التعليق على تفسير القرطبي - سورة يس (05)

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: "قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ، لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}[يس:69-70].

 قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}[يس:69]. فيه أربع مسائل:

الأولى: أخبر تعالى عن حال نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وردَّ قول من قال من الكفار: إنه شاعر، وإن القرآن شِعْر، بقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وكذلك كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا يقول الشِّعْر ولا يزنه، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم مثلًا".

متمثلاً، متمثلاً.

"وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلاً كسر وزنه، وإنما كان يحرز المعاني فقط -صلى الله عليه وسلم-؛ من ذلك أنه أنشد يومًا قول طَرَفَة:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا
 

ويأتيك من لم تزوده بالأخبار
  

 يعني تقديم وتأخير، ويأتيك بالأخبار من لم تزوده، هذا الأصل فقدم وأخر....

"وأنشد يومًا وقد قيل له: من أشْعَر الناس فقال الذي يقول:

ألم ترياني كلما جئت طارقًا
 

وجدت بها وإن لم تطب طيبًا
  

وأنشد يومًا:

أتجعل نهبي ونهب العبـ
 

ـيد بين الأقرع وعيينة
  

وقد كان -صلى الله عليه وسلم- ربما أنشد بيت المستقيم في النادر. روي أنه أنشد بيت عبد الله بن رواحة:

يبيت يجافي جنبه عن فراشه
 

إذا استثقلت بالمشركين المضاجع"
  

وهذا لا يخرجه عن كونه ليس بشاعر، أجهل الناس بالشِّعْر يقول البيت والبيتين، ينقل البيت والبيتين من كلام غيره، ولا يسمى شاعرًا.

"وقال الحسن بن أبي الحسن: أنشد النَّبي –عليه السلام-:

كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيًا
  

فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: يا رسول الله إنما قال الشاعر:

هريرة ودع إن تجهزت غاديًا
 

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا
  

فقال أبو بكر، أو عمر: أشهد أنك رسول الله، يقول الله -عزَّ وجلَّ-: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}. وعن الخليل بن أحمد: كان الشِّعْر أحبَّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى له.

الثانية: إصابته الوزن أحيانًا لا يوجب أنه يعلم الشِّعْر، وكذلك ما يأتي أحيانًا من نثر كلامه ما يدخل في وزن، كقوله يوم حنين وغيره:

هل أنتِ إلا إصبع دميتِِ
 

وفي سبيل الله ما لقيتِ
  

وقوله:

أنا النبي لا كذب
 

أنا ابن عبد المطلب"
  

يجيب أهل العلم عن مثل هذين البيتين، أن الشِّعْرَ ما كان مقصودًا، وهذا جرى على لسانه -عليه الصلاة والسلام- من غير قصد، والأمر الثاني: أن البيت والبيتين والثلاثة لا تجعل الإنسان يوصف بهذه الصفة التي هي الشِّعْر، كما أن اشتمال القرآن على الكلمتين والثلاثة والخمسة من غير العربية لا يخرجه عن كونه عربيًّا، كما هو معلوم.

"فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن، وفى كل كلام، وليس ذلك شِعْرًا ولا في معناه، كقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عمران:92]. وقوله: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}[الصف:13]. وقوله: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}[سبأ:13] إلى غير ذلك من الآيات. وقد ذكر ابن العربي منها آيات وتكلم عليها وأخرجها عن الوزن، على أن أبا الحسن الأخفش قال في قول:"

أنا النَّبِيُ لا كذب
  

ليس بشِعْر. وقال الخليل في كتاب [العين]: إن ما جاء من السجع".

نعم يكون شِعْرًا على رواية التسكين:

أنا النَّبِيُ لا كذبْ
 

أنا ابن عبد المطلبْ
  


لكن ما يدرى عن لفظه -عليه الصلاة والسلام- كيف لفظ به، فلو قال:

أنا النَّبِيُ لا كذبَ
 

أنا ابن عبد المطلبِ
  

ما صار شِعْرًا، أو لو قال: "لا كذبٌ" كذلك ينتفي كونه شِعْرًا.

"وقال الخليل في كتاب [العين]: "إن ما جاء من السجع على جزأين لا يكون شِعْرًا". وروي عنه: "أنه مَنْهُوك".

مِنْ مِنْ، من منهوك الرجز.

 "أنه مَنْ مَنْهُوك الرجز". وقد قيل: لا يكون مِنْ مَنْهُوك الرجز إلا بالوقف على الباء من قوله: "لا كذب"، ومن قوله: "عبد المطلب". ولم يعلم كيف قاله النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-. قال ابن العربي: "والأظهر من حال أنه قال: "لا كذبُ" الباء مرفوعة، وبخفض الباء من "عبد المطلبِ" على الإضافة". وقال النحاس: "قال بعضهم: إنما الرواية بالإعراب، وإذا كانت بالإعراب لم يكن شعرًا؛ لأنه إذا فَتَحَ الباءَ من البيت الأول أو ضمها أو نَوَّنَها، وكسر الباء من البيت الثاني خَرَجَ عن وزن الشِّعْر". وقال بعضهم: ليس هذا الوزن من الشِّعْر وهذا مكابرة العيان".

