شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (298)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع بداية حلقتنا نرحب بضيف البرنامج الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ.

حياكم الله، وبارك فيكم، وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لازلنا في حديث أنس –رضي الله عنه- توقفنا عند قوله: «أجيءُ أنا وغلامٌ معنا».

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد،

فالغلام يقول ابن حجر: في قوله: «وغلامٌ» يقول ابن حجر: زاد في الرواية الآتية عقبها منا، «تبعته أنا وغلامٌ منا».

المقدم: من الأنصار يعني.

أي: من الأنصار، نعم وجاء التصريح وصرَّح به الإسماعيلي في رواية، ولمسلمٍ نحوي أي: مقاربٌ لي في السن، ونحتاج إلى هذا؛ لأن فيه كلامًا كثيرًا لأهل العلم.

قال: والغلام هو المترعرع، قاله أبو عُبيد، وقال في المُحكم: من لدُن الفطام إلى سبع سنين، وحكى الزمخشري في أساس البلاغة أن الغلام: هو الصغير إلى حد الالتحاء، فإن قيل له بعد الالتحاء غلامٌ فهو مجاز.

يقول في أساس البلاغة: إن الغلام هو الصغير إلى حد الالتحاء، فإن قيل له بعد الالتحاء غلامٌ فهو مجاز.

في عمدة القاري: الغلام هو الذي طرَّ شاربه، وقيل: هو من حين يولد إلى أن يشب، وذكر كلام الزمخشري، قال: ويُروى عن علي بن علي بن طالبٍ في بعض أراجيزه: أنا الغلام الهاشمي المكي، وقالت ليلى الأخيلية في الحجاج: غلامٌ إذا هزَّ القناة ثناها. قال: وجمعه أغلمة، وغلمة، وغلمان، والأنثى غلامةٌ. وفي الصحاح استغنوا بغلمة عن أغلمة، وتصغير الغلمة: أُغيلمة على غير مُكبره كأنهم صغَّروا أغلمة وإن لم يقولوه.

معنا: أي في صحبتنا إداوةٌ. قال صاحب المُحكم: اسمٌ معناه الصحبة، متحركةٌ وساكنة معَ ومعْ، متحركةٌ وساكنة، غير أن المتحركة العين تكون اسمًا وحرفًا، والساكنة العين تكون حرفًا لا غير.

"فَرِيشِي مِنكُمُ وهَوَايَ مَعْكُم"

وها هنا يجوز تسكينُ العين وكذا في مَعْكُم، يجوز مَعْكُم كما في البيت "فَرِيشِي مِنكُمُ وهَوَايَ مَعْكُمْ".

وعند اجتماعه بالألف واللام مع القوم مثلًا، وعند اجتماع بالألف واللام تُفتح العين وتُكسر مَعَ القوم ومَعِ القوم. تُفتح على اعتبار أنها في الأصل مفتوحة، وتُكسر باعتبار أنها ساكنة؛ لالتقاء الساكنين، فيقال: مَعَ القوم، ومَعِ القوم فتحًا وكسرًا.

وقال الجوهري: مَعْ للمصاحبة، وقد تُسكَّن وتُنوَّن، فيقال: جاءوا معًا كذا في الكرماني والعيني.

إداوةٌ: بكسر الهمزة إناءٌ صغير من جلد يُتخذ للماء كالسطيحة ونحوها، والجمع أداوي.

قال الجوهري: الإداوة المِطهرة، والجمع أداوي.

من ماءٍ من هذه: بيانية، أي: مملوءةٌ من ماء.

يقول ابن بطال في شرحه في معرض فوائد الحديث: فيه أن خدمة العالِم وحمل ما يُحتاج إليه من إناءٍ وغيره شرفٌ للمتعلم ومُستحبٌ له، ألا ترى قول أبي الدرداء –يعني في الباب الذي يليه- قول أبي الدرداء: أليس فيكم صاحب النعلين والطهور والوساد، يعني: عبد الله بن مسعود، فأراد بذلك الثناء عليه والمدح له لخدمة النبي –صلى الله عليه وسلم-.

