بلوغ المرام - كتاب البيوع (01)

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين، واعصمنا من الفتن أجمعين، ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين، أما بعد:

قال الإمام ابن حجر -رحمه الله تعالى- في كتابه: (بلوغ المرام):

كتاب البيوع

باب: شروطه وما نهي عنه منه.

عن رفاعة بن رافع -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل: أي الكسب أطيب? قال: ((عمل الرجل بيده, وكل بيع مبرور)) رواه البزار، وصححه الحاكم.

وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عام الفتح وهو بمكة: ((إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن, وتدهن بها الجلود, ويستصبح بها الناس? فقال: ((لا، هو حرام)) ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: ((قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه, فأكلوا ثمنه)) متفق عليه.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،

أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

كتاب البيوع:

ترتيب الأبواب عند أهل العلم من المحدثين والفقهاء يراعون فيها حاجة الناس، فيبدؤون بالأهم ثم الذي يليه إلى أن ينتهون من تصنيف كتبهم على الأبواب على اختلاف بينهم في الجمع وكيفيته، فمنهم من يجمع جميع أبواب الدين، فيبدأ بالإيمان والتوحيد والعقائد، ثم يثني بالصلاة، ثم الزكاة إلى أن تنتهي العبادات، ثم المعاملات، ثم ما يلي ذلك من الأبواب، وكتابنا وهو في الأصل كتاب حديث، لكنه صُنف على طريقة الفقهاء فجرد من الأسانيد ليسهل حفظه على الطلاب، وليستدلوا بما أورده المؤلف على ما حفظوه من مسائل فقهية، فهو دعامة قوية لكتب الفقه، ولذا جاء ترتيبه على طريقة الفقهاء، وجرده مؤلفه عن أبواب الدين الأخرى التي لا يتعرض لها الفقهاء، ولذا يعد من كتب الأحكام، أو كتب أحاديث الأحكام، فلا تجد فيه ما يتعلق بالعقائد، ولا بالتفسير ولا الفتن ولا غيرها من الأبواب باستثناء الكتاب الجامع، في نهاية الكتاب ذكر المؤلف الكتاب الجامع، وختم به مؤلفه، وجمع فيه من أحاديث الآداب والرقاق، وما يحتاج إليه إضافة إلى أحاديث الأحكام، الفقهاء ومن سار على نهجهم ممن صنف في مختصرات الحديث من كتب الأحكام، يقدمون العبادات وهي جديرة بالتقديم، وحرية به؛ لأن بمعرفتها يتحقق الهدف الذي من أجله خُلق الإنسان، وهو تحقيق العبودية لله -جل وعلا-، هي أظهر وأوضح ما تتحقق فيه العبودية فيما يتعلق بهذه الكتب، وإلا لو كان الكتاب جامع كصحيح البخاري وغيره ما قدم هذه العبادات العملية على ما يتعلق بالإيمان بالله -جل وعلا-، هم يقدمون كتاب الإيمان، وهذا هو الأصل، لكن الإيمان له كتبه، والحديث بصدد كتب الأحكام، سواء كانت متون فقهيه أو من أحاديث الأحكام كالكتاب الذي نشرحه، فيقدمون العبادات لأهميتها، ثم يثنون بالمعاملات لمسيس الحاجة إليها، ثم يثلثون بالمناكحات والحاجة إليها ماسة، لكنها في مرتبة بعد المعاملات؛ لأن من يحتاج إلي البيع والشراء أكثر ممن يحتاج إلى النكاح، وحاجة الإنسان إلى البيع والشراء أكثر من حاجته إلى النكاح؛ لأنه يحصل مرة واحدة، وأما البيع والشراء فهو متكرر.

الأمر الثاني: أن الإنسان قد يبيع ويشتري سنين قبل أن يتزوج، وقبل أن يحتاج إلى الزواج، فقدم من هذه الحيثية، ثم بعد ذلك إذا عرف أحكام العبادات وكيف يتعامل مع الله -جل وعلا- من خلال هذه العبادات، ثم عرف كيف يبيع ويشتري، ويبرم العقود، ثم عرف أحكام النكاح، يلي ذلك الحدود والجنايات والأطعمة والقضاء، وما أشبه ذلك، فعندهم الفقه أربعة أرباع: العبادات، المعاملات، الأنكحة، الجنايات، ويختلفون في بعض الأبواب هل تدخل في العبادات أو تدخل في غيره من الأبواب؟ كالجهاد مثلاً منهم من يدخله في العبادات، ومنهم من يجعله في أواخر الكتب، ومنهم..، على كل حال كل له وجه، وقد اجتهدوا، فلهم من الله -جل وعلا- فيما نرجوه جزيل الأجر والثواب.

