التعليق على تفسير القرطبي - سورة مريم (02)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

 قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

"قَوْلُهُ تَعَالَى:} وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} الْقِصَّةَ إِلَى آخِرِهَا. هَذَا ابْتِدَاءُ قِصَّةٍ لَيْسَتْ مِنَ الْأُولَى. وَالْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَيْ عَرِّفْهُمْ قِصَّتَهَا لِيَعْرِفُوا كَمَالَ قُدْرَتِنَا" .

ليست من الأولى، أي لا ارتباط لها بالقصة الأولى قصة زكريا وابنه يحيى، لكن ليست مُنْفَكَّة انفكاكًا تامًّا باعتبارهما متقاربين، بينهما القرابة الظاهرة.

"{إِذِ انْتَبَذَتْ} أَيْ تَنَحَّتْ وَتَبَاعَدَتْ. وَالنَّبْذُ الطَّرْحُ وَالرَّمْيُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}. { مِنْ أَهْلِهَا} أَيْ مِمَّنْ كَانَ مَعَهَا. وَإِذْ بَدَلٌ مِنْ مَرْيَمَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ؛ لِأَنَّ الْأَحْيَانَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا فِيهَا".  

الأحيان أو الأحياء؟

الأحيان الأحيان؛ لأنه مشترِطٌ معنى الظرفية، والظرف حين، ولذا يقولون: الشخص ابن عصره، فالعصر مشتملٌ عليه وعلى غيره.

وَالِانْتِبَاذُ الِاعْتِزَالُ وَالِانْفِرَادُ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ لِمَ انْتَبَذَتْ؛  فَقَالَ السُّدِّيّ:  انْتَبَذَتْ لِتَطْهُرَ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لِتَعْبُدَ اللَّهَ".

ما النفاس؟ ممكن نفاس؟ يمكن أن يصير نفاسًا؟

أو نُفاس؟

يمكن بالنسبة لها؟

طالب: لا.

ما يمكن، يقصد به الحيض فقط.

"وَهَذَا حَسَنٌ. وَذَلِكَ أَنَّ مَرْيَمَ -  عَلَيْهَا السَّلَامُ-  كَانَتْ وَقْفًا عَلَى سِدَانَةِ الْمَعْبَدِ وَخِدْمَتِهِ وَالْعِبَادَةِ فِيهِ، فَتَنَحَّتْ مِنَ النَّاسِ لِذَلِكَ، وَدَخَلَتْ فِي الْمَسْجِدِ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ".

طالب: ماذا بعد النفاس يا شيخ؟

وقال غيره: لتعبد الله.

"وَقَالَ غَيْرُهُ: لِتَعْبُدَ اللَّهَ، وَهَذَا حَسَنٌ. وَذَلِكَ أَنَّ مَرْيَمَ -عَلَيْهَا السَّلَامُ-  كَانَتْ وَقْفًا عَلَى سِدَانَةِ الْمَعْبَدِ وَخِدْمَتِهِ وَالْعِبَادَةِ فِيهِ، فَتَنَحَّتْ مِنَ النَّاسِ لِذَلِكَ، وَدَخَلَتْ فِي الْمَسْجِدِ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ فِي شَرْقِيِّهِ لِتَخْلُوَ لِلْعِبَادَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَقَوْلُهُ: {مَكَانًا شَرْقِيًّا} أَيْ مَكَانًا مِنْ جَانِبِ الشَّرْقِ. وَالشَّرْقُ بِسُكُونِ الرَّاءِ الْمَكَانُ الَّذِي تُشْرِقُ فِيهِ الشَّمْسُ. وَالشَّرَقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ الشَّمْسُ. وَإِنَّمَا خَصَّ الْمَكَانَ بِالشَّرْقِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ جِهَةَ الْمَشْرِقِ وَمِنْ حَيْثُ تَطْلُعُ الْأَنْوَارُ، وَكَانَتِ الْجِهَاتُ الشَّرْقِيَّةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ سِوَاهَا". 

هنا يقول: إنهم كانوا يُعَظِّمون جهة المشرِق، هي ذهبت إلى جهة المشرق؛ لأنهم كانوا يُعَظِّمونها، وتعظيمهم إياها؛ لأنها ذهبت إليها، يعني تعظيم النصارى لجهة المشرق؛ لأن مريم انتبذت مكانًا شرقيًّا.    

طالب:...............

نقول: إذا كلامهم هذا إنه تعظيم، هنا يقول: وإنما خَصَّ أنهم كانوا يعظمون جهة المشرق، هم ما عظَّموها حتى انتبذت إلى الجهة، ذهبت إليها.

"وَكَانَتِ الْجِهَاتُ الشَّرْقِيَّةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ سِوَاهَا، حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ. وَحُكِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ".

لا يلزم الجهات الشرقية في بعض البلدان دون بعض، نعم، الجهات الشرقية في بعض البلدان أفضل، لكن في بعض البلدان الأخرى التي تقع البحار في شمالها أو في غربها أو في جنوبها يكون أفضل عندهم.

طالب:.............

الجو، الجو يكون ألطف، الجهة الشرقية متميزة.

طالب: نعم.

نعم.

"عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ لِمَ اتَّخَذَ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ قِبْلَةً لِقَوْلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-:}  إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا}،  فَاتَّخَذُوا مِيلَادَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ-  قِبْلَةً، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنَ الْأَرْضِ خَيْرًا مِنَ الْمَشْرِقِ لَوَضَعَتْ مَرْيَمُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِيهِ .

وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نُبُوَّةِ مَرْيَمَ؛ فَقِيلَ: كَانَتْ نَبِيَّةً بِهَذَا الْإِرْسَالِ وَالْمُحَاوَرَةِ لِلْمَلَكِ. وَقِيلَ: لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً، وَإِنَّمَا كَلَّمَهَا مِثَالُ بَشَر".ٍ 

الخلاف، الخلاف في النبوة في النساء شاذ، عامة أهل العلم على أنَّ النبوة في الرجال، وادَّعى ابن حزم أن هناك ستًّا من النسوة، كلهن يوحَى إليهن من الأنبياء، لكن النَصّ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ}

طالب: {إِلَّا رِجَالًا}[يوسف:109].

{إِلَّا رِجَالًا}، رجال ذكور، نعم.

"وَرُؤْيَتُهَا لِلْمَلَكِ كَمَا رُئِيَ جِبْرِيلُ فِي صِفَةِ دِحْيَةَ حِينَ سُؤَالِهِ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى فِي (آلِ عِمْرَانَ)، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ". 

أيهما الأول؟

وما كانت نبية.

هذا قول ابن حزم، لو نراجع آل عمران، الجزء الرابع يا أبا عبد الله.

طالب: صفحة كم؟

ثلاثة وثمانين، ما تريد هذه؟ عنده، الثالث، الرابع، لا يصير الرابع الأصفر.

طالب: .............

الترقيم يختلف.

طالب: ............

نعم، الترقيم يختلف.

طالب: الشعب.

لا يختلف الترقيم، لكن بالإمكان البحث بالسورة؟

طالب: اثنين وأربعين، آل عمران.

طالب: ...................

ماذا يقول؟

طالب: ....................

ما معنى الاصطفاء؟ الاختيار للولاية أو للنبوة؟

قَوْلُهُ تَعَالَى:} إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} [آل عمران:42]  أَيِ اخْتَارَكِ. وَاصْطَفَاكِ لِوِلَادَةِ عِيسَى.  
{عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}  يَعْنِي عَالَمِي زَمَانِهَا، عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقِيل: عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أَجْمَعَ إِلَى يَوْمِ الصُّورِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِ. وَكَرَّرَ الِاصْطِفَاءَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ الِاصْطِفَاءُ لِعِبَادَتِهِ، وَمَعْنَى الثَّانِي لِوِلَادَةِ عِيسَى. 

وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم» : -كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ غَيْرُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ«. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْكَمَالُ هُوَ التَّنَاهِي وَالتَّمَامُ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْكَمَالَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ يَعْنِي بِهِ النُّبُوَّةَ، فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ- عَلَيْهَا السَّلَامُ- وَآسِيَةُ نَبِيَّتَيْنِ، وَقَدْ قِيلَ بِذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَرْيَمَ نَبِيَّةٌ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهَا بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ كَمَا أَوْحَى إِلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ أَيْضًا فِي" مَرْيَمَ''  . وَأَمَّا آسِيَةُ فَلَمْ يَرِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهَا دِلَالَةً وَاضِحَةً، بَلْ عَلَى صِدِّيقِيَّتِهَا وَفَضْلِهَا".

{وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة:75] ومريم صدِّيقة.

وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ أَنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَة:» خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أَرْبَعٌ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ«.  وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-» : أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ«. وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ عَنْهُ:»  سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَعْدَ مَرْيَمَ فَاطِمَةُ وَخَدِيجَةُ«.  فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ مَرْيَمَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ نِسَاءِ الْعَالَمِ مِنْ حَوَّاءَ إِلَى آخِرِ امْرَأَةٍ تَقُومُ عَلَيْهَا السَّاعَةُ; فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ بَلَّغَتْهَا الْوَحْيَ عَنِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالتَّكْلِيفِ وَالْإِخْبَارِ وَالْبِشَارَةِ كَمَا بَلَّغَتْ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ، فَهِيَ إِذًا نَبِيَّةٌ وَالنَّبِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْوَلِيِّ  فَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ النِّسَاءِ: الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مُطْلَقًا. ثُمَّ بَعْدَهَا فِي الْفَضِيلَةِ فَاطِمَةُ ثُمَّ خَدِيجَةُ ثُمَّ آسِيَةُ.  وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-» : سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ ثُمَّ فَاطِمَةُ ثُمَّ خَدِيجَةُ ثُمَّ آسِيَةُ«.  وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ .

لا يلزم منه النبوة، وهناك نص في أن النبوة في الرجال، الرسالة فيهم.

 وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ مَرْيَمَ بِمَا لَمْ يُؤْتِهِ أَحَدًا مِنَ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ كَلَّمَهَا وَظَهَرَ لَهَا وَنَفَخَ فِي دِرْعِهَا وَدَنَا مِنْهَا لِلنَّفْخَةِ; فَلَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ. 

لكنه لم يُوحَ إليها بشرع، لم ينقل إليها شرعًا من الله -جل وعلا- لتكون نبية.

وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَلَمْ تَسْأَلْ آيَةً عِنْدَمَا بُشِّرَتْ كَمَا سَأَلَ زَكَرِيَّا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْآيَةِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا اللَّهُ فِي تَنْزِيلِهِ صِدِّيقَةً فَقَالَ:} وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ{.  وَقَالَ:} وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12] فَشَهِدَ لَهَا بِالصِّدِّيقِيَّةِ وَشَهِدَ لَهَا بِالتَّصْدِيقِ لِكَلِمَاتِ الْبُشْرَى، وَشَهِدَ لَهَا بِالْقُنُوتِ. وَإِنَّمَا بُشِّرَ زَكَرِيَّا بِغُلَامٍ، فَلَحَظَ إِلَى كِبَرِ سِنِّهِ وَعَقَامَةِ رَحِمِ امْرَأَتِهِ فَقَالَ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامَ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ، فَسَأَلَ آيَةً. وَبُشِّرَتْ مَرْيَمُ بِالْغُلَامِ فَلَحَظَتْ أَنَّهَا بِكْرٌ وَلَمْ يَمْسَسْهَا بَشَرٌ فَقِيلَ لَهَا:} كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ} فَاقْتَصَرَتْ عَلَى ذَلِكَ، وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا، وَلَمْ تَسْأَلْ آيَةً مِمَّنْ يَعْلَمُ كُنْهَ هَذَا الْأَمْرِ، وَمَنْ لِامْرَأَةٍ فِي جَمِيعِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مِنْ نساء بَنَاتِ آدَمَ مَا لَهَا مِنْ هَذِهِ الْمَنَاقِبِ. وَلِذَلِكَ رُوِيَ أَنَّهَا سَبَقَتِ السَّابِقِينَ مَعَ الرُّسُلِ إِلَى الْجَنَّةِ; جَاءَ فِي الْخَبَرِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-»  : لَوْ أَقْسَمْتُ لَبَرَرْتُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَبْلَ سَابِقِي أُمَّتِي إِلَّا بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ».  وَقَدْ كَانَ يَحِقُّ عَلَى مَنِ انْتَحَلَ عِلْمَ الظَّاهِرِ، وَاسْتَدَلَّ بِالْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْبَاطِنَةِ أَنْ يَعْرِفَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ»، وَقَوْلَهُ  حَيْثُ يَقُولُ:»  لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِيَدِي، وَمَفَاتِيحُ الْكَرَمِ بِيَدِي، وَأَنَا أَوَّلُ خَطِيبٍ وَأَوَّلُ شَفِيعٍ وَأَوَّلُ مُبَشِّرٍ وَأَوَّلُ، وَأَوَّلُ».  فَلَمْ يَنَلْ هَذَا السُّؤْدُدَ فِي الدُّنْيَا عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا لِأَمْرٍ عَظِيمٍ فِي الْبَاطِنِ. وَكَذَلِكَ شَأْنُ مَرْيَمَ لَمْ تَنَلْ شَهَادَةَ اللَّهِ فِي التَّنْزِيلِ بِالصِّدِّيقِيَّةِ وَالتَّصْدِيقِ بِالْكَلِمَاتِ إِلَّا لِمَرْتَبَةٍ قَرِيبَةٍ دَانِيَةٍ. وَمَنْ قَالَ لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً قَالَ: إِنَّ رُؤْيَتَهَا لِلْمَلَكِ كَمَا رُئِيَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي صِفَةِ دَحْيَةَ الْكَلْبِيِّ حِينَ سُؤَالِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَلَمْ تَكُنِ الصَّحَابَةُ بِذَلِكَ أَنْبِيَاءَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.  

عليه الأكثر هذا يحتاج إلى تحرير، رأي الجمهور أنه ليس في النساء نبية.

طالب: ولكن ما تطرَّق الآية.

إلى ماذا؟

طالب: كانوا رجالًا.

تهدم قوله.

"قَوْلُهُ تَعَالَى:} فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} قِيلَ: هُوَ رُوحُ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ، فَرَكَّبَ الرُّوحَ فِي جَسَدِ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الَّذِي خَلَقَهُ فِي بَطْنِهَا. وَقِيلَ: هُوَ جِبْرِيلُ، وَأُضِيفَ الرُّوحُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَخْصِيصًا وَكَرَامَةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جِبْرِيلٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ لِقَوْلِهِ:}  فَتَمَثَّلَ لَهَا} أَيْ تَمَثَّلَ الْمَلَكُ لَهَا بَشَرًا. تَفْسِيرٌ أَوْ حَالٌ" .

جاء التعبير عن جبريل –عليه السلام- في مواطن من القرآن بأنه الروح {تَنَزَّل الْمَلَائِكَة وَالرُّوح} [القدر:4]

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ} [الشعراء:193] 

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ} [الشعراء:193]، كثير، نعم. 

"سَوِيًّا أَيْ مُسْتَوِي الْخِلْقَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لِتُطِيقَ أَوْ تَنْظُرَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ. وَلَمَّا رَأَتْ رَجُلًا حَسَنَ الصُّورَةِ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ قَدْ خَرَقَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ ظَنَّتْ أَنَّهُ يُرِيدُهَا بِسُوءٍ. {قَالَتْ  إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} أَيْ مِمَّنْ يَتَّقِي اللَّهَ. قال الْبِكَالِيُّ:  فَنَكَصَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَزِعًا مِنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وقال الثَّعْلَبِيُّ:  كَانَ رَجُلًا صَالِحًا فَتَعَوَّذَتْ بِهِ تَعَجُّبًا. وَقِيلَ: تَقِيٌّ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ كُنْتَ مِمَّنْ يُتَّقَى مِنْهُ. فِي الْبُخَارِيِّ قَالَ أَبُو وَائِلٍ: عَلِمَتْ مَرْيَمُ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ حِينَ قَالَتْ:  إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا". 

يعني عنده ما ينهاه من تُقاه.

"وَقِيلَ: تَقِيٌّ اسْمُ فَاجِرٍ مَعْرُوفٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ؛ حَكَاهُ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ. قال ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ ذَاهِبٌ مَعَ التَّخَرُّصِ".  

تنافر، فاجر يُقال له: تقي؟ تنافر هذا.

"فَقَالَ لَهَا جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ-} : إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا}. جَعَلَ الْهِبَةَ مِنْ قِبَلِهِ لَمَّا كَانَ الْإِعْلَامُ بِهَا مِنْ قِبَلِهِ. وَقَرَأَ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ ( لِيَهَبَ لَكِ) عَلَى مَعْنَى أَرْسَلَنِي اللَّهُ لِيَهَبَ لَكِ. وَقِيلَ: مَعْنَى (لِأَهَبَ(".

لأنه سبب، سبب في وجود الغلام، النفخ من قبله بأمر الله -جلَّ وعلا-.

وَقِيلَ: مَعْنَى (لِأَهَبَ) بِالْهَمْزِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ قَالَ: أَرْسَلْتُهُ لِأَهَبَ لَكِ. وَيَحْتَمِلُ (لِيَهَبَ) بِلَا هَمْزٍ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَهْمُوزِ ثُمَّ خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ. فَلَمَّا سَمِعَتْ مَرْيَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ اسْتَفْهَمَتْ عَنْ طَرِيقِهِ . فَقَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} أَيْ بِنِكَاحٍ.}  وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} أَيْ زَانِيَةً. وَذَكَرَتْ هَذَا تَأْكِيدًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا: لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ يَشْمَلُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ. وَقِيلَ: مَا اسْتَبْعَدَتْ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا، وَلَكِنْ أَرَادَتْ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْوَلَدُ؟".

القدرة الإلهية صالحة لكل ما أراده الله -جل وعلا-، خلق آدم من تراب لا من أم ولا من أب، وخلق حواء من ذكر، وخلق عيسى –عليه السلام- من أنثى.

"وَلَكِنْ أَرَادَتْ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْوَلَدُ؟ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَمْ يَخْلُقُهُ اللَّهُ ابْتِدَاءً؟ وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ قَالَ لَهَا هَذِهِ الْمَقَالَةَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا وَكُمِّهَا؛ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ:  أَخَذَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رُدْنَ قَمِيصِهَا بِإِصْبَعِهِ فَنَفَخَ فِيهِ فَحَمَلَتْ مِنْ سَاعَتِهَا بِعِيسَى.  قَالَ الطَّبَرِيُّ:  وَزَعَمَتِ النَّصَارَى أَنَّ مَرْيَمَ حَمَلَتْ بِعِيسَى وَلَهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَنَّ عِيسَى عَاشَ إِلَى أَنْ رُفِعَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَيَّامًا، وَأَنَّ مَرْيَمَ بَقِيَتْ بَعْدَ رَفْعِهِ سِتَّ سِنِينَ، فَكَانَ جَمِيعُ عُمْرِهَا نَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً" .

