شرح جوامع الأخبار (08)

الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

طالب: الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، النبي المصطفى، والرسول المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

قال الإمام العلامة عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى- في كتابه جوامع الأخبار:

الحديث السادس والخمسون: عن علي -رضي الله عنه- قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:‏ (‏(‏لا طاعة في معصية‏،‏ إنما الطاعة في المعروف)‏)‏ [متفق عليه]‏.

((لا طاعة في معصية)) أمرتَ بطاعة من يتصور منه الأمر بالمعصية من المخلوقين، أمرت بطاعة ولي الأمر، الإمام ومن دونه ممن ولاه الله أمرك، أمرت بطاعة الوالدين، المدير أمرك بشيء، المدير ولاه ولي الأمر أمرك، فله الأمر والنهي عليك لكن في حدود المباح، أما إذا أمرك بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، أمرك أبوك بمعصية، أمرك أن تقطع رحمك، تقول: لا، يعني بالأسلوب المناسب تتخلص من هذه المعصية، أمرك ولي الأمر بمعصية تقول: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، أمرتك أمك أن تسافر بها ومعها امرأة لا محرم لها، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فعلى الإنسان أن يتنبه لمثل هذه الأمور، نعم إذا تعارض عندك أمر ونهي، أنت مأمور بطاعة هذا؛ لكن أيضاً منهي عن المعصية، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، أحياناً تتعارض الأوامر والنواهي، ويحصل الحرج الكبير من الابن إذا كانت الأم في غير عصمة الأب، فتجد الأب يأمر والأم تنهى، قد يكون عاد لحاجة أو لعناد أو شيء، ماذا يصنع؟ الأب يأمر والأم تقول: لا، لا تفعل، يقول: افعل، وهي تقول: لا تفعل، من المطاع منهما؟ قال رجل لمالك: "أمرني أبي فنهتني أمي" فكان الجواب: "أطع أباك، ولا تعصِ أمك" هذا جواب وإلا ما هو جواب؟ فيه جواب، يعني في مثل هذه المضائق على الإنسان أن يسدد ويقارب، ويسعى في إرضاء الطرفين، وعلى كل حال الأم أولى لأنها أعظم حق، ويبقى أن الأب إذا كانت الأم في عصمته فحقه على الأم وحقه على الابن أيضاً، يترجح جانب الأب إذا كانت الأم في عصمته؛ لأن له عليها الأمر، أما إذا كانت هناك مفاصلة ومشاحنة فلا بد من التسديد والمقاربة وطاعة الطرفين بالمقدور عليه، إنما الطاعة بالمعروف، أمرك من تجب طاعته بما يشق عليك، أو أمرك بما لا تستطيع، قال لك مدير المدرسة: احمل هذه الحصاة، ما تقدر، أو قال لك ولي الأمر: اصعد هذا الجبل، أو افعل كذا، شيء لا تطيقه، أو انزل في هذا البئر وأنت لا تحسن، فالطاعة بالمعروف، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، إنما الطاعة بالمعروف، أمرك أبوك أو أمك أن تطلق زوجتك، أمرك أبوك أن تطلق زوجتك، عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أمر عبد الله أن يفارق زوجته، وقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أطع أباك)) لكن هل من الطاعة بالمعروف أن كل من تزوج مسكين قال له أبوه: طلق هذه المرأة؟ جالس يكد سنين طويلة حتى حصل على المهر وتزوج والخاتمة طلق زوجتك؟ الطاعة بالمعروف، لكن يبقى أنه لا بد أن يكون الرد بطريقةٍ مقبولة ترضي الأب، أكرهك أبوك على شرب أو أكل شيء لا تطيقه؟ بعض الناس لا يطيق شرب اللبن، لو شربه تقيأ، يقول له: إلا تشرب اللبن، الطاعة بالمعروف، المقصود أن مثل هذه الأمور تقدر بقدرها، ومثل هذا الحديث يحل كثيرٍ من الإشكالات في التعامل مع المخلوقين، أولاً: نجعل رضا الله -جل وعلا- فوق رضا الجميع، ثم بعد ذلك نتعامل من المخلوقين في هذا الإطار بحيث يرضي الله -جل وعلا- من حيث التعامل مع الجميع.

الحديث السابع والخمسون: عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة -رضي الله عنهما- قالا‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:‏ (‏(‏إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران‏،‏ وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد)‏)‏ [متفق عليه‏].

عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة -رضي الله عنهم-، هذا الأصل، عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة -رضي الله عنهم-، هذا الأصل، قالا: فالترضي عن الثلاثة، عن عبد الله وعن أبيه عمرو بن العاص ولهذا إذا جاء صحابي بن صحابي تقول: عنهما، وهنا صحابي بن صحابي ومعهم أبو هريرة إذاً -رضي الله عنهم- والقول مسند إلى الاثنين فقط، عبد الله بن عمرو وأبي هريرة قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران)) فاجتهد، وهذا وصف مؤثر، يعني الحاكم الذي هو بالفعل من أهل الاجتهاد، إذا اجتهد الحاكم، إذا حكم الحاكم، القاضي مثلاً، توافرت فيه شروط القضاء فاجتهد أجر الاجتهاد ثابت، فإن أصاب أضيف إلى ذلك أجر الإصابة، وإن أخطأ يكفيه الأجر الواحد، وهو أجر الاجتهاد، وعلى هذا لا يجوز الاجتهاد لغير أهله، لو يقدم شخص على أمرٍ لا يحسنه يقول: أجل أجتهد، عندك ما يؤهلك للاجتهاد تقول: أجتهد؟ مثل هذا لو أصاب فقد أخطأ، ولذا القضاة ثلاثة: منهم من يعرف الحق ويحكم به، ومنهم من يعرف الحكم بغيره، ومنهم من لا يعرف الحق أصلاً، والمصيب منهم واحد، وأما البقية ولو أصابوا الحق، تجيب لي قاضي جاهل ما يعرف، يعني افترض أنه عيّن قاضي جاهل ما يعرف شيء واجتهد وليس من أهل الاجتهاد، ووافق حكمه الحكم الشرعي مثل هذا يأثم، ويأثم من مكّنه من العمل بهذا المجال، وهو يعرف أنه ليس بأهل، ومسألة الاجتهاد مسألة متفاوتة، كل علم له اجتهاده، يعني إذا اجتهد الحاكم الإمام الأعظم في تعيين فلان، في القضاء مثلاً، اجتهد وهو ليس من أهل الاجتهاد مثلاً اخطأ في تعيينه، حتى يقول له من يعرف حقيقة الأمر: أن هذا أهل، ثم إذا عين هذا الشخص إن كان بالفعل أهلاً فاجتهد له الموعود به له أجران وأصاب، إذا لم يصب له أجر واحد، هذا إذا كان من أهل الاجتهاد، لو حكم بغير حكم الله، قصد أن يحكم في هذه المسألة بغير حكم الله، عرضت عليه المسألة قضية وذهب إلى القانون الفرنسي أو كذا أو كذا فتش فتش، قال: وجدنا الحل وحكم بهذا، ثم تبين أن هذا الحكم موافق لحكم الله، هذا أخطأ ولو أصاب، وآثم ولو وافق حكم الله -جل وعلا-؛ لأنه ما قصد أن يحكم بحكم الله {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [(65) سورة النساء] وحكم الله هو ما نص عليه في كتابه أو سنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- أو استنبط منهما، أو قيس عليهما، أو فرع من القواعد الشرعية، ويبقى أن الحاكم الأصل فيه أنه من أهل الاجتهاد، وأن يترك له الاجتهاد، لا يحجر عليه، يعني إذا ولي حاكم أهل كفؤ من أهل الاجتهاد لا يجوز الحجر عليه ولا إلزامه برأي ولا قول؛ لأن المسألة مفترضة في حاكم مجتهد، في حاكم تبرأ الذمة بتعيينه للقضاء، فلا يجوز إلزامه بشيءٍ غير لازم، وهذه المسألة قل مثلها في جميع العلوم، شخص لديه أهلية النظر في النصوص والأدلة، ويستطيع أن يصل إلى القول الراجح بدليله بنفسه لا يجوز له أن يقلد، ومثله إذا كانت لديه أهلية للترجيح والتصحيح في العلوم الأخرى، في تصحيح الأحاديث وتضعيفها، هذا لا يقلد رأيه الرجال، وهذا أمر مضطرد.

الحديث الثامن والخمسون: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏((‏لو يُعطى الناسُ بدَعْواهم لادَّعى رجالٌ دماءَ قوم وأموالهم‏؛‏ ولكن اليمين على المدعى عليه‏))‏ [رواه مسلم]‏. وفي لفظٍ عند البيهقي: ((البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)).