أما الوزن فهو موجود، يعني: وزن الشِّعْر موجود:

أنا النَّبِيُ لا كذب
  

على هذا النطق موجود، لكن يُجاب بأحد الجوابين أن النَّبِي -عليه الصلاة والسلام- إنما نطق به معربًا فيخرج عن كونه شِعْرًا، أو يقال: إن البيت والبيتين والثلاثة وما في حكمها لا تخرج الإنسان عن وصفه الأصلي، أنه ليس بشاعر.

"وهذا مكابرة العيان؛ لأن أشعار العرب على هذا قد رواها الخليل وغيره. وأما قوله:

هل أنت إلا إصبع دميت
  

فقيل: إنه من بحر السريع، وذلك لا يكون إلا إذا كسرت التاء من "دميتِ"، فإن سَكَّن لا يكون شعرًا بحال؛ لأن هاتين الكلمتين على هذه الصفة تكون فعول، ولا مدخل لفعول في بحر السريع. ولعل النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قالها ساكنة التاء أو متحركة التاء من غير إشباع. والمعوَّل عليه في الانفصال على تسليم أن هذا شِعْر، ويُسقِطُ الاعتراض، ولا يلزم منه أن يكون النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- عالمًا بالشِّعْر ولا شاعر أن التمثل بالبيت النزر وإصابة القافيتين من الرجز وغيره، لا يوجب أن يكون قائلها عالمًا بالشعر، ولا يسمى شاعرًا باتفاق العلماء".

كما أن وصف النَّبِي -عليه الصلاة والسلام- بالأمية ونفي الكتابة عنه، لا يثبت وصف الكتابة كونه كتب من محمد، في قصة الحديبية، كما هو معلوم، يعني مسح "من محمد رسول الله"، قال: "أخذ القلم وكتب"، فكتابة كلمة وما في حكمها لا تخرج الإنسان عن كونه ليس بكاتب، لاسيما ما يتعلق به، يعني: الإنسان ولو كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب لكن من كثرة ما يرى اسمه مكتوبًا يصوِّره، وبعض العامة وهذا رأيناه وشاهدناهم، بعض العامة يكون عنده محل تجاري، بعض البضائع مكتوب عليها اسم يتكرر كثيرًا، فتجده يكتب هذا الاسم كاملًا رباعيًّا، لماذا؟ لأنه في كل لحظة يراه، يصوره في أول الأمر، ثُمَّ يَدْرُج على كتابته، وإذا أراد أن يكتب غيره ما استطاع، أو أراد أن يقرأ غيره ما استطاع، حتى لو قلت له: اقرأ هذا المكتوب ما عرفه، لكنه يصوِّره من كثرة ما يراه.

 فكون الإنسان يكتب اسمه مثلًا لا يخرجه عن كونه غير كاتب، وكونه يتلفظ بالبيت، أو يقول البيت، أو يقع في كلامه كلام موزون بنحو بيت وشبيه، فهذا لا يخرجه عن كونه شاعرًا، فالنَّبِي- عليه الصلاة والسلام- نفى عنه الله –جلَّ وعلا- الشِّعْر بالدليل القطعي، وبهذا نعرف أن مَنْ حاول أن يجعل كلام النَّبِي -عليه الصلاة والسلام- من الحديث النبوي الشريف المرفوع إليه -عليه الصلاة والسلام- شِعْرًا، هذا مخطئ حقيقة، يعني ينظم الحديث نظمًا، والله –جلَّ وعلا- نفى عن نبيه الشِّعْر، كما حصل من نظم البلوغ وغيره، هذا غير لائق، هذا ليس بلائق، وإن كان النظم نظم غيره، لكن يبقى أنه الله –جلَّ وعلا- ينفي عنه الشِّعْر وأنت تقول كلامه بالشِّعْر، فهذا ليس بلائق إطلاقًا.

طالب: التمثل بالأبيات الكثيرة لا يخرجه عن كونه شاعرًا، يعني: التمثل عمومًا سواء أكثر أو أقل.

لا، هو يدخل في {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} في تعليم الشِّعْر، يشمل أن يكون ابتداءً، أو نقلًا.

" كما أن من خاط خيطًا لا يكون خياطًا".

صحيح لو حصل في الثوب أو ما يلبس شق أو شبهه، ثُمَّ أتيت بمخيط فخطته، فهل مَنْ عرف، قال: جاء الخياط أو راح الخياط؟ ما يمكن هذا.

"قال أبو إسحق الزجاج: "معنى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} وما علمناه أن يَشْعَر، أي: ما جعلناه شاعرًا، وهذا لا يمنع أن ينشد شيئًا من الشِّعْر". قال النحاس: "وهذا من أحسن ما قيل في هذا". وقد قيل: إنما خَبَّر الله -عزَّ وجلَّ- أنه ما علَّمه الله الشِّعْر ولم يخبر أنه لا ينشد شِعْرًا، وهذا ظاهر الكلام. وقيل فيه قول بَيْن، زعم صاحبه أنه إجماع من أهل اللغة، وذلك أنهم قالوا: كل من قال قولًا موزونًا لا يقصد به إلى شِعْر فليس بشِعْر، وإنما وافق الشِّعْر. وهذا قول بَيِّن. قالوا: وإنما الذي نفاه الله عن نبيه –عليه السلام- فهو العلم بالشِّعْر وأصنافه، وأعاريضه وقوافيه والاتصاف بقوله، ولم يكن موصوفًا بذلك بالاتفاق.