يقول ابن حجر: وفيه جواز استخدام الأحرار -لأن أنسًا حر، والغلام الذي معه على خلافٍ في تفسيره حُرٌّ أيضًا- جواز استخدام الأحرار خصوصًا إذا أُرصدوا لذلك ليحصل لهم التمرن على التواضع.

وفيه حجةٌ على ابن حبيب حيث منع الاستنجاء بالماء؛ لأنه مطعوم؛ لأن ماء المدينة كان عذبًا، فاستعمله النبي –عليه الصلاة والسلام- في الاستنجاء.

واستدل به بعضهم على استحباب التوضؤ من الأواني دون الأنهار والبرك.

النبي –عليه الصلاة والسلام- استنجأ وتوضأ من الإداوة.

قال: استحب بعضهم التوضؤ من الأواني دون الأنهار والبرك، ولا يستقيم –لا يتم هذا الاستدلال- إلا لو كان النبي –عليه الصلاة والسلام- وجد الأنهار والبرك فعدل عنها إلى الأواني.

يعني: ما يقال إن ركوب البر أفضل من ركوب البحر، أو أفضل من ركوب الجو؛ لأن النبي- عليه الصلاة والسلام- ما ركب...

المقدم: لأنه غير متوفرة.

نعم غير متوفرة.

وقال العيني: فيه جواز الاستنجاء بالماء؛ ولذلك ترجم البخاري عليه في رد على مَن منع ذلك كما بيناه، وأجابوا عن قول سعيد بن المثيب وقد سُئل عن الاستنجاء بالماء أنه وضوء النساء.

فيه رد على مَن منع ذلك –يعني الاستنجاء بالماء- وأجاب عن قول سعيد بن المسيب: وقد سُئل عن الاستنجاء بالماء أنه وضوء النساء بأنه لعل ذلك في مقابلة غلو من أنكر الاستنجاء بالأحجار.

يعني: لو وجدنا شخصًا لا يرى الاستنجاء بالأحجار، ولازم الاستنجاء بالماء، كيف لنا أن نكسر من غلوائه ونُخفف من تنطعه في مثل هذا؟

نقابله بمثل هذا القول، كما قلنا مرارًا بأن النصوص الشرعية جاءت علاج لأدواء التطرف سواء كان بالإفراط أو بالتفريط، فمن عُرف بالتفريط يُعالَج بنصوص الإفراط والتشديد، ومن عُرف بالإفراط الذي التشديد يُعالَج بنصوص التسهيل والتيسير.

يعني: كما يعالَج الخوارج بنصوص الوعد، ويُعالَج المرجئة بنصوص الوعيد، فلعل سعيد بن المسيب قال ذلك في مقابلة غلو من أنكر الاستنجاء بالأحجار، وبالغ في إنكاره بهذه الصيغة ليمنع من الغلو.

وحمله ابن قانع على أنه في حق النساء، وأما الرجال فيجمعون بينه وبين الأحجار، حكاه الباجي عنه.

قال القاضي: والعلة عند سعيد في كونه وضوء النساء معناه أن الاستنجاء في حقهنَّ بالحجارة متعذر. لاشك أن بالنسبة للنساء الاستنجاء بالحجارة فيه مشقة عليهم بخلاف الاستنجاء بالماء، قال: والعلة عند سعيد في كونه وضوء النساء معناه أن الاستنجاء في حقهنَّ بالحجارة متعذر.

وقال الخطابي: زعم بعض المتأخرين أن الماء مطعوم فلهذا كره الاستنجاء به سعيد وموافقوه، وهذا قولٌ باطل منابذٌ للأحاديث الصحيحة.

وشذَّ ابن حبيب، فقال: لا يجوز الاستنجاء بالأحجار في وجود الماء، فهو يريد أن الاستنجاء بالأحجار الذي خصه العُرف بلفظ الاستجمار، لا يجوز مع وجود الماء فكأنه نظَّره بالتيمم، لا يصح مع وجود الماء.

