شرح متن الورقات في أصول الفقه (01)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فلا يخفى ما ورد من النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- في مدح العلم ورفع أهله الدرجات في الدنيا والآخرة، والمراد بالعلم الممدوح في النصوص الشرعية هو العلم الشرعي المورث لخشية الله -عز وجل-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر].

هذا هو العلم الممدوح المذكور في نصوص الوحيين، الذي يورث الخشية لله -عز وجل- والذي يبعث على العمل الصالح، فالعلم الذي لا يبعث على العمل في الحقيقة ليس بعلم، فالعلم هو ما أورث العمل الصالح الموصل إلى رضوان الله -عز وجل- هذا هو العلم الممدوح في النصوص، ومن الأمثلة على ذلك: ما جاء في سورة الزمر من قوله -جل وعلا-: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}، بعد ذلكم قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [(9) سورة الزمر]، فدل على أن أهل العلم هم الذين يتقون الله -سبحانه وتعالى- ويخشونه ويعملون بعلمهم، أما الذي لا يعمل بما علم هذا في الحقيقة ليس من أهل العلم، وإن حصل على شيءٍ من العلوم والمعارف، لكنه ليس بعالم، ولذا جاء في الحديث -وفيه كلام طويل لأهل العلم-: ((يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله))، فالعدول هم الذين يحملون العلم الشرعي، العدول الذين يعملون بالعلم هم العلماء، هم الذين يحملون العلم، وفي هذا دليل على أن ما يحمله بعض الفساق من العلوم والمعارف لا يسمى علماً على الحقيقة.

إذا عرفنا هذا فالعلم الممدوح المذكور مداره على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، مداره على نصوص الوحيين الكتاب والسنة، فمنهما يؤخذ وعليهما المعول في تحصيله، وقد مضى الجيل الأول من الصحابة على ذلك فاقتصروا على نصوص الوحيين؛ لأنهم ليسو بحاجة إلى غيرهما؛ الكتاب عربي والرسول -عليه الصلاة والسلام- عربي فليسو بحاجة إلى تعلم العربية.

عاصروا النبي وعايشوه -عليه الصلاة والسلام- وعرفوا مقاصده وفهموا عنه ما أنزل عليه وما بيّنه في سنته -عليه الصلاة والسلام- فليسوا بحاجة إلى قواعد وضوابط تعينهم على فهم الكتاب والسنة، هي موجودة حاضرة في أذهانهم، لكنهم ليسو بحاجة إلى تدوين لها؛ لأنهم على علم واطلاع بها.

ومن أراد أن يعرف قدر السلف وعلم السلف وفضل علمهم على الخلف فليقرأ في رسالة الحافظ ابن رجب -رحمة الله عليه- التي أسماها: (فضل علم السلف على الخلف).

وإذا ارتفعت نفس الإنسان وعلت به عن قدره فليقرأ في (مقدمة موضح أوهام الجمع والتفريق) للخطيب؛ ليرى قدره ويعرف أقدار السلف.

أقول هذا؛ لئلا يقول قائل: هذه العلوم حادثة، وقد قيل، والتصنيف في هذه الأمور أمر طارئ حادث بعد عصر السلف.

أقول السلف ليسو بحاجة إلى مثل هذه القواعد وهذه الضوابط التي تعينهم على فهم الكتاب والسنة، فليسو بحاجة إلى مؤلفات في العربية؛ لأنهم عرب خلص أقحاح لا يحتاجون إلى شيءٍ من ذلك، لكن لما اتسعت رقعة البلاد ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وخالط العربَ غيرُهم من الأمم احتاجوا أن يؤلفوا في العربية، وفي علوم الآلة كلها، وإن شئت فقل: علوم الوسائل التي منها ما نحن بصدد شرحه وهو أصول الفقه.

وعلى هذا إذا عرفنا أن هذه العلوم التي يسميها أهل العلم علوم الآلة التي هي مجرد وسائل لفهم المقاصد من نصوص الوحيين فلا ينبغي لطالب العلم أن يصرف كلَّ وقته لهذه العلوم، بل عليه -لا أقول ينبغي- بل عليه أن يأخذ منها بقدر ما يحتاج إليه في فهم الكتاب والسنة، وليس معنى هذا التقليل من شأن هذه العلوم، القدر الذي يتوقف عليه فهم الكتاب والسنة أمر لا بد منه سواء كان في علوم العربية، أو في أصول الفقه أو في علوم الحديث، أو في قواعد التفسير وعلومه، وغير هذه العلوم مما يحتاجه من يعاني نصوص الوحيين.

ومع هذا التوجيه وعدم إضاعة جميع الوقت في تحصيل هذه الوسائل..؛ لأن من الناس من يستهويه علم النحو مثلاً أو علم أصول الفقه فتجده في جميع مراحل عمره، في شبابه، في كهولته، في شيخوخته، إلى أن يموت وهو يقرأ ويقرئ ويدرس ويؤلف في النحو فقط.

إذا عرفنا أن هذا وسيلة لفهم الكتاب والسنة فكيف نقدمه على الغاية والمقصد، ومثله تجد مثلا ًالشخص يتدرج في علم النحو ويقرأ الأجرومية ثم القطر ثم الألفية ثم يطلع إلى ما فوق ذلك من شروح الألفية والمفصل وشروحه وكتاب سيبويه ثم ينتهي عمره على لا شيء، والنحو كما قال أهل العلم: كالملح في الطعام، معناه إذا زاد ضرَّ، لكنه لا بد منه.

ومثله أصول الفقه، تجد بعض الناس يقرأ الورقات ويقرأ شروح الورقات وما نظم فيها، وشروح المنظومات، ثم يطلع إلى مختصر التحرير أو التحرير مع شرحه، ثم الروضة مع شروحها ثم المستصفى ثم البحر المحيط وغيره ويفني عمره في ذلك، فلا إفراط ولا تفريط.

