي، ولا شك أن إبقاء كل ما كان على مكانه الأصل؛ لئلا تكون هذه المشاعر ملعبة، من أراد أن يقدم، ومن أراد أن يؤخر، من أراد أن يذكر في التاريخ تصرف، مثل هذه تبقى كما هي، والله المستعان.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أَيْ مِنْ أُمَّةٍ وَجَمَاعَةٍ. {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا} أَيْ مَتَاعًا كَثِيرًا، قَالَ:

وَفَرْعٍ يَزِينُ أَسْوَدَ فَاحِمٍ"

يزين المتن، وفرع يزين المتن أسود فاحمٍ.

"وَفَرْعٍ يَزِينُ الْمَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ

أَثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخْلَةِ الْمُتَعَثْكِلِ

وَالْأَثَاثُ مَتَاعُ الْبَيْتِ. وَقِيلَ: هُوَ مَا جَدَّ مِنَ الْفَرْشِ، وَالْخُرْثِيُّ مَا لُبِسَ مِنْهَا، وَأَنْشَدَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الطُّوسِيُّ فَقَالَ:

تَقَادَمَ الْعَهْدُ مِنْ أُمِّ الْوَلِيدِ بِنَا

دَهْرًا وَصَارَ أَثَاثُ الْبَيْتِ خُرْثِيَّا

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَيْئَةً. وقال مُقَاتِلٌ: ثِيَابًا. {وَرِئْيًا} أَيْ مَنْظَرًا حَسَنًا. وَفِيهِ خَمْسُ قِرَاءَاتٍ: قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: {وَرِيًّا} بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: {وَرِئْيًا} بِالْهَمْزِ. وَحَكَى يَعْقُوبُ أَنَّ طَلْحَةَ قَرَأَ: {وَرِيًا} بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ مُخَفَّفَةٍ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَزِيًّا} بِالزَّايِ، فَهَذِهِ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَيَجُوزُ {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِيئًا} بِيَاءٍ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ. قال النَّحَّاسُ: وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا حَسَنَةٌ، وَفِيهَا تَقْرِيرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مِنْ رَأَيْتُ ثُمَّ خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ فَأُبْدِلَ مِنْهَا يَاء، وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ. وَكَانَ هَذَا حَسَنًا لِتَتَّفِقَ رُءُوسُ الْآيَاتِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَهْمُوزَاتٍ. وَعَلَى هَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (الرِّئْيُ الْمَنْظَرُ)، فَالْمَعْنَى: هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَلِبَاسًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جُلُودَهُمْ مُرْتَوِيَةٌ مِنْ النِّعْمَةِ، فَلَا يَجُوزُ الْهَمْزُ عَلَى هَذَا. وَفِي رِوَايَةِ وَرْشٍ".

لأنه من الري ليس بمهموز، وريا مبتدأه كأنهم رووا من هذه النعمة.

 "فَالْمَعْنَى: هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَلِبَاسًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جُلُودَهُمْ مُرْتَوِيَةٌ مِنْ النِّعْمَةِ، فَلَا يَجُوزُ الْهَمْزُ عَلَى هَذَا. وَفِي رِوَايَةِ وَرْشٍ عَنْ نَافِعٍ وَابْنِ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: {وَرِئْيًا} بِالْهَمْزِ تَكُونُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَبِي عَمْرٍو، مِنْ رَأَيْتُ عَلَى الْأَصْلِ. وَقرأ طَلْحَة بْن مُصَرِّفٍ: {وَرِيًا} بِيَاءٍ مُخَفَّفَةٍ أَحْسَبُهَا غَلَطًا. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ كَانَ أَصْلُهَا الْهَمْزَ فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ يَاءً، ثُمَّ حُذِفَتْ إِحْدَى الْيَائَيْنِ. قال الْمَهْدَوِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ {وَرِيئًا}، فَقُلِبَتْ يَاءً فَصَارَتْ رِيَيًا ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ عَلَى الْيَاءِ وَحُذِفَتْ. وَقَدْ قَرَأَ بَعْضُهُمْ: {وَرِيًا} عَلَى الْقَلْبِ، وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْخَامِسَةُ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ رَاءَ بِمَعْنَى رَأَى".

القراءة الخامسة، نعم ريئًا.

طالب: ريا؟

القراءة الخامسة التي تقدمت، ويجوز {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِيئًا}، تقدمت القراءة الخامسة، وهنا يقول: وَقَدْ قَرَأَ بَعْضُهُمْ وهي القراءة الخامسة القلب الأصل أن الهمزة متقدمة على الياء، فإذا قلبنا قدمنا الهمزة على الياء.

طالب: قدمنا الياء.

ماذا، وقد قرأ بعضهم.

طالب: وريا.

نعم؟

طالب: هذا القلب وهي القراءة الخامسة.

نعم، لكن القراءة الخامسة التي تقدمت ريئًا، وهي مقلوبة لأن الأصل الهمزة قبل الياء فقلبت قدمت الياء قبل الهمزة.

طالب: ويقول الكلام هو كلام المهدوي وقد قرأ بعضهم يقول.

عطفٌ عليه، لكن على ما تقدم إذا ربطنا وهي القراءة الخامسة، القراءة الخامسة تقدمت في قوله: طالب: فَهَذِهِ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ قَالَ: وَيَجُوزُ {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِيئًا}، لكن عطفها عليها، فيه لخبطة،  وفيه عدم تنظيم هنا، وهي القراءة الخامسة، إلا إن كان من التعداد الأخير بمعنى أنه أضرب عن القراءات الأولى، ثم بدأ من جديد.

طالب: قال أبو إسحاق، قال: فَهَذِهِ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَيَجُوزُ {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِيئًا} بِيَاءٍ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ. قال النَّحَّاسُ: وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لعله ما اعتبرها الخامسة.

هي مجرد تجويز؛ لأنها قراءة ثابتة بالسند، هي مجرد تجويز لتتميم القسمة فيما تجوز قراءته بالنسبة لهذه الأحرف.

"وَحَكَى سِيبَوَيْهِ رَاءَ بِمَعْنَى رَأَى. قال الْجَوْهَرِيُّ: مَنْ هَمَزَهُ جَعَلَهُ مِنَ الْمَنْظَرِ مِنْ رَأَيْتُ، وَهُوَ مَا رَأَتْهُ الْعَيْنُ مِنْ حَالٍ حَسَنَةٍ وَكِسْوَةٍ ظَاهِرَةٍ".

التقديم والتأخير في الحروف لاسيما ما فيه همز معروف في لغة العرب، جمع بئر وسؤر، جمع بئر وجمع سؤر، جمعهما بئر همز تجيء آبار وآسار أو أبئار وأسئار، هذا الأصل أنها أبئار وأسئار، لكن قلبت صار بها تقديم وتأخير.

