مقارنة بين شروح كتب السنة الستة (2)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

شرح الزركشي لصحيح البخاري (التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح):

بعد هذا نبدأ بالشرح الثالث وهو شرح الزركشي، وشرح الزركشي اسمه (التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح) مؤلفه الشيخ محمد بن عبد الله بدر الدين الزركشي الشافعي المتوفى سنة أربعة وتسعين وسبعمائة، الشرح ناقص لم يكمل، وصل فيه مؤلفه إلى آخر باب الشروط في الوقف، ومع ذلكم مختصر جداً، هذا نصف الشرح، يعني ثلاثة أجزاء في مجلد واحد نصف الشرح، ولولا أن المتن مطبوع بحرف كبير لجاء الشرح كله بهذا الحجم، قصد مؤلفه فيه كما ذكر في مقدمته: إلى إيضاح ما وقف في الصحيح من لفظٍ غريب أو إعرابٍ غامض أو نسب عويص، أو راوٍ يخشى في اسمه التصحيف، أو خبرٍ ناقص تعلم تتمته، أو مبهم تعلم حقيقته، أو أمرٍ وهم فيه، أو كلام مستغلق يمكن تلافيه، أو تبيين مطابقة الحديث للتبويب، والمشاكلة على وجه التقريب، يقول: "منتخباً من الأقوال أصحها وأحسنها، ومن المعاني أوضحها وأبينها، مع إيجاز العبارة والرمز بالإشارة، فإن الإكثار داعية الملال، وذلك لما رأيت من ناشئة العصر حين قرأته من التقليد للنسخ المصححة، ربما لا يوفقون لحقيقة اللفظ فضلاً عن معناه، وربما يتخرص خواصهم فيه، ويتبجح بما يظنه ويبديه، وربما لو أن المنصف لو كشف عما أشكل لا يجد ما يحصل الغرض إلا ملفقاً من تآليف، أو مفرقاً من تصانيف، وأرجو أن هذا الإملاء يريح من تعب المراجعة والكشف والمطالعة مع زيادة فوائد تحقيق المقاصد، ثم يقول: "ويكاد يستغني به اللبيب عن الشروح؛ لأن أكثر الحديث ظاهر لا يحتاج إلى بيان، وإنما يشرح ما يشكل"، يقول: "وسميته بـ(التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح) ومن أراد استيفاء طرق الشرح على الحقيقة فعليه بالكتاب المسمى بـ(الفصيح في شرح الجامع الصحيح) أعان الله على إكماله".

هذا (التنقيح) مختصر جداً، وهو بالألغاز أشبه، يكتب على الحديث سطرا أو سطرين، أحياناً يكتب ثلاثة لا تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً، عليه نكت من الحافظ ابن حجر، وعليه أيضاً نكت أخرى للقاضي محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي الحنبلي، وأما (الفصيح) الذي ذكره فذكر القسطلاني أنه رأى منه قطعة بخط مؤلفه، هذا التنقيح المختصر للزركشي، وإن زعم صاحبه أنه يكاد يستغني به اللبيب عن الشروح؛ لأن أكثر الحديث ظاهر لا يحتاج إلى بيان، وإنما يشرح ما يشكل فهو كلام صحيح بحد ذاته، الذي يقرأ في صحيح البخاري من أوله إلى آخره بغض النظر عن مناسبة الحديث للترجمة، وهو متوسط الفهم، متوسط التحصيل يخرج بفائدة طيبة، كثير منه لا يشكل، يعني إذا استثنينا المناسبة بين الحديث والترجمة التي قد عجز الفحول عن استنباطها، إذا استثنينا الرابط بين الحديث والترجمة وبعض الألفاظ المشكلة، طالب العلم متوسط التحصيل متوسط الذكاء يخرج بفائدة كبيرة بمجرد قراءة المتن، هذا الكلام صحيح لكن الشروح المطولة التي يرى الشارح هذا أنه يمكن أن يستغني بكتابه عنها الوافية لا يمكن أن يستغني عنها طالب العلم أبداً؛ لأنها تولِّد فيه ملكة يتمكن بواسطتها من محاكاة العلماء في الاستنباط من النصوص وكيفية معالجتها من جميع النواحي، وبهذا يتفتّق ذهن الطالب، تجتمع له العلوم في كتابٍ واحد، فالمطولات كالروضات ينتقل فيها الطالب من فنٍ إلى آخر، ففيها ما يتعلق بالقرآن وعلومه، والحديث وفنونه، ومذاهب العلماء والآداب والفوائد المستنبطة من الحديث من قربٍ أو بعد.