على طالب بالعلم أن يكون متوسطاً في أموره، لا يهمل هذه العلوم بالكلية، كما سمعنا بعض الدعاوى التي تدعو إلى ذلك فيقلل من شأن هذه العلوم، وجدت دعاوى تقلل من شأن العربية، ما أدري كيف يفهم الإنسان الكتاب والسنة وهو لا يعرف العربية، وجدت دعاوى تقلل من شأن أصول الفقه، وهو علم حادث ودخله ما دخله من علم الكلام، نعم، هو علم حادث أوجدته الحاجة، لكن أصوله حاضرة في أذهان الصحابة والتابعين، قد يقول قائل: أصول الفقه لو كان الناس بحاجةٍ إليه استغنى عنه الصحابة والتابعون، ولم يؤلف فيه حتى جاء الإمام الشافعي على رأس المائتين فألف -فكتب الرسالة- إذن هو حادث، نقول: لا، كان معلوم عند أهل العلم من الصحابة والتابعين في أذهانهم، لما وجدت الحاجة ودعت الضرورة إلى التأليف ألف فيه، ومثله الدعاوى التي تقال في علوم الحديث مثلاً، وتدعو إلى نبذ القواعد وغير ذلك، وهذا له مجال آخر.

ومثله أيضاً التقليل من شأن كتب الفقه، والاجتهاد والمطالبة بالاجتهاد والتفقه من الكتاب والسنة رأساً –مباشرةً- لأنهما الأصل، والأمر كذلك هما الأصل، لكن متى يتأهل الإنسان للاجتهاد؟

وهذا الكلام مبسوط في موضعٍ آخر والدورة مدتها قليلة، والإخوان يشيرون إلى أن إكمال الكتاب أمر مفضل عندهم، وإن كان على حساب نوعية الشرح؛ لأن هناك مسائل تحتاج إلى بسط، وتحتاج إلى توضيح وزيادة في ضرب الأمثلة، لكن كما أشار الإخوان لا بد من تكميل الكتاب؛ لأن من الإخوة ممن حضر من خارج البلاد، ولا يتسنى لهم حضور مجالس أخرى لإكمال الكتاب، وعلى كل حال سوف يكون الشرح متوسطاً -إن شاء الله- بقدر ما يحل إشكالات الكتاب ورموزه.

علم الأصول علم في غاية الأهمية، كيف يعرف الطالب الذي ينتسب لطلب العلم الشرعي، وكيف يفهم من كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- ما يخاطب به من التكاليف -من الأوامر والنواهي- وهو لا يعرف العام والخاص، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والمنطوق والمفهوم وغير ذلك من مباحث أهل العلم؟

فهذا العلم لا غنى لطالب العلم عنه البتة، يقول الشوكاني في مقدمة كتابه إرشاد الفحول: "وبعد: فإن علم أصول الفقه لما كان هو العلم الذي يأوي إليه الأعلام، والملجأ الذي يلجأ إليه عند تحرير المسائل وتقرير الدلائل في غالب الأحكام، وكانت مسائله المقررة وقواعده المحررة تؤخذ مسلمةً عند كثيرٍ من الناظرين كما تراه في مباحث الباحثين، وتصانيف المصنفين، فإن أحدهم إذا استشهد لما قاله بكلمةٍ من كلام أهل الأصول أذعن له المنازعون وإن كانوا من الفحول؛ لاعتقادهم أن مسائل هذا الفن وقواعده مؤسسةٌ على الحق الحقيق بالقبول، مربوطةٌ بأدلةٍ علميةٍ من المعقول والمنقول، تقصر عن القدح في شيءٍ منها".

الشوكاني يشيد بهذا العلم، ويشير إلى ما دخله مما كدره من مباحث علم الكلام، وأشار إلى أنه نقّح هذا العلم وهذّبه وحرّره، ولذا سمى كتابه: (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول).

وعلم الأصول لا إشكال في أنه دخله كثير من مباحث علم الكلام مما طالِب العلم في غنية عنه، وجد محاولات لتنقية هذا العلم وتصفيته من هذه الشوائب، لكن يبقى أن أكثر كتب الأصول مشتملة على كثيرٍ من المباحث التي طالب العلم ليس بحاجةٍ إليها، بل صارت سبباً في صد كثيرٍ من طلاب العلم عن تحصيل هذا العلم؛ لأنها أمور معقدة والحاجة إليها ليست داعية، وهذا يلحق بما أشرنا إليه سابقاً أن طالب العلم ينبغي أن يكون متوسطاً في الأخذ من هذا العلم، يأخذ ما يحتاج إليه ويعتني به بقدر الحاجة، وما عدا ذلك مما اشتملت عليه مطولات هذا الفن يبقى لأناس..، لطائفةٍ مخصوصة تعتني بهذا العلم لبيانه وإيضاحه.

إذا عرفنا هذا فالجادة المطروقة عند أهل العلم البداءة في العلوم كلها بالمختصرات؛ لأن عقل الناشئة لا يحتمل المطولات، وجاء عن ابن عباس في بيان معنى الرباني: أنه هو الذي يعلم الناس بصغار العلم قبل كباره؛ ليتمكن الطالب المبتدئ من حفظ هذه المختصرات وفهمها، ثم بعد ذلك يرتقي إلى ما بعدها مما يناسب الطبقة الثانية من طبقات المتعلمين، وهكذا يرتقي بعد ذلك إلى ما يناسب الطبقة الثالثة وهكذا.

فأهل العلم قسموا المتعلمين إلى طبقات: المبتدئين، المتوسطين، المنتهين المحصلين، ولكل طبقةٍ كتب في كل فن، والشوكاني له كتاب في آداب الطلب وطبقات المتعلمين أشار إلى شيءٍ من ذلك.