الباقلاني أبو بكر المعروف بالحُجَّة لمَّا سمع بعض النصارى يقذف عائشة –رضي الله تعالى عنها-، التي برَّأها الله من فوق سبع سماوات، يقذف عائشة، قال لهم الباقلاني: أيهما أَوْلَى بالتهمة؟ امرأة ذات بعل ولم تأت بولد أو امرأة ليس لها بعل وجاءت بولد؟ وهذا من باب الإلزام فقط، ولا يجوز أن يدور بالخاطر لا هذا ولا هذا، ولكن هذا من باب إلزامهم، من باب المبالغة في تبرئة عائشة –رضي الله عنها-، أيهما أقرب إلى التهمة؟ امرأة ذات بعل ولم تأت بولد، وامرأة ليس لها بعل وجاءت بولد، وهذا من باب الإلزام فقط.

"وَقَوْلُهُ} :وَلِنَجْعَلَهُ} مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ؛ أَيْ وَنَخْلُقُهُ لِنَجْعَلَهُ. آيَةً دَلَالَةً عَلَى قُدْرَتِنَا عَجِيبَةً. وَرَحْمَةً لِمَنْ آمَنَ بِهِ.  وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا مُقَدَّرًا فِي اللَّوْحِ مَسْطُورًا.

  قَوْلُهُ تَعَالَى:}  فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} أَيْ تَنَحَّتْ بِالْحَمْلِ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:  إِلَى أَقْصَى الْوَادِي، وَهُوَ وَادِي بَيْتِ لَحْمٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِيلِيَاءَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ، وَإِنَّمَا بَعُدَتْ فِرَارًا مِنْ تَعْيِيرِ قَوْمِهَا إِيَّاهَا بِالْوِلَادَةِ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:  مَا هُوَ إِلَّا أَنْ حَمَلَتْ فَوَضَعَتْ فِي الْحَالِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الِانْتِبَاذَ عَقِبَ الْحَمْلِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي".  

لأن العطف كله بالفاء، فحملته فانتبذت فأجاءها، كل العطف بالفاء التي تقتضي التعقيب، ويدل على قِصَر المدة.

"قَوْلُهُ تَعَالَى:} فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} )أَجَاءَهَا) اضْطَرَّهَا؛ وَهُوَ تَعْدِيَةُ جَاءَ بِالْهَمْزِ. يُقَالُ: جَاءَ بِهِ وَأَجَاءَهُ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا، كَمَا يُقَالُ: ذَهَبَ بِهِ وَأَذْهَبَهُ. وَقَرَأَ شُبَيْلٌ".

تصغير شبل.

شبيل أحسن الله إليك.

"وَقَرَأَ شُبَيْلٌ وَرُوِيَتْ عَنْ عَاصِمٍفَاجَأَهَا) مِنَ الْمُفَاجَأَةِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ) فَلَمَّا أَجَاءَهَا الْمَخَاضُ).   وَقَال زُهَيْر:

وَجَارٍ سَارَ مُعْتَمِدًا إِلَيْنَا

أَجَاءَتْهُ الْمَخَافَةُ وَالرَّجَاءُ

وَقَرَأَ الْجُمْهُور: }الْمَخَاضُ} بِفَتْحِ الْمِيمِ, وابْنُ كَثِيرٍ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ بِكَسْرِهَا، وَهُوَ الطَّلْقُ وَشِدَّةُ الْوِلَادَةِ وَأَوْجَاعُهَا, مَخِضَتِ الْمَرْأَةُ تَمْخَضُ مَخَاضًا وَمِخَاضًا, وَنَاقَةٌ مَاخِضٌ أَيْ دَنَا وِلَادُهَا, }  إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} كَأَنَّهَا طَلَبَتْ شَيْئًا تَسْتَنِدُ إِلَيْهِ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ, كَمَا تَتَعَلَّقُ الْحَامِلُ لِشِدَّةِ وَجَعِ الطَّلْقِ, وَالْجِذْعُ سَاقُ النَّخْلَةِ الْيَابِسَةِ فِي الصَّحْرَاءِ الَّذِي لَا سَعَفَ عَلَيْهِ وَلَا غُصْنَ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ إِلَى النَّخْلَةِ .قَالَت} :يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا}  تَمَنَّتْ مَرْيَمُ- عَلَيْهَا السَّلَامُ- الْمَوْتَ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا خَافَتْ أَنْ يُظَنَّ بِهَا الشَّرُّ فِي دِينِهَا وَتُعَيَّرَ فَيَفْتِنُهَا ذَلِكَ. الثَّانِي: لِئَلَّا يَقَعَ قَوْمٌ بِسَبَبِهَا فِي الْبُهْتَانِ وَالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّنَا وَذَلِكَ مُهْلِكٌ, وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ يَكُونُ".

يعنى شفقه على نفسها وعلى غيرها_عليها السلام-.

وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ يَكُونُ تَمَنِّي الْمَوْتِ جَائِزًا، وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالْحَمْدُ لِلَّهِ".

إذا خشى الإنسان على دينه، أما التمنى لضر نزل به من أمور الدنيا فلا, مضى في سورة يوسف {توفنى مسلمًا}[يوسف:101] هذا على القول بأنه تمنٍ للموت, تمنى الموت على الاسلام هذا ما يسمى تمني , تمنى الثبات على الدين.

"قُلْتُ: وَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّ مَرْيَمَ -عَلَيْهَا السَّلَامُ- سَمِعَتْ نِدَاءَ مَنْ يَقُولُ: اخْرُجْ يَا مَنْ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَحَزِنَتْ لِذَلِكَ, وَ قَالَتْ: }يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} النِّسْيُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الشَّيْءُ الْحَقِيرُ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُنْسَى".

لعدم الإلتفات والانتباه إليه وعدم الإكتراث به.

"الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُنْسَى وَلَا يُتَأَلَّمُ لِفَقْدِهِ كَالْوَتَدِ وَالْحَبْلِ لِلْمُسَافِرِ وَنَحْوِهِ, وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا الرَّحِيلَ عَنْ مَنْزِلٍ قَالُوا: احْفَظُوا أَنْسَاءَكُمْ".

يعنى تفقدوا أموركم الدقيقة قبل الجليلة.

"الْأَنْسَاءُ جَمْعُ نِسْيٍ وَهُوَ الشَّيْءُ الْحَقِيرُ يُغْفَلُ فَيُنْسَى, وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ-:

أَتَجْعَلُنَا جِسْرًا لِكَلْبِ قُضَاعَةَ

وَلَسْتُ بِنِسْيٍ فِي مَعَدٍّ وَلَا دَخَلْ"

الترضي عنه لماذا؟

طالب: .....

الترضي عنه.

في الكتاب؟

طالب: تراجع.

تراجع، نعم.

"وَقَالَ الْفَرَّاءُ: والنِّسْيُ مَا تُلْقِيهِ الْمَرْأَةُ مِنْ خِرَقِ اعْتِلَالِهَا، فَقَوْلُ مَرْيَمَ: }نَسْيًا مَنْسِيًّا} أَيْ حَيْضَةً مُلْقَاةً, وَقُرِئَ: }نَسْيًا} بِفَتْحِ النُّونِ، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ الْحِجْرِ وَالْحَجرِ"

جمع حجوركم وفى حجرها.

 "وَالْوِتْرِ وَالْوَتْرِ".

{والشفع والوتر} [الفجر:3] نقول: وِتْرِ يقال: بكسر الواو وبفتحها مثل الْحِجْرِ وَالْحَجَر, نعم.

 "وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ بِالْهَمْز: (نِسْئًا) بِكَسْرِ النُّونِ, وَقَرَأَ نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ: ( نَسْئًا) بِفَتْحِ النُّونِ مِنْ نَسَأَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَجَلِهِ أَيْ أَخَّرَهُ, وَحَكَاهَا أَبُو الْفَتْحِ وَالدَّانِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ, وَقَرَأَ بَكْرُ بْنُ حَبِيبٍ: (نَسًّا) بِتَشْدِيدِ السِّينِ وَفَتْحِ النُّونِ دُونَ هَمْزٍ".

إن كان من النسأ وهو التأخير على قراءات نوف فالمراد بها أن الله أخر ولادتها, ما أخر وفاتها, وأخر أجلها يعني أخر وجودها عن هذا الزمان الذى حصل فيه ما حصل.

"وَقَدْ حَكَى الطَّبَرِيُّ فِي قَصَصِهَا أَنَّهَا لَمَّا حَمَلَتْ بِعِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَمَلَتْ أَيْضًا أُخْتُهَا بِيَحْيَى، فَجَاءَتْهَا أُخْتُهَا زَائِرَةً, فَقَالَتْ يا مَرْيَمُ: أَشَعَرْتِ".

فقالت لها.

"فَقَالَتْ يا مَرْيَمُ: أَشَعَرْتِ أَنْتِ أَنِّي حَمَلْتُ؟ فَقَالَتْ لَهَا".

قالت لها مريم، قالت لها مريم.

فَقَالَتْ لها مَرْيَمُ.

أشعرتِ أني حملت.

فَجَاءَتْهَا فَقَالَتْ لها مَرْيَمُ".

أشعرتِ أني حملت.