ألا ترى أن قريشًا تراوضت فيما يقولون للعرب فيه، إذا قدموا عليهم الموسم، فقال بعضهم: نقول إنه شاعر. فقال أهل الفطنة منهم: والله لتكذبنَّكم العرب، فإنهم يعرفون أصناف الشِّعْر، فوالله ما يشبه شيئًا منها، وما قوله بشِعْر". وقال أُنَيْسٌ أخو أبي ذر -رضي الله عنه-: لقد وضعت قوله على أقراء الشِّعْر فلم يلتئم أنه شِعْر. أخرجه مسلم، وكان أُنَيْسٌ من أَشْعِر العرب. وكذلك عتبة بن أبي ربيعة لما كلَّمه: والله ما هو بشِعْر ولا كهانة ولا سحر، على ما يأتي بيانه من خبره في سورة فصلت، إن شاء الله تعالى.

 وكذلك قال غيرهما من فصحاء العرب العرباء، واللسن البلغاء، ثم إن ما يجري على اللسان من موزون الكلام لا يُعدّ شِعْرًا، وإنما يعد منه ما يجري على وزن الشِّعْر مع القصد إليه، فقد يقول القائل: حدثنا شيخٌ لنا وينادي يا صاحب الكسائي، ولا يعد هذا شعرًا. وقد كان رجلٌ ينادي في مرضه وهو من عُرْضِ العامة العقلاء: اذهبوا بي إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى".

لأن الباء الثانية من الشطر الثاني، ليكون بيتًا، لكن هل يلزم القصد لتسمية الكلام كلامًا؟ وتسمية الشِّعْر شِعْرًا أو لا يلزم؟ في تعريف الكلام عند ابن آجروم يقول: هو اللفظ المركب المفيد بالوضع، اللفظ المركب المفيد بالوضع، قالوا: الوضع: القصد، فلا يدخل فيه كلام غير مقصود، لا كلام النائم، ولا كلام السكران، الذي لا يعي ما يقول، ولا كلام المجنون، ولا كلام الطيور، هذا ليس بكلام؛ لأنه غير مقصود، كما قال هنا: هذا ليس بشِعْر؛ لأنه غير مقصود، ولذا جاء في قولهم: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}[سبأ:8] يعني: إما أن يكون كلامًا أو ليس بكلام، فإن كان كلامًا فهو كذب، وإن لم يكن كلامًا فهو من كلام المجانين، هذا ليس بكلام؛ لأنه غير مقصود، هذا قول في معنى قوله: "بالوضع"، ومنهم مَنْ يقول: إن المراد "بالوضع" في تعريف الكلام الوضع اللغوي، يعني عند العرب، لا عند غيرهم من الأمم، فكلام الأعاجم على هذا ليس بكلام، كلام الأعاجم ليس بكلام، والخلاف في المسألة معروف، المقصود الذي يهمنا هنا، أن قوله: "بالوضع", قيل: بأن المراد به القصد، فما لم يُقْصَد ليس بكلام، كما أن الشِّعْر إذا وقع على اللسان من غير قصدٍ، فإنه ليس بشِعْر.

"الثالثة: روى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن إنشاد الشِّعْر فقال: "لا تكثرن منه، فمن عيبه أن الله يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}".

جاء في هذا الحديث الصحيح في البخاري وغيره «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَى يَرِيَه خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا». ومعلوم أن هذا فيمن أكثر من الشِّعْر بحيث ملأ منه قلبه، ولا يكون في القلب محل لغير هذا الشِّعْر، فَيُشْتَغَل به عن كلام الله وكلام رسوله وما ينفع في الدنيا والآخرة، فإذا امتلأ القلب من الشِّعْر ما بقي لكلام الله وكلام النَّبِي -عليه الصلاة والسلام-  محل، وحينئذ القيح خير منه، الذي يصُد عن كلام الله وكلام رسوله -عليه الصلاة والسلام-، أما الشيء الذي لا يصُد عن كلام الله ولا عن كلام رسوله -عليه الصلاة والسلام-، فالشِّعْر كما يقول أهل العلم: كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، وكم نفع الله بالشِّعْر في نظم العلوم، ضبطت العلوم بالشِّعْر، وكذلك ما يحدو الناس إلى العمل من قصائد زهديات وغيرها، كان الناس يتداولونها، كان أهل العلم يتداولونها من غير نكير، وأفادوا منها، والله المستعان.

"قال: "ولقد بلغني أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كتب إلى أبي موسى الأشعري: أن أجمع الشعراء قِبَلك، وسلهم عن الشِّعْر، وهل بقي معهم معرفة، وأحضر لبيدًا ذلك، قال: فجمعهم فسألهم، فقالوا: إنا لنعرفه ونقوله، وسأل لبيدًا فقال: ما قلت شِعْرًا منذ سمعت الله -عزَّ وجلَّ- يقول: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ}[البقرة:1-2]".