وحكاه القاضي أبو الطيب عن الزيدية والشيعة وغيرهما، والسُّنة قاضيةٌ عليهم؛ حيث استعمل الشارع الأحجار وأبو هريرة معه ومعه إداوةٌ من ماء.

ومذهب جمهور السلف والخلف والذي أجمع عليه أهل الفتوى من أهل الأمصار: أن الأفضل أن يُجمع بين الماء والحجر، فيُقدم الحجر أولًا ثم يُستعمل الماء، فتخف النجاسة وتقل مباشرتها بيده، ويكون أبلغ في النظافة، فإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل؛ لكونه يزيل عين النجاسة وأثرها، والحجر يزيل العين دون الأثر، لكنه –يعني الأثر- معفو عنه في حق نفسه، وتصح الصلاة معه كسائر النجاسات المعفو عنها.

واحتج الطحاوي –رحمه الله- على الاستنجاء بالماء بقوله تعالى: { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]. قال الشعبي –رحمه الله-: لما نزلت هذه الآية قال النبي– صلى الله عليه وسلم-: «يا أهل قباء، ما هذا الثناء الذي أثنى الله عليكم»؟ قالوا: ما منا أحدٌ إلا وهو يستنجي بالماء.

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي –عليه الصلاة والسلام- قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108]، قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم هذه الآية، والحديث أيضًا عند الترمذي.

هذا الكلام يدل على أن أول مسجد أُسس على التقوى هو مسجد قباء.

وجاء في الصحيح أن النبي –عليه الصلاة والسلام- سُئل عن أول مسجد أُسس على التقوى، فأخذ كبةً من حصباء فقال: «مسجدي هذا»، فرماها فيه.

نحن نقول: إن هذه الروايات ضعيفة؛ لأنها معارضة بما في الصحيح؟ أو أن كلًّا من مسجده –عليه الصلاة والسلام- ومسجد قباء أُسس على التقوى، لكن ينبغي النظر في قوله –جل وعلا-: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ}، نعم من أول يوم، هل هو من أول يوم من تأسيسه، أو من أول يوم من قدومه؟

إذا قلنا: أول يوم من تأسيسه يشمل المسجدين، وإذا قلنا: أول يوم من قدومه مسجد قباء فقط، وإذا قلنا: إنه متعين أنه مسجد قباء لا مسجد النبي –عليه الصلاة والسلام- رجحنا ما في الصحيح على ما في هذه الروايات، وإذا قلنا: من أول تأسيسه قلنا: المسألة فيها سعة، وكلاهما أُسس على التقوى لاسيما وأن المؤسس هو المعصوم -عليه الصلاة والسلام-.

يقول القرطبي في تفسيره: أثنى الله –سبحانه وتعالى- في هذه الآية على من أحب الطهارة، وآثر النظافة، وهي مروءةٌ آدمية ووظيفةٌ شرعية.

يعني: الفِطر السليمة تدعو إليها، الفِطر السليمة تتطلبها، وذكرنا في مناسباتٍ مضت أن غسَّالًا يغسل الملابس كافر، أسلم من غير دعوة، لماذا؟ لأنه يقول: تأتيني الملابس ملابس المسلمين وغير المسلمين.

المقدم: ملابس المسلمين أنصع وأسهل.

نعم، ملابس المسلمين ليس فيها القذر، ولا فيها نتن، ولا فيها روائح كريهة؛ بسبب ما يبقى من البول والغائط بخلاف ملابس الكفار، ولو كانوا في الظاهر نظيفين، فأسلم بهذا السبب.

يقول القرطبي: أثنى الله –سبحانه وتعالى- في هذه الآية على من أحب الطهارة، وآثر النظافة، وهي مروءةٌ آدمية ووظيفةٌ شرعية.

وفي الترمذي: عن عائشة –رضوان الله عليها- أنها قالت: مُرن أزواجكن –تقول للنساء- مُرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم، وقال: حديثٌ صحيح.

وثبت أن النبي –عليه الصلاة والسلام- كان يُحمل الماء معه في الاستنجاء، فكان يستعمل الحجارة للتخفيف، والماء تطهيرًا. قال ابن العربي: وقد كان علماء القيروان يتخذون في متوضآتهم أحجارًا في تراب يُنقون ثم يستنجون بالماء.

