شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (030)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم شرح كتاب: التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: توقفنا في الحلقة الماضية عند آخر الحديث: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان» بقي في هذا الحديث مجموعة من المسائل لعلكم تتفضلون بالإشارة إليها.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ذكرنا في آخر الحلقة السابقة ما ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-، الإمام المجدد في كتاب التوحيد، وما ترجم به على الحديث، وما ذكر معه من آيات وأحاديث وآثار، وذكرنا أيضًا تقسيم المحبة، وما قاله ابن القيم في المحبة التي هي محبة العبادة والتعظيم، وذكرنا أن هذا الباب باب عظيم يجب على المسلم أن يزن نفسه به؛ ولهذا يسميه بعضهم بباب الامتحان، الدعاوى كثيرة، كل يدعي أنه مؤمن، وأنه مسلم، وأنه مخلص، وأنه زاهد، وأنه ورع، لكن لو عرض نفسه وأعماله على هذا الباب لعرف حقيقة الأمر، الميزان ما ذُكِر في هذا الباب: «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» وما أحسن ما قاله الإمام الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى، ونوَّر مرقده- في هذه الخصال الثلاث حيث يقول: هذه الخصال الثلاث من أعلى خصال الإيمان، فمن كمَّلها فقد وجد حلاوة الإيمان وطعِم طعْمه، فالإيمان له حلاوة، وطعم يذاق بالقلوب، كما تذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم، فإن الإيمان هو غذاء القلوب وقُوْتها، كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقُوْتها، كما أن الجسد لا يجد طعم حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته، فإذا سقم لم يجد حلاوة، لم يجد حلاوة ما ينفعه من ذلك، بل قد يستحلي ما يضره، وما ليس فيه حلاوة لغلبة السُّقْم عليه، وكذلك القلب إنما يجد حلاوة الإيمان إذا سلم من أسقامه وآفاته، فإذا سلم من مرض الأهواء المضلة والشهوات المحرمة وجد حلاوة الإيمان حينئذٍ، ومتى مرض وسَقِم لم يجد حلاوة الإيمان، بل يستحلي ما فيه هلاكه من الأهواء والمعاصي، ومن هنا قال -عليه الصلاة والسلام-: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» لأنه لو كَمُل إيمانه لوجد حلاوة الإيمان فاستغنى بها على استحلاء المعاصي.

يقول -رحمه الله-: سئل وُهَيْب بن الورد هل يجد طعم الإيمان من يعصي الله؟ قال: لا، ولا من هَمَّ بالمعصية، وقال ذو النون: كما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سُقْمه كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب، ثم ذكر -رحمه الله تعالى­-، أعني ابن رجب، ما تنشأ عنه محبة الله، يقول: ومحبة الله تنشأ تارة من معرفته، وكمال معرفته تحصل من معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله الباهرة، والتفكر في مصنوعاته، وما فيها من الإتقان والحِكَم والعجائب، فإن ذلك كله يدل على كماله وقدرته وحكمته وعلمه ورحمته، وتارة تنشأ من مطالعة النِّعَم، وفي حديث ابن عباس المرفوع: «أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني لحب الله» خرَّجه الترمذي، ولكنه حديث ضعيف -كما هو معروف-، يقول بعض السلف: من عرف الله أحبه، ومن أحبه أطاعه، فإن المحبة تقتضي الطاعة، كما قال بعض العارفين: المحبة الموافقة في جميع الأحوال، ثم أنشد:

ولو قلت لي: مُتْ مِتُّ سمعًا وطاعة
 

 

وقلت: لداعي الموت أهلاً ومرحبا

 

 

ثم قال -رحمه الله تعالى-:

ومحبة الله على درجتين، إحداهما: فرض، وهي المحبة المقتضية لفعل أوامره الواجبة، والانتهاء عن زواجره المحرمة، والصبر على مقدوراته المؤلمة، فهذا القدر لا بد منه في محبة الله، ومن لم تكن محبته على هذا الوجه فهو كاذب في دعوى محبة الله -سبحانه وتعالى-، كما قال بعض العارفين: من ادَّعى محبة الله ولم يحفظ حدوده فهو كاذب، فمن وقع في ارتكاب شيء من المحرمات، أو أخلَّ بشيء من فعل الواجبات فلتقصيره في محبة الله حيث قدَّم محبة نفسه وهواه على محبة الله، فإن محبة الله لو كملت لمنعت من الوقوع فيما يكره، وإنما يحصل الوقوع فيما يكرهه الله لنقص محبته الواجبة في القلوب، وتقديم هوى النفس على محبته، وبذلك ينقص الإيمان.