على كل الشروح المطولة لا يمكن أن يستغنى عنها، وكم من حديث بحث عنه في عشرة شروح، ولم يصل الباحث فيه إلى حلٍ يشفي، وكم من آية روجع عليها والقرآن بأفصح عبارة، وأوضح بيان، روجع على بعض الآيات التفاسير الكثيرة، ومع ذلكم يبقى الإشكال، وإن كان الإشكال نسبياً بين شخصٍ إلى آخر، فالمطولات سواء كانت من كتب التفسير أو الشروح لا يمكن أن يستغنى عنها بحال.

(فتح الباري شرح صحيح البخاري) لابن رجب:

من الشروح المهمة فتح الباري شرح صحيح البخاري للإمام الحافظ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي الحنبلي نزيل دمشق المتوفى سنة خمسٍ وتسعين وسبعمائة، بعد الزركشي بسنة، وهو شرح لم يكمل وصل فيه مؤلفه إلى كتاب الجنائز، وهذا القدر الذي أتمه الحافظ ابن رجب -رحمه الله- من عجائب الدهر، ولو قدّر تمامه لاستغنى به طالب العلم عن غيره لا سيما ما يتعلق بنقل أقوال السلف وفهمهم للنصوص، عناية الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- بأقوال السلف، بينما عناية أكثر الشراح بنقل أقوال المتأخرين، وهذه ميزة للحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-؛ لأن فهم السلف للنصوص أولى ما يعتمد، وأجدر ما يعتنى به من غيره، الكتاب مملوء –مشحون- بالفوائد الحديثية والفقهية واللغوية، ففي الجانب الحديثي يعتني الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- بعلل الأحاديث، عنايةً فائقة ويستطرد في ذكر الاختلاف على الرواة سالكاً في الترجيح طريقة المتقدمين في العمل بالقرائن من غير نظرٍ إلى الأحكام المطردة، وبالمناسبة تكثر الدعوة إلى محاكاة المتقدمين في طريقتهم، ونبذ قواعد المتأخرين، كثرت الدعوة هذه وسبقتها سنين الدعوة إلى نبذ كتب الفقه وتقليد الأئمة إلى الأخذ من النصوص مباشرة، هذا الكلام صحيح لا إشكال فيه إلا أنه لا ينبغي أن يلقى على جميع طبقات المتعلمين؛ لأن المبتدئ في العلم سواء كان في علم الحديث أو في الفقه، المبتدئ حكمه حكم العامي، عليه أن يقلد أهل العلم {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[(7) سورة الأنبياء] فالذي ليست لديه أهلية النظر في النصوص والموازنة بينها لا يمكن أن يستنبط من الكتاب والسنة، إنما عليه أن يقلد أهل العلم، يتفقه على مذهب ثم بعد ذلك ينظر في هذه المسائل التي حصلها من هذا المذهب، ينظر فيها واحدةً بعد الأخرى، موازنة بين أقوال الأئمة وأدلتهم، والخلوص إلى الراجح من أقوالهم، مثله أيضاً ما يتعلق بالأحاديث من حيث التصحيح والتضعيف، الأصل في هذا كلام المتقدمين بلا شك، والمتأخرون إنما قبسوا من أنواع المتقدمين، فلولا المتقدمون ما صار للمتأخرين شيء، إنما المتأخرون حاولوا أن يضبطوا القواعد وينظروا المسائل ليسهل فهمها وحفظها على الطلبة ليتعلموا ويتمرنوا عليها، فإذا تأهلوا وصارت لديهم أهلية النظر في أقوال المتقدمين عليهم أن يقتدوا بهم ويسلكوا مسلكهم، وإلا إذا قلنا للطالب المبتدئ: عليك بتقليد المتقدمين وانبذ قواعد المتأخرين، ثم وقف على حديث: ((لا نكاح إلا بولي)) الإمام أحمد له رأي، أبو حاتم له رأي، الدارقطني له رأي، يقلد مَن مِن المتقدمين؟ يتبع مَن مِن المتقدمين؟ أحكام المتقدمين مبنية على القرائن، لا يحكمون بأحكامٍ عامة مطردة، الإمام البخاري حكم بوصل حديث: ((لا نكاح إلا بولي)) بناءً على القرائن التي قامت وأدت إلى ترجيح الوصل على الإرسال، غيره حكم بالإرسال؛ لأن من أرسله كما يقول الحافظ العراقي كالجبل شعبة وسفيان، متى يصل الطالب المبتدئ إلى الحكم بالقرائن؟ هذا دونه خرط القتاد، حتى يتأهل، إذا تأهل هو المطلوب، يعني تقليد الرجال في الدين أمر غير مرغوب فيه، نعم هو فرض العوام وأشباه العوام، لكن طالب العلم المتأهل عليه أن يربى بنفسه عن هذا.