البيوع، الكتاب مر بنا مراراً، وعرفناه تكراراً، والبيوع جمع بيع، والبيع مصدر باع يبيع بيعاً، ويطبق الفقهاء وغيرهم على أنه مأخوذ من الباع؛ لأن كل واحد من المتبايعين يمد باعه ليأخذ، هذا يأخذ السلعة، وهذا يأخذ الثمن، مأخوذ من الباع، وهذا لا شك أنه إن كان أخذه على سبيل الاشتقاق ففيه نظر، لماذا؟ لأن البيع مصدر والمصدر أصل يشتق منه ولا يشتق من غيره.

...................................ج

 

وكونه أصلاً لهذين انتخب

يعني رجح كون المصدر هو الأصل للفعل ولسائر مشتقاته.

الأمر الثاني: أن البيع عينه ياء، والباع عينه واو، فاختلف الأصل والفرع في أصل من أصوله، فلا يتسنى الاشتقاق، على كل حال إذا كانت المسألة مسألة نقل، وليست مسألة اشتقاق، فالمسألة فيها سعة، أما الاشتقاق على طريقتهم فلا؛ لأن البيع أصل؛ لأنه مصدر يشتق منه ولا يشتق هو من غيره، جُمع البيع -وإن كان المصدر ينطبق على الواحد والاثنين والثلاثة كما تقدم في المياه جمعت لتعدد أنواعها-، وهنا البيع إنما جمع لاختلاف أنواعه، والبيع عرفوه بألفاظ متقاربة، وتعريفه قد يزيده غموضاً؛ لأن الأمور الواضحة التي يعرفها الناس كلهم تعريفها بالحدود الاصطلاحية التي تطبق عليها قوانين المتكلمين تزيدها غموضاً، من الناس من لا يعرف البيع والشراء، وما يتم به البيع والشراء، أمور يزاولونها، على كل حال قالوا في تعريفه: أنه مبادلة مالٍ بمال، يعني سواء كان حاضراً أو في الذمة كله بيع، أو منفعة، ولو لم تكن عيناً بأن كانت منفعة، المنفعة لا بد أن تكون مباحة، والعين لا بد أيضاً أن تكون مباحة النفع بلا حاجة، ولذا جاء في الباب الأول: باب شروطه، شروط البيع منها ما يرجع إلى العاقد، ومنها ما يرجع إلى السلعة، مما يعود إلى العاقد ويرجع إليه التراضي بين المتعاقدين، إنما البيع عن تراضي {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ} [(29) سورة النساء] فالتراضي لا بد منه، ومنها: أن يكون العاقد جائز التصرف، وأن يكون مالكاً للسلعة، أو مأذون له في بيعها، والتصرف فيها، وأن تكون السلعة أيضاً مباحة النفع بلا حاجة، كيف مباحة النفع بلا حاجة؟ تكون السلعة مقدوراً على تسليمها، مباحة النفع بلا حاجة، يعني لولا الحاجة لم يبح نفعها، فهل يجوز بيعها، إذا كان أباحة نفعها للحاجة لا مطلقاً، فهل يجوز بيعها أو لا؟ الذي يطلق ويقول: إن تكون العين مباحة النفع، ولا يقيد بارتباط هذا النفع بالحاجة، هذا يقول: كل ما ينتفع به يجوز بيعه، والذي يقيد من غير حاجة أو بلا حاجة، يقول: ينظر في السلعة إذا كانت مباحة النفع مطلقاً تباع، إذا كان نفعها للحاجة فلا يجوز بيعها كالكلب، كلب الصيد مثلاً يجوز بيعه وإلا ما يجوز؟ الذي يطلق يقول: مباح النفع ما المانع من بيعه؟ وقل مثل هذا في الأسمدة النجسة التي ينتفع بها في الزراعة، يجوز بيعها وإلا ما يجوز بيعها؟ الذي يقيد المنفعة بالحاجة يقول: لا يجوز بيعها كالكلب المعلم، كلب الصيد، كلب الحراسة، كلب الزرع، كلب الماشية، هذه مباحة النفع لكنها مقيدة بالحاجة، وإلا فالأصل المنع من اقتناء الكلب، واستثني هذا بالنص، والذي يقول: ما دام يباح نفعه فكيف يُحصل عليه بغير البيع؟ لا يمكن الحصول عليه بغير البيع، وهذه حكمة تشريع البيع؛ لأن الإنسان قد يكون بحاجة ماسة إلى ما بيد صاحبه ولا يبذله أخوه له بدون مقابل، فيضطر إلى شرائه منه، فإذا احتاج إلى كلب صيد، أو كلب زرع، أو ماشية لا وسيلة له إلا البيع، وقل مثل هذا في الأزبال والأسمدة التي تستعمل في خدمة الزرع، لا يمكن الحصول عليها إلا بالبيع، ومنهم من يفرق بين البائع والمشتري، فيقول: المشتري محتاج، والمنفعة بالنسبة له إنما أبيحت له؛ لأنه محتاج، والمنفعة أبيحت للحاجة فهو من أهلها، فيجوز له الشراء دون البائع، القاعدة عند أهل العلم أن ما حرم أخذه حرم دفعه؛ لأن هذا يدخل في التعاون، فإذا كان هذا لا يجوز له أن يبيع السلعة فكيف يجوز لي أن أمكنه من هذا العقد الذي لا يجيزه الشرع؟ فما حرم أخذه حرم دفعه، هذه القاعدة، وهذا هو التعاون على الإثم والعدوان إذا قلنا: لا يجوز، والمسألة معروفة عند أهل العلم، لا شك أن المشتري أمره أخف من البائع؛ لأن المشتري محتاج، والحاجة تبيح ما منع بالقواعد العامة لا بالنص عليها، وأما الكراهة فتزول بأدنى حاجة.

