شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (185)

المقدم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلًا ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، ونشكر له تفضله بشرح أحاديث هذا الكتاب، فأهلاً بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك فيكم أيها الإخوة المستمعين.

المقدم: لازال الحديث حول حديث عائشة -رضي الله عنها- في باب من سمع شيئًا فراجع حتى يعرفه.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، في الحديث: من نوقش الحساب، الحساب منصوب، لكن علامَ نصب؟ يقول الكرماني: الظاهر أن الحساب منصوب بنزع الخافض، أي في الحساب، من نوقش في الحساب، أي من جرى في حسابهم المضايقة يهلك.

المقدم: لماذا ما نقول مفعول به يا شيخ؟

يأتي، وقال العيني: الحساب نصب؛ لأنه مفعول ثانٍ لـ(ناقش)؛ لأن الأصل في باب المفاعلة، الأصل في باب المفاعلة لنسبة أصل الفعل إلى أحد الأمرين متعلقًا بالآخر صريحًا، ويجيء عكس ذلك ضمنًا. لأن المفاعلة إذا كانت بين طرفين، فالطرفان لهما تعلق في المفاعلة، إذا قيل: ضارب أو تضارب زيد، أو كاتب زيد عمروًا، هل المكاتبة المفاعلة؟ ألا يكون عمله منصبًا إلى الاثنين؟ فأحدهما المكاتِب، والثاني المكاتَب، وتسلطها على الاثنين على حد سواء، ويصلح كل منهما أن يكون فاعلًا ومفعولًا، لأنه مكاتِب ومكاتَب.

 لأن أصل باب المفاعلة لنسبة الفعل إلى أحد الأمرين متعلقًا بالآخر صريحًا، ويجيء عكس ذلك ضمنًا، يعني إذا قلت: كاتب بمعنى أنت كتبت لي، وأنا كتبت لك، كاتب زيد عمروًا، يصلح أن تقول أيضًا هو متعلق فاعلها.. الفاعل زيد، وعمروًا مفعول، لكن الفاعل أيضًا مكتوب إليه؛ لأن المفاعلة من الطرفين، فكل واحد كاتب، وكل واحد مكتوب له.

 أصل باب المفاعلة لنسبة أصل الفعل إلى أحد الأمرين متعلق بالآخر صريحًا، ويجيء عكس ذلك ضمنًا يعني يجوز أن تقول: كاتب عمرو زيدًا، ويجيء عكس ذلك ضمنًا لأجل تعلقه بالآخر جاء غير متعدٍّ إذا نقل إلى فاعل متعديًا نحو كارمته، فإن أصله لازم، وقد تعدى ها هنا والمتعدي إلى واحد إذا نقل إلى فاعل يتعدى إلى مفعولين نحو: جاذبته الثوب، فالمفعول الأول الهاء، والثاني الثوب؛ لكن بشرط أن لا يصلح مفعول أصل الفعل أن يكون مشاركًا للفاعل كما في المثال المذكور، فإن الثوب لما لم يصلح لأن يكون مشاركًا للفاعل في المجاذبة، احتيج إلى مفعول آخر يكون مشاركًا له فيتعدى إلى اثنين، يعني المجاذبة بين اثنين.

المقدم: لكن موقعها على ثوب.

لكن المجذوب من الطرفين الثوب، لكن لو قلنا: إنه يصلح الثوب أن يكون فاعلًا على المثال الذي سبق ما يصلح؛ لأنه لا يصلح منه جذب، وإنما هو مجذوب حتمًا، وأما إذا صلح مفعوله للمشاركة فلا يتعدى إلى الاثنين، بل يُكتفى بمفعول كما في (شاتمت زيد)، فإن قلت: أين المفعول الأول هاهنا؟ المناقشة، قلت: الضمير الذي نوقش، فإنه الذي نوقش، فإنه مفعول ناب عن الفاعل؛ لأن نوقش المفعول مبني للمعلوم أم للمجهول؟

المقدم: مجهول.

نعم، فإنه مفعول ناب عن الفاعل، والمعنى من ناقشه الله الحساب يهلك، قالت عائشة: «فقلت: أكان كذلك؟  قالت عائشة: أوليس يقول الله تعالى»، فقلت: «أكان كذلك»؛ لأن الواو عاطفة، «أوليس يقول الله» الواو هذه عاطفة، الجملة المعطوفة، ليس يقول الله تعالى، أوليس الله يقول، هذه جملة.