والدرجة الثانية من المحبة: وهي فضل المستحب أن ترتقي المحبة من ذلك إلى التقرب بنوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق الشبهات والمكروهات، والرضا بالأقضية المؤلمات، كما قال عامر بن عبد قيس: أحببت الله حبًّا هوَّن عليَّ كل مصيبة، ورضَّاني بكل بلية، فما أبالي مع حبي إياه على ما أصبحت، ولا على ما أمسيت.

وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى-: أصبحت وما لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر.

ولما مات ولده الصالح عبد الملك قال: إن الله أحب قبْضه، وأعوذ بالله أن تكون لي محبة تخالف محبة الله. قال بعض التابعين في مرضه: أحبه إليَّ أحبه إليه. كأنه سُئل: هل تحب البقاء أو الموت؟ فقال: أحبه إليّ أحبه إليه. والله المستعان.

ثم قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: وأما محبة الرسول فتنشأ عن معرفته ومعرفة كماله، أي البشري، الكمال البشري، وأوصافه، وعِظَم ما جاء به، وينشأ ذلك من معرفة مرسله وعظمته، فإن محبة الله لا تتم إلا بطاعته، ولا سبيل إلى طاعته إلا بمتابعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، كما قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [سورة آل عمران 31] ثم بيَّن -رحمه الله تعالى- أن محبة الرسول -عليه الصلاة والسلام- على درجتين أيضًا:

إحداهما: فرض، وهي ما اقتضى طاعته في امتثال ما أمر به من الواجبات، والانتهاء عن ما نهى عنه من المحرمات، وتصديقه فيما أخبر به من المخبَرات، والرضا به، وألا يجد حرجًا مما جاء به، ويسلِّم له تسليمًا، وألا يتلقى الهدى من غير مشكاته، ولا يطلب شيئًا من الخير إلا مما جاء به، لا يتلقى الهدى من غير مشكاته، ولا يطلب شيئًا من الخير إلا مما جاء به، فلا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، ولا طريق لنا في معرفة شرع الله، وما جاء عن الله إلا عن طريق رسوله -عليه الصلاة والسلام-.

من المؤسف جدًّا أن بعض مَن ينتسب إلى العلم يذهب إلى بعض ما تُرجم من علوم الأمم، وظهر أثر ذلك في العلوم الشرعية، في علم الكلام، ودخل أيضًا في علم أصول الفقه وغيرها، لكن لو اقتصر الناس على ما جاء عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام- كما هو منهج السلف الصالح من القرون المفضلة لسهل عليهم العلم والعمل؛ لكنهم انشغلوا بالقيل والقال والردود، فحُرِموا شيئًا من العمل، ومما يؤسف له أيضًا وهذا مؤسف جدًّا أن يذهب بعض المسلمين لتلقِّي العلوم الشرعية التي مصدرها الكتاب والسنة إلى بلاد الكفر ليَتلقَّى علوم الكتاب والسنة من الكفار، والله المستعان.

الدرجة الثانية: فضلٌ مندوب إليه، وهي ما ارتقى بعد ذلك إلى اتباع سنته وآدابه وأخلاقه والاقتداء به في هديه وسمته وحسن معاشرته لأهله وإخوانه، وفي التخلق بأخلاقه الظاهرة بالزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، وفي جوده وإيثاره وصفحه وحِلْمه واحتماله وتواضعه، وفي أخلاقه الباطنة من كمال خشيته لله ومحبته له وشوقه إلى لقائه ورضاه بقضائه، وتعلُّق قلبه به دائمًا، وصدق الالتجاء إليه، والتوكل والاعتماد عليه، وقطع تعلق القلب بالأسباب كلها.

المقصود هنا قطع تعلق القلب بالأسباب كلها، يعني مع العمل بهذه الأسباب، لا يعني هذا الكلام أن الأسباب تُترك، النبي -عليه الصلاة والسلام- باشر الأسباب، لكنَّ قلبه منقطع تمام الانقطاع من التعلق بهذه الأسباب، فهو متعلق بربه -سبحانه وتعالى-، لا مانع من مباشرة الأسباب، وقد باشرها النبي -عليه الصلاة والسلام-، لكن المحظور أو الممنوع أن يُلتفَت إليها، ويُظَن بها التأثير المستقل، فالمسبِّب هو الله -سبحانه وتعالى-، وهو النافع الضار.