وهذه المتون وهذا التدرج أمر عرفي اصطلاحي يختلف في كل بلدٍ عن البلد الآخر، فكل أهل بلد لهم عناية بكتب خاصة، كما أن لأهل كل مذهب عناية بكتب خاصة دون غيرها.

من أجود ما ألف للمبتدئين في هذا الفن: (كتاب الورقات) -الذي نحن بصدد شرحه- لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني الشافعي المتوفى سنة ثمان وسبعين وأربعمائة.

قد يقول قائل: إن قراءتنا لمثل هذا الكتاب ترويج لكتب المبتدعة، الجويني من رؤوس الأشعرية -كما هو معروف- ومن المنظرين في المذهب والقائمين عليه -من أئمتهم- لكنه رجع عن مذهبه، والكتاب في الجملة خالٍ عن البدعة، وعلى طالب العلم أن يكون منصفاً في أقواله وأحكامه على الناس، فالحق يقبل ممن جاء به، نعم، إذا وجد نظيره لشخصٍ لم يتلبس بشيءٍ من المخالفات هذا هو الأصل، كما أن الأصل في الرواية أن تكون عن سنيٍّ لم يتلبس ببدعة، لكن إذا لم يوجد هذا الحديث وهذا الخبر إلا عند من رمي بنوعٍ من البدعة، فتحصيل مصلحة رواية هذا الخبر وحفظه للأمة مقدمة على هجر هذا المبتدع وترك الرواية عنه، وكتب السنة -بما في ذلك الصحيحين- طافحة بالرواية عن المبتدعة، فالحق يقبل ممن جاء به، وتفصيل رواية المبتدع وقبولها أو ردها مبسوط في كتب علوم الحديث، والذي دعانا إلى ذلك أن مؤلف هذا الكتاب كان متلبساً ببدعة.

وبعض الإخوان -وهذا من شدة حرصهم وغيرتهم على السنة ولا يظن بهم إلا خيراً- يرى أن يهجر كل ما جاء عن المبتدعة؛ ولهم في ذلك سلف، الإمام مالك -رحمة الله عليه- لا يجيز الرواية عن مبتدعٍ البتّة؛ إماتة لذكره وإخماداً لبدعته، لكن واقع كتب السنة كصحيح البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنة المعتمدة خُرِّجَ فيها لكثير من المبتدعة؛ وذكرنا أن تحصيل الفائدة المرتبة على الخبر الذي جاءنا من طريق هذا المبتدع -الذي هو ليس من الغلاة في بدعته ولا يدعو إليها- مقدم على مصلحة إماتته وإخماد بدعته.

هذا الكتاب المختصر الذي هو بقدر الكف في خمس ورقات بعد تأليفه اشتهر وانتشر في أقطار الأرض شرقاً وغرباً، وعني به العلماء، وشرحه واعتنى به العدد الكبير من أهل العلم، شرحوه ونظموه وحفظوه، وجعلوه الدرجة الأولى في سلم الصعود إلى هذا العلم.

فنذكر ممن شرحه ما تيسر: فشرحه جلال الدين المحلي المتوفى سنة أربع وستين وثمانمائة، شرحاً مختصراً جداً؛ اقتصر فيه على تحليل بعض الألفاظ، وهذا الشرح أيضاً صار له من القبول ما لا يتصور؛ فعني به العلماء فشرحوه، شرح من قِبل جمعٍ كثير من أهل العلم، شرحه ابن القاسم العبادي في شرحين كبير وصغير وكلاهما مطبوع، وشرحه الرعيني المعروف بالحطاب في شرحٍ متوسط، وعليه حاشية، على شرح الرعيني حاشية للشيخ محمد بن حسين الهدة السوسي التونسي، وهذا شرح مطبوع في تونس قديماً، ولعل كثير من طلاب العلم لا يعرفه، وممن شرَح شرْح المحلي علي بن أحمد التجاري، وشرحه أيضاً في حاشيةٍ مبسّطة الشيخ أحمد بن محمد الدمياطي ومحمد بن عبادة العدوي المالكي، وهناك حاشية لأحد المعاصرين أسماها: (النفحات على شرح الورقات) لأحمد بن عبد اللطيف الخطيب، وهناك حاشية أخرى لمعاصرٍ أخر تسمى: (الثمرات على الورقات) تأليف الخضر بن محمد اللجمي، هذه كلها شروح وحواشي على شرح المحلي.

ممن شرح الأصل شهاب الدين أبو العباس أحمد بن حمزة الرملي، واسمه (غاية المأمول في شرح ورقات الأصول)، وشرحه أيضاً كمال الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن إمام الكاملية، وشرحه أيضاً أحمد بن عمر بن زكريا التلمساني واسم كتابه: (غاية المرام في شرح مقدمة الإمام).

من شروح المعاصرين شرح جيد في أسلوبٍ مناسب وواضح للمتعلمين، الشرح للشيخ عبد الله بن صالح الفوزان، شرح جيد مناسب ومتوسط ليس بالطويل الممل ولا بالمختصر القصير الاختصار المخل، ينبغي لطالب العلم أن يعتني به.

ممن نظم الورقات الشيخ شرف الدين يحيى العمريطي نظماً سهلاً سلساً، جاء في مطلع منظومته قوله:

قال الفقير الشرف العمريطي
الحمد لله الذي قد أظهرا

على لسان الشافعي وهونا
وتابعته الناس حتى صار
وخير كتبه الصغارِ ما سمي
وقد سئلت مدةً في نظمه
فلم أجد مما سئلت بدّا
من ربنا التوفيق للصواب

 

ذو العجز والتقصير والتفريط
علم الأصول للورى وأشهرا
فهو الذي له ابتداءً دوّنا
كتباً صغار الحجم أو كبارا
بالورقات للإمام الحرمي
مسهلاً لحفظه وفهمه

وقد شرعت فيه مستمدا
والنفع في الدارين بالكتاب

هذا النظم نظم سهل وسلس يحفظ به هذا المتن؛ لأن النظم في الغالب هو الذي يثبت بخلاف النثر، والعمريطي تصدى لنظم كثير من المتون، نظم الأجرومية بنظمٍ أيضاً كذلك نزر سهل سلس، وهذا النظم أيضاً مشروح، شرحه شخص يدعى عبد الحميد قدس من أهل مكة.