هذا الحديث خَّرجه الإمام في خمسة مواضع:

الموضع الأول: هنا في كتاب الوضوء، في باب الاستنجاء بالماء: قال -رحمه الله-: حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك –وقلنا إنه الطيالسي-، قال: حدثنا شعبة عن أبي معاذٍ واسمه عطاء بن أبي ميمونة، قال: سمعت أنس بن مالكٍ يقول: كان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلامٌ معنا إداوةٌ من ماء –يعني: يستنجي به-، وتقدم ذِكر المناسبة.

الموضع الثاني: أيضًا في كتاب الوضوء في الباب الذي يليه، في كتاب الوضوء باب من حُمل معه الماء لطهوره.

وقال أبو الدرداء: أليس فيكم صاحب النعلين والطهور والوساد؟

قال -رحمه الله-: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا شعبة عن أبي معاذ هو عطاء بن أبي ميمونة، قال: سمعت أنسًا يقول: كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلامٌ منا معنا إداوةٌ من ماء، والمناسبة أيضًا ظاهرة، باب من حُمل معه الماء لطهوره. تبعته أنا وغلام، معنا إداوةٌ من ماء، فهما يحملان أو يعتقبان حمل هذه الإداوة، المناسبة ظاهرة.

يقول ابن حجر: إيراد المصنف لحديث أنس مع هذا الطرف من حديث أبي الدرداء: أليس فيكم صاحب النعلين والطهور والوساد؟ ثم أورد حديث أنس. أنس مُصرَّح به والغلام مبهم، يقول: إيراد المصنف لحديث أنس مع هاذ الطرف من حديث أبي الدرداء يُشعر إشعارًا قويًّا بأن الغلام المذكور في حديث أنس هو ابن مسعود.

وقد قدمنا أن لفظ الغلام يُطلق على غير الصغير مجازًا، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- لابن مسعود بمكة وهو يرعى الغنم: «إنك لغلامٌ مُعلَّم» يعني: لما قال له النبي –عليه الصلاة والسلام وقت المقولة كان بمكة وهو غلام بالفعل، هو غلام، لكن في وقت الحمل هنا أنس صغير وابن مسعود كبير –يعني: من المهاجرين الأولين، من السابقين إلى الإسلام- فكيف يُقال له: غلام؟

يقول ابن حجر: قد قدمنا أن لفظ الغلام يُطلق على غير الصغير مجازًا، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم لابن مسعود بمكة وهو يرعى الغنم: «إنك لغلامٌ مُعلَّم». وعلى هذا فقول أنس: وغلامٌ منا أي: من الصحابة، لكن يأتي عليه تصريح الإسماعيلي بأنه من الأنصار، وابن مسعود مهاجري. يعني أكثر من إشكال في المسألة.

أما مسألة كونه كبيرًا فقد يكون هذا التلقيب أو هذا الإطلاق من النبي –عليه الصلاة والسلام- بالنسبة لابن مسعود مُحببًا بحيث كان يؤثره –هذا أقوله من عندي- بحيث كان يؤثره حتى في كِبره، يعني: أطلق عليه النبي –عليه الصلاة والسلام- فأحب أن يستمر.

المقدم: لكن الذي أطلقه أنس هنا.

أين؟

المقدم: كونه غلامًا؟

نعم، أول من أطلقه على ابن مسعود وهو يرعى الغنم، قال له: أنت غلام، فاستحب أن يستمر هذا اللقب له حتى في كِبره.

المقدم: ومن الناس أيضًا؟

ومن الناس نعم، مادام إطلاقًا نبويًّا، فلماذا لا يفرح به ولو كان يُشعر بالصغر. أنا عندي هذا أولى مِن قول مَن يقول: إن ابن مسعود كان قصير القامة، ولعل شعره تأخر خروجه وكذا ليكون إلى أن يلتحي على ما سيأتي.