يقول -رحمه الله-: ودوام لهج القلب واللسان بذكره، والأُنْس به، والتنعم بالخلوة بمناجاته ودعائه، وتلاوة كتابه بالتدبر والتفكر.

ثم قال -رحمه الله تعالى-: وفي الجملة فكان خلقه -صلى الله عليه وسلم- القرآن يَرضَى لرضاه، ويسخط لسخطه، فأكمل الخلق من حقق متابعته، وتصديقه قولاً وعملاً وحالاً، وهم الصدِّيقون من أُمَّته الذين رأسهم أبو بكر خليفته من بعده، وهم أعلى أهل الجنة درجة بعد النبيين، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدرِّي الغابر في الأفق من المشرق إلى المغرب لتفاضل ما بينهم» قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء ما يبلغها غيرهم؟ قال: «إي والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله، وصدَّقوا المرسلين» خرجه في الصحيحين من حديث أبي سعيد.

ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم- تستلزم طاعته وتصديقه، وليس من محبته -عليه الصلاة والسلام- أن يُصرَف له شيء من حقوق الله -عز وجل- من أنواع العبادة، أو يُطلَب منه ما لا يقدر عليه إلا الله -سبحانه وتعالى-، كما أن محبته -عليه الصلاة والسلام-، واتباعه تمنع من إطرائه والمبالغة في مدحه، وادعاء علمه الغيب كما يقوله من أشرك به مع الله -سبحانه وتعالى-، وكلام هذا النوع نظمًا ونثرًا بلغ مبلغًا جرَّدوا الخالق من حقوقه، حتى قال قائلهم:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
فإن من جودك الدنيا وضرتها

 

سواك عند حلول الحادث العممِ
ومن علومك علم اللوح والقلمِ

ماذا أبقى لله -سبحانه وتعالى- إذا كانت الدنيا والآخرة من جود النبي -عليه الصلاة والسلام-، وعلوم اللوح والقلم كلها من علوم النبي -عليه الصلاة والسلام-؟! و(من) هذه للتبعيض، إذًا علومه -عليه الصلاة والسلام- بل علم اللوح والقلم بعض علمه -عليه الصلاة والسلام-، نسأل الله العافية! وقد نهى النبي -عليه الصلاة والسلام- عن إطرائه والغلو فيه فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» أخرجاه، والإطراء زيادة المدح والمبالغة فيه، وهي صفة ذميمة، فإن كثرة المدح والزيادة في ذلك منهي عنه في حق الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وفي حق غيره، ولكنه في حق الرسول -عليه الصلاة والسلام- أعظم؛ لأنه يؤدي إلى الشرك، فإن الغلو في مدح الأنبياء يؤدي إلى الشرك، كما حصل ذلك لليهود والنصارى حينما غلوا في أنبيائهم.

وقد ترجم الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في كتابه التوحيد: باب ما جاء في أن سبب كفر بني آدم وترْكهم دينهم هو الغلو في الصالحين فليُرْجَع إليه مع شروحه في كلام لا يستغني عنه طالب علم، قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-:

الخصلة الثانية: «أن يحب المرء لا يحبه إلا لله» والحب في الله من أصول الإيمان وأعلى درجاته.

في المسند عن معاذ بن أنس الجهني أن النبي -عليه الصلاة والسلام- سئل عن أفضل الإيمان؟ فقال: «أن تُحِب لله، وتُبغِض لله، وتُعمِل لسانك في ذكر الله» وفيه: عن البراء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «أوثق عرى الإيمان أن تُحِب في الله، وتُبغِض في الله» وفي السنن من حديث أبي أمامة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» وإنما كانت هذه الخصلة تالية لما قبلها لأن من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فقد صار حبه كله لله، ويلزم من ذلك أن يكون بغضه لله، وموالاته له، ومعاداته له.

والخصلة الثالثة: «أن يكره الرجوع للكفر كما يكره الرجوع إلى النار» أو الوقوع في النار، فإن علامة محبة الله ورسوله محبة ما يحبه الله ورسوله، وكراهة ما يكره الله ورسوله كما سبق، فإذا رسخ الإيمان في القلب، وتحقق ووجد حلاوته وطعمه أحبه وأحب ثباته ودوامه، والزيادة منه، وكره مفارقته، وكان كراهته لمفارقته أعظم عنده من كراهة الإلقاء في النار، قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [سورة الحجرات 7] والمؤمن يحب الإيمان أشد من حب الماء البارد في شدة الحر للظمآن، ويكره الخروج منه أشد من كراهة التحريق بالنيران، كما في المسند عن أبي رَزِيْن العُقَيْلي أنه سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإيمان، فقال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن تُحرَّق في النار أحب إليك من أن تشرك بالله، وأن تحب غير ذي نسب لا تحبه إلا لله، فإذا كنت كذلك فقد دخل حب الإيمان في قلبك، كما دخل حب الماء البارد للظمآن في اليوم القائض».