 "وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِمُحَمَّدِ بْنِ نُمَيْرٍ الثَّقَفِيِّ فَقَالَ:

أَشَاقَتْكَ الظَّعَائِنُ يَوْمَ بَانُوا

بِذِي الرِّئْيِ الْجَمِيلِ مِنَ الْأَثَاثِ 

وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ أَوْ يَكُونَ مِنْ رَوِيَتْ أَلْوَانُهُمْ وَجُلُودُهُمْ رِيًّا؛ أَيِ امْتَلَأَتْ وَحَسُنَتْ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْأَعْسَمِ الْمَكِّيِّ وَيَزِيدَ الْبَرْبَرِيِّ: {وَزِيًّا} بِالزَّايِ فَهُي الْهَيْئَةُ وَالْحُسْنُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوَيْتُ أَيْ جَمَعْتُ، فَيَكُونُ أَصْلُهَا زَوِيًّا، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «زُوِيَتْ لِي الْأَرْضُ» أَيْ جُمِعَتْ، أَيْ فَلَمْ يُغْنِ ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلْيَعِشْ هَؤُلَاءِ مَا شَاءُوا فَمَصِيرُهُمْ إِلَى الْمَوْتِ وَالْعَذَابِ وَإِنْ عُمِّرُوا، أَوِ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ يَأْخُذُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ} أَيْ فِي الْكُفْرِ {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} أَيْ فَلْيَدَعْهُ فِي طُغْيَانِ جَهْلِهِ وَكُفْرِهِ، فَلَفْظُهُ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، أَيْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ مَدَّهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى يَطُولَ اغْتِرَارُهُ، فَيَكُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ لِعِقَابِهِ، نَظِيرُهُ {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران:178]، وَقَوْلُهُ: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110]، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ، أَيْ فَلْيَعِشْ مَا شَاءَ، وَلْيُوَسِّعْ لِنَفْسِهِ فِي الْعُمُرِ، فَمَصِيرُهُ إِلَى الْمَوْتِ وَالْعِقَابِ. وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ.

وَقِيلَ: هَذَا دُعَاءٌ أُمِرَ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، تَقُولُ: مَنْ سَرَقَ مَالِي فَلْيَقْطَعِ اللَّهُ تَعَالَى يَدَهُ، فَهُوَ دُعَاءٌ عَلَى السَّارِقِ. وَهُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ قَوْلُهُ: "فَلْيَمْدُدْ" خَبَرًا".

الأصل أن اللام لام الأمر، ليمدد لام الأمر، ولذا جزم الفعل فهي لام الأمر، ومعناها الخبر، فالنبي –عليه الصلاة والسلام- مأمور بأن يقول هذا الكلام، لكن أن يقوله على سبيل الدعاء، الدعاء عليهم؛ لأن الدعاء يأتي بلفظ الأمر، ويأتي مقترنًا بلام الأمر احتمال كونه أمر بلفظ الخبر، أو خبر بلفظ الأمر يكون أبلغ.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} قَالَ: رَأَوْا لِأَنَّ لَفْظَ مَا يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. وَإِذَا مَعَ الْمَاضِي بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ حَتَّى يَرَوْا مَا يُوعَدُونَ، وَالْعَذَابُ هُنَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ فَيُعَذِّبُونَهُمْ بِالسَّيْفِ وَالْأَسْرِ، وَإِمَّا أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فَيَصِيرُونَ إِلَى النَّارِ. {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا} أَيْ تَنْكَشِفُ حِينَئِذٍ الْحَقَائِقُ، وَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} أَيْ وَيُثَبِّتُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْهُدَى وَيَزِيدُهُمْ فِي النُّصْرَةِ، وَيُنْزِلُ مِنَ الْآيَاتِ مَا يَكُونُ سَبَبَ زِيَادَةِ الْيَقِينِ مُجَازَاةً لَهُمْ. وَقِيلَ: يَزِيدُهُمْ هُدًى بِتَصْدِيقِهِمْ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ غَيْرُهُمْ، قَالَ مَعْنَاهُ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ، وَيَحْتَمِلُ ثَالِثًا أَيْ {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا} إِلَى الطَّاعَةِ {هُدًى} إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى زِيَادَةِ الْأَعْمَالِ وَزِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى فِي (آلِ عِمْرَانَ) وَغَيْرِهَا. {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} تَقَدَّمَ فِي (الْكَهْفِ) الْقَوْلُ فِيهَا".

قوله: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} دليل على زيادة الإيمان، وأنه يزيد وينقص، يزيد بالطاعات، وينقص بسبب المعاصي والفسوق، وهذا قولٌ معتمد عن أهل السنة والجماعة، وأما {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} فهي على ما تقدم سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.

"{خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} أَيْ جَزَاءً {وَخَيْرٌ مَرَدًّا} أَيْ فِي الْآخِرَةِ مِمَّا افْتَخَرَ بِهِ الْكُفَّارُ فِي الدُّنْيَا. وَ(الْمَرَدُّ) مَصْدَرٌ كَالرَّدِّ؛ أَيْ وَخَيْرٌ رَدًّا عَلَى عَامِلِهَا بِالثَّوَابِ، يُقَالُ هَذَا أَرَدُّ عَلَيْكَ أَيْ أَنْفَعُ لَكَ. وَقِيلَ: {خَيْرٌ مَرَدًّا} أَيْ مَرْجِعًا، فَكُلُّ أَحَدٍ يُرَدُّ إِلَى عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَهُ".

هذا أرد عليك يعني أكثر مردودًا ونفعًا، فهذا أسلوبٌ مستعمل ومعروف، وهنا المرد مفعل، وهو المكان أو العمل الذي ترد إليه مما يسرك، فهذه الباقيات الصالحات إذا رُد إليها الإنسان عند بعثه وجد أثرها في ميزانه. غراث الجنة، «الجنة قيعان، وغراسها التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير»، كما جاء في الحديث.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: كَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ لِي: لَنْ أَقْضِيَكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ. قَالَ: قُلْتُ لَهُ: لَنْ أَكْفُرَ بِهِ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: وَإِنِّي لَمَبْعُوثٌ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ؟ فَسَوْفَ أَقْضِيكَ إِذَا رَجَعْتُ إِلَى مَالٍ وَوَلَدٍ. قَالَ وَكِيعٌ: كَذَا قَالَ الْأَعْمَشُ ".

يظن أنه لما قال: تموت ثم تبعث، يعني ثم ترد إلى هذه الدنيا، ظن هذا الكافر فقال: إذا مت ثم بعثت وعدت إلى أموالي رددتها عليك، نعم، لكن يبعث إلى أين؟ نسأل الله العافية، إلى الجزاء، نعم.

"قَالَ وَكِيعٌ: كَذَا قَالَ الْأَعْمَشُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} فِي رِوَايَةٍ قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ عَمَلًا، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ كَانَ خَبَّابٌ قَيْنًا".

ومقاتل، الكلبي ومقاتل.

"وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: كَانَ خَبَّابٌ قَيْنًا، فَصَاغَ لِلْعَاصِ حُلِيًّا ثُمَّ تَقَاضَاهُ أُجْرَتَهُ، فَقَالَ الْعَاصُ: مَا عِنْدِي الْيَوْمَ مَا أَقْضِيكَ، فَقَالَ خَبَّابٌ: لَسْتُ بِمُفَارِقِكَ حَتَّى تَقْضِيَنِي، فَقَالَ الْعَاصُ: يَا خَبَّابُ مَا لَكَ؟ مَا كُنْتَ هَكَذَا، وَإِنْ كُنْتَ لَحَسَنَ الطَّلَبِ. فَقَالَ خَبَّابٌ: إِنِّي كُنْتُ عَلَى دِينِكَ، فَأَمَا الْيَوْمَ فأنا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ مُفَارِقٌ لِدِينِكَ، قَالَ: أَوَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَحَرِيرًا؟ قَالَ خَبَّابٌ: بَلَى، قَالَ: فَأَخِّرْنِي حَتَّى أَقْضِيَكَ فِي الْجَنَّةِ؛ اسْتِهْزَاءً، فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا إِنِّي لَأَقْضِيكَ فِيهَا، فَوَاللَّهِ لَا تَكُونُ أَنْتَ يَا خَبَّابُ وَأَصْحَابُكَ أَوْلَى بِهَا مِنِّي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} يَعْنِي الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ، الْآيَاتِ، {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَظَرَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ؟ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَعَلِمَ الْغَيْبَ حَتَّى يَعْلَمَ أَفِي الْجَنَّةِ هُوَ أَمْ لَا؟ {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قَالَ قَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ: أَيْ عَمَلًا صَالِحًا، وَقِيلَ: هُوَ التَّوْحِيدُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْوَعْدِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عَاهَدَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ.