يعني علاقة المطلع مطلع السورة بالشِّعْر، ما يظهر أن هناك ارتباطًا واضحًا، إلا أنه اكتفى بالقرآن، اكتفى بسورة البقرة عن الشِّعْر كله.

"قال ابن العربي: هذه الآية ليست من عيب الشِّعْر، كما لم يكن قوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}[العنكبوت:48] من عيب الكتابة، فلما لم تكن الأمية من عيب الخط، كذلك لا يكون نفي النظم عن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- من عيب الشِّعْر".

نعم؛ لأن الوصف قد يكون وصف مدح بالنسبة لشخص، ووصف ذَمّ بالنسبة لآخر، كلٌّ له ما يناسبه، فإذا نظرنا إلى صفات الخالق –جلَّ وعلا- {لَمْ يَلِدْ}[الإخلاص:3] هذا وصف كمال، لكنه بالنسبة للمخلوق وصف نقص، وعدم الشِّعْر والكتابة لنفي الظِّنَّة عن النَّبِي -عليه الصلاة والسلام- بالنسبة له وصف كمال، كيف يأتي بمثل هذا وهو لا يقرأ ولا يكتب؟! هذا وصف كمال، وبالنسبة لغيره ممن يحتاج إلى الشِّعْر وإلى الكتابة عدمه نقص، بلا شك.

 على كل حال هذه أمور نسبية قد يحتاج إليها في بعض الأوقات تكون كمالًا، وبعض الأوقات تكون نقصًا.

"روي أن المأمون قال لأبي علي المِنْقَري: "بلغني أنك أُمِّي، وأنك لا تقيم الشِّعْر، وأنك تلحن.
فقال: يا أمير المؤمنين، أما اللحن فربما سبق لساني منه بشيء، وأما الأمِّية وكسر الشِّعْر فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يكتب ولا يقيم الشِّعْر. فقال له: سألتك عن ثلاثة عيوبٍ فيك فزدتني رابعًا وهو الجهل، يا جاهل! إن ذلك كان للنَّبِي -صلى الله عليه وسلم- فضيلة، وهو فيك وفي أمثالك نقيصة، وإنما مُنِعَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- ذلك؛ لنفي
الظِّنَّة عنه، لا لعيب في الشِّعْر والكتابة.

 الرابعة: قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي: وما ينبغي له أن يقول".

أن يقوله.

أن يقوله؟

إي أن يقوله.

"أن يقوله، وجعل الله -جلَّ وعزَّ- ذلك علمًا من أعلام نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ لئلا تدخلَ الشبهة على من أُرسل إليه، فيظن أنه قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشِّعْر. ولا اعتراض لملحد على هذا بما يتفق الوزن فيه من القرآن وكلام الرسول؛ لأن ما وافق وزنه وزن الشِّعْر، ولم يُقْصَد به إلى الشِّعْر ليس بشِعْر، ولو كان شِعْرًا لكان كل من نطق بموزون من العامة الذين لا يعرفون الوزن شاعرًا، على ما تقدم بيانه. وقال الزجاج: معنى {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي: ما يتسهل له قول الشِّعْر لا الإنشاد".

الإنشاء بالهمزة.

"لا الإنشاء".

 يعني ابتداء الشِّعْر.

"{إِنْ هُوَ} أي: هذا الذي يتلوه عليكم: {إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}.

قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا}[يس:70] أي: حي القلب، قاله قتادة. وقال الضحاك: "عاقلاً". وقيل: المعنى لتنذر من كان مؤمنًا في علم الله، هذا على قراءة التاء خطابًا للنَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، وهي قراءة نافع، وابن عامر. وقرأ الباقون بالياء على معنى: لينذر الله- عزَّ وجلَّ-، أو لينذر محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-، أو لينذر القرآن، وروي عن ابن السَّمَيْقَع "ليُنذَر".

ليَنْذَر.

"ليَنْذرَ" بفتح الياء والذال. {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي: وتجب الحجة بالقرآن على الكفرة.

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ}[يس:71]. هذه رؤية القلب، أي أولم ينظروا ويعتبروا ويتفكروا".

المسبوقة برؤية البصر، رؤية القلب المسبوقة برؤية البصر.

"{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي: مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا وكالة ولا شِرْكَة. و"ما" بمعنى الذي، وحذفت الهاء لطول الاسم".

لطول الصلة، فإذا طال الصلة حُذِفَ العائد.

"وإن جعلت "ما" مصدرية لم تحتج إلى إضمار الهاء. {أَنْعَامًا} جمع نَّعَم، والنَّعَمُ مذكر. {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} ضابطون قاهرون".

نَّعَم غير نِّعَم، النَّعَم واحد الأنعام، والنِّعَم جمع نعمة، ولذلك يخطئ بعض الناس في حديث: «لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ يقول: خَيْرٌ لَكَ مِنْ» "حُمُرِ النِّعَم"، يخطئ في الكلمتين، "حُمُرِ": جمع حمار، و"النِّعَم": جمع نعمة، وهي من «حُمْرِ»: جمع أحمر، و«النَّعَمِ» الأنعام.