وقد أخبر الله -سبحانه وتعالى- عن أصحاب الأخدود بما أخبر به، وقد كانوا فَتَنوا المؤمنين وحرَّقوهم بالنار ليرتدوا عن الإيمان، فاختاروا الإيمان على النار، وألقي أبو مسلم الخولاني في النار على امتناعه أن يشهد للأسود بالنبوة فصارت برْدًا وسلامًا، يعني كما صارت على إبراهيم -عليه السلام-، وعرض على عبد الله بن حذافة السهمي أن يتنصَّر فأبى، فأمر ملك الروم بإلقائه في قدر عظيمة مملوءة ماءً تغلي عليه فبكى، وقال: لَمْ أبك جَزَعًا من الموت، لكن أبكي أنه ليس لي إلا نفس واحدة يُفعَل بها هذا في الله، لوددت أنه لو كان لي مكان كل شعرة مني نفسًا يُفعَل بها ذلك في الله -عز وجل-، هذا مع أن التقيَّة في ذلك باللسان جائزة مع طمأنينة القلب بالإيمان، كما قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [سورة النحل 106] ولكن الأفضل الصبر، وعدم التقية في ذلك، الصبر وتحمل العذاب هو العزيمة، والتقية رخصة، فإذا وجد القلب حلاوة الإيمان أحس بمرارة الكفر والفسوق والعصيان؛ ولهذا قال يوسف -عليه السلام-: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [سورة يوسف 33] إلى آخر كلامه -رحمه الله تعالى-، فليرجع إليه فإنه كلام في غاية الجودة.

المقدم: يا شيخ نسبة الخبر إلى أبي مسلم، ثبت بهذا أن النار كانت بردًا وسلامًا عليه؟

نعم، هذا معروف مذكور في سيرة أبي مسلم، ومستفيض في كتب التراجم عند أهل العلم، حتى قال عمر بن الخطاب: الحمد لله الذي أوجد في أمة محمد من هو كإبراهيم -عليه السلام-، على كل حال مثل هذه الأخبار يُستأنَس بها، ولا يستدل بها، العمدة في ذلك قصة أصحاب الأخدود التي سيقت في شرعنا، وقصة أيضًا المرأة التي ألقيت في النار، التي ألقيت وابنها يحرضها على ذلك، وقصص في ذلك كثيرة جدًّا.

الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما، وأخرجه البخاري في أربعة مواضع:

الأول: هنا في باب حلاوة الإيمان، قال -رحمه الله تعالى-: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، قال: حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكره، وتقدم ذكر مناسبة الحديث للباب، والباب لكتاب الإيمان.

الموضع الثاني: في كتاب الإيمان أيضًا، بابُ من كَرِه أن يعود في الكفر كما يَكره أن يُلقَى في النار من الإيمان، قال -رحمه الله تعالى-: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكره، والمناسبة للترجمة ظاهرة؛ لأن فيه: «وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار» والترجمة باب من كَرِه أن يعود في الكفر كما يَكره أن يُلقَى في النار، فالمناسبة ظاهرة، والمطابقة حاصلة بين ما تَرجم به وما تَرجم عليه -رحمه الله تعالى-.

الموضع الثالث: في كتاب الأدب، باب الحُب في الله. حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال النبي -عليه الصلاة والسلام- وفيه: «وحتى أن يُقذَف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه» باب الحب في الله «وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله» فالمناسبة ظاهرة، لكن ما مناسبة الحب في الله لكتاب الأدب؟ لا شك أنه إذا أحب المسلمين لله -سبحانه وتعالى- ساد بينهم من الرحمة والرأفة والمودة والشفقة وغيرها من فروع الأدب.

يقول ابن حجر هنا: وحتى أن يُقذَف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه، وحديث الباب: «وأن يَكره أن يعود في الكفر كما يَكره» كما يَكره، وفي كتاب الأدب قال: «وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر» يقول ابن حجر: هذه أبلغ من لفظ حديث الباب؛ لأنه سوَّى فيه بين الأمرين، يعني في حديث الباب سوَّى بين الأمرين "كما يَكره" "يَكره كما يَكره" وهنا قال: «حتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع» لأنه سوى فيه بين الأمرين، وجعل هنا الوقوع في نار الدنيا أولى من الكفر الذي أنقذه الله بالخروج منه من نار الأخرى.