 {كَلَّا} رَدٌّ عَلَيْهِ، أَيْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ؛ لَمْ يَطَّلِعِ الْغَيْبَ، وَلَمْ يَتَّخِذْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِه {كَلَّا}، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ مُدَوَّنٌ فِي الصِّحَاحِ.

 وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ. {وَوُلْدًا} بِضَمِّ الْوَاوِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَاخْتُلِفَ فِي الضَّمِّ وَالْفَتْحِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ يُقَالُ وَلَدٌ وَوُلْدٌ، كَمَا يُقَالُ: عَدَمٌ وَعُدْمٌ وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ ".

حِلزة.

اللام مشددة، نعم حِلِّزَةَ،

"وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:

وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرًا قَدْ ثَمَّرُوا مَالًا وَوُلْدًا 

وَقَالَ آخَرُ:

فَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ

وَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ وُلْدَ حِمَارِ

وَالثَّانِي: أَنَّ قَيْسًا تَجْعَلُ الْوُلْدَ بِالضَّمِّ جَمْعًا، وبِالْفَتْحِ وَاحِدًا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَرَادَ فِي الْجَنَّةِ اسْتِهْزَاءً بِمَا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ؛ وَفِيهِ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ أَقَمْتَ عَلَى دِينِ آبَائِي وَعِبَادَةِ".

أقمتُ.

"إِنْ أَقَمْتُ عَلَى دِينِ آبَائِي وَعِبَادَةِ آلِهَتِي لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا. الثَّانِي: وَلَوْ كُنْتُ عَلَى بَاطِلٍ لَمَا أُوتِيتُ مَالًا وَوَلَدًا".

ويستدل بباطل على باطل، يستدل بباطل على باطل مثل ما تقدم في أول الأمر، هو يدعي الخيرية بمجرد أن الله -جل وعلا- وسّع عليه في الدنيا، وضيق على بعض الأخيار من المؤمنين، واستدلالهم بهذا باطل؛ لأن الله –جل وعلا- كما أشرنا يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، والغالب أن الامتحان بالدنيا قل من ينجو منه، بخلاف الامتحان بضدها، بالقلة، كثير من الناس يصبر على العدم، لكن لا يصبر على الوجود، لا يصبر على الوجود، والغالب أن المجتمعات التي هي أقل انفتاحًا، وتيسر أمور من جهة الدنيا أحرص على الالتزام بالأحكام الشرعية وأوامر الله –جل وعلا- واجتناب نواهيه، وهذا الظاهر، «والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا، وتبسط عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم»، ومعروف أن أبواب الشرور إنما فتحت بانفتاح الدنيا، كان الناس على قلة، وشغف من العيش كانت أحوالهم أسلم، وقلوبهم أصفى، ثم لما فتحت عليهم الدنيا تشاحنوا وتباغضوا، وتقاتلوا، وتناحروا، وتهاجروا، والله المستعان.

 

"قُلْتُ: قَوْلُ الْكَلْبِيِّ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، بَلْ نَصُّهَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَالَ مَسْرُوقٌ: سَمِعْتُ خَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ يَقُولُ: جِئْتُ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ".

طالب: هو العاصي؟

هو أصله العاصي؛ لأن المنقوص ما أخره ياء إذا اقترنت به ال تثبت الياء، نقول: القاضي والعاصي والهادي، لكن بعض الأسماء حذفت منها الياء من أجل التخفيف تقول: عمرو بن العاص، شداد بن الهاد، مثل هذه لكثرة استعمالها تحذف الياء، وإلا فالأصل ثبوتها.

 قد تحذف الياء؛ مراعاةً لرؤوس الآي كما في {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9] ، نعم أصلها المتعالي.

"يَقُولُ: جِئْتُ الْعَاصَي بْنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ أَتَقَاضَاهُ حَقًّا لِي عِنْدَهُ، فَقَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لَا حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: وَإِنِّي لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: إِنَّ لِي هُنَاكَ مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيكَ؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؛ قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ}".

يقول فنزلت {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} الآية، وهذه موجودة في ست نسخ، هذه الآية مذكورة في ست من النسخ.

طالب:.................

يقول: فنزلت {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} الآية.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} أَلِفُهُ أَلِفُ اسْتِفْهَامٍ لِمَجِيءِ أَمْ بَعْدَهَا وَمَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ، وَأَصْلُهُ أَاطَّلَعَ فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّهَا أَلِفُ وَصْلٍ.

فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَتَوْا بِمَدَّةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ فَقَالُوا: آطَّلَعَ كَمَا قَالُوا: {آللَّهُ خَيْرٌ} [النمل:59] {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} [الأنعام:143] قِيلَ لَهُ: كَانَ الْأَصْلُ فِي هَذَا (أَاللَّهُ)، (أَالذَّكَرَيْنِ) فَأَبْدَلُوا مِنَ الْأَلِفِ الثَّانِيَةِ مَدَّةً؛ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْخَبَرِ ".

تسهل الهمزة الأولى وتكون مدة {آللَّهُ}، {آلذَّكَرَيْنِ}، وهنا حذفت الهمزة {أَطَّلَعَ}، والحذف في المتماثلات كثير، الفعل المضارع إذا كان أوله تاءين مثلًا تحذف إحداهما، وتقتصر على واحدة، والهمزه هنا {أَطَّلَعَ}، همزة استفهام لا شك، وإحداهما محذوفة، وهل المحذوفة همزة الاستفهام أو الهمزة همزة الفعل؟ أيهما المحذوفة؟

طالب: همزة الفعل.

همزة الفعل؛ لأن لهمزة الاستفهام أثرًا وعملًا يبقى بعدها وهو العطف بأم.

"وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: اللَّهُ خَيْرٌ بِلَا مَدٍّ لَالْتَبَسَ الِاسْتِفْهَامُ بِالْخَبَرِ، وَلَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى هَذِهِ الْمَدَّةِ فِي قَوْلِهِ: {أَطَّلَعَ}؛ لِأَنَّ أَلِفَ الِاسْتِفْهَامِ مَفْتُوحَةٌ، وَأَلِفَ الْخَبَرِ مَكْسُورَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ فِي الِاسْتِفْهَامِ: أَطَّلَعَ؟ أَفَتَرَى؟ أَصْطَفَى؟ أَسْتَغْفَرْتَ؟ بِفَتْحِ الْأَلِفِ، وَتَقُولُ فِي الْخَبَرِ: اطَّلَعَ، افْتَرَى، اصْطَفَى، اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ بِالْكَسْرِ، فَجَعَلُوا الْفَرْقَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، وَلَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى فَرْقٍ آخَرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا} لَيْسَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ".