"قوله تعالى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ}[يس:72]. أي: سخرناها لهم حتى يقودُ".

يقودَ، حتى يقودَ.

"حتى يقودَ الصبي الجمل العظيم ويضربه ويصرفه كيف شاء لا يخرج من طاعته، {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} قراءة العامة بفتح الراء، أي مركوبهم، كما يقال: ناقةٌ حلوب أي محلوب. وقرأ الأعمش، والحسن، وابن السَّمَيْقَع: "فَمِنْهَا رُكُوبُهُمْ" بضم الراء على المصدر. وروي عن عائشة-رضي الله عنها- أنها قرأت: "فَمِنْهَا رَكُوبَتُهم"، وكذا في مصحفها، والركوب والركوبة واحد، مثل الحلوب والحلوبة، والحمول والحمولة، وحكى النحويون الكوفيون أن العرب تقول: امرأةٌ صبور وشكور بغير هاء، ويقولون: شاةٌ حلوبةٌ وناقةٌ ركوبة، لأنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان له الفعل، وبين ما كان الفعل واقعًا عليه، فحذفوا الهاء مما كان فاعلاً وأثبتوها فيما كان مفعولًا، كما قال:

فيها اثنتان وأربعون حلوبةً
 

سودًا كخافية الغراب الأسحم"
  

وعلى هذا لو قلت: شاةٌ أكولة، أكولة أم أكول؟ أكول؛ لأن الفعل وقع منها، الفعل وقع منها لا عليها.

"فيجب أن يكون على هذا ركوبتهم، فأما البصريون فيقولون: حذفت الهاء على النسب. والحجة للقول الأول: ما رواه الجرمي عن أبي عبيدة قال: الركوبة تكون للواحد والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة، فعلى هذا يكون لتذكير الجمع، وزعم أبو حاتم: أنه لا يجوز "فَمِنْهَا رُكُوبُهُمْ" بضم الراء؛ لأنه مصدر، والركوب ما يركب، وأجاز الفرَّاء {فَمِنْهَا رُكُوبُهُمْ} بضم الراء، كما تقول: فمنها أكلهم ومنها شربهم، {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} من لحمانها.

 قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}[يس:73]. من أصوافها وأوبارها وأشعارها وشحومها ولحومها وغير ذلك. {وَمَشَارِبُ} يعني: ألبانها، ولم ينصرفا؛ لأنهما من الجموع التي لا نظير لها في الواحد".

يعني صيغة منتهى الجموع، مشارب، منافع، صيغة منتهى الجموع، ممنوع من الصرف.

 "{أَفَلا يَشْكُرُونَ} الله على نعمه".

 امتنَّ الله –جلَّ وعلا- بهذه الأنعام من جهتين: الأولى: أنها تُركَب، والثانية: أنها تؤكل، مما يدل على أن الركوب في بعض الأحوال أهم من الأكل، ولقد امتنَّ الله –جلَّ وعلا- بالخيل بالركوب أو بالأكل؟ {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا}[النحل:8]، فالخيل بالنسبة لها لا شك أن الركوب أظهر وجوه الانتفاع، أظهر من الأكل، خلافًا لمن يقول: إنها لو كانت مأكولة هذا قول مَنْ يرى أن الخيل لا تُأكَل، لو كانت مأكولة لامتنَّ الله بأكلها؛ لأنه أظهر وجوه الانتفاع، هنا امتن بالركوب قبل الأكل في الأنعام عمومًا، فدلَّ على أن الركوب في بعض الأحوال وفي بعض الأنواع أهم من الأكل، فلا مستمسَك لمَنْ يرى تحريم الخيل بقوله –جلَّ وعلا-: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا}[النحل:8]، قُرنت مع المركوبات، ودلَّت السنة على جواز أكلها، والاقتصار على الركوب في الخيل؛ لأنه أظهر وجوه الانتفاع، يعني فيه أحد يشتري خيلًا ليأكله، وإن كان مأكولًا؟ ما فيه أحد، إنما يشتريه ليركب، فهو أظهر وجوه الانتفاع، واقتُصر عليه، وهنا قُدم الركوب على الأكل، وإن كان الأكل أيضًا من أظهر وجوه الانتفاع، لكن أحيانًا يكون الركوب أظهر من الأكل، كما لو كان الإنسان في مفازة لا يستطيع قطعها على قدميه، فإنه يؤثر أن يركب هذه الدابة على أن يأكل منها ولو كان جائعًا.

"قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً}[يس:74]. أي: قد رأوا هذه الآيات من قدرتنا، ثُمَّ اتخذوا من دوننا آلهة لا قدرة لها على فعل، {لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} أي: لما يرجون من نصرتها
لهم إن نزل بهم عذاب، ومن العرب من يقول: لعله أن يفعل.

{لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ}[يس:75]. يعني الآلهة. وجمعوا بالواو والنون؛ لأنه أخبر عنهم بخبر الآدميين".