قبل فقالت يا مريم؟

نعم، بدل يا مريم، لها مريم.

"فَقَالَتْ لها مَرْيَمُ: أَشَعَرْتِ أَنْتِ أَنِّي حَمَلْتُ؟ فَقَالَتْ لَهَا".

يعني أختها، يعني أختها، قالت لها أختها.

"وإِنِّي أَجِدُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ؛ فَذَلِكَ أَنَّهُ  رُوِيَ أَنَّهَا أَحَسَّتْ بِجَنِينِهَا يَخِرُّ بِرَأْسِهِ إِلَى نَاحِيَةِ بَطْنِ مَرْيَمَ؛ قَالَ السُّدِّيُّ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: }مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ{[آل عمران:39].  وَذُكِرَ أَيْضًا مِنْ قَصَصِهَا أَنَّهَا خَرَجَتْ فَارَّةً مَعَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ النَّجَّارُ، كَانَ يَخْدُمُ مَعَهَا فِي الْمَسْجِدِ وَطَوَّلَ فِي ذَلِكَ, قَالَ الْكَلْبِيُّ: قِيلَ لِيُوسُفَ  وَكَانَتْ سُمِّيَتْ لَهُ أَنَّهَا حَمَلَتْ مِنَ الزِّنَا فَالْآنَ يَقْتُلُهَا الْمَلِكُ، فَهَرَبَ بِهَا، فَهَمَّ فِي الطَّرِيقِ بِقَتْلِهَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ؛ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ".

هذه قصص من قصص بني إسرائيل.

"وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَقْتَضِي أَنَّهَا حَمَلَتْ، وَاسْتَمَرَّتْ حَامِلًا عَلَى عُرْفِ النِّسَاءِ، وَتَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ بِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ لِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ, قَالَهُ عِكْرِمَةُ؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ: لَا يَعِيشُ ابْنُ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ حِفْظًا لِخَاصَّةِ عِيسَى, وَقِيلَ: وَلَدَتْهُ لِتِسْعَةٍ, وَقِيلَ: لِسِتَّةٍ, وَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ, وَاللَّهُ أَعْلَمُ".

أنها حملت ووضعت فى الحال على ما تقدم.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} قُرِئَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا, قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ بمِنْ) جِبْرِيلُ)، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ".

يعني الذي, وناداها من تحتها الذى تحتها.

"وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى حَتَّى أَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا؛ وَقَالَهُ عَلْقَمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ؛ فَفِي هَذَا لَهَا آيَةٌ وَأَمَارَةٌ أَنَّ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ".

ويكون جبريل تحتها بالنسبة للمكان المنخفض, تكون فى مكان مرتفع، وجبريل – عليه السلام- فى مكان منخفض, ناداها من هذا المكان.

"وَأَمَارَةٌ أَنَّ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ.الَّتِي لِلَّهِ فِيهَا مُرَادٌ عَظِيمٌ، وَقَوْلُهُ: { أَلَّا تَحْزَنِي} تَفْسِيرُ النِّدَاءِ، وَأَنْ مُفَسِّرَةٌ بِمَعْنَى أَيْ، الْمَعْنَى: فَلَا تَحْزَنِي بِوِلَادَتِكِ { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَك سَرِيًّا} يَعْنِي عِيسَى, وَالسَّرِيُّ مِنَ الرِّجَالِ الْعَظِيمُ الْخِصَالِ السَّيِّدُ, قَالَ الْحَسَنُ :كَانَ وَاللَّهِ سَرِيًّا مِنَ الرِّجَالِ, وَيُقَالُ: سَرِيَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ أَيْ تَكَرَّمَ, وَفُلَانٌ سَرِيٌّ مِنْ قَوْمٍ سَرَاةٍ, وَقَالَ الْجُمْهُورُ: أَشَارَ لَهَا إِلَى الْجَدْوَلِ الَّذِي كَانَ قُرَيْبَ جِذْعِ النَّخْلَةِ, قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ ذَلِكَ نَهْرًا قَدِ انْقَطَعَ مَاؤُهُ فَأَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَرْيَمَ".

مثل الجزع مثل الجزع, الجزع ما فيه لا حسبان ولا خوص ولا تمر ولا شيء.

وَالنَّهْرُ سَرِيًّا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْرِي فِيهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: 

سَلْمٌ تَرَى الدَّالِيَّ مِنْهُ أَزْوَرَا

إِذَا يَعُبُّ فِي السَّرِيِّ هَرْهَرَا

وَقَالَ لَبِيدٌ: 

فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعَ

مَسْجُورَةً مُتَجَاوِرًا قُلَّامُهَا

وَقِيلَ: {نَادَاهَا عِيسَى}، وَكَانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً وَآيَةً وَتَسْكِينًا لِقَلْبِهَا؛ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ, وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (فَنَادَاهَا مَلَكٌ مِنْ تَحْتِهَا), قَالُوا: وَكَانَ جِبْرِيل- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي بُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ أَخْفَضَ مِنَ الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ هِيَ عَلَيْهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا}". 

ابن العربى ذكر إنه زار بيت لحم فوجد فيه معبدًا فيه جزع نخله, يزعمون أن هذا الجزع هو الذي هزته مريم -عليها السلام-, ثم زار المحل بعد خمس سنين فوجد الجزع قد زال ليس موجودًا, يعنى بقي قرونًا متطاوله, يعنى أكثر من ألف سنة، أكثر، ... ثم بعد الخمس سنين ويزعمون أنه.  

"فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِل: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُزِّي} أَمَرَهَا بِهَزِّ الْجِذْعِ الْيَابِسِ لِتَرَى آيَةً أُخْرَى فِي إِحْيَاءِ مَوَاتِ الْجِذْعِ, وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: {بِجِذْعِ} زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ كَمَا يُقَالُ: خُذْ بِالزِّمَامِ، وَأَعْطِ بِيَدِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] أَيْ فَلْيَمْدُدْ سَبَبًا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَهُزِّي إِلَيْكِ رُطَبًا عَلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ, وَ{ تُسَاقِطْ} أَيْ تَتَسَاقَطْ فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي السِّينِ, وَقَرَأَ حَمْزَةُ (تَسَاقَطْ) مُخَفَّفًا فَحَذَفَ الَّتِي أَدْغَمَهَا غَيْرُهُ, وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ {تُسَاقِطْ} بِضَمِّ التَّاءِ مُخَفَّفًا وَكَسْرِ الْقَافِ, وَقُرِئَ (تَتَسَاقَطْ) بِإِظْهَارِ التَّاءَيْنِ وَ{يَسَّاقَطْ} بِالْيَاءِ وَإِدْغَامِ التَّاءِ (وَتُسْقِطْ) وَ(يُسْقِطْ)، وَ(تَسْقُطْ)، وَ(يَسْقُطْ) بِالتَّاءِ لِلنَّخْلَةِ".

وتسقِط.

بالضم؟

تُسقِط عندك؟

"وَ(تَسْقِطْ)، وَ(يَسْقُطْ) بِالتَّاءِ لِلنَّخْلَةِ وَبِالْيَاءِ لِلْجِذْعِ".

قبله، قبله

طالب:..................

المقصود أن الروايات تُسقِط ويُسقِط، وتسقط ويسقط، نعم.

طالب:..............

تسع قراءات، نعم.

"فَهَذِهِ تِسْعُ قِرَاءَاتٍ ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ-".

الترحم على مثله محل خلاف بين أهل العلم.

"{رُطَبًا} نُصِبَ بِالْهَزِّ، أَيْ إِذَا هَزَزْتِ الْجِذْعَ هَزَزْتِ بِهَزِّهِ { رُطَبًا جَنِيًّا} ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَ (رُطَبًا) يَخْتَلِفُ نَصْبُهُ بِحَسَبِ مَعَانِي الْقِرَاءَاتِ؛ فَمَرَّةً يَسْتَنِدُ الْفِعْلُ إِلَى الْجِذْعِ، وَمَرَّةً إِلَى الْهَزِّ، وَمَرَّةً إِلَى النَّخْلَةِ, وَ{جَنِيًّا} مَعْنَاهُ قَدْ طَابَتْ وَصَلُحَتْ لِلِاجْتِنَاءِ، وَهِيَ مِنْ جَنَيْتُ الثَّمَرَةَ, وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- وَلَا يَصِحُّ- أَنَّهُ قَرَأَ (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا بَرْنِيًّا), وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {رُطَبًا جَنِيًّا} قَالَ: كَانَتْ عَجْوَةً".

يكون من باب التفسير قراءة ابن مسعود إن صحت تكون من باب التفسير.

"وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ:  سَأَلْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ عَنْ قَوْلِهِ: { رُطَبًا جَنِيًّا} فَقَالَ: لَمْ يَذْوِ, قَالَ: وَتَفْسِيرُهُ: لَمْ يَجِفَّ ولَمْ يَيْبَسْ".

لم يجف ولم ييبس.