النِّصف، الأول، يعني كلا لا توجد في النصف الأول من القرآن، النصف الأول من القرآن ليس فيه كلا.

"{كَلَّا} لَيْسَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ ذِكْرُ كَلَّا وَإِنَّمَا جَاءَ ذِكْرُهُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي، وَهُوَ يَكُونُ بِمَعْنَيَيْنِ".

يجعلونها من علامات المكي، يجعلونها من علامات المكي.

"وَهُوَ يَكُونُ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: بِمَعْنَى حَقًّا. وَالثَّانِي: بِمَعْنَى لَا، فَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى حَقًّا جَازَ الْوَقْفُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، ثُمَّ تَبْتَدِئُ كَلَّا أَيْ حَقًّا. وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى لَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى كَلَّا جَائِزًا، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَقِفَ عَلَى قَوْلِهِ: {عَهْدًا}، وَتَبْتَدِئَ {كَلَّا} أَيْ حَقًّا {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ}. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون:100] يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى كَلَّا وَعَلَى تَرَكْتُ. وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا} [الشعراء:14،15] الْوَقْفُ عَلَى كَلَّا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَظُنُّ، فَاذْهَبَا، فَلَيْسَ لِلْحَقِّ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَوْضِعٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَلَّا بِمَنْزِلَةِ سَوْفَ؛ لِأَنَّهَا صِلَةٌ، وَهِيَ حَرْفُ رَدٍّ، فَكَأَنَّهَا (نَعَمْ) وَ(لَا) فِي الِاكْتِفَاءِ قَالَ: وَإِنْ جَعَلْتَهَا صِلَةً لِمَا بَعْدَهَا لَمْ تَقِفْ عَلَيْهَا كَقَوْلِكَ: كَلَّا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ؛ لَا تَقِفُ عَلَى كَلَّا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ".

وتكون زائدة، إذا قلنا: إنها صلة فمعناها أنها زائدة، يمكن الاستغناء عنها، والسياق يستقيم بدونها، ولكن معناها مؤكد، كلا ردع وزجر، كما هو معروف.

 "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلَّا وَالْقَمَرِ} [المدثر:32] فَالْوَقْفُ عَلَى كَلَّا قَبِيحٌ؛ لِأَنَّهُ صِلَةٌ لِلْيَمِينِ. وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدَانَ يَقُولُ فِي (كَلَّا) مِثْلَ قَوْلِ الْفَرَّاءِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مَعْنَى كَلَّا الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَسَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ يَقُولُ: لَا يُوقَفُ عَلَى كَلَّا في جَمِيعَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهَا جَوَابٌ، وَالْفَائِدَةُ تَقَعُ فِيمَا بَعْدَهَا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ قَوْلُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ".

طالب: أبو العباس المبرد؟

أبو العباس محمد بن يزيد، والأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} أَيْ سَنَحْفَظُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَنُجَازِيهِ بِهِ فِي الْآخِرَةِ. {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} أَيْ سَنَزِيدُهُ عَذَابًا فَوْقَ عَذَابٍ، {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أَيْ نَسْلُبُهُ مَا أَعْطَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَيْ نَرِثُهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ بَعْدَ إِهْلَاكِنَا إِيَّاهُ. وَقِيلَ: نَحْرِمُهُ ممَا تَمَنَّاهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ وَنَجْعَلُهُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} أَيْ مُنْفَرِدًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ وَلَا عَشِيرَةَ تَنْصُرُهُ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} يَعْنِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، {وَعِزًّا} مَعْنَاهُ أَعْوَانًا وَمَنَعَةً، يَعْنِي أَوْلَادًا. وَالْعِزُّ: الْمَطَرُ والْجُودُ أَيْضًا ".

في قوله –جل وعلا- السابق {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ}، يعني ندون كل ما يلفظ به الإنسان ومنه ما تفوه به هذا الرجل {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، ثم بعد ذلك يجازى به، {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} هذا الفعل مد ثلاثي وأمد الرباعي، مد الثلاثي في العذاب، وأمد في الخير والنعم،  {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} هذه من الثلاثي، {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} [الطور:22] من الرباعي، فالفرق بين مد وأمد أن الثلاثي فيما يضر، والرباعي فيما ينفع.

"وَالْعِزُّ الْمَطَرُ الْجُودُ أَيْضًا، قَالَهُ الْهَرَوِيُّ. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ عِزًّا رَاجِعٌ إِلَى الْآلِهَةِ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَوَحَّدَ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ؛ أَيْ لِيَنَالُوا بِهَا الْعِزَّ وَيَمْتَنِعُونَ بِهَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلَّا} أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنُّوا وَتَوَهَّمُوا، بَلْ يَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ، أَيْ يُنْكِرُونَ أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ، أَوْ تَجْحَدُ الْآلِهَةُ عِبَادَةَ الْمُشْرِكِينَ لَهَا كَمَا قَالَ: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص:63]؛ وَذَلِكَ لأَنَّ الْأَصْنَامَ جَمَادَاتٌ لَا تَعْلَمُ الْعِبَادَةَ.

 {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} أَيْ أَعْوَانًا فِي خُصُومَتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ. عَنْ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ: يَكُونُونَ لَهُمْ أَعْدَاءً. وعن ابْنُ زَيْدٍ: يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ بَلَاءً، فَتُحْشَرُ آلِهَتُهُمْ، وَتُرَكَّبُ لَهُمْ عُقُولٌ فَتَنْطِقُ، وَتَقُولُ: يَا رَبِّ عَذِّبْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَبَدُونَا مِنْ دُونِكَ، كلا".

وكلا.

وكلا؟

نعم.

 "وَكَلَّا هُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى لَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى حَقًّا؛ أَيْ حَقًّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ} بِالتَّنْوِينِ. وَرُوِيَ عَنْهُ مَعَ ذَلِكَ ".

كلًّا بالفتح، كلًّا، روي الضم أيضًا.

"وَرُوِيَ عَنْهُ مَعَ ذَلِكَ ضَمُّ الْكَافِ وَفَتْحُهَا. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ كَلَّا رَدْعٌ وَزَجْرٌ وَتَنْبِيهٌ وَرَدٌّ لِكَلَامٍ مُتَقَدِّمٍ، وَقَدْ تَقَعُ لِتَحْقِيقِ مَا بَعْدَهَا وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق:6]، فَلَا يُوقَفُ عَلَيْهَا عَلَى هَذَا، وَيُوقَفُ عَلَيْهَا فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ؛ فَإِنْ صَلَحَ فِيهَا الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا جَازَ الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَالِابْتِدَاءُ بِهَا. فَمَنْ نَوَّنَ كَلَّا مِنْ قَوْلِهِ: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} مَعَ فَتْحِ الْكَافِ فَهُوَ مَصْدَرُ كَلَّ، وَنَصْبُهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، وَالْمَعْنَى كَلَّ هَذَا الرَّأْيُ وَالِاعْتِقَادُ كَلًّا، يَعْنِي "اتِّخَاذَهُمُ الْآلِهَةَ لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا" فَيُوقَفُ عَلَى هَذَا عَلَى عِزًّا وَعَلَى {كَلًّا}، وَكَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهَا تَصْلُحُ لِلرَّدِّ لِمَا قَبْلَهَا، وَالتَّحْقِيقِ لِمَا بَعْدَهَا. وَمَنْ رَوَى ضَمَّ الْكَافِ مَعَ التَّنْوِينِ فَهُوَ مَنْصُوبٌ أَيْضًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: سَيَكْفُرُونَ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ يَعْنِي الْآلِهَةَ".