على كل هذه لفتة يسيرة فالحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- عنايته بتعليل الأحاديث، والترجيح بين اختلاف الرواة بالقرائن على طريقة المتقدمين، وهو أهل لذلك، بل هو من أئمة هذا الشأن، ومن مقعديه ومنظريه، ويعتني أيضاً بفروق الروايات بين رواة الجامع الصحيح، وينبه عليها، لا سيما ما يترتب على ذكره فائدة، وقد وقفت على ألفاظٍ نبه عليها الحافظ ابن رجب اختلفت فيها الرواة مما فات اليونيني رغم عنايته بالصحيح ورغم إتقانه لرواياته، وبهذا يمتاز شرح الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-، يُعنى الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- بتخريج الأحاديث من المصادر الحديثية المختلفة، الصحاح والمسانيد والأجزاء والفوائد والمستخرجات والمشيخات والفوائد وغيرها.

يُعنى أيضاً بذكر مذاهب أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من فقهاء الأمصار مع الاستدلال والترجيح من غير تعصبٍ لمذهب، مع أنه حنبلي المذهب، والكتاب -أعني فتح الباري للحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- من مصادر ابن حجر، فقد اطلع عليه الحافظ ابن حجر، ونقل منه مصرحاً باسم مؤلفه في موضعين، في الجزء الأول صفحة (176) وفي الجزء الحادي عشر صفحة (340).

الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- يعتني بالمسائل الأصولية كثيراً، ويحرر المسائل الشائكة في هذا الباب فمثلاً في الجزء الثاني صفحة (69) يقول: "والأمر بعد الحظر يعيد الأمر إلى ما كان عليه عند كثيرٍ من الفقهاء" نعم المشهور عند جمع من أهل العلم أن الأمر بعد الحظر للإباحة، لكن المحقق عند أهل العلم أنه يعيد الأمر إلى ما كان، أو يعيد الحكم إلى ما كان عليه قبل الحظر، في صفحة (210) وهذه من الدقائق، يقول في حديث: ((وجعلت تربتها لنا طهوراً)) والكلام في هذه اللفظة كثير لأهل العلم، وتخصيص التيمم بالتراب أو تعميمه بجميع ما على وجه الأرض مسألة طويلة الذيول، شائكة المباحث عند أهل العلم، فهذه اللفظة: ((وجعلت تربتها)) لا شك أن الحديث من الخصائص، ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) هذا من الخصائص، وأحاديث الخصائص يرى ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- وبقوله يقول ابن حجر: أن أحاديث الخصائص لا تحتمل التخصيص، يعني إن جاءت عامة فلا تحتمل التخصيص، وإن جاءت مطلقة لا تحتمل التقييد؛ لأن هذه الخصائص إنما جاءت تشريفاً للنبي -عليه الصلاة والسلام-، وتخصيص الخصائص تقليل لهذا التشريف، ولذا لا مانع عند ابن عبد البر أن يصلي الشخص في المقبرة، وإن ورد المنع منها؛ لأن حديث: ((جعلت لي الأرض مسجدا ًوطهوراً)) والأرض يشمل الأرض بجميع أجزائها بما في ذلك المقبرة، ولو قلنا: بالتخصيص فأخرجنا المقبرة قللنا هذا التخصيص وهو من الخصائص التي لا تقبل التخصيص عنده، فالتخصيص تقليل لهذه الخصائص، لا شك أن شرف النبي -عليه الصلاة والسلام- وشرف أمته بسببه، وبركة اتباعه -عليه الصلاة والسلام- أمر معلوم من الدين بالضرورة، هو أشرف الخلق على الإطلاق، نعم إذا تعارض حقه -عليه الصلاة والسلام- مع حق غيره قدم حقه -عليه الصلاة والسلام-، لكن إذا تعارض حقه -عليه الصلاة والسلام- مع حق الله -سبحانه وتعالى-، لا شك أن المقدم هو حق الله -سبحانه وتعالى-، والمنع من الصلاة في المقبرة حماية لجناب التوحيد فهو من حق الله -سبحانه وتعالى-، وعلى هذا يكون التخصيص هو الوجيه في مثل هذه المسألة.

يقول -رحمه الله تعالى-في هذه اللفظة: ((جعلت تربتها)) وقد ظن بعضهم أن هذا من باب المطلق والمقيد وهو غلط، وإنما هو من باب تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر، وهو لا يقتضي التخصيص عند الجمهور، ما معنى هذا الكلام؟ عندنا: ((وجعلت تربتها لنا طهوراً)) مع حديث: ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) هل الأرض ذات أفراد والتراب فرد من أفرادها؟ فيكون من باب الخاص والعام، أو الأرض ذات أوصاف والتراب وصف من أوصافها فيكون من باب الإطلاق والتقييد؟ وما الذي يترتب على القولين؟ إذا قلنا: أنه من باب الإطلاق والتقييد، والمطلق يحمل على المقيد لا سيما في مثل هذه الصورة، حينما يتفق المطلق مع المقيد في الحكم والسبب لا شك أنه يحمل المطلق على المقيد، نقل بعضهم الإتفاق على ذلك، إذا اتفقا في الحكم والسبب بخلاف ما إذا اختلفا في الحكم والسبب أو في السبب دون الحكم أو العكس، فالصور أربع، لكن هنا الحكم والسبب متفق، فإذا قلنا: أنه من باب الإطلاق والتقييد وقلنا: أن الأرض ذات أوصاف والتربة وصف من أوصافها قلنا: يحمل المطلق على المقيد للاتفاق في الحكم والسبب، فإذا قلنا: بحمل المطلق على المقيد قلنا: أنه لا يجوز التيمم إلا بالتراب، وهو مقتضى قول الحنابلة فلا يجوز التيمم إلا بالتراب، وإذا قلنا: أن الأرض ذات أفراد والتراب فرد من أفرادها قلنا: أنه من باب الخاص والعام، قد يقول قائل: الخاص مقدم على العام، فيكون مثل التقييد والإطلاق، نقول: لا، الخاص إذا ذكر بحكمٍ مخالف لحكم العام يخصص به العام، لكن إذا كان الخاص مذكوراً بحكمٍ موافق لحكم العام فإنه حينئذٍ لا يخصص به...