هذا أصل عظيم من أصول القضاء، ((لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم)) نعم لو جاءك شخص يدعي على فلان أنه فقأ عينه، وبالفعل عينه مفقوءة، تتعاطف معه وتصدر حكم على فلان؟ انتظر، شوف الدعوة، اسمع، احتمال أن يكون الثاني مفقوء العينين، ((فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم)) ولذلك كثير من الناس مستعد لإقامة الدعاوى، سهل عنده إقامة الدعوة؛ لكن هل عنده بينات؟ وما أشغل القضاة إلا هؤلاء الذين يدعون وليست لديهم البينات الكافية، وبعض الناس نسأل الله السلامة والعافية لعدم وجود الورع عنده يقدم على هذا ويقول: والله إن حصل شيء وإلا ما هو خسران، وحينئذٍ لا بد من التعامل مع هؤلاء بما يليق بهم، إذا تكررت من شخص أنه يدعي ما ليس له وليست لديه بينه يوقف عنده حده، لا يشغل الناس ويؤذيهم، لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم، يأتي من يخفى عليه الحكم، ويلتبس عليه الأمر مثل هذا يتقاضى مع خصمه، وحينئذٍ يعامله القاضي بما يليق به، يطلب منه البينة، فالبينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، اليمين في الغالب تكون في جانب الأقوى، الأصل عدم الثبوت، ثبوت المدعى به الأصل عدمه، فجانب المدعى عليه أقوى من المدعي، والمدعي عند أهل العلم من إذا ترك تُرك، والمدعى عليه من إذا ترك لم يُترك، يتبع، فإذا ادعى زيد على عمرو قال له القاضي: ألك بينة؟ إذا قال: نعم، قيل له: أحضرها، وهل هذه البينة مما يقوم بها إقامة مثل هذا الحد؟ شهود مرضيين عدول، وإلا ترد، وإذا قال: هي أمر يطلب التزكية، على الطريقة المعروفة عند أهل العلم المتبعة المعمول بها، طيب هذه البينة غير موجودة مثلاً، أو لا تقوم بها الحجة يرجع القاضي على المدعى عليه فيقول: احلف، اليمين على المدعى عليه، فإذا حلف برئ، إذا قامت البينة الملزمة المقبولة يحكم بالحق، ولا يطلب يمين من المدعى عليه؛ لأن البينة كافية، فلا يطلب يمين من المدعى عليه، يطلب يمين من المدعى عليه إذا لم توجد بينة، ليبرأ من العهدة، طلب بينة ما وجد بينة عند المدعي، طلب يمين من المدعى عليه قال: الدنيا كلها ما تسوى اليمين، فضلاً عن كوني أحلف على هذا المبلغ اليسير، إن كان عنده شيء يجيه، أنا ما عندي شيء، احلف، قال: الدنيا كلها ما تسوى يميني، مانا بحالف، يحكم عليه وإلا ما يحكم عليه؟ رفض، نكل عن اليمين، من أهل العلم من يقف عند هذا الحد، البينة على المدعي واليمين على من أنكر، المدعي ما عنده بينة، توجهت اليمين إلى المنكر ورفض، نكل عن اليمين، من أهل العلم من يقف عند هذا، ويلزمه للمدعى عليه، ومنهم من يرد اليمين إلى المدعي، رد اليمين على المدعي، والله المدعى عليه نكل، لما نكل صار المدعي أقوى منه، واليمين في جانب الأقوى؛ لكن ما يمكن أن يحكم بحق بدون بينة أو يمين، فيرد اليمين على المدعي مع أن الإمام مالك -رحمه الله تعالى- يقول:" لا أعلم قائلاً برد اليمين" مع أن قضاة عصره ابن شبرمة وابن أبي ليلى وغيرهما يقولون برد اليمين، ولا بد من مرجح لكفة أحد الطرفين، هذا ما عنده بينه، وهذا رفض اليمين إيش تسوي؟ موقف القاضي إيش؟ ماذا يصنع؟ لأن هذا مطالب بالبينة ما عنده بينة، هذا مطالب بيمين ورفض، لا بد من مرجح، والأصل في البينة ما يبين الحق ويظهره، ولذا يتجاوز بعضهم في البينات، ويتوسع فيها، وبعضهم يحكم بالقرائن ويجعلها من البينات، والمسألة معروفة عند القضاة وغيرهم ممن يدرس هذا العلم، على كل حال القول برد اليمين لا شك أنه مرجح، فإذا حلف المدعي بعد نكول المدعى عليه حكم له وإلا فلا.

الحديث التاسع والخمسون: عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً: (‏(‏لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا مجلود حدّاً، ولا ذي غمر على أخيه، ولا ظنين في ولاء ولا قرابة، ولا القانع من أهل البيت)‏)‏ [رواه الترمذي‏].

الأصل في الشاهد أن يكون مرضياً كما قال الله -جل وعلا-: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء} [(282) سورة البقرة] فلا بد أن يكون مرضياً، والرضا إنما يكون بالعدالة، العدالة، وهل تكفي العدالة الظاهرة أو لا بد من العدالة الباطنة التي يحتاج فيها إلى أقوال المزكين؟ مسألة خلافية؛ لكن الحكم بالظاهر هو الأصل، إلا إذا قدح فيمن ظاهره العدالة تطلب تزكيته، فكل ما خرج عن هذا القيد لا يقبل لأنه غير مرضي، فلا تجوز شهادة خائن ولا خائنة؛ لأنه مقدوح في عدالته، ولا مجلود بحد؛ لأنه فاسق بارتكابه الحد، هذا إذا لم يتب، طيب قد يقول قائل: المجلود بحد، والحدود كفارات، هل نحتاج مع هذا الحد إلى توبة؟ لو نظرنا في آية القذف: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [(5) سورة النــور] يعني طلبت التوبة مع الجلد، (إلا الذين تابوا) وهذا الاستثناء المتعقب لثلاث جمل، الخلاف الطويل بين أهل العلم هل يرجع إلى جميع الجمل، أو إلى الأخيرة فقط؟ أو إلى... كلام طويل لو نفصل هذا ما كفى، (ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً، إلا الذين تابوا) فدل على أن من تاب بعد إقامة الحد عليه تقبل شهادته، ((ولا ذي غمر على أخيه)) يعني ذي حقد وغل على أخيه، ((ولا ظنين في ولاء ولا قرابة)) يعني متهم في شهادته لقرابته أو في مواليه؛ لأنه يحيف معهم، ويميل إليهم ((ولا القانع من أهل البيت)) الخادم في أهل البيت يخدمهم بأجرةٍ أو بمأكله ومشربه، مثل هذا في الغالب متهم، يميل إليهم؛ لكن إذا قلنا: أنها لا تجوز شهادتهم لمن ذكر لا شك أنها تجوز شهادتهم عليهم، فإذا قلنا: أن الأصول والفروع لا تجوز شهادتهم، لا تجوز شهادة الابن لأبيه والأب لابنه؛ لكن لو شهد على أبيه، أو شهد على ابنه، أو شهد ذي الغمر لأخيه، يعني مسألة عكسية، المنفي في هذا الحديث يجوز عكسه، الظنين المتهم في الولاء والقرابة لا تجوز شهادته له؛ لكن تجوز شهادته عليه، كما تجوز شهادة الأب على ابنه، والابن على أبيه لانتفاء التهمة، والتهمة سبب قوي في القبول والرد.

الحديث الستون: عن رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: ‏قلت: يا رسول الله: "إنَّا لاَقُوا العدوَّ غداً، وليس معنا مُدَى‏ أفنذبح بالقصب‏؟‏ قال‏:‏ ((ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكُلْ، ليس السنَّ والظَّفْرَ، وسأحدثك عنه: أما السنُّ فعظمٌ‏،‏ وأما الظفر فمدَى الحبشة‏)) وأصبنا نهب إبل وغنم فنَدَّ منها بعير، فرماه رجل بسهم فحبسه،‏ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ((إن لهذه أوَابِدَ كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا‏)‏‏)‏ [متفق عليه]‏.