وقبل البدء بشرح الكتاب نذكر المبادئ العشرة التي جرت العادة بذكرها قبل البدء في كل فن؛ ليتصور هذا الفن ويعرف، وتعرف أهميته وقيمته، وهذه المبادئ يجمعها قول الناظم:

إن مبادئ كل علم عشرة
ونسبة وفضله والواضع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى

 

الحد والموضوع ثم الثمرة
والاسم الاستمداد حكم الشارع
ومن درى الجميع حاز الشرفا

 فأول هذه المبادئ الحد: والمراد بالحد التعريف وتعريف هذا العلم سيأتي في كلام المصنف.

الموضوع –موضوع هذا العلم-: الأدلة الشرعية إجمالاً لا تفصيلاً، وكيفية الإفادة منها وحال المستفيد منها.

والثمرة من هذا العلم: القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة، فالذي يضبط هذا العلم ويتقن علم الأصول لا شك أنه يستطيع أن يتعامل مع النصوص الشرعية ويعرف كيف يستنبط منها الأحكام.

ونسبته إلى غيره من العلوم التباين؛ فهو علم مستقل من وجه، وإن تداخلت بعض مباحثه ومسائله في علومٍ أخرى كما سيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.

وفضله: كفضل غيره من علوم الشرعية التي جاء الحث على تعلمها وتعليمها في الكتاب والسنة؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.

وواضعه: الإمام محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله تعالى- في الرسالة –رسالته التي صنّفها في هذا العلم- وهي أيضاً تصلح أن تكون قاعدةً لكثيرٍ من مباحث علم..، علوم الحديث، وحكى الأسنوي وغيره الإجماع على ذلك، الإجماع على أن أول من صنف في الأصول الإمام الشافعي.

واسمه: علم أصول الفقه، اسم هذا العلم علم أصول الفقه، وهناك علم أصول الحديث، وعلم أصول الحديث يسمى مصطلح الحديث، ويسمى علوم الحديث، وهنا نقول: أصول الفقه، فهل نستطيع أن نقول: هذا علم مصطلح الفقه أو علم علوم الفقه، كما قلنا: علم مصطلح الحديث أو علم علوم الحديث؟؟

هذا العلم نظير لذلك العلم، سموه أصول الفقه، وهناك قالوا: أصول الحديث وعلوم الحديث ومصطلح الحديث، هل نستطيع أن نقول مصطلح الفقه؟ نسميه بمصطلح الفقه؟

العلماء قاطبةً اصطلحوا واتفقوا على هذه التسمية، بينما في العلم الآخر منهم من سماه مصطلح الحديث، ومنهم من قال: علوم الحديث، ومنهم من قال: علم دراية الحديث، أو علم الحديث درايةً، أو علوم الحديث، وغير ذلك من التسميات، لكن هنا قالوا: علم أصول الفقه، والمسألة اصطلاحية ولا مشاحاة في الاصطلاح، وإلا فهذا العلم نظير ذلك العلم.

لا مشاحّة في الاصطلاح: وهذه الكلمة يطلقها كثير من أهل العلم وهي بحاجة إلى قيد؛ فهناك من الاصطلاحات ما يشاحح صاحبه، وهناك من الاصطلاحات ما لا مشاحّة فيه، فإذا تضمّن الاصطلاح مخالفةً لما تقرر عند أهل أيِّ علمٍ من العلوم فإنه يشاحح فيه، إذا ترتب على هذا الاصطلاح مخالفة لنص شرعي، أو لأمرٍ مقرر عند أهل علمٍ من العلوم فإنه حينئذٍ يشاحح فيه.

لو قال قائل: أنا أصطلح لنفسي أن أسمي هذه الجهة الشمال..، أسمي الجنوب شمالاً، والشمال جنوب، نقول: لا مشاحة في الاصطلاح؟! أو أقول: السماء تحت والأرض فوق، وأبيّن في مقدمة الكتاب، نقول: لا مشاحة في الاصطلاح؟!

يشاحح في اصطلاحه، لكن لو قال: الشمال شمال والجنوب جنوب، لكن الناس، أو جمهور الناس على أن الشمال يوضع في رأس الخارطة، وأنا  أبى أقلب الخارطة أخلي الجنوب فوق والشمال تحت، نقول: لا مشاحة من الاصطلاح؟ هل يغير من الواقع شيئاً؟

ما يغير من الواقع شيئاً، يعني لو جعل الجنوب في الخارطة فوق، قلب الخارطة، صار الجنوب فوق والشمال تحت، نقول: لا مشاحة في الاصطلاح.

لو قال قائل: أنا أؤلف الفرائض وأسمي أخ الأب خالاً، الناس يسمونه عمَّاً وأنا أسميه خالاً؟ وأسمي أخَ الأم عمَّاً وإن سماه الناس خالاً، نقول: لا مشاحة في الاصطلاح؟!

يشاحح في اصطلاحه؛ لأن هذا يخالف النصوص الشرعية، يخالف ما تقرر في علم الفرائض، وغير ذلك من الولايات التي هي للعصبة دون ذوي الأرحام، هذا مخالف لما تقرر في الشرع، لو قال: أهل بلدي يسمون أبا الزوجة خالاً وأنا أسميه عمَّاً أو العكس، نقول: لا مشاحة في الاصطلاح؟ أبو الزوجة سواء سمي خالاً أو عماً فيه فرق؟ لا مشاحة في الاصطلاح.