يعني فعل مضمر يفسره المذكور، يعني فعل مضمر يفسره المذكور، نعم.

طالب:...........

ونعمة، أولي النعمة.

طالب:.............

أولي النعمة ما يظهر، نعم؟

طالب:.........................

على كل حال فرعون أعطي من النعم، فتفتح وتكسر في الخير أيضًا، لكن هذه النعمة إن استعملت فيما يرضي الله –جل وعلا- نعمة وإلا انقلبت نقمة.

طالب:......................

ما يظهر فرق الآن، ولا بد من الفرق، لا يوجد الترادف من كل وجه.

"قُلْتُ: فَتَحَصَّلَ فِي كَلَّا أَرْبَعَةُ مَعَانٍ: التَّحْقِيقُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى حَقًّا وَالنَّفْيُ وَالتَّنْبِيهُ، وَصِلَةٌ لِلْقَسَمِ، وَلَا يُوقَفُ مِنْهَا إِلَّا عَلَى الْأَوَّلِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: (لَا) تَنْفِي فَحَسْبُ، وَكَلَّا تَنْفِي شَيْئًا وَتُثْبِتُ شَيْئًا، فَإِذَا قِيلَ: أَكَلْتُ تَمْرًا، قُلْتُ: كَلَّا إِنِّي أَكَلْتُ عَسَلًا لَا تَمْرًا، فَفِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ نَفْيُ مَا قَبْلَهَا، وَتَحَقّيُقُ مَا بَعْدَهَا. وَالضِّدُّ يَكُونُ وَاحِدًا وَيَكُونُ جَمْعًا، كَالْعَدُوِّ وَالرَّسُولِ. وَقِيلَ: وَقَعَ الضِّدُّ مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ أَيْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ عَوْنًا، فَلِهَذَا لَمْ يُجْمَعْ، وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: {لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا}، وَالْعِزُّ مَصْدَرٌ، فَكَذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي مُقَابَلَتِهِ ثُمَّ قِيلَ: الْآيَةُ فِي عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، فَأَجْرَى الْأَصْنَامَ مَجْرَى مَنْ يَعْقِلُ، جَرْيًا عَلَى تَوَهُّمِ الْكَفَرَةِ. وَقِيلَ: فِيمَنْ عَبَدَ الْمَسِيحَ أَوِ الْمَلَائِكَةَ أَوِ الْجِنَّ أَوِ الشَّيَاطِينَ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ".

كلهم مع ما يعبدونه من حصب جهنم {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:98] وهذه خاصة بمن عُبد وهو راضٍ سواءٌ كان ممن يعقل أو لا يعقل، فالذي يُعبد من دون الله وهو راضٍ طاغوت، وهو من حصب جهنم، نسأل الله السلامة والعافية، وهنا يقول: وَقِيلَ: فِيمَنْ عَبَدَ الْمَسِيحَ أَوِ الْمَلَائِكَةَ أَوِ الْجِنَّ أَوِ الشَّيَاطِينَ، والمقصود أنه من عبد من دون الله إذا رضي المعبود فهو معهم وإن لم يرض كالمسيح والملائكة وغيرهم من الأخيار فهؤلاء التبعة على من عبدهم، وهم من ذلك برءاء؛ لأنهم لا يرضون، لكن إذا وجد مبالغة في شخصٍ من الأشخاص تعين عليه أن ينهى ويحذر من هذه المبالغة، والغلو في الأشخاص باب من أبواب الشرك، إشراك في حقوق الله- جل وعلا-، ولذا جاء النهي: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم»، «إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» فالغلو في الأشخاص وتعظيم الأشخاص وتقديم أقوالهم على أقوال الله –جل وعلا- وأقوال النبي –عليه الصلاة والسلام- هذا غلو وإطراء لهم، لا يبخسون حقهم، الأخيار لهم حق، والعلماء لهم حق، والعباد لهم حق، لكن لا يعطون أكثر من حقهم، كما أن الوالدين والأقارب والمعارف لهم حقوق، فلا تتعدى هذه الحقوق، فلا يصرف حق من حقوق الله –جل وعلا- لأي مخلوقٍ من خلقه، ولو كان محمدًا –عليه الصلاة والسلام-، خلافًا لمن صرف له جميع الحقوق الربانية ممن أشرك به –عليه الصلاة والسلام- الشرك الأكبر.

 ووجد الشرك الأكبر فيمن دونه، وجد في الأولياء، ووجد في الأنبياء، ووجد في أجزائهم وأبعاضهم، وجد في الشعر، شعرة من عبد القادر الجيلاني -رحمه الله-، وأقيم عليها ضريح تعبد هذه الشعرة من دون الله، وجسده في مكانٍ آخر عليه أيضًا ضريح يعبد من دون الله، وهو من فتن الناس به، والله المستعان. لكن إذا كان لا يعلم، مثلًا إذا غلب على ظنه أنه يُفعل به مثلًا هذا الفعل فعليه أن ينبه، وإذا وجد المبادئ مباديء هذا الأمر، عليه أن يحذر ويزجر ويبين النصوص، مثل علي –رضي الله تعالى عنه- لما رأي ما رأي من الغلاة أجج النار وأحرقهم فيها.

 إني لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا    أججت ناري ودعوت قنبرا

 هذا حقهم، مشرك الشرك الأكبر كافر نسأل الله العافية، فيدعى إن أجاب وإلا فالمرتد له حكمه في الشرع.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} أَيْ سَلَّطْنَاهُمْ عَلَيْهِمْ بِالْإِغْوَاءِ، وَذَلِكَ حِينَ قَالَ لِإِبْلِيسَ {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء:64]. وَقِيلَ: {أَرْسَلْنَا} أَيْ خَلَّيْنَا يُقَالُ: أَرْسَلْتُ الْبَعِيرَ أَيْ خَلَّيْتُهُ، أَيْ خَلَّيْنَا الشَّيَاطِينَ وَإِيَّاهُمْ، وَلَمْ نَعْصِمْهُمْ مِنَ الْقَبُولِ مِنْهُمْ. وقال الزَّجَّاجُ: قَيَّضْنَا.

{تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُزْعِجُهُمْ إِزْعَاجًا مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ. وَعَنْهُ: تُغْرِيهِمْ إِغْرَاءً بِالشَّرِّ: امْضِ امْضِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، حَتَّى تُوقِعَهُمْ فِي النَّارِ، حَكَى الْأَوَّلَ الثَّعْلَبِيُّ، وَالثَّانِيَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ".

وإذا مُسخ القلب استمر، استمر في معصيته ومضى إليه مهما كان التحذير والتنفير والبيان الإنذار، إذا مُسخ القلب ما نفع، نسأل الله السلامة والعافية قول من يكف اللهم إلا بالإطراء على الحق، وإلا فمجرد الإنذار والتحذير إذا مسخ القلب ما نفع، يمضي إلى معصيته وإلى كفره وإلى شركه مهما رأى، {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101]، نسأل الله السلامة والعافية.