المأكول من الحيوان لا يخلو إما أن يكون يحتاج إلى تذكية أو لا؛ لأن الله -جل وعلا- حرم الميتة {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} [(3) سورة المائدة] استثني من الميتة ما يعيش في البحر، الحل ميتته، بحيث لا يعيش في سواه في البر، وأحل من الدم الكبد والطحال، وحل أيضاً من الميتة الجراد، ما عدا ذلك يحتاج إلى تذكية، "إنا لاقوا العدو غداً وليس معنا مدى" ليس معنا سكاكين، ما معهم سكاكين، ماذا يصنعون؟ أفنذبح بالقصب؟ القصب نوع من أغصان الشجر إذا قسم نصفين صار له حد كالسكين، فلم يجب النبي -عليه الصلاة والسلام- بنعم، ليأتي بقاعدةٍ عامة تشمل القصب وتشمل الزجاج، وتشمل الحصى، وتشمل كل ما أنهر الدم، يعني أخرج الدم المسفوح، وذكر اسم الله عليه فكل، أجابه إجابة شاملة من النبي -عليه الصلاة والسلام-، لأنه لو قال: نعم، احتاج الناس إلى بيان أحكام كثيرة جداً، فأتى بالقاعدة التي ينطوي تحتها القصب وغير القصب ((ما أنهر الدم)) أخرجه بقوة كالنهر ((وذكر اسم الله عليه فكل)) لا بد من أن ينهر الدم، بقطع الحلقوم والمري وأحد الودجين على الخلاف في ذلك كما هو معروف، ما أنهر الدم بقطع ما ذكر شريطة أن يذكر اسم الله عليه {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ} [(121) سورة الأنعام] والتسمية شرط لحل الذبيحة ويختلفون فيمن تركها ناسياً، والأدلة تدل على أن التحريم شامل للعامد والناسي، ليس السنّ والظفر، استثناء، ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه)) يشمل السن لأنه ينهر الدم، إذا قطعت الحلقوم والمري وأحد الوجدين بسنك أنهر الدم أو بظفرك لا سيما إذا كان من الطيور الصغيرة الظفر يكفيه؛ لكن لا يجوز، استثناء النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: ((ليس السن والظفر، وسأحدثك عنه)) يعني أذكر لك العلة، اذكر لك السبب، ((أما السن فعظم)) والعظام لا يجوز تلويثها بالنجاسة، فعظم ليشمل السن وغير السن من العظام؛ لكن المستعمل من العظام في مثل هذا السن، فنص عليه لأنه يستعمل، وعدي بالعلة إلى غيره من العظام، ولذا لا يجوز الاستنجاء بالعظم، والذبح بالعظم تنجيس له كالاستنجاء، ((وأما الظفر فمدى الحبشة)) وقد أمرنا بعدم التشبه، فنهينا عن التشبه بالكفار، "فمدى الحبشة، وأصبنا نهب إبلٍ وغنم، فند منها بعير" أي شرد بعير، الأصل أن البعير من الأشياء المقدور عليها، والأشياء المقدور عليها تذكى إما بالذبح أو بالنحر كالبعير؛ لكن إذا شرد توحش المقدور عليه، توحش الأهلي يعامل معاملة الوحش، معاملة الصيد، ولو تأهل الوحش عندك غزال مثلاً في قفص في حوش لا بد من تذكية، عندك طائر مما يصاد يكفي فيه أن ينهر الدم من أي جزء من أجزائه قبضت عليه لا بد من تذكيته فكل مقدور عليه لا بد من التذكية، الذي لا يقدر عليه يكفي فيه ما الرمي "فرماه رجل بسهمٍ فحبسه" فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((إن لهذه أوابد)) يعني هذه الحيوانات لها أوابد تنفر لها نفرة ولها وحشة ((كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا)) أحياناً ينفر خروف فيشبه الغزال ما يستطاع ولا بالسيارة ولا....، يالله بالرمي، وأحياناً ينفر تيس وإلا جمل والناس يحتاجونه، فإذا فعل به هكذا فجرح من أي جزء من بدنه حل، كالصيد، على أن يكون الذي يغلب على الظن أنه مات بهذا السبب؛ لكن لو شرد البعير ووقع في بئر ورميته، تجزم أنه مات بسبب رميك وإلا بسبب الماء غرقاً؟ حينئذٍ لا يكون لك أن تأكل، لا بد أن يغلب على ظنك أنه مات بسبب رميك.

الحديث الواحد والستون: عن شدّاد بن أوْس -رضي الله عنه-‏:‏ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏(إن الله كتب الإحسان على كل شيء‏،‏ فإذا قتلتم فأحْسِنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة،‏‏ وليحدّ أحدكم شفرته، ولْيُرِحْ ذبيحته‏)‏) [رواه مسلم‏].‏

الإحسان مطلوب، الإحسان في التعامل مطلوب، مع الخالق وهو أعظم خصال الدين بعد الإسلام الإيمان الإحسان، وأن تعبد الله -جل وعلا- بالمراقبة، وأعلاها أن تتصور أنك ترى الله، فإن لم يصل مستواك إلى هذا الحد فلا أقل من أن تتصور أن الله يراك، تعبده بالمراقبة وهذه مرتبة الإحسان، منزلة الإحسان، وشأنها في الدين عظيم؛ لأنها تكف عن المحرمات، تحث على فعل الواجبات والمستحبات؛ لأن من تصور أنه يرى الله أو أن الله يراه لن يقدم على معصية، وهو يتصور أن الله -جل وعلا- يشاهده؛ لأنه لا يزاول معصية بحضور من يهابه من المخلوقين فضلاً عن الخالق؛ لكن ما وقع الناس فيما وقعوا فيه إلا بعد أن غفلوا عن اطلاع الله عليهم، أيضاً إحسان إلى النفس، إحسان إلى الغير من المخلوقين، ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء)) على كل شيء كتب الإحسان، بل كتبه فيما يتصور فيه أعظم الضرر وهو القتل وإزهاق الروح، في أعظم من هذا؟ من الضرر ما يتصور؛ لكن مع هذا الضرر تحسن في هذا الضرر، ((فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)) إذا قتلتم من يستحق القتل فأحسنوا القتلة، بلا تعذيب، بلا تمثيل، هذا ليس من عمل المسلمين، وقد جاء النهي عن المثلة بخلاف المماثلة {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [(126) سورة النحل] المماثلة غير المثلة، يعني كونه يفعل بالقاتل نظير ما فعل، رض رأس الجارية بحجر يرض رأسه بحجر، قتلوا الراعي وسملوا عينه فُعل بهم ما فعلوا، ((وإذا ذبحتم)) ما يراد ذبحه للأكل ((فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته)) لئلا يتأذى المقتول والمذبوح، يحده تكون ماضية بسرعة، لا تكون كالة بحيث تؤذي المذبوح ((وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) هذا من عدل الإسلام، ومن محاسن الدين حتى في هذه الحالة أمرنا بالإحسان فما دونها من باب أولى، لا يجوز أن تسيء لأحدٍ بحالٍ من الأحوال، ((والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)) فالإحسان مطلوب مع كل أحد حتى مع الحيوان، ((في كل كبد رطبة فيها أجر)) إذا تصور الإنسان أنه دخل الجنة بإزالة غصن من الطريق؛ لأنه أحسن على الناس، ((إماطة الأذى عن الطريق صدقة)) المرأة البغي التي سقت الكلب دخلت الجنة شكر الله لها فغفر لها، فلنحرص أشد الحرص على الإحسان للآخرين فضلاً عن كوننا نكف أذانا عنهم، والله المستعان.

الحديث الثاني والستون: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال‏:‏ ‏"حرّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر الحمر الإنسية، ولُحومَ البغال، وكلَّ ذي ناب من السباع، وكلَّ ذي مخلب من الطير"‏ [رواه الترمذي]‏.

عن جابر -رضي الله تعالى عنهما- قال: حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر سنة سبع من الهجرة لحوم الحمر الإنسية، الحمر إما أن تكون إنسية أو تكون وحشية، الوحشية حلال، الإنسية كانت حلال ثم حرمت، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، وبحث مثل هذه المسألة يطول جداً؛ لأنها إما أن يكون أصلها طيب واستمر الطيب رغم تحريمها، أو تكون كانت خبيثة كان أصلها طيب ومنعت للحاجة، أو أصلها خبيث وأبيحت قبل الحاجة، أو أنها كانت طيبة، ثم انقلبت خبيثة، المقصود أن هذه المسألة تحتاج إلى زمنٍ طويل؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، الحمر كانت حلال ثم صارت حرام، ما وضعها قبل التحريم؟ وما وضعها بعد التحريم؟ الخمرة سلبت المنافع لما حرمت، فهل نقول: أنها انقلبت بذاتها إلى خبيث وصارت رجس كما جاء في بعض الأحاديث؟ لا شك أن الله -جل وعلا- قدرته نافذة على أن يكون الأصل في الشيء الطيب ثم ينقلب إلى خبيث أو العكس.

"حرَّم يوم خيبر لحوم الحمر الإنسية ولحوم البغال" البغال ليست حمير ولا خيل، إنما هي متولدة بينهما، هذه أيضاً حكمها حكم الحمر الإنسية تغليباً للحظر، وجاء النص على تحريمها بخلاف الخيل، فقد ذبحوا على عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- فرساً فأكلوه، فالخيل يؤكل، كونه امتنّ بركوبه ولم يمتن بأكله مما يستدل به بعض من يرى تحريم لحوم الخيل، أن الله -جل وعلا- امتن بركوب الخيل، {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [(8) سورة النحل] فامتن بركوبها ولو كانت مأكولة لامتن بأكلها، نقول: ذبحوا فرساً على عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- فأكلوه، والامتنان في الركوب قد يكون أهم من الامتنان بالأكل، في آخر صفحة من سورة يس {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ* وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [(71-72) سورة يــس] ذكر الركوب قبل الأكل، ليس في هذا دليل على تحريم لحوم الخيل، وتعرفون يا إخوان المسائل تحتاج إلى تشقيق وتفريع؛ لكن الوقت ما يمكن.