وهو النصر، النصر من وصف مَنْ يعقل، من وصف بوصف من يعقل، ما دام وصفت بوصف مَنْ يعقل، فتجمع جمع مَنْ يعقل بالواو والنون؛ لأن من شرط جمع المذكر السالم أن يكون عاقلًا.

"{وَهُمْ}؛ يعني الكفار {لَهُمْ} أي: للآلهة {جُندٌ مُحْضَرُونَ} قال الحسن: يمنعون منهم ويدفعون عنهم وقال قتادة".

خدم لهم، خدم للآلهة وهي لا تنصرهم ولا تنفعهم ولا تضرهم.

"وقال قتادة: أي: يغضبون لهم في الدنيا، وقيل: المعنى أنهم يعبدون الآلهة ويقومون بها، فهم لها بمنزلة الجند وهي لا تستطيع أن تنصرهم، وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى، وقيل: إن الآلهة جندٌ للعابدين، محضرون معهم في النار، فلا يدفع بعضهم عن بعض.
وقيل: معناه وهذه الأصنام لهؤلاء الكفار جندُ الله عليهم في جهنم؛ لأنهم يلعنونهم ويتبرءون من عبادتهم".

ويكونون من وقودهم أيضًا في النار، مما يوقد بها عليهم في النار، -نسأل الله العافية-.

"وقيل: الآلهة جندٌ لهم محضرون يوم القيامة؛ لإعانتهم في ظنونهم، وفي الخبر: "إنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله فيتبعونه إلى النار، فهم لهم جند محضرون. قلت: ومعنى هذا الخبر ما ثبت في صحيح مسلم: من حديث أبي هريرة، وفي الترمذي عنه -رضي الله عنه-، أن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول: ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد، فيمثل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصاوير تصاويره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون، ويبقى المسلمون»، وذكر الحديث بطوله.

 {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ}[يس:76]. هذه اللغة الفصيحة. ومن العرب من يقول: يُحْزِنُك، والمراد تسلية".

نعم، الأفصح أنه ثلاثي، الأفصح أنه ثلاثي، ومن العرب مَنْ يجعله رباعيًّا أحزنَ يحزنُ.

طالب:.....

في الحديث؟

طالب: .....

المراد الأصنام صورها.

"والمراد تسلية نبيه -عليه السلام-، أي لا يحزنك قولهم شاعرٌ ساحرٌ. وتم الكلام ثُمَّ استأنف فقال".

استأنف لأن الوقف لازم هنا {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} وقف لازم، ولو أدرج الكلام لكان من قولهم: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وهنا لا يستقيم، بل ينقلب المعنى.

"ثُمَّ استأنف فقال: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} من القول والعمل وما يظهرون فنجازيهم بذلك.

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ}[يس:77]، قال ابن عباس: الإنسان هو عبد الله بن أُبَيّ. وقال سعيد بن جبير: هو العاص بن وائل السهمي. وقال الحسن: هو أُبَيّ بن خلف الجمحي. وقاله ابن إسحاق، ورواه ابن وهب عن مالك. {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} وهو اليسير من الماء، نَطُفَ إذا قطر. {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} أي: مجادل في الخصومة مبين للحجة، يريد بذلك: أنه صار بعد أن لم يكن شيئًا مذكورًا خصيمًا مبينًا، وذلك أنه أتى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- بعظم حائل فقال يا محمد: "أترى أن الله يحيي هذا".

حائل: يعني مضى عليه حول، حتى صار رميمًا.

"فقال يا محمد: "أترى أن الله يحيي هذا بعد ما رَمَّ!، فقال النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-: «نعم ويبعثك الله ويدخلك النار»، فنزلت هذه الآية قوله تعالى".

خَرَّجه؟

طالب: قال: وهو كذلك في شأن العاص بن وائل، أخرجه الحاكم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وصححه ووافقه الذهبي، وأخرجه الطبري عن سعيد بن جبير... وأخرج الطبري بإسناد فيه مجاهيل عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه عبد الله بن أُبَي، وهذا ضعيف، فابن سلول لم يظهر كفره، وإنما أظهر الإسلام، واستبطن الكفر، وأراد ذلك في حق أُبَيّ بن خلف، أخرجه الطبري: عن مجاهد، وعن قتادة، وذكره الواحدي في الأسباب عن أبي مالك مرسلاً.

نعم.رأراد

"قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}[يس:78]. قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ}.

فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أي: ونسي أنا أنشأناه من نطفة ميتة فركبنا فيه الحياة. أي: جوابه من نفسه حاضر، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: «نعم ويبعثك الله ويدخلك النار» ففي هذا دليل على صحة القياس؛ لأن الله -جلَّ وعزَّ- احتج على منكري البعث بالنشأة الأولى".

يعني قاس المعاد بالمبدأ، فالذي أنشاه وخلقه من لا شيء قادر على أن يعيده، وهو أهون عليه، والكل هين بالنسبة لله –جلَّ وعلا- {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس:82].

"{قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} أي: بالية، رمَّ العظم فهو رميم ورمام. وإنما قال: {رَمِيمٌ} ولم يقل رميمة؛ لأنها معدولة عن فاعلة".