أوحينا إليك كما أوحينا إلى {نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ}[(163) سورة النساء] يعني نوح داخل في النبيين، هذا من ذكر العام بعد الخاص للاهتمام بشأن نوح والعناية به، وعكسه أيضاً وهو وارد في النصوص كثيراً، المقصود أن الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- يعتني بمثل هذه المسائل الأصولية، مما يجعله كتاباً نفيساً ينبغي أن يعض عليه بالنواجذ، إذا اقترن بذلك خلوه من المخالفات العقدية، استطرد في ذلك فقال: "وهو لا يقتضي التخصيص عند الجمهور، خلافاً لما حكي عن أبي ثور، إلا أن يكون له مفهوم، فيبنى على تخصيص العموم بالمفهوم، والتراب والتربة لقب واللقب مختلف في ثبوت المفهوم له" لا شك أن مفهوم اللقب لا يعتد به عند جماهير العلماء؛ لأن القول به له لوازم باطلة، كما هو معروف، الأمثلة على ذلك كثيرة والفوائد لا يمكن حصرها بالنسبة لهذا الكتاب، لكن مما يستطرف أنه قال في صفحة (11) في حديث ذكره قال: "أول من اتخذ الكعب العالي نساء بني إسرائيل يتطاولن بها في المساجد، ليس باللفظ، لكن هو ذكر عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: "إنما سلطت الحيضة على نساء بني إسرائيل؛ لأنهن كن اتخذن أرجلاً من خشب يتطاولن بها في المساجد"، فعلى هذا استعمال هذا الكعب العالي سنة بني إسرائيل.

أيضاً المفاضلة بين الشافعي وأحمد وابن قتيبة والخطابي في غريب الحديث لفتة من الحافظ ابن رجب -رحمه الله- يقول: إذا اختلف مثلاً الشافعي وأحمد في جهة، إذا كان الشافعي وأحمد في جهة وابن قتيبة والخطابي في جهةٍ أخرى مثلاً، يقول: "وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد وهما أعلم بالسنة واللغة وبألفاظ الحديث ورواياته من مثل ابن قتيبة والخطابي ومن حذا حذوهما ممن يفسر اللفظ بمحتملات اللغة البعيدة"، نعم اللفظة الواحدة يكون لها معاني في اللغة كثيرة، فقد ينتقي مثل ابن قتيبة والخطابي معنىً من المعاني ينزع به ويرجحه فيظن أنه هو المراد في الحديث أو في الآية، لكن إذا وجد من يجمع بين اللغة وبين الفن المخصوص كالسنة مثلاً لا شك أن اختيار الإمام أحمد لبعض الألفاظ دون بعض، أو الإمام الشافعي لما تحتمله اللغة من معاني لا شك أنه يكون أرجح مما يختاره الذي علمه خاص باللغة.

محمد بن سلام شيخ الإمام البخاري يقول: الصواب بالتشديد، معروف عند أهل المصطلح قاطبةً أن كل ما جاء في الصحيحين من سلام فهو بالتشديد إلا خمسة، فذكروا منهم هذا أنه بالتخفيف، ذكروا منهم محمد بن سلام وعبد الله والد عبد الله بن سلام قالوا: أنهما بالتخفيف ومعهم ثلاثة، لكن ابن رجب -رحمه الله تعالى-يصوب التشديد، وله فيه مصنف في رسالةٍ خاصة.

يقول: "لا يجوز تفسير الحديث إلا بما قاله أئمة العلماء الذين تلقوا العلم عمن قبلهم"..إلى غير ذلك من الفوائد التي لا يمكن استيفاؤها واستقصاؤها، والكتاب مطبوع في عشرة أجزاء في إحدى طبعتيه، والأخرى في سبعة، والطبعة الثانية، طبعة المجموعة ثمانية أشخاص قاموا بتحقيقه طبعة جيدة لا بأس بها، الطبعة الأخرى طبعة طارق عوض الله أنا ما اطلعت عليها، إنما رأيتها لكن لم أعتنِ بها لسبق هذه فقرأتها كلها ، وعرفت قيمتها، وأنها جيدة في الجملة، وإن كان طارق عوض الله له يد في هذا الشأن، وهو من أهل التحري في التحقيق.