المقدم: معترضة؟

معطوفة الواو على ماذا؟ لا بد من تقدير.

المقدم: تقدير يفهم مادام قولك كذا أوليس الله يقول كذا.

فقلت: أكان كذلك؟ أوليس يقول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]، أي سهل لا يناقش فيه، والهمزة الاستفهام.

 قال الكرماني: فإن قلت همزة الاستفهام تقتضي الصدارة، وحرف العطف يقتضي عدم الصدارة، فما تقديره؟ قلت: ها هاهنا وفي أمثاله مقدر هو المعطوف عليه، وهو مدخول الهمزة نحو: أكان كذلك وليس يقول الله-عز وجل-: فإن قلت: همزة الاستفهام تقتضي الصدارة هي في الجملة لها الصدارة.

المقدم: أوليس.

نعم لكن أيضًا حرف العطف يقتضي عدم الصدارة؛ لأنه يقتضي أن يكون أن يسبقه كلام يعطف عليه كلام لاحق، وهنا يمكن أن يعطف الكلام على الهمزة؟ ليس يمكن أن يعطف على الهمزة؟ لا يمكن، إذًا لابد من التقدير يقول: قلتها هاهنا وفي أمثاله مقدر هو المعطوف عليه ومدخول الهمزة نحو أكان كذلك، وليس يقول الله-عز وجل-.

 فإن قلت: ما اسم ليس؟ ليس «أوليس يقول الله تعالى؟» على هذه الرواية، أما الرواية الأخرى «أوليس الله يقول» يكون اسمها لفظ الجلالة، ويقول خبرها، لكن على الرواية التي عندنا «أوليس يقول الله تعالى» ما اسم ليس؟ يقول الكرماني: قلت: ليس إما أن يكون بمعنى لا، فكأنه قيل أولا يقول الله، هنا حينئذٍ لا تحتاج إلى اسم، أولا يقول الله، وإما أن يكون فيه ضمير الشأن، وفي رواية: أوليس الله يقول، فيكون لفظ الجلالة اسمها ويقول خبرها.

 {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]، أي سهلًا لينًا لا يناقش فيه، ولا يعترض بما يشق عليه كما يناقش أصحاب الشمال، ووجه المعارضة بين الآية والحديث، يعني وجه المعارضة؛ لأن عائشة فهمت أن هناك تعارضًا بين الآية والحديث، وجه المعارضة أن الحديث عام في تعذيب كل من  حوسب، من حوسب عذب؛ لأن «من» صيغ العموم، فهمت عائشة العموم على بابه فعامة أن.. فالحديث عام في تعذيب كل من حوسب، والآية تدل على عدم تعذيب بعضهم، وهم أصحاب اليمين {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]، ومن حوسب حسابًا يسيرًا يعذب؟

المقدم: لا.

لا، لا يعذب إذًا فيه من يعذب وفيه من لا يعذب، والحديث عمومه يشمل كل من حوسب، وجوابها أن المراد من الحساب العرض، يعني الإبراز والإظهار يعني مجرد مناقشة إبراز وتقرير وتعريف بما كسبه.

المقدم: وليس التدقيق.

وليست التدقيق الذي يقتضي العذاب، الذي لازمه العذاب.

 وعن عائشة -رضي الله عنها- وهو أن يعرف ذنوبه ثم يتجاوز عنه، الذي هو الحساب اليسير، جاء عنها: أن يعرف يعني المحاسب والمناقش يعرف ذنوبه ثم يتجاوز عنه، يقول الحافظ ابن كثير في تفسير للآية: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]، أي سهلًا بلا تعسير، أي لا يحقق عليه جميع دقائق أعماله، فإن من حوسب كذلك هلك لا محالة، ثم ذكر الحديث، حديث الباب، وذكر حديث عائشة عند أحمد قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في بعض صلاته: «اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا، اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا، فلما انصرف قلت: يا رسول الله، ما الحساب اليسير؟ قال: أن ينظر الله في كتابه فيتجاوز له عنه، أنه من نوقش الحساب يا عائشة يوم إذًا يهلك»، وقال ابن كثير: صحيح على شرط مسلم، الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: «اللهم حاسبني حسابا يسيرا»، عائشة استشكلت لماذا تستشكل عائشة؟

المقدم: لأن مسألة الحساب بالنسبة لها فيها نظر.