"وكل ذي نابٍ من السباع" كل شيء له ناب يحرم بهذا الدليل، هذه قاعدة عامة تنظر، هذا السبع انظر إن كان له ناب اتركه وإلا فكله، يستثنى من هذا ما يقال عن الضبع أن له ناب، وهو حلال لأن الصحابة أفتوا بأنه يفدى، له جزاء إذا صاده المحرم، فدل على أنه حلال، "وكل ذي مخلبٍ من الطير" أيضاً الطيور إذا صيدت ينظر فيها هل لها مخلب إن لها مخلب تترك وإلا فتؤكل، وأهل العلم يختلفون في الأصل، الأصل في الأطعمة هل هي الحل أو الحرمة؟ ما الأصل في الأطعمة هل هي الحل أو الحرمة؟ كل على مذهبه، منهم من يقول: الحلال ما أحله الله، ومنهم من يقول: الحرام ما حرمه الله، وكل على مذهبه، وفائدة الخلاف إذا وجدت شيئاً في البر، إما نبات هل تقدم على أكله من غير دليل أو تأكل منه حتى يرد دليل منع؟ دويبة مثلاً وجدتها في البر تأكلها وإلا تتركها؟ إن كان الأصل عندك الحل فكل، إذا كان الأصل عندك الحظر لا تأكل إلا بدليل، وكل على أصله في هذا.

الحديث الثالث والستون: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال‏))‏ [رواه البخاري‏].‏

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)) وذلك أن الله -جل وعلا- خلق الخلق من بني آدم وجعلهم صنفين، صنف ذكور وصنف إناث، وجعل لكل صنفٍ ما يناسبه، ما يناسب تركيبه من الأعمال والحركات واللبس وغير ذلك مما يتميز به كل صنفٍ عن الآخر، فمن تشبه بالصنف الآخر فيما هو من خصائصه دخل في هذا الوعيد الشديد، وهو اللعن، ويراد به الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى، فإذا تشبه الرجل بالمرأة فيما هو من خصائصها، أو تشبهت المرأة بالرجل فيما هو من خصائصه وما يوافق طبعه وتركيبه دخل في هذا الوعيد الشديد؛ لكن هناك أمور مشتركة بين الرجال والنساء، في المآكل والمشارب والمساكن الأمر المشترك لا يدخل في هذا؛ لكن ما يختص بالنساء لا يجوز بحال للرجل أن يتشبه بالمرأة، وما يختص به الرجال لا يجوز للمرأة أن تتشبه بالرجال وهكذا، من ذلكم ما يتعلق بالمنطق والمشية والهيئة واللباس وما أشبه ذلك، وذلكم أن المرأة خلقت من ضلع، والرجل أكمل منها في كثيرٍ من الأوصاف هي بحاجة إلى أن تكمل هذا النقص في الزينة {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [(18) سورة الزخرف] هذا الأصل في المرأة؛ لكن الرجل لأن الله كمله بالخصال وبالمزايا والسجايا التي فاق بها المرأة من غير ظلمٍ للمرأة؛ لأن الله -جل وعلا- جعل فيها من الخصائص ما يناسب فطرتها، وما يناسب ما وكل لها من أعمال، لم يجعل لها من القوة قوة البدن بحيث تزاول من الأعمال ما يزاوله الرجال، ولم يجعل في الرجل من الضعف في الخلق والخُلق ما يجعله يزاول أعمال النساء، فإذا زاولت المرأة أعمال الرجال خرجت عن الفطرة التي فطرت عليها، وإذا هبط الرجل إلى المستوى الذي جبل عليه النساء فزاول أعمال النساء أيضاً تشبه بالنساء، قد يقول قائل: إن تشبه النساء بالرجال من باب تحصيل الكمال، فماذا يقال عن تشبه بعض الرجال بالنساء؟

وليس عجيباً أن النساء ترجلت

 

ولكن تأنيث الرجال عجيب

يعني يوجد مع الأسف الشديد بل في أوساط المسلمين من إذا رأيته لا تجد أدنى فرق بينه وبين المرأة، حتى أنه وجد في بعض المجتمعات الإسلامية من يستعمل بعض الهرمونات التي تبرز الثدي، وهو ذكر خلقه الله ذكراً، كمله وشرفه، وقد كمل من الرجال كثير لكن وجد مثل هؤلاء مع الأسف الشديد.

وعلى كل حال إذا تشبهت المرأة بما يختص به الرجال دخلت في اللعن، وإذا تشبه الرجل بما تختص به النساء دخل في هذا الوعيد، فلنكن على حذر، وإذا كان التشبه تشبه الرجل بالمرأة من المسلمين والمرأة المسلمة بالرجل من الرجال يدخل في هذا اللعن وهو حرام بل كبيرة من كبائر الذنوب فكيف بالتشبه بأعداء المسلمين؟! بأعداء الله وأعداء دينه من الكفار، ومع الأسف أننا نجد بعض المسلمين من يحاكي الكفار في جميع تصرفاته، بل يوجد في بعض المجتمعات الإسلامية بعض البلدان إذا دخلتها لا تفرق بينها وبين بلاد الكفار، وهذا من استحكام الغربة التي نعيشها، والله المستعان، ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه)) فلنحذر من هذا أشد الحذر، يوجد في نساء المسلمين من يتشبه بالكافرات والفاجرات، وقصور الأفراح تعجّ بمثل هذه الصنوف المؤذية القذرة من التشبه، نسأل الله السلامة والعافية، وكل هذا شعور بالنقص، وإلا فلو اعتزّ المسلم بدينه ذكراً كان أو أنثى لكان في غنية عن مثل هذه التصرفات التي تحطّ من قيمته في الدنيا قبل الآخرة، وأما في الآخرة فله هذا الوعيد، والله المستعان.

الحديث الرابع والستون: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ (‏(‏ما أنزل الله دَاءً إلا أنزل له شفاءً))‏ [رواه البخاري]‏.

هذا الحديث الصحيح عن أبي هريرة: ((ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء)) له شفاء بلا شك؛ لكن قد يعلمه بعض الناس، وقد يجهله أكثر الناس، ((علمه من علمه وجهله من جهله)) ولذا لا ييأس من أصيب بأي مرضٍ كان من الشفاء، فإذا توكل على الله -جل وعلا-، وسأله بصدق أن يشفيه من هذا المرض، ورقى نفسه بالرقية الشرعية المعروفة بشروطها شفاه الله وعافاه، والله -جل وعلا- يقول: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ} [(82) سورة الإسراء] (من القرآن) من أهل العلم من يقول: أن (من) هذه بيانية، فالقرآن كله شفاء، ومنهم من يقول: أن (من) هذه تبعيضية، فمن القرآن ما هو أحكام، ومنه ما هو عبر ومواعظ، ومنه ما هو قصص وأخبار، ومنها ما هو شفاء، وهذا القول قال به جمع من أهل العلم فتكون (من) تبعيضية، والقول الآخر أن كله شفاء، علينا أن تستشفي بالقرآن، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء} [(44) سورة فصلت] فإذا حقق الإنسان الوصف واستشفى بالقرآن معتقداً أن الشفاء بيد الله -جل وعلا-، وأنه لا شافي إلا هو {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [(80) سورة الشعراء] وإن باشر بعض الأسباب العادية التي اضطرد نفعها فلا بأس، ((تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام)) فلا ييأس المريض بأي مرضٍ كان حتى المرض الخبيث السرطان هذا الحديث يتناوله، ((ما أنزل الله داءً)) نكرة في سياق النفي تعمّ جميع الأدواء وجميع الأمراض، حتى السرطان؛ لكن كونه يخفى على كثيرٍ من الناس هذا شأنه شأن جميع ما من شأنه أن يعلم، جميع ما من شأنه أن يُعلم يكون علمه عند بعض الناس دون بعض، وقد يخفى على كثيرٍ من الناس، وقد يحجب عنه أكثر الناس، ويفتح الله على يد بعض خلقه فتحاً ينفع به الله -جل وعلا- خلقه، ومنه هذا المرض، فعلينا أن نستشفي بالقرآن، وأن نلجأ إلى الله -جل وعلا-، ونصدق اللجأ فهو كاشف الكروب، وهو مزيل الهموم، وإذا باشرنا بعض الأسباب من غير اعتمادٍ عليها، نعلم أن الشفاء بيد الله -جل وعلا-، وهو المسبب، وأن هذه الأدوية والعقاقير هي مجرد أسباب قد تنفع، يترتب عليها آثارها، وقد تتخلف كغيرها من الأسباب، وقد يوفق الطبيب لفحص المرض بدقة، ووصف العلاج النافع، وقد لا يوفق، يهمّ كغيره، حتى صاحب العلم الشرعي قد يهم في بعض المسائل، ويفتي بخلاف الحق، وقد يقضي بخلاف الحق؛ لأن الكل بشر، والله المستعان، ونعنى بالعلاج النبوي والطب النبوي الذي صح عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، مثل الحبة السوداء، والعسل والعود الهندي وغيرها، هذه ثبتت آثارها، ثبتت الأخبار بها عن المعصوم -عليه الصلاة والسلام-، وكتاب الطب النبوي لابن القيم حافل بمثل هذه الأدوية، وكثير من الأدوية تجريبية ثبت نفعها بالتجربة، والعلاج من المرض يختلف فيه أهل العلم، منهم من يقول: هو أفضل من تركه، ومنهم من يرى أن التسليم لله -جل وعلا- والاعتماد عليه أدخل في التوكل وأقوى فهو أفضل.