 وجاء في آخر الزمان أن الرجلين يمضيان إلى المعصية فيمسخ أحدهما خنزيرًا، ويستمر الثاني في معصيته، يذهب إلى معصيته، ما يرجع ويقول: الحمد لله أني سلمت، ويتوب إلى الله وينيب، يستمر إلى معصيته، فمَسْخُ القلوب -نسأل الله السلامة والعافية- يقول أهل العلم: إنه أشد من مسخ الأبدان، والذي مضى في معصيته بعد أن رأى من صاحبه ما رأى أشد مصيبة من الذي مُسخ جسده.

"قال الضَّحَّاكُ: تُغْوِيهِمْ إِغْوَاءً. وقال مُجَاهِدٌ: تُشْلِيهِمْ إِشْلَاءً ".

يعني كما يُشلى الكلب، كلب الصيد أو الطائر الذي يُصاد به ويغرى بالفريسة، فهذه الشياطين تغريهم بالمعاصي فتشليهم إشلاءً كما يشلى ويغرى الكلب بالفريسة.

" وَأَصْلُهُ الْحَرَكَةُ وَالْغَلَيَانُ، وَمِنْهُ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ»، وَائْتَزَّتِ الْقِدْرُ ائْتِزَازًا اشْتَدَّ غَلَيَانُهَا، وَالْأَزُّ التَّهْيِيجُ وَالْإِغْرَاءُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أَيْ تُغْرِيهِمْ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْأَزُّ الِاخْتِلَاطُ. وَقَدْ أَزَزْتُ الشَّيْءَ أَؤُزُّهُ أَزًّا أَيْ ضَمَمْتُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} أَيْ تَطْلُبِ الْعَذَابَ لَهُمْ. {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} قَالَ الْكَلْبِيُّ: آجَالُهُمْ، يَعْنِي الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ وَالسِّنِينَ إِلَى انْتِهَاءِ أَجَلِ الْعَذَابِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْأَنْفَاسُ. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ نَعُدُّ أَنْفَاسَهُمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا نَعُدُّ سِنِيَّهُمْ. وَقِيلَ: الْخُطُوَاتُ. وَقِيلَ: اللَّذَّاتُ. وَقِيلَ: اللَّحَظَاتُ. وَقِيلَ: السَّاعَاتُ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: نَعُدُّ أَعْمَالَهُمْ عَدًّا، وَقِيلَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ فَإِنَّمَا نُؤَخِّرُهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا.

رُوِيَ أَنَّ الْمَأْمُونَ قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ، فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ إِلَى ابْنِ السِّمَاكِ أَنْ يَعِظَهُ، فَقَالَ: إِذَا كَانَتِ الْأَنْفَاسُ بِالْعَدَدِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَدَدٌ، فَمَا أَسْرَعَ مَا تَنْفَدُ، وَقِيلَ: فِي هَذَا الْمَعْنَى:

حَيَاتُكَ أَنْفَاسٌ تُعَدُّ فَكُلَّمَا

مَضَى نَفَسٌ مِنْكَ انْتَقَصْتَ بِهِ جُزْءَا 

يُمِيتُكَ مَا يُحْيِيكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ

وَيَحْدُوكَ حَادٍ مَا يُرِيدُ بِهِ الْهُزْءَا

وَيُقَالُ: إِنَّ أَنْفَاسَ ابْنِ آدَمَ بَيْنَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نَفَسٍ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفِ نَفَسٍ فِي الْيَوْمِ، وَاثْنَا عَشَرَ أَلْفًا فِي اللَّيْلَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَهِيَ تُعَدُّ وَتُحْصَى إِحْصَاءً، وَلَهَا عَدَدٌ مَعْلُومٌ، وَلَيْسَ لَهَا مَدَدٌ، فَمَا أَسْرَعَ مَا تَنْفَدُ.

 قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ إِلَى جَنَّةِ الرَّحْمَنِ، وَدَارِ كَرَامَتِهِ. كَقَوْلِهِ: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] ".

يلاحظ على بعض المرضى الذين في أيامهم الأخيرة، آجالهم محدودة {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، وأنفاسهم معدودة، فإذا بقي من الأنفاس من العدد أكثر مما بقي من المدة نلاحظ سرعة النفس؛ من أجل أن تتفق الأعداد مع المدة المقررة، ملاحظ هذا في كثير من المرضى، ومشاهد في المرضى الذين هم في أيامهم الأخيرة في أماكن العناية والإنعاش تجدون شخص بسرعة ينفس، يرسل النفس ويجذبه بسرعه؛ من أجل أن يتفق هذا مع المدة، ولذا يسمع بعض الجهال مثل هذا الكلام وقد قيل: ما دامت الأنفاس معدودة فلماذا نستعجل في أنفاسنا؟ قيل هذا من بعض الجهال، فقيل له: اذهب للمستشفيات وانظر الذين يكملون أنفاسهم كيف يتصرفون. الإنسان لا يستطيع أن يقدم ولا يؤخر، لا يملك لنفسه شيئًا، والله المستعان.

"وَكَمَا فِي الْخَبَرِ «مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ». وَالْوَفْدُ اسْمٌ لِلْوَافِدِينَ، كَمَا يُقَالُ: صَوْمٌ وَفِطْرٌ وَزَوْرٌ، فَهُوَ جَمْعُ الْوَافِدِ مِثْلُ رَكْبٍ وَرَاكِبٍ، وَصَحْبٍ وَصَاحِبٍ وَهُوَ مِنْ وَفَدَ يَفِدُ وَفْدًا وَوُفُودًا وَوِفَادَةً إِذَا خَرَجَ إِلَى مَلِكٍ فِي فَتْحٍ أَوْ أَمْرٍ خَطِيرٍ. قاله الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ: وَفَدَ فُلَانٌ عَلَى الْأَمِيرِ أَيْ وَرَدَ رَسُولًا فَهُوَ وَافِدٌ ".

العام التاسع من الهجرة هو عام الوفود سمي عام الوفود؛ لكثرة من وفد على النبي –عليه الصلاة والسلام- نعم.

"وَالْجَمْعُ وَفْدٌ مِثْلُ صَاحِبٍ وَصَحْبٍ، وَجَمْعُ الْوَفْدِ وِفَادٌ وَوُفُودٌ وَالِاسْمُ الْوِفَادَةُ وَأَوْفَدْتُهُ أَنَا إِلَى الْأَمِيرِ أَيْ أَرْسَلْتُهُ، وَفِي التَّفْسِيرِ وَفْدًا أَيْ رُكْبَانًا عَلَى نَجَائِبِ طَاعَتِهِمْ. وَهَذَا لِأَنَّ الْوَافِدَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ رَاكِبًا وَالْوَفْدُ الرُّكْبَانُ وَوُحِّدَ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ قال ابْنُ جُرَيْجٍ: وَفْدًا عَلَى النَّجَائِبِ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ اسْتَقْبَلَهُ عَمَلُهُ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَأَطْيَبِ رِيحٍ فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا  إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ طَيَّبَ رِيحَكَ وَحَسَّنَ صُورَتَكَ، فَيَقُولُ: كَذَلِكَ كُنْتُ فِي الدُّنْيَا أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ طَالَمَا رَكِبْتُكَ فِي الدُّنْيَا ارْكَبْنِي الْيَوْمَ وَتَلَا {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا}، وَإِنَّ الْكَافِرَ يَسْتَقْبِلُهُ عَمَلُهُ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ وَأَنْتَنِ رِيحٍ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا إِلَّا إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَبَّحَ صُورَتَكَ وَأَنْتَنَ رِيحَكَ، فَيَقُولُ: كَذَلِكَ كُنْتُ فِي الدُّنْيَا أَنَا عَمَلُكَ السَّيِّئُ طَالَمَا رَكِبْتَنِي فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا الْيَوْمَ أَرْكَبُكَ وَتَلَا {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام:31] وَلَا يَصِحُّ مِنْ قِبَلِ إِسْنَادِهِ. قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي (سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ)، وَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ فِي تَفْسِيرِهِ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْقُشَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، وَقَالَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ كَانَ يُحِبُّ الْخَيْلَ وَفَدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَيْلٍ لَا تَرُوثُ وَلَا تَبُولُ ".