الموضع الرابع: في كتاب الإكراه، باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر. يقول -رحمه الله تعالى-: حدثنا محمد بن عبد الله بن حوشب الطائفي، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس -رضي الله عنه- فذكره، والمناسبة لباب من اختار الضرب والقتل والهوان ظاهرة من قوله -عليه الصلاة والسلام-: «وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار» وهنا اختار الإلقاء في النار على العود في الكفر، والباب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر، واختيار الضرب والقتل والهوان مناسب جدًّا لكتاب الإكراه، وعلى هذا قول بعضهم: لا ينبغي للعالم أو طالب العلم أن يهين نفسه، فيقع في بعض الأمور التي تُعرِّضه للإهانة. الإمام البخاري قال: باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر، نعم إذا كانت في أمر يسير لا يصل إلى حدِّ الكفر، أو حتى لا يصل إلى حد المعاصي الكبار وما أشبه ذلك، قد يرجَّح عدم إهانة العالم نفسه في مثل هذه الأمور، لكن إذا كان الخيار بين الكفر وعدمه فاختيار الهوان لا شك أنه عين العِز في مثل هذه الأمور، وتقديم النفس دون الدِّين هو عين الشرف في الدنيا والآخرة، والله المستعان.

المقدم: أحسن الله إليكم معنا مجموعة من الأسئلة من بعض الإخوة، تفضل يا شيخ.

السائل: فضيلة الشيخ، أحسن الله إليك، يقول بعض الناس: أنه يجد في نفسه من حلاوة الإيمان شيء قد لا يوصف -أحسن الله إليك- وقد لا يكون مع ذلك محقِّق لهذه الثلاثة، لهذه الأمور الثلاثة التي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن من حققها وجد حلاوة الإيمان، فما قولكم -أحسن الله إليكم-؟

الدعوى هذه ليست صحيحة؛ لأن الشرع وضع لنا هذا الميزان، فمن حقق هذه الثلاث وَجَد؛ لأن المسألة شرطية، إذا وُجِد الشرط وُجِد الجزاء، وإذا وُجِد الجزاء وُجِد الشرط، فلا بد أن يوجَد الجزاء لتحقق الشرط، «ثلاث من كن فيه وجد» معناه أن من لم يكن فيه، أو من لم تكن فيه ولا واحدة، أو لو واحدة منهن لا يجد حلاوة الإيمان، نعم قد يجد من الحلاوة بقدر ما فيه من تحقيق هذه الأمور، لكن الحلاوة تتفاوت، الحلاوة التامة الكاملة إنما تكون في تحقيق الثلاث مجتمعة بلا إشكال، وأما من يدعي أنه يجد حلاوة ويجد لذة وهو لم يحقق هذه الأمور إما بالكلية، أو فيها خلل ونقص، لا شك أنه أن هذه الحلاوة ناقصة بقدر ما عنده من النقص.

المقدم: آخر سؤال معنا في هذه الحلقة، أحسن الله إليك يا شيخ.

السائل: أحسن الله إليك شيخنا يتردد سؤال كثيرًا في مثل تلك المواطن من هذه الأحاديث العظام، وهي أن المؤمن يقول: إذا لم يكن عندي من تلك الخصال المذكورة في مثل هذا الحديث: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان» هل يعني هذا ترتب الإثم على ذلك، أم أن تلك الخصال هي من الخصال النافلة التي لا يلزم من عدم وجودها إثم صاحبها؟

سبق من كلام الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- أن منها ما هو يعني من محبة الله -سبحانه وتعالى- ما هو فرض، ومنها ما هو نافلة، ومن محبة النبي -عليه الصلاة والسلام- كذلك ما هو فرض، ومنها ما هو نافلة، فتقديم مراد الله -سبحانه وتعالى- في الواجبات على حظوظ النفس واجب بلا شك، وتقديم مراد الله -سبحانه وتعالى- ومراد رسوله في النوافل على مراد النفس نفل، وعلى هذا إنما يأثم إذا أخل بالواجبات، ما جاء الشرع بوجوبه، وترتب الإثم عليه، أو بارتكاب المحرمات دون ترك النوافل والمستحبات، أو فعل المكروهات، والله المستعان.

المقدم: أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم.

مستمعيَّ الكرام، انتهت حلقة هذا الأسبوع من كتاب، من شرح كتاب: التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة وأنتم على خير، حتى ذلكم الحين أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.