«إنك لغلامٌ مُعلَّم» على هذا فقول أنس: غلامٌ منا أي: من الصحابة أو مِن خدم النبي –صلى الله عليه وسلم-، وأما رواية الإسماعيلي التي فيها من الأنصار فلعلها من تصرف الراوي حيث رأى في الرواية "منا" فحملها على القبيلة، فرواها بالمعنى فقال: "من الأنصار"، أو إطلاق الأنصار على جميع الصحابة سائغ وإن كان العُرف خصَّ ذلك بالأوس والخزرج.

تعقبه العيني – تعقب العيني كلام ابن حجر، فقال: "فيما قاله محذوران: أحدهما ارتكاب المجاز من غير داعٍ" الذي دعى ابن حجر أن يقول: إن المراد بالغلام هو ابن مسعود كلام أبي الدرداء، وكون الإمام البخاري يقرن كلام أبي الدرداء والحديث، البخاري لا يفعل ذلك إلا لنكتة، فابن حجر استظهر أن يكون بالغلام هو ابن مسعود.

يقول العيني: "فيه محظوران: أحدهما ارتكاب المجاز من غير داعٍ، والآخر مخالفته لما ثبت في صريح رواية الإسماعيلي من الأنصار" وابن مسعود ليس من الأنصار.

ومن أقوى ما يرد كلامه: أن أنسًا –رضي الله عنه- وصف الغلام بالصغر في روايةٍ أخرى، فكيف يصح أن يكون المراد هو ابن مسعود.

قال ابن حجر في الانتقاض: قلت: لا يرِد شيء مما ذَكره؛ إذ ليس في الحمل على المجاز محذور، يعني: هذا عند مَن يقول في المجاز، أما الذي يُنكر وجود المجاز في الجملة فهو من أصله سواء وُجد الداعي أو لم يوجد.

قلت: لا يرد شيءٌ مما ذكره، إذ ليس في الحمل على المجاز محذور، ونفي الداعي مردود، فإنه موجود –يعني: الداعي- لتصحيح الكلام إذا أثبت أبو الدرداء أن ابن مسعود صاحب المطهرة –أي: صاحب الطهور-، وقد وصل المصنف الحديث بلفظ صاحب النعلين والوساد والمطهرة. فإذا جزم أبو الدرادء بأن ابن مسعود صاحب المطهرة، فقال أنس: غلامٌ منا كان يحمل الإداوة فيها الماء يستنجي بها كان الظاهر أنه هو المراد.

المقدم: الذي هو يريد ابن مسعود.

نعم.

المقدم: هذا رد الآن ابن حجر على العيني؟

نعم.

فإن قيل: لم يكن حينئذٍ غلامًا، يقول: أُجيب بأنه أطلق عليه ذلك مجازًا، ومثل هذا شائعٌ سائغ، ولا تمسك برده برواية الإسماعيلي، فلا مانع من وصف ابن مسعود بأنه من الأنصار بالمعنى الأعم.

الأنصار: الذين نصروا النبي –عليه الصلاة والسلام- والعُرف خصهم بالأوس والخزرج، والمهاجرون نصروه قبل الأنصار.

بالمعنى الأعم لأنه من جملة من نصر النبي –صلى الله عليه وسلم-، وأما وصفه بالصِغر فقد ذكره وأجاب عنه. والعجب أن هذا الشارح أورد ما اعترض عليه وأجاب عنه، فحذفه المعترِض للتشنيع عليه.

يعني: ابن حجر أورد الكلام وأجاب عنه عما يمكن أن يُعترض به عليه، أورد العيني الكلام من دون الإجابات، يقول: للتشنيع عليه. ونص كلام الشارح: وصاحب النعلين في الحقيقة هو النبي– صلى الله عليه وسلم-، فأطلق أبو الدرداء ذلك على ابن مسعود مجازًا لملازمته لحملهما، وكذلك القول في المطهرة، ويتأيد دعوى المجاز في قوله: غلامٌ بالحديث الذي فيه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال لابن مسعود وهو في مكة وهو يرعى الغنم، قال له: علمي أنك غلامٌ مُعلم.