لأنه يوجد في أمته -عليه الصلاة والسلام- من يدخل الجنة بغير حساب، فكيف يطلب الحساب اليسير؟ فلما انصرفت قلت: يا رسول الله: ما الحساب اليسير؟ قال: «أن يُنظر في كتابه فيتجاوز عنه، إنه من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك».

المقدم: ومفهوم هذا أن الذين يدخلون بغير حساب ولا عقاب يصدق عليهم هذا الذي هو النظر لمجرد النظر.

لمجرد النظر لا يناقشون، قال ابن كثير: هو صحيح على شرط مسلم فقال -صلى الله عليه وسلم-: «إنما ذلكِ العرض» بكسر الكاف؛ لأنه خطاب المؤنث، قال الحافظ ابن كثير: في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18] هذه من سورة الحاقة، يقول -رحمه الله تعالى-: وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18]؛ أي تعرضون على عالم السر والنجوى الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر، بالظواهر واضحة، السرائر والضمائر ما الفرق بينهما؟ الظواهر تظهر للناس، السرائر ما يستتر به هو.

المقدم: في السر.

بحيث يراه هو ولا يراه غيره، لكن الضمائر ما لا يراه ولا هو،  فهو يعلم جميع ذلك، ولهذا قال تعالى: {لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، ثم ذكر عن ابن أبي الدنيا بإسناده عن عمر -رضي الله تعالى عنه- قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإن أخف عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18]، وروى الإمام أحمد قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا علي بن رفاعة عن الحسن بن أبي موسى-رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله» وروى ابن ماجه من حديث أبي هريرة وابن جرير عن ابن مسعود -رضي الله عنهما- نحو هذا الحديث، يقول القرطبي في تفسيره: قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} [الحاقة:18]، أي على الله، دليله {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا}، وليس ذلك عرضًا يعلم به ما لم يكن عالمًا به، بل معناه الحساب، وتقرير الأعمال عليهم؛ للمجازاة؛ لكي تظهر لهم هم أعمالهم. المقدم: نعم.

وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة، ثم ذكر حديث أبي هريرة وعزاه للترمذي، والحافظ ابن كثير عزاه لابن ماجه، وقال: ولا يصح من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، حديث عن الحسن عن أبي موسى، وهنا حديث أبي هريرة الذي عزاه ابن كثير لابن ماجه، وعزاه القرطبي لأبي هريرة هو من طريق الحسن عن أبي هريرة، والحسن لم يسمع من أبي هريرة، فيما قرره الأكثر، وإن كان بعضهم يرى أن الحسن سمع من أبي هريرة؛ لأنه قال: ثبت عن الحسن أنه قال: حدثنا أبو هريرة، صرح بالتحديث، وقد يستعمل مثل هذا الأسلوب فيما لم يسمعه بنفسه، وإنما حدّث في المدينة، وهو بها، بعضهم أثبت سماع الحسن من أبي هريرة من قوله: حدثنا أبو هريرة وبعضهم يعرف طريقة الحسن في مثل هذه الأمور، فلم يثبت سماعه من أبي هريرة.

 {لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] أي هو عالم بكل شيء من أعمالكم فخافية على هذا، بمعنى خفية كانوا يخفونها من أعمالهم.

 وفي الحديث بيان فضيلة عائشة -رضي الله تعالى عنها- وحرصها على التعلم والتحقيق، وأن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ما كان يتضجر من المراجعة إليه بينما كثير من الناس إذا نوقش مرة مرتين ضجر، ما كان يتضجر من المراجعة إليه، وفيه إثبات الحساب والعرض والعذاب، وجواز المناظرة ومقابلة السنة بالكتاب، وتفاوت الناس في الكتاب، جواز المناظرة بين أهل العلم؛ ليتقرر لهم القول الراجح، مثلًا تجوز المناظرة بين أهل السنة وغيرهم، بين المخالفين تجوز المناظرة، ويتوصل بها إلى إحقاق الحق، لكن للمناظرة شروط، ولها آداب، وأيضًا إلقاء المناظرات والشبه على عموم الناس هذا أيضًا كان سلف هذه الأمة يتقونه؛ لئلا يعلق في بعض أذهانهم شبهة لا يمكن إزالتها، قد يورد الشبهة، ثم يضعف في الإجابة عنها، وقد يستوعب المستمع مما ليس يدرك فهمه هذه الأمور، يستوعب الشبهة، ثم لا يستوعب الرد عليها، ولذا كره كثير من هذه سلف الأمة المناظرة وحضورها من قبل من لا يستوعبها.