جاء ذم كسب الحجام، والنبي -عليه الصلاة والسلام- أعطى الحجام، مع أنه قال: ((كسب الحجام خبيث)) ففرق بين من يأخذ ومن يعطي، فالآخذ أمره أشد من المعطي المحتاج، قالوا في المصحف عند من لا يجيز بيعه لأن بيعه امتهان، جعله سلعة تباع قابلة للرخص هذا كلام الله امتهان بيعه، ولذا المعروف عن الحنابلة أنه لا يجوز بيعه، لكن يجوزون شراءه للحاجة.

الوقف لا يجوز بيعه، لكن إذا اضطر طالب علم إلى كتاب موقوف ولا يوجد إلا عند شخص لا يجود به إلا بالثمن هذا محتاج، فهذه المسألة لها نظائر.

"باب شروطه" الشروط: جمع شرط، والشرط ما يلزم من عدمه العدم، لكن لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، يلزم من عدمه العدم، يلزم من عدم الطهارة عدم الصلاة حقيقة أو حكماً، يلزم من تخلف شرط من شروط العقد بطلان العقد، فوجوده مثل عدمه، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، قد يتطهر الإنسان ولا يصلي، قد يكون جائز التصرف لكن ما يبيع ولا يشتري، ما عنده ما يبيعه ولا يشتريه، المقصود أن هذا الشرط في عرف الفقهاء، سواء علق بكلمة شرطية أو لم يعلق، وسواء كان لفظياً أو عرفياً، إذا تعارف الناس على شيء فالعادة محكمة، هناك من الشروط المقدرة شروط ملفوظة وشروط مقدرة، لو قال شخص لآخر: إنه رأى زوجته ركبت مع شخص أجنبي عنها، فقال زوجها: هي طالق، ثم تبين أن هذا الشخص كاذب، هذا شرط وإن لم يكن ملفوظاً به؛ لأنه رتب على هذا الفعل، فكأنه قال: إن كانت قد ركبت مع هذا الشخص الذي أشرت إليه فهي طالق، والواقع ليس كذالك، إذاً لا تطلق.

المقصود أن فروع هذه الأمور كثيرة جداً، لكن هذه أمثلة، وما نهي عنه من أنواع البيوع من الربا وما يشتمل على غرر وتدليس وبيع في المسجد أو بعد النداء الثاني من يوم الجمعة، المقصود أن هناك بيوع نهي عنها، سيأتي ذكرها -إن شاء الله تعالى-، أو شيء منها.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

عن رفاعة بن رافع -رضي الله عنه- إن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل أي الكسب أطيب؟ قال: ((عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور)) رواه البزار، وصححه الحاكم.

والحديث له شواهد يرتقي بها إلى الصحيح لغيره.