"وَلَمْ يَبْعُدْ عَنْ يَدَيْ مُجْتَنِيهِ؛ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَنِيُّ وَالْمَجْنِيُّ وَاحِدٌ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْقَتِيلِ وَالْمَقْتُولِ وَالْجَرِيحِ وَالْمَجْرُوحِ . وَقَالَ غَيْرُ الْفَرَّاءِ: الْجَنِيُّ الْمَقْطُوعُ مِنْ نَخْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْ مَكَانِ نَشْأَتِهِ؛ وَأَنْشَدُوا :

وَطِيبُ ثِمَارٍ فِي رِيَاضٍ أَرِيضَةٍ

وَأَغْصَانُ أَشْجَارٍ جَنَاهَا عَلَى قُرْبِ

يُرِيدُ بِالْجَنَى مَا يُجْنَى مِنْهَا أَيْ يُقْطَعُ وَيُؤْخَذُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:  كَانَ جِذْعًا نَخِرًا فَلَمَّا هَزَّتْ نَظَرَتْ إِلَى أَعْلَى الْجِذْعِ فَإِذَا السَّعَفُ قَدْ طَلَعَ، ثُمَّ نَظَرَتْ إِلَى الطَّلْعِ قَدْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ السَّعَفِ، ثُمَّ اخْضَرَّ فَصَارَ بَلَحًا ثُمَّ احْمَرَّ فَصَارَ زَهْوًا، ثُمَّ رُطَبًا. كُلُّ ذَلِكَ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، فَجَعَلَ الرُّطَبَ يَقَعُ بَيْنَ يَدَيْهَا".

يعني كالحمل والولادة، والله المستعان، نعم.

"فَجَعَلَ الرُّطَبَ يَقَعُ بَيْنَ يَدَيْهَا لَا يَنْشَدِخُ مِنْهُ شَيْء".

يعني ما يتأثر وهو رطب، يتساقط من النخلة ولا يتأثر، والمعروف أن الرطب إذا تساقط من فوق تأثر القشر.

"الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ وَإِنْ كَانَ مَحْتُومًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَكَلَ ابْنَ آدَمَ إِلَى سَعْيٍ مَا فِيهِ". 

سعي ما، سعي ما، يعني سواء كان كثيرًا أو يسيرًا.

"فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَكَلَ ابْنَ آدَمَ إِلَى سَعْيٍ مَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ مَرْيَمَ بِهَزِّ النَّخْلَةِ لِتَرَى آيَةً، وَكَانَتِ الْآيَةُ تَكُونُ بِأَلَّا تَهُزّ.

الثَّالِثَةُ: الْأَمْرُ بِتَكْلِيفِ الْكَسْبِ".

لكن هي قبل ذلك لما دخل عليها ذكريا المحراب ووجد عندها رزقًا، نعم، هذا ما احتاج لهز ولا شيء، بدون سبب، ويرجعون هذا إلى أنها قبل الولادة تعلقها بالله –جل وعلا- من دون نظر إلى غيره، فكان يأتيها الرزق من غير سبب، ثم لما ولدت وجاءت الشفقة على الولد والنظر إليه، لا شك أن القلب يقتطع جزءًا منه في هذا، فاحتاجت إلى بذل السبب.

"الثَّالِثَةُ: الْأَمْرُ بِتَكْلِيفِ الْكَسْبِ فِي الرِّزْقِ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، خِلَافًا لِمَا تَقُولُهُ جُهَّالُ الْمُتَزَهِّدَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى وَالْخِلَافُ فِيهِ. وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنْ غَيْرِ تَكَسُّبٍ كَمَا قَالَ: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} الْآيَةَ, فَلَمَّا وَلَدَتْ أُمِرَتْ بِهَزِّ الْجِذْعِ, قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا كَانَ قَلْبُهَا فَارِغًا فَرَّغَ اللَّهُ جَارِحَتَهَا عَنِ النَّصَبِ، فَلَمَّا وَلَدَتْ عِيسَى وَتَعَلَّقَ قَلْبُهَا بِحُبِّهِ، وَاشْتَغَلَ سِرُّهَا بِحَدِيثِهِ وَأَمْرِهِ، وَكَلَهَا إِلَى كَسْبِهَا، وَرَدَّهَا إِلَى الْعَادَةِ بِالتَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ فِي عِبَادِهِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ لَهَا: لَا تَحْزَنِي، فَقَالَتْ لَهُ: وَكَيْفَ لَا أَحْزَنُ وَأَنْتَ مَعِي؟! لَا ذَاتُ زَوْجٍ وَلَا مَمْلُوكَةٌ! أَيُّ شَيْءٍ عُذْرِي عِنْدَ النَّاسِ؟ { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}".

{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[الطلاق:2].

فَقَالَ لَهَا عِيسَى: أَنَا أَكْفِيكِ الْكَلَامَ.

 الرَّابِعَةُ: قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَم".

خثيم، خثيم.

أحسن الله إليكم تقديم الثاء؟

نعم.

"قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَثيمٍ: مَا لِلنُّفَسَاءِ عِنْدِي خَيْرٌ مِنَ الرُّطَبِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ شَيْئًا هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الرُّطَبِ لِلنُّفَسَاءِ لَأَطْعَمَهُ مَرْيَمَ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: التَّمْرُ عَادَةٌ لِلنُّفَسَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ التَّحْنِيكُ, وَقِيلَ: إِذَا عَسِرَ وِلَادُهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا خَيْرٌ مِنَ الرُّطَبِ، وَلَا لِلْمَرِيضِ خَيْرٌ مِنَ الْعَسَلِ. ذَكَرَهُا الزَّمَخْشَرِيُّ,  قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رُطَبًا جَنِيًّا} الْجَنِيُّ مِنَ التَّمْرِ مَا طَابَ مِنْ غَيْرِ نَقْشٍ وَلَا إِفْسَادٍ, وَالنَّقْشُ أَنْ يُنْقَشَ مِنْ أَسْفَلِ الْبُسْرَةِ حَتَّى تَرْطُبَ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ؛ يَعْنِي مَالِكٌ أَنَّ هَذَا تَعْجِيلٌ لِلشَّيْءِ قَبْلَ وَقْتِهِ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَإِنْ فَعَلَهُ فَاعِلٌ مَا كَانَ ذَلِكَ مُجَوِّزًا لِبَيْعِهِ؛ وَلَا حُكْمًا بِطِيبِهِ, وَقَدْ مَضَى هَذَا الْقَوْلُ فِي الْأَنْعَامِ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ".

نعم، يستعجلون على البسر من أجل أن يكون رطبًا، بمعاجات كثيرة منهم من يجعلوه في إناء مكتوب، في محل حار، ومنهم من يدفنه في الرمل، المقصود أنهم يتعجلون، وهذا هو النقش الذي أشار إليه، عندهم طريقة في وخزه بإبرة أو بشيء محدد بحيث يسرع في لينه فيشبه الرطب، نعم.

"وعَنْ طَلْحَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ {جَنِيًّا} بِكَسْرِ الْجِيمِ لِلْإِتْبَاعِ؛ أَيْ جَعَلْنَا لَكَ فِي السَّرِيِّ وَالرُّطَبِ فَائِدَتَيْنِ: إِحَدَاهُمَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، الثَّانِيَةُ سَلْوَةُ الصَّدْرِ لِكَوْنِهِمَا مُعْجِزَتَيْنِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} أَيْ فَكُلِي مِنَ الْجَنِيِّ، وَاشْرَبِي مِنَ السَّرِيِّ، وَقَرِّي عَيْنًا بِرُؤْيَةِ الْوَلَدِ النَّبِيِّ, وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُور, وَحَكَى الطَّبَرِيُّ قِرَاءَةَ: (وَقِرِّي) بِكَسْرِ الْقَافِ وَهِيَ لُغَةُ نَجْدٍ, يُقَالُ: قَرَّ عَيْنًا يَقُرُّ وَيَقِرُّ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِهَا وَأَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ فَقَرَّتْ, وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقُرِّ وَالْقُرَّةِ وَهُمَا الْبَرْدُ, وَدَمْعَةُ السُّرُورِ بَارِدَةٌ وَدَمْعَةُ الْحُزْنِ حَارَّةٌ, وَضَعَّفَ فِرْقَةٌ هَذَا وَقَالَتِ: الدَّمْعُ كُلُّهُ حَارٌّ، فَمَعْنَى أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ أَيْ سَكَّنَ اللَّهُ عَيْنَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَنْ يُحِبُّهُ حَتَّى تَقِرَّ وَتَسْكُنَ؛ وَفُلَانٌ قُرَّةُ عَيْنِي، أَيْ نَفْسِي تَسْكُنُ بِقُرْبِهِ, وَقَالَ الشَّيْبَانِيُّ: {وَقَرِّي عَيْنًا} (مَعْنَاهُ نَامِي), حَضَّهَا عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ, قَالَ أَبُو عَمْرٍو: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ أَيْ أَنَامَ عَيْنَهُ، وَأَذْهَبَ سَهَرَهُ, وَعَيْنًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ".

ولا ينام إلا المرتاح المطمئن القلب.

"كَقَوْلِكَ: طِبْ نَفْسًا, وَالْفِعْلُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْعَيْنِ فَنُقِلَ ذَلِكَ إِلَى ذِي الْعَيْنِ، وَيُنْصَبُ الَّذِي كَانَ فَاعِلًا فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى التَّفْسِيرِ".

قد ينصب الذي كان فاعل أحيانًا، وينصب الذي كان مفعول أحيانًا؛ لأن التمييز محول إما عن الفاعية أو المفعولية، طبت نفسًا يعني استطابت نفسك، تفقأت شحمًا يعني تفقأ شحمك، وتصبب عرقك وهكذا.