ولذا لما قسم البغوي -رحمه الله تعالى- كتابه المصابيح إلى الصحاح والحسان نوزع في اصطلاحه؛ لأنه يخالف ما تقرر في علوم الحديث؛ لأن في السنن ما هو صحيح، وفي السنن ما هو ضعيف، وقاعدته أن ما كان في الصحيحين فهو من الصحاح، وما كان من السنن فهو من الحسان، فهذه القاعدة مما ينبغي تقييدها، فلا تطلق:

والبغوي قسم المصابحَ
أن الحسان ما رووه في السن

 

إلى الصحاح والحسان جانحَا
رد عليه بهما غير الحسن

فإذا خالف الاصطلاح ما تقرر شرعاً أو ما اتفق عليه أهل علم من العلوم فإنه يشاحح فيه.

استمداد هذا العلم: قالوا لثلاثة أشياء، في كتب الأصول يقولون: يستمد من اللغة العربية، وعلم الكلام، وتصور الأحكام، كيف يستمد من هذه العلوم؟ هم جعلوا علم الكلام من مصادر هذا العلم، من أي وجه؟ ما علاقة علم الكلام بعلم الأصول؟

الذين أقحموا علم الكلام في الأصول وملؤوا كتب الأصول بكثيرٍ من مباحث المنطق، بل بعضهم خصص المقدمة لعلم المنطق ليستعين بها على فهم ما سيأتي، وما سيرد في الكتاب من مباحث علم الكلام، هذا لا شك أنه أساء.

إذنً كيف يستمد علم الأصول من علم الكلام ونحن نقول: استمداده من علم التوحيد، ومن أي وجه يستمد علم الأصول من علم التوحيد؟

قالوا: لتوقف تصديق دلالة الأدلة الشرعية على معرفة الله -عز وجل- وعلى تصديق المبلغ عنه، وأيضاً يستمد هذا العلم من اللغة العربية؛ لأنها لغة الكتاب والسنة، فالاستدلال بهما يتوقف على فهم معانيهما، وبعض الناس يقلل من شأن اللغة العربية بالنسبة لطالب العلم الشرعي، وهو لا يعرف أن بعض المسائل التي اختلف فيها أهل العلم سبب الخلاف فيها الخلاف في إعرابها.

((ذكاة الجنين ذكاةُ أمه)): قال بعضهم: ((ذكاةُ الجنين ذكاةَ أمه)): تبعاً لتغير الإعراب تغير الحكم، فالذي يقول: ذكاةُ الجنين -وهم الأكثر- ذكاةُ أمه، يقول: ذكاةُ الجنين هي ذكاةُ أمه فلا يحتاج إلى تذكية، والذي يقول: ذكاةُ الجنين ذكاةَ أمه، يقول هو منصوب على نزع الخافض، فتكون ذكاته كذكاة أمه فلا بد من تذكيته، عند أصحاب القول الأول لا يحتاج إلى تذكية، إذا ذكيت أمه وخرج من بطنها ميتاً خلاص ذكاة أمه تكفي، والذين يقولون: ذكاةُ الجنين ذكاةَ أمه يقولون: لا بد من تذكيته كذكاة أمه، والمسألة معروفة.

من أهل العلم من يقول: إن من يلحن في النصوص فإنه يدخل في حديث من كذب، ((من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))، إذا قلت: إنما الأعمالَ بالنيات، هل قال الرسول -عليه الصلاة والسلام-: إنما الأعمالَ بالنيات أو تكون كذبت عليه حينئذٍ؟ لأنه قال: ((إنما الأعمالُ بالنيات))، وهكذا.

فشأن العربية في فهم نصوص الكتاب والسنة أمر لا يخفى على أحد، بل لا بد من العناية بعلم العربية؛ كي نفهم الكتاب والسنة.

مما يستمد..، أو يستمد أصول الفقه من الأحكام الشرعية، إيش معنى الأحكام الشرعية؟

هذا يريد رفع الصوت، وهذا يقول: صوتي ليس واضحاً.. مدري والله!

قالوا: مما يستمد منه علم الأصول الأحكام الشرعية، كيف يستمد الأصول من الفروع؟ كيف يستمد الأصول من الفروع؟

المراد أنه يستمد من تصور هذه الأحكام؛ ليتمكّن من إيضاح المسائل الأصولية بضرب الأمثلة الفرعية.

لا شك أن الاستمداد من هذه العلوم إنما ذكرها من ذكرها بعد أن نظر في واقع كتب الأصول، سبر كتب الأصول ونظر في واقعها وجدها مشتملة على هذه الأمور، لوجود الأمثلة من الأحكام الشرعية؛ لتوضيح المسائل الأصولية قالوا: إن الأصول مستمد من تصور هذه الأحكام.

لا شك أن الأصولي لا بد أن يكون على معرفة ودراية بكثيرٍ من المسائل الفرعية؛ ليتمكّن من توضيح هذا العلم.

وهل هذا العلم مأخوذ بعد النظر في الفروع؟

يعني إذا نظرنا إلى جملة من الفروع وجدناها تنطوي أو تنضوي تحت أصلٍ واحد فاستنبطنا هذا الأصل من مجموع هذه الفروع، وهذا ما يعرف بالقواعد الأصولية، أو أن هذه الفروع مأخوذة من تلك الأصول؟ أو كل واحد مأخوذ من الثاني فيلزم عليه الدور؟

يعني مقتضى تسميتهم هذا العلم علم الأصول أن الفروع مأخوذة من هذه الأصول، وهو مقتضى الوجود، وأن هذا العلم وجد بعد معرفة الأحكام وتصور الأحكام، قلنا، أو قال بعضهم: إن هذا العلم مستمد من الأحكام الشرعية، نعم، لو قلنا: إن كل واحد مستمد من الثاني قلنا: يلزم عليه الدور، قلنا: يلزم عليه الدور.