شرح الكرماني (الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري):

بعد هذا شرح الكرماني، مؤلفه شمس الدين محمد بن يوسف بن علي الكرماني المتوفى سنة ستٍ وثمانين وسبعمائة، سماه كما نص على ذلك في نهاية المقدمة (الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري) الكرماني بكسر الكاف، وإن كان الدارج على ألسنة الكثير، وقاله النووي وغيره أنه بفتح الكاف الكَرماني، لكن الكِرماني نفسه ضبطها بكسر الكاف، ولما ورد ذكر كِرمان في الجزء التاسع صفحة (159) قال: "كرمان بكسر الكاف، وقال النووي: بفتحها، أقول: هو بلدنا وأهل البلد أعلم ببلدهم من غيرهم، وهم متفقون على كسرها"، وفي الجزء الرابع والعشرين صفحة (205) قال: "المشهور عند المحدثين بفتح الكاف، لكن أهلها يقولون: بالكسر، وأهل مكة أدرى بشعابها".

على كلٍ شرح الكرماني شرح متوسط ليس بالطويل مثل فتح الباري وعمدة القاري ولا بمختصر مثل شرح الخطابي، شرح متوسط مشهور بالقول، يعني يأتي باللفظة المراد شرحها فيقول: قوله، وهو جامع لفرائد الفوائد، وزوائد الفرائد، افتتحه بمقدمةٍ أشاد فيها بعلم الحديث وأهله، وأن صحيح البخاري أجلّ الكتب الصحيحة نقلاً وروايةً وفهماً ودراية، وأكثرها تعديلاً وتصحيحاً وضبطاً وتنقيحاً واستنباطاً واحتياطاً، قال: وفي الجملة هو أصح الكتب المؤلفة فيه على الإطلاق.

ثم تحدث باختصار عن الشروح السابقة كابن بطال والخطابي ومغلطاي، ثم ذكر منهجه في كتابه، وأنه يشرح المفردات، الألفاظ غير الواضحة، ويوجه الإعرابات النحوية غير اللائحة، يتعرض لبيان خواص التراكيب بحسب علوم البلاغة، ثم يذكر ما يستفاد وما يتعلق بالحديث من المسائل الكلامية على حد زعمه، ثم يذكر ما يتعلق بأصول الفقه من الخاص والعام والمجمل والمبين وأنواع الأقيسة، ثم يذكر ما يتعلق بالمسائل الفقهية والمباحث الفروعية، ثم يذكر ما يتعلق بالآداب والدقائق، ثم ما يتعلق بعلوم الحديث واصطلاحات المحدثين، ثم يذكر اختلاف النسخ، فيرجح بعضها على بعض ثم يتعرض لأسماء الرجال، ثم يوضح الملتبس ويكشف المشتبه، ويبين المختلف والمؤتلف من الأسماء والأنساب وغيرها، ثم بعد ذلك يؤلف بين الأحاديث المتعارضة حسب الظاهر، ثم يبين مناسبة الأحاديث التي في كل باب، ثم بعد ذلكم ذكر في المقدمة رواة الصحيح كالسرخسي والكشميهني وأبي ذر الهروي وترجم لهم، ثم ترجم للإمام البخاري ترجمةً متوسطة، ثم ختم المقدمة بموضوع علم الحديث وحده، وعدد كتب الجامع وأحاديثه.