وعلى كل حال يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "لا أعلم سالفاً أوجب العلاج" لا أعلم سالفاً يعني أحداً من السلف أوجب العلاج، وعلى هذا لا يلام من رفض أن يذهب إلى الأطباء، ولو غلب على الظن أنه يشفى على يديهم، على كل حال إذا صبر واحتسب، وحديث السبعين الألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب معروف، فيه: ((ولا يسترقون)) لا يطلبون من يرقيهم، ((ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)) لا يباشرون هذه الأسباب مع أنها شرعية ومباحة، ولا خلاف في جوازها إلا أن من عظم توكله كان أفضل ممن مباشرة هذه الأسباب، اللهم إلا إذا ترتب على هذا التوكل أمور تخدش التوكل يعني شخص لا يراجع الأطباء، ولا يدخل المستشفيات؛ لكن من عاده في البيت يقول: أبشركم أنا لا أروح إلى الأطباء ولا أبي مستشفيات، وأنا ارتباطي بالله وثقتي به، لا يا أخي أنت تروح المستشفيات أسهل من كلامك هذا، إذا كان يشتكي إلى المخلوقين والله المستعان.

الحديث الخامس والستون: عن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ (‏(‏الرؤيا الصالحة من الله‏،‏ والحُلْم من الشيطان‏، فإذا رأى أحدُكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب‏،‏ وإذا رأى ما يكره فليتعوَّذ بالله من شرها ومن شر الشيطان‏،‏ ولْيَتْفُلْ ثلاثاً، ولا يحدث بها أحداً، فإنها لن تضره‏))‏ [متفق عليه‏].‏

في هذا الحديث الصحيح عن أبي قتادة الحارث بن ربعي يقول -عليه الصلاة والسلام-: ((الرؤيا الصالحة من الله)) الرؤيا الصالحة الصادقة من الله -جل وعلا-، وأول من بدئ به النبي -عليه الصلاة والسلام- الرؤيا الصادقة في النوم تأتي مطابقة للواقع، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، والرؤى أو ما يراه النائم إن كان مرتباً منتظماً واضحاً يحث على خير، أو يكف عن شر فهذه رؤية صالحة، أما إذا كانت مختلطة مخيفة، أو لا يدرى ما أولها من آخرها، فهي من تلاعب الشيطان، لا قيمة لها، فالصالحة هذه يطلب تعبيرها، ويرجى تحققها بخلاف الأضغاث مثل هذه علاجها ما جاء في هذا الحديث، ((فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثاً)) هذا العلاج، وحينئذٍ يكون لا أثر لها، ومع الأسف أنه ظهر الأيام الأخيرة من يعبر كل شيء، يعبر الرؤى ويعبر الأضغاث، واختبر بأمورٍ لم تُر فعبرها، واختبر بأمور ما رآها أحد، اختبره بعض الناس فعبر ما عنده مشكلة، ولا شك أن الاسترسال في مثل هذا غير محمود، لا شك أن المختبر ارتكب محرماً؛ لأنه كذب وادعى رؤيا لم تحصل له، وهذا كذب نسأل الله العافية، والكذب في الرؤيا أمره شديد، كلف أن يعقد بين شعيرتين؛ لكن أيضاً هذا الذي يعبر كل شيء لا يأمن الزلل والخطأ فعلى الإنسان أن يتورع ويتحرى ويتثبت، والله المستعان.

((الرؤيا الصالحة من الله)) مصدرها من الله -جل وعلا- لتثبيت المؤمن وحثه على الازدياد من الخير والكف عن بعض ما يضره، وقد يرى ما فيه بشرى له أو لغيره، وقد يرى ما فيه تحذير له أو لغيره، فينتفع بهذه الرؤيا وينتفع بها غيره، وأما الحلم فهو من الشيطان، مصدره من الشيطان الذي يريد أن يغيض المسلم، فإذا رأى أحدكم ما يحب من الرؤيا الصالحة فلا يحدث به إلا من يحب، لا يعرض هذه الرؤيا إلا على محبٍ مشفقٍ ناصح؛ لأن غيره لا يؤمن في أن يحرف هذه الرؤيا بتأويلها التأويل الخاطئ أو يسعى لعدم تحققها، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان الذي هو مصدرها، (من شرها) يعني من شر أثرها عليه، ومن شر مصدرها، وليتفل، ينفث عن يساره ثلاثاً، ولا يحدث بها أحداً؛ لئلا يفرح العدو ويغتاظ الصديق، وقد تؤول له، والرؤيا إذا أولت يخشى من وقوعها، وحينئذٍ لا تضره، ولا يكون لها أثر، بعض الناس قد يرتب عليها أحكام شرعية، والدين -ولله الحمد- كامل، كمل في حياته -عليه الصلاة والسلام- قبل وفاته {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [(3) سورة المائدة] وبعض الناس يستدل ببعض الأحاديث التي ثبت فيها أحكام كحديث الأذان مثلاً، حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه لما رأى قال: طاف بي وأنا نائم رجل فقال تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر... إلى آخر الأذان، وكذلك عمر رأى هذه الرؤيا، هذه الرؤيا اكتسبت الشرعية من إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبعض الناس يستدل يتوسع إذا رأى فلان أو فلان سأله عن حكم شرعي، وأثبت به الحكم، وبعضهم يصحح ويضعف من خلال الرؤى، وأسوأ من هذا من يصحح ويضعف بالمكاشفة، كما يحصل لبعض المنحرفين، والدين كامل شامل ليس بحاجة إلى مزيد من أحد.

الحديث السادس والستون: عن علي بن الحسين -رحمه الله- قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ (‏(‏من حُسْن إسلام المرء تَرْكُه ما لا يَعنيه)‏)‏ [رواه مالك وأحمد‏،‏ ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه الترمذي عن علي بن الحسين وعن أبي هريرة‏].

في هذا الحديث المخرج في الموطأ والمسند والسنن وغيرها من دواوين الإسلام، ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) عن علي بن الحسين قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا عند أهل العلم مرسل؛ لأن علي بن الحسين تابعي، وما يرفعه التابعي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- يسمونه مرسلاً.

مرفوع تابع على المشهورِ

 

ومرسل أو قيده بالكبيرِ

والمرسل عند الجمهور ضعيف، احتج به مالك وأبو حنيفة، ورده جماهير العلماء، رده جمهور العلماء للجهل بالساقط، احتمال أن يكون علي بن الحسين رواه عن تابعي آخر، وهذا التابعي الآخر احتمال أن يكون ضعيفاً، هذه حجة من رد المراسيل.

احتج مالك كذا النعمانُ
ورده جماهر النقادِ
وصاحب التمهيد عنهم نقلا

 

به وتابعوهما ودانوا
للجهل بالساقط في الإسنادِ
ومسلم صدر الكتاب أصلا
 

المقصود أن الذي استقر عليه القول عند أهل العلم رد المراسيل، وهذا منهم، إلا أنه مروي عند الترمذي من حديث أبي هريرة فهو موصول، وحينئذٍ يكون فيه تعارض الوصل مع الإرسال، والمسألة خلافية بين أهل العلم، هل يقبل يرجح المرسل أو الموصول، أو الأكثر أو الأحفظ، أو ما ترجحه القرائن؟ هذه مسألة لا نطيل في ذكرها، وعلى كل حال معنى الحديث صحيح، معناه صحيح، ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) لأن الاشتغال بما لا يعني أقل الأحوال أن يصرف عن عملٍ مشروع، يعني كون الإنسان يتدخل في أمور لا تعنيه، فلان فعل كذا، وفلان صنع كذا، وفلان بنى بيت بكذا، وطلع من بيته كذا، وش يعني كلامه؟ هي مجرد أخبار؛ لكن إذا تضمن هذا التدخل محض النصيحة لغيره دخل في حديث الدين النصيحة؛ لكن إذا لم يترتب عليه فائدة أقل الأحوال أن ينشغل به عما يعنيه، وهذا لا شك أنه من الفضول.

الحديث السابع والستون: عن أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص عن أبيه عن جده‏:‏ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ (‏(‏ما نَحل والدٌ ولدّه من نحْل أفضل من أدب حسَن‏))[رواه الترمذي]‏.‏

هذا الحديث عند الترمذي.

طالب: عفا الله عنك يقول: ضعيف، أخرجه الترمذي في سننه في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في أدب الولد، وأحمد في المسند.

هو هذا الذي يظهر أنه ضعيف.

طالب: يقول هنا يا شيخ قال على الترمذي هذا عندي حديث مرسل.