ومقابلة السنة بالكتاب مقابلة بمعنى الجمع بين ما يظهر التعارض من مختلف مما ظاهره التعارض بين السنة والكتاب، لا أن المراد أن الكتاب يضرب بالسنة أو العكس، فإن هذه طريقة المبتدعة. وتفاوت الناس في الحساب، وفيه أن السؤال عن مثل هذا لم يدخل فيما نُهي الصحابة عنه في قوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة:101]، وفي حديث أنس -رضي الله عنه- قال: كنا نُهينا أن نسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء، وقد وقع نحو ذلك لغير عائشة، ففي حديث حفصة -رضي الله تعالى عنها- أنها سمعت: «لا يدخل النار أحد ممن شهد بدرًا والحديبية» قالت: أليس يقول الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فأجيبت بقوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم:72] الآية، وسأل الصحابة لما نزلت {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] أينا لم يظلم نفسه؟ فأُجيبوا بأن المراد بالظلم الشرك.

قال ابن حجر: والجامع بين هذه المسائل الثلاث ظهور العموم في الحساب والورود والظلم.

المقدم: ظهور العموم؟

نعم، ظاهر، {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] يعني ما منكم أحد إلا واردها، وعندنا من نوقش، ومن حوسب هذا العموم، في الورود والحساب والظلم أيضًا، {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] نكرة في سياق النفي فهي تفيد العموم، هذه كلها تفيد العموم، ظهور العموم في الحساب والورود والظلم فأوضح لهم أن المراد في كل منها أمر خاص، ولم يقع مثل هذا من الصحابة إلا قليلًا، يعني ما وقع من الصحابة إلا قليلًا، مع توجه السؤال وظهوره؛ وذلك لكمال فهمهم ومعرفتهم باللسان العربي يعني الذي يشكل على الصحابة شيء يسير، لماذا؟

لكمال فهمهم ومعرفتهم باللسان العربي، فيحمل ما ورد من ذم من سأل عن مشكِلات على من سأل تعنتًا، كما قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران:7]، وفي حديث عائشة-رضي الله عنها-: «فإذا رأيتم الذين يسألون عن ذلك فهم الذين سمى الله فاحذروهم»، ومن ثم أنكر عمر -رضي الله تعالى- عنه على صبيغ لما رآه أكثر من السؤال عن مثل ذلك وعاقبه.

 والحديث خرجه الإمام البخاري في أربعة مواضع.

المقدم: طيب يا شيخ إن أذنتم، بالنسبة للعرض هنا، بعضهم قال: بأن المراد بالعرض هنا عرض الناس على الميزان فحسب، يعني مرور الناس على الميزان ورؤيتهم له هذه جزء يعني إقرارهم بأن عندهم ذنوب، لكن يعفى عنهم فلا توزن أعمالهم على هذا مُتوجه.

لكن الذي سبق عن أهل العلم، وفي حديث عائشة «حاسبني حسابًا يسيرًا» يعني مجرد النظر في صحيفة  الأعمال، عرض واستعراض نسميه استعراضًا، هو في الحقيقة عرض لهذه المدونات على الله -جل وعلا-، ويعرض الإنسان ويقر، «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه بلا ترجمان، ويقرره فعلت كذا وفعلت كذا»، لكن الفرق بين من يعرض عليهم مجرد عرض من غير مناقشة وتدقيق، وبين من يناقش ويدقق.

المقدم: هذا العرض يا شيخ، أحسن الله إليك، يكون قبل الورود، قبل المرور على الصراط؟

هو في وقت الحساب، في وقت الحساب.

المقدم: لأن تطاير الصحف الآن وأخذها باليمين أو بالشمال هذا جزء من البشارة، وإن لم يكن هو البشارة الأصلية، فبالتالي الذي يأخذ كتابه بيمينه..

هذا العرضة الثالثة، مر علينا في كلام الحافظ ابن كثير من الحديث.

المقدم: كيف يكون ترتيبها حتى نستوعبها؟

يقول: "يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات"، هذا رواه أحمد بن أبي موسى، "ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف، تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله" هذا عرض يأخذ كتابه بيمينه، وهذا مناقشة وحساب يأخذ كتابه بشماله، فالجدال والمعاذير قبل هذا.

المقدم: يعني الذي يتجاوز الجدال والمعاذير يضمن ضمانًا أنه سيأخذ كتابه بيمينك كأن هذه بشارة الآن سيأخذ كتابه بيمينه.

وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف، يعني في العرضة الثالثة.

والحديث أخرجه الإمام البخاري في أربعة مواضع:

الأول هنا في كتاب العلم باب من سمع شيئًا فراجع حتى يعرفه قال: حدثنا سعيد بن أبي مرن قال: أخبرنا نافع بن عمر قال: حدثني ابن أبي مليكة: أن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت لا تسمع شيئًا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي-عليه الصلاة والسلام- قال: من حوسب عذب... الحديث،  وسبق ذكر مناسبته مطابقته، وهذا الحديث انتقده الدارقطني على البخاري؛ لأن ابن أبي مليكة لم يشهد القصة، ما شهد القصة وهنا قال: حدثني ابن أبي مليكة أن عائشة زوجة كانت لا تسمع إلى آخر القصة، فدل على أن ابن مليكة ما سمع القصة ولا شهدها، ولكن جوابه في الموضع الثاني.

 الثاني في كتاب التفسير، في باب فسوف يحاسب حسابًا يسيرا، قال: حدثنا عمرو بن علي قال: حدثنا يحي عن عثمان بن الأسود قال سمعت ابن أبي مليكة قال: سمعت عائشة.

المقدم: صرح بالسمع.

نعم رضي الله عنها قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- ح، وهذه حاء التحويل، ومر بنا مرارًا أن البخاري لا يستعملها على الطريقة التي يوردها المحدثون من أجل اختصار الأسانيد وتحديد مواضع الالتقاء، البخاري إذا قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لها قيمة (حاء) اللهم إن كان يراد من هذه الحديث كما يقول المغاربة فله وجه، حاء قال: ح حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن زيد عن ابن أبي مليكة عن عائشة زوجة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ح، وحدثنا مسدد عن يحيى عن أبي يونس حاتم بن أبي صغيرة عن ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة، فهنا فيه واسطة بين ابن أبي مليكة وبين عائشة، وهو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس أحد» يعني لو لم يرد الموضع الأول الذي فيه (إلا أن عائشة) الذي انتقده الدارقطني، وهذا الحديث لقلنا فيه سقط، لكن لما صرح في الموضع الثاني.

المقدم: في كتاب التفسير.

في كتاب التفسير لما صرح في..

المقدم: صرح بالسماع.

لما صرح بالسماع هنا في نفس الموضع نفس الموضع في الطريق الأول، زال ما كان يورده الدارقطني، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس أحدٌ يحاسب إلا هلك» قالت: قلت: يا رسول الله جعلني الله فداءك، أليس يقول الله -عز وجل-: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]، قال: ذاك العرض يعرضون ومن نوقش الحساب هلك» والمناسبة واضحة؛ لأنه في التفسير وفي تفسير {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8] وفي تصريح ابن أبي مليكة بالسماع عن عائشة-رضي الله عنها-.

 والثالث: في كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى قال: حدثنا عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من نوقش الحساب عذب» الحديث والمناسبة للباب ظاهرة، «من نوقش الحساب عذب» ومناسبة الحديث الباب ظاهرة، ومناسبة الباب لكتاب الرقاق أيضًا ظاهرة؛ لأنه إذا سمع مثل هذا الخبر رق قلبه، وعمل بما أمر به، واجتنب ما نهي عنه، ومناسبة الباب لكتاب ظاهرة أيضًا.

 والرابع: في الكتاب والباب المذكورين آنفًا، يعني بعد الحديث السابق قال: حدثنا إسحاق بن منصور قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا حاتم بن أبي صغيرة قال: حدثنا عبد الله بن أبي مليكة قال: حدثني القاسم بن محمد حدثتني عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك» والمناسبة ظاهرة، وهذا الموضع يروي ابن أبي مليكة الحديث عن عائشة بواسطة القاسم بن محمد، ولعله كان يرويه مرة بواسطة ومرة بدونها، وقد صرح بسماعه من عائشة -رضي الله عنها- كما تقدم.

 والحديث خرجه أيضًا الإمام مسلم، فهو متفق عليه.

المقدم: أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم، ونسأل الله تعالى أن يحاسبنا وإياكم جميعًا حسابًا يسيرًا، ويتجاوز عنا وعنكم، ويغفر لنا ولكم وللمسلمين.

 أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح في حديث الجامع الصحيح، لقاؤنا يتجدد بكم في الحلقة القادمة، وأنتم على خير.

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.