الكتاب لا شك أنه جيد ومفيد في الجملة، واشتمل على غالب ما يحتاج قارئ الصحيح بأسلوبٍ واضح شيق، يهتم بالرواة فيذكر اسم الراوي كاملاً وما يستطرف من أخباره بإيجاز، يعني الشرح لا شك أنه ممتع، يذكر من أخبار الرواة ما يستطرف بإيجاز ليس مثل انتقاء وانتخاب النووي لا، لكنه فيه طرافة، ينبه على لطائف الأسانيد كالعلو والنزول وأوطان الرواة وصيغ الأداء وغير ذلك، يقول الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة: "هو شرح مفيد على أوهامٍ فيه في النقل؛ لأنه لم يأخذه إلا من الصحف"، يقول العيني بعد أن تعقب الكرماني في الجزء الأول صفحة (101) قال: "وهذا إنما نشأ منه لعدم تحريره في النقل، واعتماده من هذا الفن على العقل"، ولا شك أن الكتاب عمدة لمن جاء بعده من الشراح، لا تكاد تخلو صفحة واحدة من فتح الباري أو عمدة القاري أو إرشاد الساري من نقل عن هذا الكتاب، الكتاب عمدة بالنسبة لمن جاء بعد الكرماني، الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- نقل عنه كثيراً في مئات المواضع، وتعقبه أيضاً في كثير من المواطن، وأوهام الكرماني نبه عليها الحافظ لا سيما ما يتعلق بعلم الحديث وما يتعلق بالصحيح نفسه، لكنه لم يتعقبه فيما يتعلق بالعقيدة؛ لأن الحافظ أيضاً منتقد في هذا الباب على ما سيأتي من انتقادات الحافظ، يقول الحافظ -رحمه الله تعالى- في الجزء الأول صفحة (57): "الكرماني كعادته بحسب التجويز العقلي جوز أن يكون تعليقاً أو معطوفاً على قتادة فيكون شعبة رواه عن حسين عن قتادة إلى غير ذلك مما ينفر عنه من مارس شيئاً من علم الإسناد" نعم هذا كلام الحافظ بعد أن نقل عن الكرماني وتعقبه بهذا.

في الفتح أيضاً في الجزء الأول صفحة (79 و80) قال: "هذا تعقب مردود" ثم بيّن وجه رده، وفي صفحة (82) قال: "هذا ليس بطائل" ثم ذكر علة قوله، وفي الفتح صفحة (193) من الجزء الأول قال: "هذا مردود لأن سليمان بن حرب لا رواية له عن إسماعيل أصلاً لا لهذا الحديث ولا لغيره"، لكن أكثر الهفوات أو كثير منها وقع من الكرماني في الربط بين الحديث والترجمة، وقد تهجّم الكرماني على البخاري في مواضع، الكرماني في الجزء الثاني صفحة (183) يقول: "البخاري لا يراعي حسن الترتيب، وجملة قصده إنما هو في نقل الحديث وما يتعلق بتصحيحه لا غير ونعم المقصد"، البخاري لا يراعي حسن الترتيب، وجملة قصده إنما هو في نقل الحديث وما يتعلق بتصحيحه لا غير ونعم المقصد.

يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "العجب من دعوى الكرماني أن البخاري لا يقصد تحسين الترتيب بين الأبواب مع أنه لا يعرف لأحدٍ من المصنفين على الأبواب من اعتنى بذلك غيره، حتى قال جمع من الأئمة: فقه البخاري في تراجمه"، هناك هفوة من الكرماني، قال في الجزء العاشر صفحة (183) يقصد كلام الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- يقول: "لا يخفى ما في هذا التركيب من التعجرف"، يقول الحافظ في الجزء الرابع صفحة (485): "التعجرف من عدم فهم المراد"، إذا قصر الفهم ولم يعترف صاحبه بالقصور نشأ عنه مشاكل، حينما يقصر فهم الكرماني عن إدراك الرابط بين الحديث والترجمة يقول: لا يحسن ترتيب الأبواب، أو يقول: هذا تعجرف؟ لا شك أن سببه القصور، وقد أبدى العلماء من المناسبات ما يبهر العقول وألفت في تراجم البخاري الكتب المستقلة في بيان الرابط بين الحديث والترجمة في كل باب، وأحياناً في ذكر الرابط قد يخفى حتى على ابن حجر والعيني ومن جاء بعدهم، وأحياناً يقولون: المناسبة ظاهرة، وهي في الحقيقة ليست بظاهرة، وأخشى أن يكون هذا من التخلص، الشارح مع كل ما ذكر من هذه الملاحظات، وما قيل قبل ذلك من أن هذا الشرح نفيس، ولا يستغنى عنه، واعتمد عليه من جاء بعده من الشراح أيضا،ً الشارح في باب الاعتقاد جرى على طريقة الأشاعرة، ونكب عن طريقة السلف، قال في الحادي عشر صفحة (72): "إطلاق الغضب على الله تعالى من باب المجاز، إذ المراد لازمه، وهو إرادة إيصال العذاب"، وقال في الثاني عشر صفحة (123): "فإن قلت: ما معنى الضحك ها هنا؟ قلت: أمثال هذه الألفاظ إذا أطلقت على الله يراد بها لوازمها مجازاً، ولازم الضحك الرضا"، وقال في الجزء (22) صفحة (124): "والاعتراف بالصفات السبع التي هي الصفات الوجودية" ثم ذكرها، والصفات السبع المراد بها ما يثبته الأشاعرة من صفات الله -سبحانه وتعالى- وهي العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر.

أيضاً هو في توحيد العبادة عنده شيء من الخلل، يقول في الثاني والعشرين صفحة (149): "وقد كنت متشرفاً عند شرح هذا الباب بابتداء مجاورة قبره المبارك -يعني قبر ابن عباس- بالحرم المحرم بوج الطائف"، نقل عن الأشعرية في مواضع مقراً لأقوالهم ففي صفحة (197) من الجزء الأول وصفحة (88) من الجزء الثاني والعشرين، صفحة (106) من الجزء الرابع والعشرين يقول: "يجوز أن يرى أعمى الصين بقة الأندلس ولا يرى ما حولها".

على كلٍ الكلام في الكتاب كثير جداً، أيضاً من الناحية الاصطلاحية قرر أن شرط البخاري في صحيحه أن لا يروي إلا ما رواه اثنان عن اثنين.. إلى آخره، تابعاً في ذلك الحاكم فيما يفهم من كلامه والبيهقي وغيرهم، من العرب أيضاً زعموا أن شرط البخاري أنه لا يقبل رواية الواحد، بل لا بد من التعدد في الرواية؛ لكن لا شك أن هذا جهل بالكتاب الذي يشرحه، أول حديث في الصحيح من رواية فرد عن فرد عن فرد.. الخ، فيه أربع من طبقات، حديث (الأعمال بالنيات) تفرد به عمر -رضي الله عنه- في بروايته عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثم تفرد به عنه علقمة بن وقاص، ثم تفرد به عنه محمد بن إبراهيم التيمي، ثم تفرد به عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ومثله آخر حديث في الصحيح، حديث: ((كلمتان خفيفتان على اللسان))..الخ، تفرد به أبو هريرة، وعنه أبو زرعة ابن عمرو بن جرير البجلي، وعنه عمارة بن القعقاع وعنه محمد بن فضيل، وعن محمد بن فضيل انتشر الحديث، كما أن الحديث الأول انتشر عن يحيى بن سعيد، المقصود أنهما من الغرائب التي لم يروها إلا الواحد عن الواحد، وهما كفيلان بالرد على من يزعم أن العدد شرط للصحة مطلقاً، أو شرط للبخاري في صحيحه، وغير ذلك من المسائل التي يمكن مناقشته فيها، ولو ذهبنا نستطرد ونذكر كلما لوحظ على الكتاب لطال بنا المقام جداً.

 

ونقف على فتح الباري للحافظ ابن حجر ومعه أيضاً عمدة القاري مع ذكر ما بينهما من المناقشات الطويلة والردود، ثم نختم الكلام بالنسبة لما يتعلق بصحيح البخاري بإرشاد الساري غداً -إن شاء الله تعالى-، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.