من كان يحب ركوب الخيل.

"مَنْ كَانَ يُحِبُّ ركوب الْخَيْلَ وَفَدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَيْلٍ لَا تَرُوثُ وَلَا تَبُولُ، لُجُمُهَا مِنَ الْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ، وَمِنَ الزَّبَرْجَدِ الْأَخْضَرِ وَمِنَ الدُّرِّ الْأَبْيَضِ وَسُرُوجُهَا مِنَ السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ رُكُوبَ الْإِبِلِ فَعَلَى نَجَائِبَ لَا تَبْعَرُ وَلَا تَبُولُ، أَزِمَّتُهَا مِنَ الْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ رُكُوبَ السُّفُنِ فَعَلَى سُفُنٍ مِنْ يَاقُوتٍ قَدْ أَمِنُوا الْغَرَقَ ".

زبرجد وياقوت.

"فَعَلَى سُفُنٍ مِنْ زَّبَرْجَدِ ويَاقُوتٍ قَدْ أَمِنُوا الْغَرَقَ وَأَمِنُوا الْأَهْوَالَ، وَقَالَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الْمُلُوكَ وَوُفُودَهُمْ فَلَمْ أَرَ وَفْدًا إِلَّا رُكْبَنًا ".

إِلَّا رُكْبَانًا.

"فَلَمْ أَرَ وَفْدًا إِلَّا رُكْبَانًا فَمَا وَفْدُ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَمَا إِنَّهُمْ لَا يُحْشَرُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَلَا يُسَاقُونَ سَوْقًا، وَلَكِنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ بِنُوقٍ مِنْ نُوقِ الْجَنَّةِ لَمْ يَنْظُرِ الْخَلَائِقُ إِلَى مِثْلِهَا، رِحَالُهَا الذَّهَبُ، وَزِمَامُهَا الزَّبَرْجَدُ، فَيَرْكَبُونَهَا حَتَّى يَقْرَعُوا بَابَ الْجَنَّةِ»، وَلَفْظُ الثَّعْلَبِيِّ فِي هَذَا الْخَبَرِ عَنْ عَلِيٍّ أَبْيَنُ، وَقَالَ عَلِيٌّ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ الْمُلُوكَ وَوُفُودَهُمْ فَلَمْ أَرَ وَفْدًا إِلَّا رُكْبَانًا. قَالَ: «يَا عَلِيُّ إِذَا كَانَ الْمُنْصَرَفُ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِنُوقٍ بِيضٍ رِحَالُهَا، وَأَزِمَّتُهَا الذَّهَبُ عَلَى كُلِّ مَرْكَبٍ حُلَّةٌ لَا تُسَاوِيهَا الدُّنْيَا فَيَلْبَسُ كُلُّ مُؤْمِنٍ حُلَّةً ثُمَّ تَسِيرُ بِهِمْ مَرَاكِبُهُمْ فَتَهْوِي بِهِمُ النُّوقُ حَتَّى تَنْتَهِيَ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ».

 قُلْتُ: وَهَذَا الْخَبَرُ يَنُصُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَرْكَبُونَ وَلَا يَلْبَسُونَ إِلَّا مِنَ الْمَوْقِفِ، وَأَمَّا إِذَا خَرَجُوا مِنَ الْقُبُورِ فَمُشَاةٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ غُرْلًا إِلَى الْمَوْقِفِ؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» الْحَدِيثَ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ فِي سُورَةِ (الْمُؤْمِنِينَ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ".

طالب:.............................

هذا تقدم، نعم.

طالب:........................

إذا صح موقوفًا نعم.

"وَتَقَدَّمَ فِي (آلِ عِمْرَانَ) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ بِمَعْنَاهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَحْصُلَ الْحَالَتَانِ لِلسُّعَدَاءِ فَيَكُونُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَخْصُوصًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ".

يكون الغالب أنهم إذا خرجوا خرجوا مشاة حفاة عراة وقد يركب بعضهم؛ لما تميز به من عملٍ يستحق به الركوب.

 "وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (وَفْدًا) عَلَى الْإِبِلِ. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: رُكْبَانًا يُؤْتَوْنَ بِنُوقٍ مِنَ الْجَنَّةِ، عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنَ الذَّهَبِ وَسُرُوجُهَا وَأَزِمَّتُهَا مِنَ الزَّبَرْجَدِ فَيُحْشَرُونَ عَلَيْهَا. وَقَالَ عَلِيٌّ: مَا يُحْشَرُونَ وَاللَّهِ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَلَكِنْ عَلَى نُوقٍ رِحَالُهَا مِنْ ذَهَبٍ وَنُجُبٍ سُرُوجُهَا يَوَاقِيتُ، إِنْ هَمُّوا بِهَا سَارَتْ وَإِنْ حَرَّكُوهَا طَارَتْ. وَقِيلَ: يَفِدُونَ عَلَى مَا يُحِبُّونَ مِنْ إِبِلٍ أَوْ خَيْلٍ أَوْ سُفُنٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ {وَفْدًا} لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْوُفُودِ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنْ يَقْدُمُوا بِالْبِشَارَاتِ وَيَنْتَظِرُونَ الْجَوَائِزَ فَالْمُتَّقُونَ يَنْتَظِرُونَ الْعَطَاءَ وَالثَّوَابَ. {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} السَّوْقُ الْحَثُّ عَلَى السَّيْرِ. وَ{وِرْدًا} عِطَاشًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ ".

السوق من الخلف وهو حثٌ على السير، ويصاحبه في الغالب ضرب لمن تأخر عن هذا السير كما يساق الدواب وغيرها التي لا تستجيب لصاحبها، هذا هو السوق.

"{وِرْدًا} عِطَاشًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَالْحَسَنُ وَالْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: {حُفَاةً} مُشَاةً وَقِيلَ: أَفْوَاجًا".

أفرادًا، في نسخة واحدة أفواجًا، بقية النسخ السبع أفرادًا.

"وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ أَيْ مُشَاةً عِطَاشًا، كَالْإِبِلِ تَرِدُ الْمَاءَ، فَيُقَالُ: جَاءَ وِرْدُ بَنِي فُلَانٍ قاله الْقُشَيْرِيُّ: وَقَوْلُهُ: {وِرْدًا} يَدُلُّ عَلَى الْعَطَشِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إِنَّمَا يُورَدُ فِي الْغَالِبِ لِلْعَطَشِ وَفِي (التَّفْسِيرِ) مُشَاةً".

الورد إنما يكون للماء كما جاء في حديث اللقطة «ترد الماء وتأكل الشجر»، فالورد إنما يكون للماء، والماء لا يرده إلا العطشان، إنما الذي جاء بهم لما رأوا من سراب أرادوا أن يردوه فوجدوه لا شيء وهم عطاش.