على كل حال الحديث ضعيف، الحديث ضعيف ولا شك أن تربية الأولاد على الدين الحق، والمنهج الصحيح من خير ما يهدى إليهم، ويقدم إليهم، يعني من حيث المعنى معناه صحيح، ((ما نحل والد ولده من نحلٍ أفضل من أدبٍ حسن)) كونه يربي ولده ويؤدبه على الأدب الشرعي باحترام الكبير، احترام أوامر الله -جل وعلا- وأوامر رسوله ويؤدبه الأدب الشرعي لا شك أن هذا من أولى ما يقدم ويهدى ويعطى للولد، وكل من المسلمين يود أن يكون ولده مؤدباً متخلقاً بالأخلاق الفاضلة، مجتنباً للأخلاق الرذيلة السافلة، كل يتمنى هذا لكن كثير من الناس يتقاعس إذا جاء العمل والتطبيق، قد يحمله الشفقة على ولده إلى أن يترك أدبه حتى يفلت من يديه ويكون وبالاً عليه وعلى مجتمعه وعلى أمته وهذه الشفقة أبداً ليست شرعية، هذه الشفقة التي تحمل على الإهمال ليست شرعية، وليست التربية تربية البدن أو تربية ما يؤمن المستقبل كما يقال، تجد الإنسان يحرص على الدراسة لولده، فإذا تخلف عن الدراسة يوماً أو عن المذاكرة أو عن حل الواجبات أو عن القيام بالوظائف يغضب غضباً شديداً؛ لكن أين هذا الرجل من الاهتمام بصلاة الفجر لولده؟ هل هذا بالله عليكم أدب حسن؟ لا والله، ومثل هذا لن يوفق إذا عني بأمور دنياه، وأهمل أمور دينه، مثل هذا لن يوفق وشواهد الأحوال كثيرة، إلا إذا تداركه الله -جل وعلا- بلطفٍ، ومنّ عليه بتوبةٍ نصوح.

الحديث الثامن والستون: عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏((‏مثل الجليس الصالح والسوء‏ كحامل المسك ونافخ الكِير،‏ فحامل المسك‏ إما أن يَحْذِيَك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة‏،‏ ونافخ الكير‏ إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة‏))‏ [متفق عليه]‏.‏

هذا الحديث حديث أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مثل الجليس الصالح والجليس السوء)) الناس صنفان إما صالح وإما سيء، الجليس الصالح له مثل، والجليس السيء والسوء له مثل، فمثل الجليس الصالح كحامل المسك، ومثل الجليس السوء كنافخ الكير، وهذا من اللف والنشر المرتب، ولك الخيار، هل تريد أن تجلس عند حامل المسك أو عند نافخ كير؟ لا شك أن كل ذي عقلٍ سوي يفضل حامل المسك، ويبتعد عن نافخ الكير؛ لأنه الجو حار، والشرارة متطاير يحرق الثياب، والرائحة كريهة، والدخان يزكم الأنوف، ومن كل وجه، وأما حامل المسك فخير على خير، أقل الأحوال أن تبتاع منه شيئاً يسرك؛ لأن مما يسر في هذه الدنيا الطيب، وقد حبب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- من الدنيا النساء والطيب، فحامل المسك إما أن يحذيك، إما أن يعطيك هدية، وإما أن تبتاع منه بالمقابل دراهم، وأقل الأحوال أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق الثياب من هذا الشرر المتطاير، وقد يخلص هذا الشرر إلى الجلد فيحرقه، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة، لن تسلم، وهكذا الجلساء،   {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [(28) سورة الكهف] هؤلاء هم الجلساء الصالحون، مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، أهل الذكر أهل الفضل أهل الخير أهل الاستقامة الذين أقل أحوالك أن لا تزاول ما يغضب الله في مدة مكثك معهم، هذا أقل الأحوال، وإذا ذكروا الله وذكرت الله معهم، إذا نسيت عن شيءٍ وغفلت عنه ذكروك هؤلاء خير على خير، بخلاف الجليس السيء الذين إن أردت عملاً صالحاً ثبطك، وإذا ذكرت الله -جل وعلا- صرفك، فمثل هذا يبتعد عنه، والإنسان يحرص على ما ينفعه في أمور دينه ودنياه، فالجليس السيء لن يقدم إلا ما يضر في الدين والدينا، والجليس الصالح يقدم لك ما ينفعك، والجليس الصالح والأمر بمجالسته من متطلبات الجنة، والجليس السيء الذي تغفل بسببه عن ذكر الله، وعن طاعة الله، وقد تقع في بعض المحرمات من متطلبات أو من دواعي وأسباب النار، والجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات، ولذا تجد بعض الأخيار وهو محسوب على طلاب العلم، تجده يأنس بفلان، يقول: فلان ما شاء الله خفيف، طيب المعشر، لماذا صار طيب المعشر؟ لأنه يقدم لك ما تشتهيه وتحبه، ويؤيدك في كل ما تقول وما تفعل، وإن كان خطأ، هذا خفيف ما شاء الله؛ لكن العاقبة؟ الجنة حفت بالمكاره، تجد بعض الناس نعم صالح وطيب وذكر، وحث على الخير؛ لكن ثقيل على كثيرٍ من النفوس، وهذا يحسه الإنسان من نفسه، نسأل الله العفو والمسامحة، إذا جاك واحد وهو من خيار الناس صارت الجلسة رسمية على الكلام، رسمية يا أخي الواحد ما يقدر يستأنس ولا ينبسط، لا شك أن هذه الأمور تحتاج إلى علاج، هذا خلل، خلل بلا شك، يعني أنت تأنس بمن يضحكك والذي يدلك على الخير تقول: جلسة رسمية، هذا واقع كثير من الناس الله يعفو ويسامح، فلنحرص على من يدلنا على الخير، ويكفنا عن الشر، ويقدم لنا ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، أما أهل الهزل وأهل المجون وأهل الفكاهة لا ينفعونا بشيء، ويبقى أن الدين -ولله الحمد- ترك لنا فرصة، يعني ديننا فيه فسحة، النبي -عليه الصلاة والسلام- يمزح لكنه لا يقول إلا حقاً، فإذا تخلل الجلسات الطيبة النافعة المفيدة شيء من المرح والمزح الخفيف هذا لا بأس به، لا يضيق به ديننا -ولله الحمد- والمنة، على ألا نكذب، ولا نقول إلا حق، ولا نتعدى على غيرنا، ولا يدخل في كلامنا شيء مما يستلذ ويطاب من الاستطالة في أعراض الناس، والله المستعان.

الحديث التاسع والستون: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏((‏لا يُلْدَغ المؤمن من جُحْرٍ واحدٍ مرتين)‏)‏ [متفق عليه]‏.‏

نعم هذا الحديث تمثيلي، هذا مثال محسوس لأمور معقولة، كل أمر أوقعك في ما لا تحب لا تعد إليه مرة ثانية، أبداً، وكل تصرف أوصلك إلى ما لا يرضي الله -جل وعلا- دعه واتركه، ولذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يلدغ المؤمن من جحرٍ واحد مرتين، نعم أدخل يده في الجحر يريد شيئاً ينفعه فإذا فيه حية، هل يمكن أن يدخل يده مرة ثانية في الجحر نفسه؟ ما يمكن، وهكذا، إذا ذهبت إلى مكان وجدت فيه ما يسوؤك، هذا لا تعد إليه مرة ثانية، وجدت فيه ما يعوقك عن خير الدنيا والآخرة لا ترجع إليه مرة ثانية، فينبغي أن يكون المؤمن كيّساً فطناً حذراً غاية الحذر، ما هو يستدرج مرة ويقع في ورطة ثم يستدرج ثانية بنفس الأسلوب ونفس الطريقة ويوافق ويروح ويقع في هلكة، ويستدرج ثالثة هذا تغفيل، فعلى المسلم أن يكون فطناً لهذه الأمور، ويحرص على ما ينفعه.

الحديث السبعون: عن أبي ذر الغِفاري -رضي الله عنه- قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ (‏(‏يا أبا ذَرٍّ، لا عقل كالتدبير، ولا وَرَع كالكفّ، ولا حَسَبَ كحُسْن الخلق‏))‏ [رواه البيهقي في شعب الإيمان]‏.