لا شك أن المسائل والأحكام الشرعية مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهذا العلم -أعني علم الأصول- يعين على فهم الكتاب والسنة الذَيْنِ تستمد وتستنبط منهما الأحكام.

حكمه: حكم هذا العلم فرض كفاية، حكم تعلم هذا العلم فرض كفاية؛ كغيره من العلوم الشرعية، وقد يتعيّن على بعض الأشخاص إذا لم يوجد غيره ممن يستطيع القيام به ممن ينوء بهذا العلم، قد يتعين على بعض الأشخاص؛ لأن فروض الكفاية إذا لم يقم بها أحد أثم الناس، وإذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين.

مسائل هذا العلم: مباحثه وقضاياه التي تذكر في كتبه مما يحتاج إليه.

ثم قال في البيت الأخير:

والبعض بالبعض اكتفى: يعني أن بعض الناس اكتفى ببعض هذه المبادئ، لكن من درى الجميع حاز الشرفا: كذا قيل، ويحتمل أن يكون المعنى: أن بعض الناس اكتفى ببعض مسائل العلم، بعض الناس اكتفى ببعض مسائل العلم دون بعض، أو ببعض العلوم دون بعض، ومن درى وعرف الجميع حاز من المسائل العلمية أو من العلوم..، قد حاز الشرف في الدنيا والآخرة، والأجر والثواب العظيم من الله سبحانه وتعالى.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد قال إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني -رحمه الله-:

هذه ورقات تشتمل على معرفة فصول من أصول الفقه، وذلك مؤلف من جزئين مفردين أحدهما: الأصول، والثاني: الفقه، فالأصل ما يبنى عليه غيره، والفرع ما يبنى على غيره، والفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

بسم الله الرحمن الرحيم: المؤلف: افتتح الكتاب أو الرسالة المختصرة الموجزة بالبسملة؛ اقتداءً بالقرآن الكريم حيث افتتحت جميع سوره -عدا براءة- بالبسملة، وعملاً بحديث: ((كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر)): هذا يستدل به كثير من أهل العلم على افتتاح ما يريدون افتتاحه بالبسملة أو الحمدلة، والحديث بجميع طرقه وألفاظه حكم عليه جمع من أهل العلم بالضعف وإن حسّن بعضهم لفظ الحمد، وهو مع ضعفه يستدل به الجمهور الذين يرون العمل بالضعيف في الفضائل وهذا منها، لكن القول المرجح أن الضعيف لا يعمل به لا في الأحكام ولا في الفضائل ولا في المغازي ولا في التفسير ولا في العقائد من باب أولى وهكذا، فالحديث ضعيف، لكن العمدة في ذلك الاقتداء بالقرآن الكريم.

جاء الأمر بالتسمية في مواضع: كالأكل والشرب والدخول والخروج وما أشبه ذلك، وليكن هذا منها، بل من أهمها.

لم يذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- الحمدلة والتشهد والصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- مبالغةً في الاختصار، ويحتمل أن يكون قد أتى بها لفظاً، يجاب عن صنيع المؤلف بأنه هداه إلى ذلك الاختصار الشديد، والاحتمال قائم في كونه جاء بهذه الأمور لفظاً، كما أجيب عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في تركه الصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- في بعض المواضع عند رواية الحديث، قالوا: لعله يأتي بها لفظاً وإن لم يكتبها.

فهذه: بسم الله الرحمن الرحيم، فهذه: في بعض النسخ: هذه، بدون الفاء، بسم الله الرحمن الرحيم، فهذه ورقات: وفي بعض النسخ: هذه ورقات، والفاء إن وجدت فهي واقعة في جواب (أما بعد) المقدرة التي يؤتى بها للانتقال من موضوعٍ إلى آخر، ومن أسلوبٍ آخر، أما بعد: فهذه ورقات تشتمل على معرفة فصول من أصول الفقه: فالفاء واقعة في جواب (أما بعد): وأما: حرف شرط، وبعد: قائم مقام الشرط، وجواب الشرط الفاء وما دخلت عليه، ما دخلت عليه الفاء.

والإتيان بـ(أما بعد): سنة ثبتت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في أكثر من ثلاثين حديثاً، فلا يليق بطالب العلم تركها، طالب العلم المؤتسي بالنبي -عليه الصلاة والسلام- عليه أن يلازمها.

أما بعد: ولا تقوم الواو مقام أما، وإن جرى كثير من المؤلفين والمتحدثين على الاقتصار عليها دون أما، وأشار بعض من ألف من المتأخرين أنها تقوم مقامها، كما في شرح المواهب للزرقاني وغيره؛ نظراً لشيوعها وكثرتها، وإلا فالأصل (أما بعد).

ولا حاجة ولا داعي للإتيان بـ(ثم) قبلها، فإذا قلت: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، ما تقول ثم أما بعد، لا داعي لـ(ثم)؛ لأنها لم ترد بها النصوص، ولا توجد في أساليب أهل العلم من المتقدمين، وإن وجدت في بعض نسخ تفسير الطبري، لكنه لا داعي ولا حاجة إليها؛ النصوص الثابتة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ((أما بعد)) بدون (ثم).

إن احتيج إلى (أما بعد) مرة ثانية للانتقال إلى موضعٍ آخر وأسلوب آخر عطفت على ما قبلها (ثم أما بعد)، إذا قلتها في الموضع الأول: (أما بعد) واحتجت إليها للفصل بين الموضوعين أو الأسلوبين تقول: (ثم أما بعد) لا بأس، وأهل العلم مختلفون في أول من قالها على ثمانية أقوال نجملها في قول الشاعر:

جرى الخلف أما بعد من كان بادئاً
ويعقوب أيوب الصبور وآدم

 

بها عدّ أقوال وداود أقرب
وقس وسحبان وكعب ويعرب

أقرب الأقوال أنه داود -عليه السلام- وأنها فصل الخطاب الذي أوتيه.