فاعلة.

فاعلة؟

"عن فاعلة وما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفًا عن إعرابه، كقوله: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}[مريم:28] أسقط الهاء؛ لأنها مصروفة عن باغية. وقيل: إن هذا الكافر قال للنَّبِي -صلى الله عليه وسلم-: أرأيت إن سحقتها وأذريتها في الريح أيعيدها الله؟! فنزلت: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ}[يس:79]، أي: من غير شيء فهو قادر على إعادتها في النشأة الثانية من شيء وهو عجم الذنب، ويقال: عجب الذنب، بالباء".

نعم؛ لأنه لا يفنى، لأنه لا يفنى، وهو أحد الثمانية التي كُتب لها البقاء، وما عداها فهو داخل في قوله –جلَّ وعلا-: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}[الرحمن:26].

ثمانية حكم البقاء يَعُمُّها
 

من الخلق والباقون في حَيِّزِ العَدَم
  

هي العرش والكرسي ونارٌ وجنةٌ
 

وعَجْبٌ وأرواحٌ كَذَا اللوح والقلم
  

"{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} أي: كيف بيدئ ويعيد.

 الثانية: في هذه الآية دليلٌ على أن في العظام حياة وأنها تنجس بالموت، وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وقال الشافعي -رضي الله عنه-: لا حياة فيها".

العكس الحقيقة، المعروف عن أبي حنيفة أنها لا تنجس بالموت، وأنها لا تحلها الحياة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- العظام لا تحلها الحياة فلا تنجُس بالموت، هذا قول أبي حنيفة، واختيار شيخ الإسلام رحمه الله-، والجمهور على أنها تنجس بالموت، ودليلهم الآية: {يُحْيِ الْعِظَامَ}، فدلَّ على أن الحياة تحلها، وإن قالوا عن الحياة: أن حياة كل شيء بحسبه، هل العظم محل للإحساس أو ليس بمحل للإحساس؟

طالب:....

 يعني لو انجَرَح ما على العظم كله أزيل، ثُمَّ تعرَّض للعظم بشيء فهل يحس به الإنسان؟ يعني المكسور يتألم بلا شك، لكن هل ألمه من العظم أو مما على العظم؟

طالب: .....

على كل حال مَنْ يقول بأن الحياة هنا ليس المراد بها الحياة المرتبطة بالروح، يعني مثل ما يقولون: هذا شَعرٌ حي، وهذا شَعْرٌ ميت، والشَعْر حياته نظير حياة النبات، نظير حياة النبات، هذا نبات ميت، وهذا نبات حي، وليس مرتبطًا بالروح، بدليل أن الشَعْر لو جُزَّ في حال الحياة، ما تألم الحيوان، وهو يُحلق من الإنسان ولا يتألم بحلقه، فحياته من نوع خاص.

 على كل حال المسألة معروفة والخلاف طويل، وشيخ الإسلام يزيد على مذهب الحنفية رحمه الله- يعني يقول: العظم، والظفر، والشَّعْر، وغيره، كلها لا تحلها الحياة، فهي طاهرة، يختلف معهم الحنابلة والشافعية في العظم، ويوافقونهم في الشَّعْر والظفر، ويزيد شيخ الإسلام عليهم اللبن في الضرع، لبن الميتة عنده طاهر، الأنفحة طاهرة، ويستل بأن الصحابة -رضي الله عنهم- أكلوا من الجبن بعد ما فتحت فارس والروم، والأصل أن الجبن لا يمكن أن يُصنع إلا بأنفحة، وذبائح الكفار نجسة.

 وبحث المسألة على كل حال له موضعه، ولكن قوله: وهو قول أبي حنيفة، هذا ليس بصحيح، إنما قول الجمهور، وقول أبي حنيفة: أنه لا حياة بها.

طالب:.....

لو كان ماذا؟

طالب:......

 لا لا لا، ليس هذا هو المراد، يعني عظم مأكول اللحم المذبوح هذا زاد إخواننا الجن لا العظم النجس، عظم مأكول اللحم ما أحد يقول بنجاسته، لا يقول أحد بنجاسته.

طالب:.....

هو الظاهر نعم؛ لأنه مما يحويه الجلد، فيدخل في مسمى الميتة، مما يحويه الجلد فيدخل في مسمى الميتة.

طالب:.....

انظر أبا عبد الله العاشر من التفسير، من نفس القرطبي؛ لأنه تقدم.

طالب:... المشكلة في الشروح....

كتب غير متخصصة، انظر صفحة 155 الذي بعده، 155.

 "وأما ما ذكره الحنفيون في العظم والسن والقرن أنه مثل الشعر، فالمشهور عندنا أن ذلك نجس كاللحم، وقال ابن وهب مثل قول أبى حنيفة".

 على كل حال هذا مثبت في كتبهم، ومن الدليل القاطع على ذلك قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}[يس:78]. وقال تعالى: {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا}[البقرة:259]، وقال: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا}[المؤمنون:14]، أطال رحمه الله- في تفسير سورة النحل، على ما يتعلق بالميتة الصوف، والشَّعْر، وكل ما يتعلق بها، الجلد، والدِّباغ، في كلام قد لا يوجد بهذا البسط عند غيره.