وهذا أيضاً حديث أبي ذر جندب بن جنادة حديث فيه كلام لأهل العلم والمرجح ضعفه أيضاً، ((لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق)) يعني جمل أشبه ما تكون بالحكم؛ لأنه ضعيف مرفوعاً إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، لا عقل كالتدبير، التدبير التخطيط، الآن ما هو على مستوى الدول يقولون: التخطيط أساس التنمية، الإنسان إذا كان موظفاً ومرتبه مناسب متوسط قل: أسرة متوسطة راتبهم خمسة آلاف، إذا رتبت ودبرت هذا الراتب، وقسمت على أيام الشهر في يوم كذا، ميزانية، مثل ميزانية الدولة تجده يستمر إلى آخر الشهر بدون حرج؛ لكن بعض الناس يطلع راتبه اليوم ما تغاب شمس اليوم ما عنده من شيء، ويستمر طول الشهر في حكم الفقراء المعدمين، هل هذا من العقل؟ لا عقل كالتدبير هذه حكمة، فعلى الإنسان أن يوازن أموره، يوضب أموره، يقسم أموره، ويحتاط لنفسه، ويجعل لنوائبه ولضيوفه شيئاً يدخره، ولا يقصر على نفسه ولا يبخل ولا يشح، {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [(9) سورة الحشر] فالناس إما إفراط وإما تفريط، بعض الناس وهذه حاصلة واقعة توفي شخص مدرس، درس أربعين سنة من يوم كذا تاريخ كذا إلى وفاته فوجدت رواتبه من أول شهر، راتب كل شهر مربوط بحبل، كل شهر إلى وفاته، بدون نقص ولا هللة في علب كبيرة مكتوب على كل شهر شهره ويدفن في البيت، يوم توفي والله ما نقص شيء أبد، هل هذا تدبير؟ يعيش يتكفف الناس ويسألهم ولا أسرة، ولا تزوج وعايش في بيت حالته حالة، لا كهرب ولا ماء، ما في عنده شيء، والرواتب كل راتب بحبل مكتوب شهر كذا وفي العلبة، ولما توفي وجدوه، يرثه إخوانه وجدوا الرواتب كلها موجودة، ووجدوا عنده هناك عادات إذا تزوج في الأسرة بنت مثلاً يهدى إلى عمها مشلح، بشت، عباءة، ووجدوا هذه البشوت بشناط مركومة أكلتها الأرضة، بعدد بنات الأخوة، هل هذا يقبله عقل؟ بل هل هذا يتصوره عقل؟ وبالمقابل الثاني: الذي ما تغاب الشمس وعنده من راتبه ريال، ولذلك لا بد من التدبير، لا بد من التنظيم، ولا أفضل من التوجيه الإلهي {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [(29) سورة الإسراء] ملوم كل يلومك، زملاء اثنين على طرفي نقيض، واحد مبذر وواحد شحيح، المبذر صحيح أنه يستأنس إذا طلع الراتب الأيام اللي حوله، والثاني: صاكٍ على نفسه هذا الشحيح يقول لزميله: والله أنا غابطك مستأنس ومبسوط لا جيت تتسلف تقترض والله أني أرحمك، صحيح هذا واقع كثير من الناس، إما كذا وإما كذا، لكن قلة من الناس الذين لديهم العقل المدبر، تجد أمورهم ماشية، يعني إلى آخر الشهر ما عليه نقص، قد لا يوفر شيء ما يخالف؛ لكن ما يروح يسأل الناس.

((لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف)) لا ورع كالكف، رأيت هذه المادة تدري تأخذها تتركها، هذا جاءك في مسير فيه اسمك، وفيه دارهم مصروفة لك، شاك فيها هل أنت بالفعل عملت مقابل هذا المصروف أو لم تعمل؟ الورع أنك تترك، تكف عن هذا، ولا تؤول نفسك، وتقول: جاء من غير طلب ولا استشراف ولا شيء، هذا غير؛ لأن هذا الذي يأتي في مسير باسمك في مقابل عمل هو مشروط بهذا العمل، لا تقول: جاءني من غير طلب ولا استشراف، لا، هذا يختلف تماماً؛ لأنه مقرون بهذا العمل، فإن كنت قمت بهذا العمل تستحق وإلا فلا، وحينئذٍ الورع الكف.

((ولا حسب كحسن الخلق)) هذا الحسب، هذا الذي يمكن أن يمدح به الشخص، لا يمدح بأنه ابن فلان أو من القبيلة الفلانية أو العلانية وهو ناقص، إنما يمدح بحسن خلقه، وحسن تعامله مع الناس، احترامه للكبار، رحمته للصغار، إنزال الناس منازلهم، تعاملهم مع الناس على قدر عقولهم ومستوياتهم، هذا لا شك أنه هو الذي يمدح به الشخص.

الحديث الحادي والسبعون: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء رجل، فقال‏:‏ يا رسول الله، أوصني‏.‏ فقال‏:‏ ((لا تغضب‏)) ثم ردَّدَ مراراً‏،‏ فقال‏:‏ ((لا تغضب‏))[رواه البخاري]‏.

الغضب خلق ذميم يحمل صاحبه على التصرفات التي إذا عاد إلى رشده ندم عليها، وكم من شخص ملكه الغضب فتصرف تصرفاً أوقعه في حرجٍ طيل حياته، تكلم على شخص بكلمة، اعتدى على آخر بضرب، طلق زوجته، أفسد ماله بسبب الغضب، هذه النصيحة الغالية من النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تغضب)) ثم ردده مراراً أوصني فقال: ((لا تغضب)) أوصني يا رسول الله، كأنه ما اقتنع بهذه الوصية، يعني لا تغضب وش غيرها؟ فقال: ((لا تغضب)) [رواه البخاري] لأن الإنسان إذا غضب لا شك أنه يفقد التوازن، ويتصرف تصرف يلام عليه، وقد يتصرف تصرفاً يودي بحياته، فما وجد القتل المقتضي للقصاص إلا بسبب الغضب، ما تجد أحد يقتل آخر وهو يضحك، ما يمكن؛ لكن في حال الغضب وحضور الشيطان يحصل القتل، وقل مثل هذا في الاعتداء بالضرب وغيره، فالغضب خلق ذميم، وصفة قبيحة تجر على صاحبها، أو تجر صاحبها إلى ما لا تحمد عقباه؛ لكن قد يقول قائل: أنا جبلت على هذا ونلاحظ من الناس من هو سريع الغضب؛ لكن عليه أن يكظم، والخلق بالتخلق، والصبر بالتصبر، فإذا جاهد نفسه على هذا أعانه الله -جل وعلا-، والغرائز كلها منها: ما هو جبلي مفطور عليه الشخص لا يستطيع أن يتنصل منه وهو قسم منها كبير مكتسب بالتخلق والتطبع، والله -جل وعلا- يعين الشخص إذا لجأ إليه بصدق.

الحديث الثاني والسبعون: عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر)) فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً فقال: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس)) [رواه مسلم].

وهذا أيضاً خلق ذميم، مشين، وهو الكبر نسأل الله العافية، حذر منه النبي -عليه الصلاة والسلام- أشد التحذير، ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر)) وهذا من نصوص الوعيد، لا شك أن هذا وعيد شديد بالنسبة لمن داخل قلبه شيء من الكبر، ولا شك أن الكبر قد يصل بالشخص إلى أن يرد الحق، ويبطر الحق عناداً ومحادةً، وحينئذٍ يكون الحديث على بابه، لا يدخل الجنة مثل هذا، ومن الكبر ما هو دون ذلك يخالط قلب الإنسان ويحتقر الناس؛ لكنه لا يصل إلى حدٍ يبطر الحق فيرده بالكلية، هذا أمره أقل مما سبق، وشأنه عظيم أيضاً؛ لأن احتقار الناس يتضمن العجب والغرور، الإعجاب بالنفس، وهذه خصلة ذميمة، وأثره على دين العبد بالغ وكبير.

والعجب فاحذره إن العجب مجترفٌ

 

أعمال صاحبه في سيله العرمِ

العجب شأنه كبير، ومن لازم العجب بالنفس احتقار الناس، ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر)) نسأل الله السلامة والعافية، وعموماً الناس كلهم قاطبة يمقتون المتكبر، ولا يطيقون رؤيته، ولا مجالسته، فقال رجل: "إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة" لا شك أن مثل هذا قد يحمل بعض النفوس الدنيئة على الكبر، لبس ثوب حسن وإلا لبس بشت جديد وإلا ركب سيارة فارهة يحتقر الناس، هذا نوع من الكبر؛ لكن قد يلبس ثوباً حسناً ونعلاً حسنة، وبشتاً جميلاً، وسيارة فارهة، وقصراً منيفاً، ومع ذلك لا يتكبر على الناس، ولا يغمط الناس حقوقهم، هذا نعمة المال الصالح للرجل الصالح، ((إن الله جميل يحب الجمال)) فالإخبار عن الله -جل وعلا- بأنه جميل، وبأنه طيب، وبأنه وتر، هل من مقتضى ذلك أن تثبت هذه أسماء لله -جل وعلا-؟ يقال: الطيب؟ الوتر؟ الجميل؟ يعني من الأسماء الحسنى أو نقول: هذه إخبار، ودائرة الإخبار أوسع من أن يثبت فيها وصفاً فضلاً عن كونه يثبت فيها اسم، المسألة من أهل العلم من أثبت هذه الأسماء؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أضافها إلى الله -جل وعلا-، وأثبت من أسمائه الطيب، ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)) فأثبتوه من أسمائه؛ لكن الذي يظهر أنها أخبار عن الله -جل وعلا-، ودائرة الإخبار أوسع، ((الكبر بطر الحق، وغمط الناس)) احتقار الناس، ويلزم من احتقارهم التعدي عليهم بأخذ أموالهم، والاستطالة في أعراضهم وغير ذلك.