و(بعد): قائم مقام الشرط، ظرف مبني على الضم؛ لحذف المضاف إليه مع كونه منوياً، ومعروف قبل وبعد والجهات الست لها ثلاث حالات، إن أضيفت أعربت، وإن قطعت عن الإضافة مع عدم نية المضاف إليه أعربت مع التنوين، وإن قطعت عن الإضافة مع نية المضاف إليه بنيت على الضم، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [(4) سورة الروم].

والإشارة فهذه: الأصل في المشار إليه أن يكون موجوداً حاضراً، فهذه: الإشارة هي إلى حاضر على كل حال، فإن كانت كتابة المقدمة بعد تأليف الكتاب صارت الإشارة إلى موجود في الأعيان، وإن كانت كتابة هذه المقدمة قبل تأليف الكتاب صارت الإشارة إلى حاضر في الذهن لا في الأعيان، يشير إلى ما في ذهنه من الكلام الذي سوف يفرغه في هذه الورقات.

فهذه ورقات تشتمل: ورقات جمع ورقة، جمع مؤنث سالم، وجموع السلامة من جموع القلة عند سيبويه، وعَبّر بذلك (هذه ورقات)؛ لأن هذا هو واقعها، هذه ورقات، عبر بذلك؛ لأن الواقع كذلك، ولكي ينشط القارئ لحفظها وفهمها ودرسها، كما قال تعالى في أيام الصيام: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} [(184) سورة البقرة]، فوصف الشهر بأنه أيام معدودات؛ تنشيطاً للمسلم على صيامها وتقليلاً لها.

فهذه ورقات تشتمل على معرفة فصول من أصول الفقه: تشتمل: تحتوي على معرفة، والمعرفة هي والعلم بمعنىً واحد عند جمع من أهل العلم، وفرق بعضهم بين المعرفة والعلم؛ لأن المعرفة تستلزم سبق الجهل، بخلاف العلم فإنه لا يستلزم سبق الجهل، ولذا يوصف الله -سبحانه وتعالى- بأنه عالم وعليم وعلَّام، ولا يوصف بأنه عارف؛ قالوا: لأن المعرفة تستلزم سبق الجهل، وجاء في الحديث: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)): قالوا هذا من باب المقابلة والمشاكلة في التعبير على أن دائرة الإخبار أوسع من دائرة الأسماء، إلى غير ذلك مما قاله أهل العلم.

على معرفة فصولٍ من أصول الفقه: فصول: جمع فصل، وهو اسم لطائفةٍ من المسائل العلمية، والفصل أو الفصول تندرج تحت الأبواب، ويندرج تحتها المسائل، والأبواب تندرج تحت الكتب.

هذا التقسيم اصطلاحي عرفي من العرف الخاص عند أهل العلم، يؤلفون الكتب على هذا: كتاب يشتمل على كتب، وهذه الكتب تشتمل على أبواب، وهذه الأبواب تشتمل على فصول، والفصول على مسائل إلى غير ذلك، وهذا أغلبي إذ قد توجد الكتب والأبواب دون الفصول، وقد توجد الأبواب دون الكتب، وقد توجد الفصول دون الأبواب، وهكذا، لكن الغالب هكذا.

على فصولٍ من أصول الفقه: على فصول من أصول الفقه..

بالنسبة للأسئلة يا إخوان: المتعلقة بالكتاب ومباحث الكتاب سوف نجيب عليها بإذن الله -عز وجل- وما عدا ذلك مما هو خارج الكتاب فالشيخ موجود، ولا يفتى ومالك في المدينة -كما قال أهل العلم- وليس لنا أن نتقدم بين يدي الشيخ فنجيب بحضرته، فالأمور التي تتعلق بالكتاب لا مندوحة لنا من الجواب عنها، لكن الذي لا علاقة له بالكتاب فالشيخ موجود أمدّ الله في عمره.

فعلى كل حال تفرز الأسئلة من قبل الإخوان ويجاب عنها في الدرس اللاحق -إن شاء الله تعالى- وهكذا سوف تكون الطريقة، إجابة اليوم تكون غداً وهكذا يفرزها الإخوان، ما يتعلق بالكتاب ومسائل الكتاب نجيب عنها، وما عدا ذلك يرجأ حتى يحضر الشيخ.

الآن الشيخ حضر وإلا..؟

طالب:......

انتهى الوقت وإلا....؟

طالب:......

وين الإخوان؟

طالب:.......

ما لهم حد معين..؟

طالب:......

يعني نواصل على طول لما يجي الشيخ؟.. يعني ما في فاصل... من أجل الإخوان..؟

طالب:.......

على كل حال..

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

فهذه ورقات تشتمل على معرفة فصول من أصول الفقه، وذلك مؤلف من جزئين مفردين: يعني أن أصول الفقه..، هذه أو هذا التركيب مؤلف من جزئين مفردين، يعني أن هذا العلم المسمى بهذا الاسم المركب من هاتين الكلمتين المفردتين: أصول وفقه، فله حينئذٍ أكثر من تعريف، تعريف باعتبار جزئي المركب، وتعريف باعتباره علم على هذا الفن المعروف، تعريف باعتبار جزئي المركب؛ لأنه قال: وذلك مؤلف من جزئين مفردين: أصول وفقه، من جزئين: الجزء الأول أصول، والجزء الثاني الفقه، مفردين: ما المراد بالإفراد هنا؟

ما يقابل...نعم؟

طالب:.......