وتقدم قول الزمخشري بأساس البلاغة أنه يقال للشاب غلامٌ إلى أن يلتحي، ولعل ابن مسعود كان أبطأ نبات لحيته، وكان ابن مسعود نحيف الجسم، قصير القامة، فلعله وصفه بالصِغر لذلك إن ثبتت الرواية، يعني: رواية وصفه بالصِغر.

المقدم: غلامٌ صغير.

نعم، لكن أنا أقول: محبة ابن مسعود للفظ غلام؛ لأن الذي أطلقها النبي –عليه الصلاة والسلام- أولى من أن يُلجأ إلى مثل هذا.

وقد جوَّز الشارح –يعني: نفسه، ابن حجر- أن يكون المراد بالغلام أبو هريرة، وذكر الخبر الوارد في ذلك فأخذه المعترض أيضًا ونسبه لنفسه، ثم تعقبه بأنه ليس من الأنصار، وألحق الشارح بعد ذلك ما يدل على أنه جابر أيضًا، وهو أنصاري، وكان في ذلك الوقت غلامًا حقيقة من أقران أنس، ولم يقف على ذلك المعترض، ولله الحمد.

كونه لم يقف عليه، هو وقف على جميع الكلام السابق من كلام ابن حجر، فإذا وقف على أن المراد به أبو هريرة يقف على أن المراد به جابر؛ لأنه من تتمة الكلام إلا أن يكون اجتزأ ببعضه ولم يُكمل قراءة الباقي. انتهى من الانتقاض.

تتمة كلام ابن حجر في الفتح الذي أشار إليه في الانتقاض: وروى أبو داود من حديث أبي هريرة قال: كان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا أتى الخلاء أتيته بماءٍ في ركوةٍ فاستنجى. فيحتمل أن يُفسر به الغلام المذكور في حديث أنس، ويؤيده ما رواه المصنف في ذِكر الجن من حديث أبي هريرة أنه كان يحمل مع النبي –صلى الله عليه وسلم- الإداوة لوضوئه وحاجته.

وأيضًا فإن في روايةٍ أخرى لمسلم أن أنسًا وصفه بالصِغر في ذلك الحديث، فيبعُد لذلك أن يكون هو ابن مسعود، والله أعلم.

ويكون المراد بقوله: أصغرنا أي: في الحال؛ لقرب عهده بالإسلام.

يعني: أبو هريرة أصغرهم في الحال، يعني: مدته، سنه الإسلامي أقل من سنهم، يعني هذا أوضح ما يُعبَّر به؛ لأنه متأخر الإسلام.

في الحال؛ لقرب عهده بالإسلام، وعند مسلم في حديث جابر الطويل الذي في آخر الكتاب أن النبي –عليه الصلاة والسلام- انطلق لحاجته فاتبعه جابر بإداوة فيحتمل أن يُفسر به المبهم لاسيما وهو أنصاري.

ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق عاصم ابن علي عن شعبة: فأتبعه وأنا غلام، بتقديم الواو فتكون حالية، لكن تعقبه الإسماعيلي بأن الصحيح: أنا وغلامٌ أي: بواو العطف.

ونقل العيني أكثر الكلام بحروفه ولم ينسبه إلى ابن حجر، ولا أبهم قائله؛ لأنه يحتاج إلى الإبهام.

هو لا يُصرِّح بابن حجر إطلاقًا، ينقل منه كثيرًا ولا يُصرِّح به، ويستفيد منه، وإذا أراد أن يتعقب شيئًا من كلامه قال: قال بعضهم.

المقدم: نكتفي بهذا يا شيخ، أحسن الله إليك، على أن نستكمل بإذن الله تعالى ما تبقى في حلقةٍ قادمة وأنتم على خير.

أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل إلى ختام هذه الحلقة في شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

لنا بكم لقاء بإذن الله تعالى في حلقةٍ قادمة، شكر الله لكم، وشكرًا لضيفنا فضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، شكرًا لكم أنتم على طيب المتابعة، لنا بكم لقاء بإذن الله تعالى في حلقةٍ قادمة.

 

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.