"وَمِثْلُهُ طِبْتُ نَفْسًا, وَتَفَقَّأْتُ شَحْمًا, وَتَصَبَّبْتُ عَرَقًا, وَمِثْلُهُ كَثِير.ٌ

 قوْلُهُ تَعَالَى:  {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}.  فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِل:

 الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} الْأَصْلُ فِي تَرَيِنَّ تَرْأَيِينَ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ تَرَى وَنُقِلَتْ فَتْحَتُهَا إِلَى الرَّاءِ فَصَارَ (تَرَيِينَ) ثُمَّ قُلِبَتِ الْيَاءُ الْأُولَى أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، فَاجْتَمَعَ سَاكِنَانِ الْأَلِفُ الْمُنْقَلِبَةُ عَنِ الْيَاءِ وَيَاءُ التَّأْنِيثِ، فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَصَارَ تَرَيْنَ، ثُمَّ حُذِفَتِ النُّونُ عَلَامَةً لِلْجَزْمِ لِأَنَّ إِنْ حَرْفُ شَرْطٍ وَمَا صِلَةٌ فَبَقِيَ تَرَيْ، ثُمَّ دَخَلَهُ نُونُ التَّوْكِيدِ وَهِيَ مُثَقَّلَةٌ، فَكُسِرَ يَاءُ التَّأْنِيثِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ؛ لِأَنَّ النُّونَ الْمُثَقَّلَةَ بِمَنْزِلَةِ نُونَيْنِ الْأُولَى سَاكِنَةٌ فَصَارَ تَرَيِنَّ وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ قَوْلُ ابْنِ دُرَيْدٍ:

إِمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ حَاكَى لَوْنُهُ

 وَقَوْلُ الْأَفْوَهِ:

إِمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ أَزْرَى بِهِ

وَإِنَّمَا دَخَلَتِ النُّونُ هُنَا بِتَوْطِئَةِ مَا كَمَا يُوَطِّئُ لِدُخُولِهَا أَيْضًا لَامُ الْقَسَمِ, وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ: (تَرَيْنَ) بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ خَفِيفَةً، قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَهِيَ شَاذَّةٌ".

لأنها ليست للتوكيد، وحذفها لا بد منه للشرط، حذف النون لا بد منه للشرط، وليست نون توكيد لا مخففة ولا مثقلة فيكون شاذًّا.

"الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ} هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ وَفِيهِ إِضْمَارٌ؛ أَيْ فَسَأَلَكِ عَنْ وَلَدِكِ { فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أَيْ صَمْتًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ, وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا صَمْتًا) وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ, وَعَنْهُ أَيْضًا (وَصَمْتًا) بِوَاوٍ، وَاخْتِلَافُ اللَّفْظَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَرْفَ ذُكِرَ تَفْسِيرًا لَا قُرْآنًا؛ فَإِذَا أَتَتْ مَعَهُ وَاوٌ فَمُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الصَّوْمِ".

لأن العطف يقتضي المغايرة، العطف يقتضي المغايرة.

"والَّذِي تَتَابَعَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَرُوَاةِ اللُّغَةِ أَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الصَّمْتُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ إِمْسَاكٌ وَالصَّمْتَ إِمْسَاكٌ عَنِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: هُوَ الصَّوْمُ الْمَعْرُوفُ، وَكَانَ يَلْزَمُهُمُ الصَّمْتُ يَوْمَ الصَّوْمِ إِلَّا بِالْإِشَارَةِ".

يعني من شرط صحة الصوم عندهم الصمت.

"وعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ قِرَاءَةُ أَنَسٍ: (وَصَمْتًا) بِوَاوٍ، وَأَنَّ الصَّمْتَ كَانَ عِنْدَهُمْ فِي الصَّوْمِ مُلْتَزِمًا بِالنَّذْرِ، كَمَا أَنَّ مَنْ نَذَرَ مِنَّا الْمَشْيَ إِلَى الْبَيْتِ اقْتَضَى ذَلِكَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ, وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهَا عَلَى لِسَانِ جِبْرِيل- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوِ ابْنِهَا عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ بِأَنْ تُمْسِكَ عَنْ مُخَاطَبَةِ الْبَشَرِ، وَتُحِيلَ عَلَى ابْنِهَا فِي ذَلِكَ؛ لِيَرْتَفِعَ عَنْهَا خَجَلُهَا، وَتَتَبَيَّنَ الْآيَةُ فَيَقُومُ عُذْرُهَا, وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهَا أُبِيحَ لَهَا أَنْ تَقُولَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي فِي الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ, وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَى {قُولِي} بِالْإِشَارَةِ لَا بِالْكَلَام, وقال الزَّمَخْشَرِيّ: وَفِيهِ أَنَّ السُّكُوتَ عَنِ السَّفِيهِ وَاجِبٌ".

ومن أذل الناس.

"ومِنْ أَذَلِّ النَّاسِ سَفِيهٌ لَمْ يَجِدْ مُسَافِهًا".

يعني لا يجد من لا يرد عليه، السفيه الذي لا يجد من يرد عليه من أذل الناس.

"الثَّالِثَةُ: مَنِ التَزَمَ بِالنَّذْرِ أَلَّا يُكَلِّمَ أَحَدًا مِنَ الْآدَمِيِّينَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قُرْبَةٌ فَيَلْزَمُ بِالنَّذْرِ".

لما حصل من مريم أنه نذرت ووفت بنذرها، فهو قربة يجب الوفاء به، من نذر أن يطيع الله فليطعه، لكن لا الصمات في شرعنا ما فيه سكوت شرعًا ولا تعبد به.

"وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي شَرْعِنَا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ وَتَعْذِيبِ النَّفْسِ؛ كَنَذْرِ الْقِيَامِ فِي الشَّمْسِ وَنَحْوِهُ, وَعَلَى هَذَا كَانَ نَذْرُ الصَّمْتِ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ لَا فِي شَرِيعَتِنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ, وَقَدْ أَمَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالنُّطْقِ بِالْكَلَامِ, وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِحَدِيثِ أَبِي إِسْرَائِيلَ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالسُّدِّيُّ".

لأن أبا إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فأمره النبي -عليه الصلاة والسلام- بالكلام والاستضلال والقعود، وأما الصيام فباعتباره مشروعًا أمره أن يتم صومه.

"وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالسُّدِّيُّ: كَانَتْ سُنَّةُ الصِّيَامِ عِنْدَهُمُ الْإِمْسَاكَ عَنِ الْأَكْلِ وَالْكَلَام. قُلْتُ: وَمِنْ سُنَّتِنَا نَحْنُ فِي الصِّيَامِ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ؛ قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: »إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ« , وَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-:» مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ«.  قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} رُوِيَ أَنَّ مَرْيَمَ لَمَّا اطْمَأَنَّتْ بِمَا رَأَتْ مِنَ الْآيَاتِ، وَعَلِمَتْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُبَيِّنُ عُذْرَهَا، أَتَتْ بِهِ تَحْمِلُهُ مِنَ الْمَكَانِ الْقَصِيِّ الَّذِي كَانَتِ انْتَبَذَتْ فِيهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ".

يعني لو تطمئن ولم ترى آية تدل على صدقها مكثت في مكانها البعيد القصي، نعم.

"خَرَجَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ حِينَ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ، فَجَاءَتْهُمْ عِنْدَ الظُّهْرِ وَمَعَهَا صَبِيٌّ تَحْمِلُهُ، فَكَانَ الْحَمْلُ وَالْوِلَادَةُ فِي ثَلَاثِ سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وَلَدَتْ حَيْثُ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا قَوْمُهَا، وَمَكَثَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لِلنِّفَاسِ، ثُمَّ أَتَتْ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ، فَلَمَّا رَأَوْهَا وَمَعَهَا الصَّبِيُّ حَزِنُوا وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ صَالِحِينَ، فَقَالُوا مُنْكِرِين: { لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} أَيْ جِئْتِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ كَالْآتِي بِالشَّيْءِ يَفْتَرِيهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: {فَرِيًّا} عَظِيمًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ: أَيْ مُخْتَلَقًا مُفْتَعَلًا، يُقَالُ: فَرَيْتُ وَأَفْرَيْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ".

سعيد بن مسعدة المجاشعي هذا هو الأخفش الأوسط المشهور، نعم.

"وَالْوَلَدُ مِنَ الزِّنَا كَالشَّيْءِ الْمُفْتَرَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ }[الممتحنة:12]، أَيْ بِوَلَدٍ بِقَصْدِ إِلْحَاقِهِ بِالزَّوْجِ وَلَيْسَ مِنْهُ. يُقَالُ: فُلَانٌ يَفْرِي الْفَرِيَّ أَيْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الْبَالِغَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ :الْفَرِيُّ الْعَجِيبُ النَّادِرُ، وَقَالَهُ الْأَخْفَشُ قَالَ: فَرِيًّا عَجِيبًا. وَالْفَرْيُ الْقَطْعُ كَأَنَّهُ مِمَّا يَخْرِقُ الْعَادَةَ، أَوْ يَقْطَعُ الْقَوْلَ بِكَوْنِهِ عَجِيبًا نَادِرًا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْفَرِيُّ الْجَدِيدُ مِنَ الْأَسْقِيَةِ، أَيْ جِئْتِ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ بَدِيعٍ لَمْ تُسْبَقِي إِلَيْهِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: (شَيْئًا فَرْيًّا) بِسُكُونِ الرَّاءِ . وَقَالَ السُّدِّيُّ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: لَمَّا أَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ تَسَامَعَ بِذَلِكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَاجْتَمَعَ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، فَمَدَّتِ امْرَأَةٌ يَدَهَا إِلَيْهَا لِتَضْرِبَهَا فَأَجَفَّ اللَّهُ شَطْرَهَا فَحُمِلَتْ كَذَلِكَ".