الحديث الثالث والسبعون: عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه)) [رواه مسلم].

((قد أفلح من أسلم)) الفلاح هذه الكلمة المفردة لا يوجد غيرها يقوم مقامها ويعبر عنها بكلمةٍ واحدة أبداً؛ لأن الفلاح هو الجامع لخيري الدنيا والآخرة، الأمر الذي يجمع بين خيري الدنيا والآخرة هو الفلاح، كما أنه لا يوجد لكلمةٍ النصيحة بديل تقوم مقامها بكلمةٍ واحدة، كما قرر ذلك أهل العلم، هذا الفلاح هو الجمع بين خيري الدنيا والآخرة ((قد أفلح من أسلم)) والإسلام رأس الأمر؛ لأنه مهما بلغ من أمور الدنيا وحرم الإسلام هذا لن يفلح، ((قد أفلح من أسلم)) يعني انقاد لله -جل وعلا- ظاهراً وباطناً، ودان بالدين الذي لا يرضى الله -جل وعلا- سواه، وهو الإسلام، ((ورزق كفافاً)) يفلح من أسلم بحيث يكون مآله إلى مقر المفلحين {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [(1) سورة المؤمنون] ومقرهم الجنة، فإذا أسلم صار مقره الجنة، ((ورزق كفافاً)) يعني في الدنيا، كفافاً من غير زيادة ولا نقصان، لا يزيد في أموال تشغله، ولا ينقص رزقه عن قدر الحاجة، بحيث يحتاج إلى ما في أيدي الناس، إذا رزق الكفاف الذي يكفي، وبعض الناس عنده من الأموال ما يكفيه، ويكفي نسله إلى قيام الساعة، عنده ملايين، ومع ذلكم يلهث وراءها، وراء الدنيا يبحث عن أخرى، كثير من الناس أموالهم أرقام لا حقيقة لها، لا حقيقة لها أرقام إيش بيستفيد من القدر الزائد عن حاجته؟ إلا إذا سلط هذا المال على هلكته كما سيأتي، أما إذا كان القصد ما يقيم أوده، ويعينه على تحقيق الهدف وهو العبودية، ما زاد على ذلك وبال على صاحبه إلا ما سيأتي أن يقول به: هكذا وهكذا يصرفه.

((وقنعه الله بما آتاه)) رجل يكفيه في الشهر خمسة آلاف، ودخله خمسة آلاف بحيث إذا انتهى الشهر انتهى من غير زيادة ولا نقصان، ثم الشهر الثاني كذلك، والثالث كذلك؛ لكن إن كان يكفيه من غير زيادة ولا نقصان بحيث لا يحتاج إلى الناس؛ لكن الإشكال إذا كان يتبع نفسه أموال الآخرين، هذا عنده مليون، هذا عنده مليونين، وهذا عنده عشرة، وفلان عنده كذا، إذا لم يقنع بما آتاه الله -جل وعلا- هذا فقير؛ لأن الغنى غنا القلب، إذا أودع هذا القلب الغنى وأحس بهذه النعمة يرتاح، وإلا ثم ماذا؟ لو كان من أغنى الناس ويتلهف، أعطي وادي من ذهب ويريد ثاني وثالث؟ وبعدين؟ هذا يستمر فقيراً؛ لأنه يسعى وراء هذه الدنيا ويلهث كلهث الفقير إذاً ما الفرق؟ لا فرق؛ لكن إذا قنع بما آتاه الله هنا يكمل الغنى؛ لأن الغنى غنى القلب.

الحديث الرابع والسبعون: عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- قال‏:‏ ‏"‏جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال‏:‏ يا رسول الله، عِظْني وأوجز‏،‏ فقال‏:‏ ((إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودِّع، ولا تَكَلم بكلام تعذر منه غداً، واجمع اليأس مما في أيدي الناس‏)‏) [رواه أحمد]‏.

هذا يطلب موعظة مختصرة من النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: ((إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع)) صل صلاة مودع، والمودع يقبل على صلاته، لا شك أنه إذا عرف أن هذه الصلاة هي آخر ما يمثل بين يدي ربه -جل وعلا- لا شك أنه سوف يتقنها ويحسنها؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فإذا صلى صلاة مودع واستحضر أنه لن يعود إلى الصلاة مرةً أخرى لا شك أن ذلك يبعثه على إحسانها وإتقانها، ((ولا تتكلم بكلامٍ تعتذر منه غداً)) يعني حاسب نفسك، وتأكد من سلامة الكلام الذي تنطق به، بحيث لا تتكلم بكلامٍ لا تحسب له حساب، ثم تضطر غداً إلى أن تعتذر منه، وهذا معروف أنه في الكلام الباطل هو الذي يعتذر منه، وأما الكلام الحق فلا عذر منه، وقل مثل هذا فيما يكتب.

فلا تكتب بكفك غير شيءٍ    

 

يسرك في القيامة أن تراه

لا تتكلم بكلامٍ إلا أن تحب أن تراه في صحفك، ما تتكلم بكلام ثم إذا دعيت ونوقشت في الحساب قلت: هذا الكلام زلت لسان، هذا كذا ما ينفع، فحاسب نفسك قبل أن تحاسب، ((وأجمع اليأس مما في أيدي الناس)) علق قلبك بربك، وثق به، ولا تلتف إلى ما في أيدي الناس، نعم قد تقول: أن الله -جل وعلا- ما ينزل دراهم وإلا ينزل قوت، ما في شيء مما في أيدي الناس، هؤلاء الناس آلات، والرزق بيد الله -جل وعلا-، هو الذي يصرف القلوب لتعطيك ما تعطيك، أو تكون سبباً في رزقك بالتعامل معها، فالله -جل وعلا- هو المعطي، نعم هؤلاء أسباب، هذا سبب أوصل الله -جل وعلا- إليك هذا المال، وهذا الطعام، وهذا الكساء، وهذا الغداء بسبب هذا الرجل، وكثير من المحتاجين إذا دخل على تاجر فلم يعطه شيئاً لامه، الله -جل وعلا- هو المعطي، الجأ إلى ربك بصدق وسوف يغنيك عن فلان وفلان.

الحديث الخامس والسبعون: عن مصعب بن سعد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ (‏(‏هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم‏؟‏‏)‏) [رواه البخاري]‏.‏

هذا الحديث: ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟)) هذا الحديث الصحيح يدل على أن الرزق والنصر الذي يتصوره الأغنياء الأقوياء أنهم هم السبب المؤثر فيه، الحديث على عكس ما يتصورون، وكم من شخص ابتلي بالفقر مدة طويلة فرزق مولوداً معوقاً فانصب الرزق بسببه، تجده طيلة عمره قوي البنية، شديد البأس، يضرب في الأسواق، يحضر الأسواق مع أول الناس ولا ينصرف إلا آخرهم، ومع ذلك يعيش فقيراً، ثم بعد ذلك يرزق بمعتوه أو أبله أو مقعد أو مشلول ثم يرزق، ((هل ترزقون إلا بضعفائكم؟)) فكثير من الناس الآن يعاني من كونه يعول أسرة ضعفاء فيهم كثرة، ويضيق بهم ذرعاً، عنده أسر، وعنده كذا وكذا، ويحتاجون إلى أموال، يا أخي ما تدري وش وضعك لولا هذه الأسرة، يمكن أن الله -جل وعلا- ما ساق لك هذه الأرزاق إلا بسببهم، وكثير من الناس يضيق ذرعاً إذا ولد له ولد مشوه، وكثير من الناس والنساء على وجه الخصوص في حال الحمل تسأل عن الإجهاض إذا تبين لدى الأطباء أن الولد مشوه أو معوق أو ناقص الخلقة، لا يجوز بحال الاعتداء عليه، هو مصيبة من المصائب عليك الصبر والاحتساب، وأن تبذل كل ما تستطيع في إنقاذ حياته كغيره من الأسوياء، وأجرك عند الله -جل وعلا- عظيم، وقد ترزق بسببه، وأيضاً هؤلاء الضعفاء الذين ينظر إليهم الناس نظرة ازدراء، وأن وجودهم في المجتمع وبال، يمكن النصر يكون بسببهم؛ لأن التاجر والقوي، قوي البنية كثيراً ما يصابون بالإعجاب، وينسبون بعض النتائج إلى قوتهم، إلى حولهم وطولهم، لا، لا، ما تدري، لو يصدقون هذا الحديث ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟)) نعم الضعيف قريب من الله -جل وعلا-؛ لأنه لا يعتد بقوة، ولا يأوي إلى مال ولا شيء، إنما علاقته وارتباطه بربه، ومثل هذا في الغالب يكون قلبه سليماً بخلاف من دخله غرور القوة والغنى، والغنى في الغالب أنه يطغي صاحبه، وكذلك القوة، ولذا يسأل الإنسان ربه صحة لكن لا تلهيه عن شكر الله -جل وعلا-، وعن عبادته، ويسأله غنى لكن لا يطغيه عن معرفة قدر نفسه، والله المستعان، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"