"وَفِي (التَّفْسِيرِ) مُشَاةً عِطَاشًا تَتَقَطَّعُ أَعْنَاقُهُمْ مِنَ الْعَطَشِ وَإِذَا كَانَ سَوْقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى النَّارِ فَحَشْرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقِيلَ وِرْدًا أَيِ الْوُرُودَ كَقَوْلِكَ: جِئْتُكَ إِكْرَامًا لَكَ أَيْ لِإِكْرَامِكَ أَيْ نَسُوقُهُمْ لِوُرُودِ النَّارِ.

قُلْتُ: وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، فَيُسَاقُونَ عِطَاشًا حُفَاةً مُشَاةً أَفْوَاجًا، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْوِرْدُ الْقَوْمُ يَرِدُونَ الْمَاءَ ".

الورد جمع وارد، الورد جمع وارد، الورد القوم يردون عطاشًا جمع وارد، والوارد هو الذي يرد الماء عطشان.

"فَسُمِّيَ الْعِطَاشُ وِرْدًا لِطَلَبِهِمْ وُرُودَ الْمَاءِ؛ كَمَا تَقُولُ: قَوْمٌ صَوْمٌ أَيْ صِيَامٌ، وَقَوْمٌ زَوْرٌ أَيْ زُوَّارٌ، فَهُوَ اسْمٌ عَلَى لَفْظِ الْمَصْدَرِ، وَاحِدُهُمْ وَارِدٌ. وَالْوِرْدُ أَيْضًا الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَرِدُ الْمَاءَ مِنْ طَيْرٍ وَإِبِلٍ، وَالْوِرْدُ الْمَاءُ الَّذِي يُورَدُ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْإِيمَاءِ بِالشَّيْءِ، الْوِرْدُ الْجُزْءُ من القرآن يُقَالُ: قَرَأْتُ وِرْدِي".

طالب:................

وهذا من باب الإيماء بالشيء إلى الشيء، نعم، الورد أيضًا الجماعة التي ترد الماء من طير وإبل مثل ما تقدم جمع وارد، وهو أيضًا الجزء من القرآن أو الحزب من القرآن أو النصيب الذي يخصص من القرآن أو من الأذكار؛ لأن الإنسان يرده بانتظام ويردده في وقته المنتظم كما يرد العطشان الماء في وقته.

"والْوِرْدُ الْجُزْءُ من القرآن يُقَالُ قَرَأْتُ وِرْدِي وَالْوِرْدُ يَوْمُ الْحُمَّى إِذَا أَخَذَتْ صَاحِبَهَا لِوَقْتٍ فَظَاهِرُهُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ وَقَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ قَلِيبًا:

يَطْمُو إِذَا الْوِرْدُ عَلَيْهِ الْتَكَّا 

أَيِ الْوُرَّادُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْمَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} أَيْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ لِأَحَدٍ {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَيَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ فَهُوَ اسْتِثْنَاءُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ أَيْ لَكِنْ {مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} يَشْفَعُ".

استثناء منقطع، استثناء منقطع، المستثنى ليس من جنس المستثنى منه فتكون إلا بمعنى لكن، نعم.

 "طفَ (مَنْ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى هَذَا وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْوَاوِ فِي يَمْلِكُونَ أَيْ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ عِنْدَ اللَّهِ الشَّفَاعَةَ {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} فَإِنَّهُ يَمْلِكُ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا. وَالْمُجْرِمِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} يَعُمُّ الْكَفَرَةَ وَالْعُصَاةَ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ، إِلَّا الْعُصَاةُ الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا بِأَنْ يُشْفَعَ فِيهِمْ ".

فتكون في حقهم جائزة ووعدوا بها؛ لأن كل إنسان له حقٌ على الله –جل وعلا- يملك به الشفاعة، إنما هي فضل لله -جل وعلا- بعد رضاه عن المشفوع له وإذنه للشافع، نعم.

 "فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا بِأَنْ يُشْفَعَ فِيهِمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا أَزَالُ أَشْفَعُ، حَتَّى أَقُولَ يَا رَبِّ شَفِّعْنِي فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ، وَلَكِنَّهَا لِي» خرَّجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَتَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ أَهْلَ الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ يَشْفَعُونَ فَيُشَفَّعُونَ؛ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْكَلَامُ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} فَلَا تُقْبَلُ غَدًا شَفَاعَةُ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ لِأَحَدٍ، وَلَا شَفَاعَةُ الْأَصْنَامِ لِأَحَدٍ، وَلَا يَمْلِكُونَ شَفَاعَةَ أَحَدٍ لَهُمْ أَيْ لَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةٌ كَمَا قَالَ: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] وَقِيلَ: أَيْ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ وَالْمُجْرِمِينَ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ شَفَاعَةً {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} أَيْ إِذَا أَذِنَ لَهُ اللَّهُ فِي الشَّفَاعَةِ. كَمَا قَالَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] وَهَذَا الْعَهْدُ هُوَ الَّذِي قَالَ: {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} وَهُوَ لَفْظٌ جَامِعٌ لِلْإِيمَانِ وَجَمِيعِ الصَّالِحَاتِ الَّتِي يَصِلُ بِهَا صَاحِبُهَا ".

وجميع الأعمال الصالحات.

"وَجَمِيعِ الأعمال الصَّالِحَة الَّتِي يَصِلُ بِهَا صَاحِبُهَا إِلَى حَيِّزِ مَنْ يَشْفَعُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَهْدُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا لَا يَشْفَعُ إِلَّا مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَتَبَرَّأَ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ لِلَّهِ وَلَا يَرْجُو إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: «أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: «يَقُولُ عِنْدَ كُلِّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي، فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُبَاعِدْنِي مِنَ الْخَيْرِ وَتُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوَفِّينِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا طَابَعًا وَوَضَعَهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ الَّذِينَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ فَيَقُومُ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ»".

القرآن مثاني وأوجه كونه مثاني أن يذكر فيه أحوال السعداء وأحوال الأشقياء ففرق بين أن يحشر إلى الله على هيئة وافد، والوافد يكون على أكمل هيئة وأبهى حلة وبين من يساق سوق البهائم ويقترن مع هذا السوق النحس والضرب؛ لأنهم يساقون إلى شيء لا يريدونه {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:6] فيساقون إلى الجزاء أعظم من الموت نسأل الله العافية مثل هؤلاء يترددون ويتلكئون في المشي مع كونهم يساقون فلا بد أن يصاحب هذا السوق ما يجعلهم ينساقون، نسأل الله السلامة والعافية.

طالب:.................

نعم، هذا يضمن، يضمن المعنى، ما يلزم من السوق أن يكون من الخلف، التضمين تضمين الأفعال في اللغة معروف، سوق كل شيءٍ بحسبه.

طالب: الأحد إن شاء الله.

إن شاء الله الأحد بعد صلاة العشاء بالمسجد الجامع إن شاء الله.

طالب: الحديث الأخير الذي صححه الحاكم، حديث ابن مسعود: «أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ عند الله عهد» العهد حديث العهد.

أيه، ما يسلم، ما يسلم، متخرج عندك؟ حديث ابن مسعود

طالب: ذكره ابن كثير موقوفًا على ابن مسعود.

الحاكم ....