يعني شلت، يبست.

"وَقَالَ آخَرُ: مَا أَرَاهَا إِلَّا زَنَتْ فَأَخْرَسَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَتَحَامَى النَّاسُ مِنْ أَنْ يَضْرِبُوهَا، أَوْ يَقُولُوا لَهَا كَلِمَةً تُؤْذِيهَا، وَجَعَلُوا يَخْفِضُونَ إِلَيْهَا الْقَوْلَ وَيُلِينُونَ، فَقَالُوا : {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} أَيْ عَظِيمًا قَالَ الرَّاجِزُ:

قَدْ أَطْعَمَتْنِي دَقَلًا حَوْلِيَّا مُسَوِّسًا مُدَوِّدًا حَجْرِيَّا

قَدْ كُنْتِ تَفْرِينَ بِهِ الْفَرِيَّا

 أَيْ تَعْظِيمَنَهُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَا أُخْتَ هَارُونَ} اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ".

يعني من المراد بهارون؟ إن كان هارون بن عمران أخا موسى فبينهما مفاوز أكثر من ستمائة سنة، وإن كان غيره فمن هو؟

"وَمَنْ هَارُونُ؟ فَقِيلَ: هُوَ هَارُونُ أَخُو مُوسَى، وَالْمُرَادُ مَنْ كُنَّا نَظُنُّهَا مِثْلَ هَارُونَ فِي الْعِبَادَةِ تَأْتِي بِمِثْلِ هَذَا. وَقِيلَ: عَلَى هَذَا كَانَتْ مَرْيَمُ مِنْ وَلَدِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ بِالْأُخُوَّةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ وَلَدِهِ، كَمَا يُقَالُ لِلتَّمِيمِيِّ: يَا أَخَا تَمِيمٍ وَلِلْعَرَبِيِّ يَا أَخَا الْعَرَبِ، وَقِيلَ: كَانَ لَهَا أَخٌ مِنْ أَبِيهَا اسْمُهُ هَارُونَ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ كَانَ كَثِيرًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ تَبَرُّكًا بِاسْمِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَكَانَ أَمْثَلَ رَجُلٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ".

يعني من حيث اللفظ هذا أوضح، أن لها أخًا اسمه هارون، لذا قالوا: { يَا أُخْتَ هَارُونَ}، لكن ما يمتنع من حيث المعنى أن يراد به هارون بن عمران والأخوة مثلما يقال: يا أخا العرب، يا أخا تميم، قد ينسب يا أخا صداء كما جاء في الحديث.

"وَقِيلَ: هَارُونُ هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ تَبِعَ جِنَازَتَهُ يَوْمَ مَاتَ أَرْبَعُونَ أَلْفًا كُلُّهُمُ اسْمُهُ هَارُونُ. وَقَالَ قَتَادَةُ : كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ عَابِدٌ مُنْقَطِعٌ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- يُسَمَّى هَارُونُ فَنَسَبُوهَا إِلَى أُخُوَّتِهِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ عَلَى طَرِيقَتِهِ قَبْلُ؛ إِذْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى خِدْمَةِ الْبِيَعِ؛ أَيْ يَا هَذِهِ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ مَا كُنْتِ أَهْلًا لِذَلِك. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ بِحَضْرَةِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: إِنَّ مَرْيَمَ لَيْسَتْ بِأُخْتِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: كَذَبْتَ . فَقَالَ لَهَا : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَهُ فَهُوَ أَصْدَقُ وَأَخْبَرُ، وَإِلَّا فَإِنِّي أَجِدُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُدَّةِ سِتَّمِائَة سَنَةٍ. قَالَ: فَسَكَتَت".

يعني الاجتهاد في مثل هذه الأمور من قبل الصحابي، الغالب أن الصواب معه، مع الصحابي، لكن لا يلزم أن يكون اجتهاده هو الصواب دون غيره لاسيما في مسائل الاختلاف فالغالب أنه هو المصيب، لكن إذا كانت المسألة اجتهادية فقد يكون الصواب، وهذا نادرًا جدًّا مع غيره، وقد يكون الصحابي تلقاه عن بعض أهل الكتاب، وما يأتي عن أهل الكتاب لا يلزم تصديقه، كما جزم جمع من الصحابة بأن الجراد- وهذا ثابت عن بعضهم- من نثرة حوت من البحر، ولذا إذا قتله المحرم أو في الحرم لا يلزمه شيء، والقول الآخر أنه بري كما هو الأصل، وهذا معروف ومشاهد أنه يتوالد في البر.

المقصود أن مثل هذه الأمور اجتهادية التي يختلف فيها الصحابة بينهم لا يكون قول أحدهم ملزمًا حجة على القول الآخر، ولذا قال: إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاله فهو أصلح وأخبر وإلا فإني أجد بينهم من المدة ستمائة سنة، قال: فسكتت، سلمت، نعم، ولا يقول قائل: إن هذه المدد يسيرة بالنسبة للمتقدمين، هم ليسوا بمتقدمين، عهدهم قريب، نعم بالنسبة لقوم نوح ومن قبلهم ومن بعدهم، هذه يسيرة.

طالب: ...........

عند المتقدمين، نعم.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: »لَمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ سَأَلُونِي فَقَالَوا: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ (يَا أُخْتَ هَارُونَ) وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ : إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ «، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّصَارَى قَالُوا لَهُ: إِنَّ صَاحِبَكَ يَزْعُمُ أَنَّ مَرْيَمَ هِيَ أُخْتُ هَارُونَ وَبَيْنَهُمَا فِي الْمُدَّةِ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ؟ قَالَ الْمُغِيرَةُ: فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ اسْمٌ وَافَقَ اسْمًا. وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا جَوَازُ التَّسْمِيَةِ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ .  قُلْتُ: فَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ".

الآن كم لهم من سنة؟ يعني هارون قبل عيسى بستمائة سنة، ولعيسى الآن ألفان وأربعة، وضف على كل مائة ثلاث سنين يعني من سنينا.

طالب: ...........

 عشرين، عشرين من المئين في ثلاثة، ستين سنة، يعني ألفين وأربعة وستين أو خمسة وستين مع الستمائة التي قبلها، الله المستعان.

"مُوسَى وَعِيسَى وَهَارُونَ زَمَانٌ مَدِيد. قالٌ الزَّمَخْشَرِيُّ : كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ أَلْفُ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرُ فَلَا يُتَخَيَّلُ أَنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ أُخْتَ مُوسَى وَهَارُونَ؛ وَإِنْ صَحَّ فَكَمَا قَالَ السُّدِّيُّ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ نَسْلِهِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ مِنْ قَبِيلَةٍ: يَا أَخَا فُلَانٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: »إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ قَدْ أَذَّنَ فَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ«،  وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. قال ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ رَجُلٌ فَاجِرٌ اسْمُهُ هَارُونُ فَنَسَبُوهَا إِلَيْهِ عَلَى جِهَةِ التَّعْيِيرِ وَالتَّوْبِيخِ، ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ وَلَمْ يُسَمِّ قَائِلَهُ".

لكن بعيد، السياق يأبى هذا فهم يمدحونه، يمدحون.

"قُلْتُ: ذَكَرَهُ الْغَزْنَوِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ فَاسِقًا مَثَلًا فِي الْفُجُورِ فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ أَبُوكِ وَلَا أُمُّكِ أَهْلًا لِهَذِهِ الْفَعْلَةِ فَكَيْفَ جِئْتِ أَنْتِ بِهَا؟! وَهَذَا مِنَ التَّعْرِيضِ الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ التَّصْرِيحِ. وَذَلِكَ يُوجِبُ عِنْدَنَا الْحَدَّ وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ (النُّورِ) الْقَوْلُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ يَرُدُّهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فَلَا كَلَامَ لِأَحَدٍ مَعَهُ، وَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ لَجَأَ التَّيْمِيُّ (مَا كَانَ أَبَاكِ امْرُؤُ سَوْءٍ)".

عكس، عكس جعل الاسم هو الخبر، والخبر هو الاسم، عكس الجملة من حيث الإعراب. كم باقٍ على الآذان؟ نأخذ هذا ولا؟

طالب:..................

ماذا؟

طالب:...................

نعم.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} فِيهِ خَمْسُ مَسَائِل:

 الْأُولَى: الْتَزَمَتْ مَرْيَمُ -عَلَيْهَا السَّلَامُ- مَا أُمِرَتْ بِهِ مِنْ تَرْكِ الْكَلَامِ".

عندك يا أبا عبد الله فيه خمس مسائل؟ عندك؟

طالب: نعم.

بعد الآيات.

طالب: نعم.

"وَلَمْ يَرِدْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا نَطَقَتْ بِ { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}،  وَإِنَّمَا وَرَدَ بِأَنَّهَا أَشَارَتْ، فَيَقْوَى بِهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَمْرَهَا بِ (قُولِي) إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْإِشَارَةُ".

والقول، القول يطلق على الفعل، القول يطلق على الفعل، كما جاء في التيمم فقال: بيديه هكذا، والإشارة فعل.

"وَيُرْوَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَشَارَتْ إِلَى الطِّفْلِ قَالُوا : اسْتِخْفَافُهَا بِنَا أَشَدُّ عَلَيْنَا مِنْ زِنَاهَا".

يعني ما ردت عليهم، ما ردت عليهم هي إنما أشارت إلى الطفل.

"ثُمَّ قَالُوا لَهَا عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ".  