لا، يقابل الجمع أصول مفرد وإلا جمع؟

طالب: جمع.

كيف يقول من جزئين مفردين؟

طالب:.......

كيف؟

طالب:.......

يقول: وذلك مؤلف: مركب من جزئين: أصول وفقه، مفردين: كل واحد منهما مفرد، والإفراد هنا يقابل أيش؟

التركيب، التركيب الجملي؛ لأن كلمة أصول جمع، فلا يراد بالإفراد هنا ما يقابل التثنية والجمع؛ لأن كلمة أصول جمع.

ثم أخذ يعرف جزئي المركب، فبدأ بالأصل.

أصول: النسبة إلى هذا العلم، ماذا تقول في النسبة إلى هذا العلم، شخص معتني بهذا العلم أكثر من غيره من العلوم تسميه أيش؟

طالب: أصولي.

أصولي كذا؟ نعم؟ هاه؟ نعم؟

طالب:.......

أصولي كذا؟ الياء ياء النسب مشددة ولا بد، ياء كيا الكرسي زيدت للنسب، والبحث ليس فيها، نعم، مشددة، فالنسبة إلى تيماء تيميِّ بالتشديد، وشيخ الإسلام ابن تيميَّة بالتشديد، لا شك أن الياء مشددة، لكن يبقى أن النسبة إلى الجمع حكمها..، أهل العلم ينصون على أن النسبة إلى الجمع شاذة، إذا أردت أن تنسب إلى كلمة هي في الأصل جمع تعيد الكلمة إلى مفردها ثم تنسب، إلا إذا كانت شهرة الجمع أقوى من شهرة المفرد، كالنسبة إلى الأنصار وإلى الأعراب، أو إذا كان الجمع لا واحد له من لفظه تنسب إلى الجمع.

فالأصل ما يبنى عليه غيره: الأصل الذي هو واحد الأصول ما يبنى عليه غيره، كأصل الجدار وأساسه الذي يبنى عليه، وأصل الشجرة التي تتفرع منه فروعها وأغصانها، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} [(24) سورة إبراهيم]، فالأصل هو الأساس، وهو ما يبنى عليه غيره، ويقابله الفرع -يقابل الأصل الفرع- وهو ما يبنى على غيره: كبقية الجدار التي بنيت على الأصل وعلى الأساس، وكفروع الشجرة وأغصانها هي فروع.

ومنهم من يقول: إن الأصل ما منه الشيء، ما منه الشيء، فالأب أصل بالنسبة لولده، والولد فرع، ولذا يقولون في الوارثين أنهم أصول وفروع، وأيضاً حواشي.

والفرع ما يبنى على غيره والفقه:...، أخشى أن الشيخ يبي يجي وإلا...؟ الشيخ قرب، وإلا إيش صار عليه؟

طالب:.......

هو بيجي من هنا؟

طالب:.......

طيب لا بأس..

والفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد: الفقه في اللغة الفهم، {يَفْقَهُوا قَوْلِي} [(28) سورة طـه]، يعني: يفهموه.

معرفة الأحكام الشرعية: هل الفقه والمعرفة أو هو الأحكام؟

طالب:.......

نعم، كيف؟

طالب:.......

هل الفقه هو المعرفة للأحكام، أو هو الأحكام؟

طالب:.......

هو يقول: معرفة الأحكام الشرعية: يخرج بذلك من الأحكام ما ليس بشرعي، فلا يدخل في الفقه، والأحكام جمع حكم، وسيأتي في بيان الأحكام التكليفية والوضعية تعريف الحكم.

معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد: المقصود بها المسائل الفرعية، ويخرج بذلك المسائل العقلية، والمسائل العقدية؛ لأنه ليس طريقها الاجتهاد.

التي طريقها الاجتهاد: حقيقةً فعلاً، أو بالقوة القريبة من الفعل، فالفقيه من يعرف جملةً صالحة من الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد بالفعل، أو بالقوة القريبة من الفعل، فالذي يعرف من الأحكام الشرعية بأدلتها بالفعل، وهي حاضرة في ذهنه يسمى فقيه، الأولى من يسمى الفقيه.

الذي لا يعرف الأحكام ليست حاضرة في ذهنه، لكنه يستطيع الوصول إلى معرفة هذه الأحكام بأدلتها، ويستطيع أن ينظر في أقوال أهل العلم ويوازن بينها وينظر في أدلتهم ويرجح، وإن لم تكن المسائل حاضرة في ذهنه، فإنهم يسمونه فقيه بالقوة القريبة من الفعل.

فالشخص الذي إذا سألته عن مسألة في الطهارة يفتح على أوائل الكتب مثلاً -أوائل كتب الفقه مثلاً- وينظر فيها ويتصورها وينظر في أدلتها، ومن خالف ومن وافق وأدلة الجميع ويوازن هذا فقيه، لكن إذا سألته عن مسألة في الطهارة بحث في أواخر الكتب وأوساطها هذا تسميه فقيه؟! لا بالفعل ولا بالقوة القريبة منه، هذا ليس بفقيه أصلاً.

فالإمام مالك -رحمه الله تعالى- لما سئل عن أربعين مسألة أو ثمان وأربعين مسألة، فأجاب عن جلّ هذه المسائل -أكثر من ثلاثين مسألة- قال: "لا أدري"، هل استطاع أحد أن يقول: إن الإمام مالك ليس بفقيه؟ هل يستطيع أحد أن يقول: الإمام مالك ليس بفقيه؟ لا يستطيع، كيف نقول: فقيه، وهو لا يعرف إلا الشيء اليسير من هذه المسائل، هو فقيه؛ لديه القدرة التامة والآلة المكتملة في استنباط الأحكام، فهو فقيه بالقوة حينئذٍ.

 

نقف على الأحكام السبعة، والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"