طالب: من؟

القرطبي نفسه.

"فإن قيل: أراد بقوله: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ} أصحاب العظام، وإقامة المضاف مقام المضاف إليه كثير في اللغة، موجود في الشريعة، قلنا: إنما يكون إذا احتيج لضرورة، وليس هاهنا ضرورة تدعو إلى هذا الإضمار، ولا يفتقر إلى هذا التقدير؛ إذ الباري -سبحانه- قد أخبر به، وهو قادر عليه والحقيقة تشهد له، فإن الإحساس الذي هو علامة الحياة موجود فيه، قاله ابن العربي.

قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ}[يس:80]. نبَّه تعالى على وحدانيته، ودل على كمال قدرته في إحياء الموتى بما يشاهدونه من إخراج المحرق اليابس من العود الندي الرطب، وذلك أن الكافر قال: "النطفة حارة رطبة يطبع".

بطبع الحياة.

"بطبع الحياة، فخرج منها الحياة، والعظم بارد يابس بطبع الموت، فكيف تخرج منه الحياة؟ فأنزل الله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} أي: إن الشجر الأخضر من الماء والماء بارد رطب ضد النار، وهما لا يجتمعان، فأخرج الله منه النار، فهو القادر على إخراج الضد من الضد، وهو على كل شيء قدير، ويعني بالآية: ما في الْمَرْخِ والْعَفَار، وهي زنادة العرب، ومنه قولهم: "في كل شجر نار واستمجد الْمَرْخُ والْعَفَار، فَالْعَفَار الزند وهو الأعلى، والْمَرْخُ الزندة وهي الأسفل، يؤخذ منهما غصنان مثل المسواكين".

قال: فَالْعَفَار الزند، والْمَرْخُ الزندة، يعني ذَكَّرَ الأول، وأَنْث الثاني؛ لأنه أعلى فذَكَّرَه، والثاني أسفل فأنثه، يعني مثل ما يقولون: الأعلى للأعلى، والأسفل للأسفل، قالوا: دجاجة للذكر، التاء المفتوحة، والفتحة فوق، ودِجاجة بالكسر للأنثى؛ لأن الأصل أنها هي السفلى، وهنا قال: "فَالْعَفَار الزند"، ذَكَّرَه وهو الأعلى، والْمَرْخُ الزندةُ، وهي الأسفل.

"يؤخذ منهما غصنان مثل المسواكين يقطران ماء فيحك بعضهما إلى بعض فتخرج منهما النار. وقال: {مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ} ولم يقل الخضراء وهو جمع؛ لأنه ردَّه إلى اللفظ. ومن العرب من يقول: الشجر الخضراء، كما قال -عزَّ وجلَّ-: {مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ، فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}[الواقعة:52-53]".

يعني إذا كان التأنيث غير حقيقي، تَسامحوا فيه، فَيُذَكِّرُونَه ويؤنِّثُونَه، طلع الشمس، طلعت الشمس، ما فيه إشكال، يقولون هذا وهذا، لكن إذا عاد الضمير إلى مؤنَّث وجب تَأْنيثُه، سواء كان تَأنيثُه حقيقيًّا، كان تأنيثه حقيقيًّا أو غير حقيقي، في مثل قوله: {مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا}[الواقعة:52- 53]، هذا يجب تَأنيثُه؛ لأن الشجر جمع، على أن الجمع قد يُذَكَّر وقد يؤنَّث، قد يراد به الجماعة فَيؤنَّث، ويراد به الجمع فَيُذَكَّر، كما تقول: قام الرجال، وقامت الرجال.

"ثم قال تعالى محتجًا: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}[يس:81]، أي: أمثال المنكرين للبعث، وقرأ سلام أبو المنذر، ويعقوب الحضرمي: {يَقْدِر عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} على أنه فعل {بَلَى} أي: إن خلق السماوات والأرض أعظم من خلقهم، فالذي خلق السماوات والأرض يقدر على أن يبعثهم. {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} وقرأ الحسن باختلاف عنه: {الْخَالِق}.

 قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس:82]، قرأ الكسائي: {فَيَكُونَ} بالنصب عطفًا على {يَقُولَ} أي: إذا أراد خلق شيء لا يحتاج إلى تعب ومعالجة، وقد مضى هذا في غير موضع.

 {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}[يس:83]. نزَّه نفسه تعالى عن العجز والشرك و"مَلَكُوتَ" وملكوتى في كلام العرب بمعنى ملك. والعرب تقول: جبروتي".

جبروت، جبروت.

"جبروت خير من رحموت، وقال سعيد عن قتادة: {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} مفاتح كل شيء، وقرأ طلحة بن مصرف، وإبراهيم التيمي، والأعمش: "مَلَكَةُ"، وهو بمعنى "مَلَكُوتُ" إلا أنه خلاف المصحف، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: تردون وتصيرون بعد مماتكم، وقراءة العامة بالتاء على الخطاب، وقرأ السلمي، وزر بن حبيش، وأصحاب عبد الله "يَرجِعُونَ" بالياء على الخبر".

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.