وهذا قد يرد، قد يرد ويراد به تحقير المتكلم، إذا سأل مثلًا شخص قال: أجب عليه، لأصغر القوم، كأنه فهمه هذا.

"ثُمَّ قَالُوا لَهَا عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ{كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} وَكَانَ هُنَا لَيْسَ يُرَادُ بِهَا الْمَاضِي".

إنما هو الآن، الآن هو صبي، ما كان في الزمان الماضي، الآن هو صبي.

"لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَدْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، وَإِنَّمَا هِيَ فِي مَعْنَى هُوَ الْآنَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَ هُنَا لَغْوٌ؛ كَمَا قَالَ:

وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا كَرَامَا"  

 يعني زائدة.

"وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الْوُجُودِ وَالْحُدُوثِ كَقَوْلِهِ : {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ }[البقرة:280] وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: زَائِدَةٌ وَقَدْ نَصَبَتْ صَبِيًّا وَلَا أَنْ يُقَالَ (كَانَ) بِمَعْنَى حَدَثَ".

يعني ليست تامة وإنما هي ناسخة ناقصة.

"لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْحُدُوثِ وَالْوُقُوعِ لَاسْتَغْنَى فِيهِ عَنِ الْخَبَرِ، تَقُولُ: كَانَ الْحَرُّ وَتَكْتَفِي بِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَنْ فِي مَعْنَى الْجَزَاءِ وَكَانَ بِمَعْنَى يَكُنْ، والتَّقْدِيرُ: مَنْ يَكُنْ فِي الْعَهْدِ صَبِيًّا".

في المهد، في المهد، من يكن في المهد.

"والتَّقْدِيرُ: مَنْ يَكُنْ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا فَكَيْفَ نُكَلِّمُهُ؟! كَمَا تَقُولُ: كَيْفَ أُعْطِي مَنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ عَطِيَّةً؛ أَيْ مَنْ يَكُنْ لَا يَقْبَلُ. وَالْمَاضِي قَدْ يُذكرُ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ".

يُذكر، يُذكر.

"وَالْمَاضِي قَدْ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْجَزَاءِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}[الفرقان:10] أَيْ إِنْ يَشَأْ يَجْعَلْ . وَتَقُولُ : مَنْ كَانَ إِلَيَّ مِنْهُ إِحْسَانٌ كَانَ إِلَيْهِ مِنِّي مِثْلُهُ، أَيْ مَنْ يَكُنْ مِنْهُ إِلَيَّ إِحْسَانٌ يَكُنْ إِلَيْهِ مِنِّي مِثْلُهُ". يعني إغراء بالإحسان إليه وهذا لا يكون إلا في المستقبل.

"وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ سَبِيلُهُ أَنْ يُنَوَّمَ فِي الْمَهْدِ لِصِغَرِهِ".

ماذا؟ يُنَوَّمَ يُنَوَّمَ.

يُنَوَّمَ؟

يعني يُنَوَّمَ في المهد لصغره.

"أَنْ يُنَوَّمَ فِي الْمَهْدِ لِصِغَرِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَلَامَهُمْ قَالَ لَهُمْ مِنْ مَرْقَدِهِ: { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} وَهِيَ: الثَّانِيَةُ: فَقِيلَ: كَانَ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَرْضَعُ فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهُمْ تَرَكَ الرَّضَاعَةَ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ، وَاتَّكَأَ عَلَى يَسَارِهِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِسَبَّابَتِهِ الْيُمْنَى، وَ {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}  فَكَانَ أَوَّلَ مَا نَطَقَ بِهِ الِاعْتِرَافُ بِعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ، رَدًّا عَلَى مَنْ غَلَا مِنْ بَعْدِهِ فِي شَأْنِهِ. وَالْكِتَابُ الْإِنْجِيلُ. قِيلَ: آتَاهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْكِتَابَ، وَفَهَّمَهُ وَعَلَّمَهُ، وَآتَاهُ النُّبُوَّةَ كَمَا عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَكَانَ يَصُومُ وَيُصَلِّي. وَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ".

يعني وهو في المهد أتاه الكتاب وهو في المهد، ويصوم ويصلي وهو في المهد، لكنه بعيد، بعيد جدًا؛ لأنه تكلم في المهد ثم عاد إلى رضاعته واستمر على سنة الله –جل وعلا- في خلقه في الطفولة.

"وَهَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ هَذَا. وَقِيلَ: أَيْ حَكَمَ لِي بِإِيتَاءِ الْكِتَابِ وَالنُّبُوَّةِ فِي الْأَزَلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْكِتَابُ مُنَزَّلًا فِي الْحَالِ؛ وَهَذَا أَصَحُّ . {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} أَيْ ذَا بَرَكَاتٍ وَمَنَافِعَ فِي الدِّينِ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ وَمُعَلِّمًا لَهُ. قال التُّسْتَرِيُّ: وَجَعَلَنِي آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأُرْشِدُ الضَّالَّ، وَأَنْصُرُ الْمَظْلُومَ، وَأُغِيثُ الْمَلْهُوفَ. {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ}  أَيْ لِأُؤَدِّيَهُمَا إِذَا أَدْرَكَنِي التَّكْلِيفُ، وَأَمْكَنَنِي أَدَاؤُهُمَا، عَلَى الْقَوْلِ الْأَخِيرِ الصَّحِيحِ. { مَا دُمْتُ حَيًّا } فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ دَوَامَ حَيَاتِي. { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي}  قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا قَالَ { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} وَلَمْ يَقُلْ: بِوَالِدَيَّ عُلِمَ أَنَّهُ شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى. {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا}  أَيْ مُتَعَظِّمًا مُتَكَبِّرًا يَقْتُلُ وَيَضْرِبُ عَلَى الْغَضَبِ. وَقِيلَ: الْجَبَّارُ الَّذِي لَا يَرَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقًّا قَطُّ. {شَقِيًّا} أَيْ خَائِبًا مِنَ الْخَيْرِ. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: عَاقًّا. وَقِيلَ: عَاصِيًا لِرَبِّهِ. وَقِيلَ: لَمْ يَجْعَلْنِي تَارِكًا لِأَمْرِهِ فَأَشْقَى كَمَا شَقِيَ إِبْلِيسُ لَمَّا تَرَكَ أَمْرَهُ.

 الثَّالِثَةُ: قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا أَشَدَّهَا عَلَى أَهْلِ الْقَدَرِ! أَخْبَرَ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِمَا قُضِيَ مِنْ أَمْرِهِ، وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ يَمُوتَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي قَصَصِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا كَلَامَ عِيسَى أَذْعَنُوا وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَأَمْرٌ عَظِيمٌ. وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِنَّمَا تَكَلَّمَ فِي طُفُولَتِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى حَالَةِ الْأَطْفَالِ".

يعني بلفظه، تكلم بلفظ الآية، ثبت في الصحيح أنه لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، منهم عيسى -عليه السلام-.

"ثُمَّ عَادَ إِلَى حَالَةِ الْأَطْفَالِ، حَتَّى مَشَى عَلَى عَادَةِ الْبَشَرِ إِلَى أَنْ بَلَغَ مَبْلَغَ الصِّبْيَانِ فَكَانَ نُطْقُهُ إِظْهَارَ بَرَاءَةِ أُمِّهِ لَا أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ يَعْقِلُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَهُوَ كَمَا يُنْطِقُ اللَّهُ تَعَالَى الْجَوَارِحَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ دَامَ نُطْقُهُ، وَلَا أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ ابْنُ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ، وَلَوْ كَانَ يَدُومُ نُطْقُهُ وَتَسْبِيحُهُ وَوَعْظُهُ وَصَلَاتُهُ فِي صِغَرِهِ مِنْ وَقْتِ الْوِلَادَةِ لَكَانَ مِثْلُهُ مِمَّا لَا يَنْكَتِمُ".

يعني يستفيض، يستفيض في العالمين من حيث يتناقله ويتداوله الأمم.

"وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَيُصَرِّحُ بِجَهَالَةِ قَائِلِهِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ خِلَافًا لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْفِرَقِ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُحَدَّ. وَإِنَّمَا صَحَّ بَرَاءَتُهَا مِنَ الزِّنَا بِكَلَامِهِ فِي الْمَهْدِ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَبِرَّ الْوَالِدَيْنِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْأُمَمِ السَّابقةِ، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ الْمَاضِيَةِ، فَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ حُكْمُهُ وَلَمْ يُنْسَخْ فِي شَرِيعَةِ أَمْرِهِ. وَكَانَ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي غَايَةِ التَّوَاضُعِ؛ يَأْكُلُ الشَّجَرَ، وَيَلْبَسُ الشَّعْرَ، وَيَجْلِسُ عَلَى التُّرَابِ، وَيَأْوِي حَيْثُ جَنَّهُ اللَّيْلُ، ولَا مَسْكَنَ لَهُ، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".

اللهم صلِّ عليه.

الإشارة فيها كلام مهم جدًّا، مؤجلة شوي، الجمعة هذه أنا موجود، تريدون درسًا أنا موجود.

طالب:...................

أنا موجود في هذه الجمعة، الجمعة التي تليها ما أدري عندي شك، لكن هذه أنا موجود إن كان تريدون درسًا فأنا موجود، نكمل الجمعة إن شاء الله.

طالب:..............

لا لا الاثنين طارئ يعود إلى الجمعة، الاثنين يرجع الفقه إن شاء الله بعد الحج، انتهى الروض.