ورفاعة بن رافع الذي عزا المؤلف الحديث له، وفهم الشارح أنه أنصاري زرقي شهد بدراً، هكذا فهم الشارح؛ لأنه لا يوجد رفاعة بن رافع صحابي إلا هذا، لكن في المصادر الأصلية: عن عباية بن رفاعة بن رافع عن أبيه عن جده، فيكون عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، والحديث معروف عن رافع بن خديج، فيكون المؤلف قصر به، والأصل أن يقول: عن رفاعة بن رافع عن أبيه رافع بن خديج؛ لأن الحديث من مسنده، وعلى كل حال الخلاف في صحابي سواء كان هذا أو ذاك ولا يضر مثل هذا الاختلاف، يعني إذا لم نستطع أن نعين رفاعة بن رافع، يعني إذا قصرنا به إلى هذا الحد يتعين أن يكون الأنصاري الزرقي؛ لأنه صحابي، وأما رفاعة بن رافع بن خديج فتابعي، يروي عن أبيه، وإذا قيل: عن رفاعة بن رافع عن أبيه فالمقصود به رافع بن خديج، وهو هكذا في أكثر المصادر، كما أشار إلى ذلك الحافظ في التلخيص وغيره. "أن البني -صلى الله عليه وسلم- سئل أي الكسب أطيب؟" السائل وغير السائل يعرفون أن الكسب لا بد منه، وعندنا كسب واكتساب، فإذا كان الكسب لا بد منه فيُسأل عن أطيب أنواعه، الكسب لا بد منه؛ لتتم عمارة الأرض، ويبقى النوع، لكن هذه المكاسب متفاوتة، منها الفاضل، ومنها المفضول، ومنها الطيب، ومنها الأقل، والسؤال عن المكاسب الطيبة، أي الكسب أطيب؟ لأن هنا أفعل تفضيل، فالمراد السؤال عن المكاسب الطيبة، لكن يراد أطيب هذه المكاسب الطيبة، والفرق بين الكسب والاكتساب أن الكسب في ما ينفع الإنسان، والاكتساب فيما يضره، ولذا جاء في قوله -جل وعلا-: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [(286) سورة البقرة] أي الكسب أطيب؟ قال -عليه الصلاة والسلام- مجيباً عن السؤال: ((عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور)) "عمل الرجل" التصريح بالرجل قيد مؤثر أو لا تأثير له فالمرأة مثله؟ نعم؟ يعني التنصيص على الرجل لا شك أن له دلالة، وهو أن الأصل في الأعمال الرجال، لكن إن احتاجت المرأة إلى الكسب في حدود ما يبيحه الشرع لها دخلت في الحديث، الأصل أن الكسب من أعمال الرجال، والعمل من مهام الرجال، وإن احتاجت المرأة لعدم وجود من يمونها تعمل، وإذا عملت في حدود ما يباح لها من أعمال، وأمنت منها وعليها الفتنة فلا بأس أن تعمل بيدها، ويكون عملها خير لها.

((عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور)) "عمل الرجل بيده" وهذا يشمل الحرف سواء كانت زراعة، ويرجحها جمع من أهل العلم، أو صناعة وهي مرجحة عند فريق من العلماء، وهي مهنة داود -عليه السلام-، وغيرها من الأعمال، والنظر في المفاضلة بين هذه الأعمال من وجوه منها:

ما يتعلق بالعمال من صدق وإخلاص في نيته، في نفع نفسه ونفع غيره، في الأعمال المتعدية، يعني إذا كان الإنسان مزارع يأكل من كسب يده، وينوي بذلك التعفف عن السؤال، ونفع الآخرين، ويحتسب ما يفوت عليه من زراعته مما يأكله كل صاحب كبدٍ رطبة، هذا من أفضل المكاسب، الصناعة إذا كان يصنع بنية صالحة خالصة يعف نفسه عن تكفف الناس، ويصنع للناس ما يفيدهم وينفعهم هذا أيضاً من أفضل الأعمال، وقل مثل هذا في سائر الحرف، إلا ما جاء في وصفها أنها حرف دنيئة ووضيعة وخبيثة، الجزارة عمل الرجل بيده، ولكن باعتبار الجزار قد يلابس شيء من النجاسات أو غيرها صارت أوضع من غيرها، الحجامة كذلك، ومعنى كون كسب الحجام خبيث هل معنى أنه محرم فيدخل في قوله -جل وعلا-: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [(157) سورة الأعراف] نعم؟ أو لا؟ ليس بمحرم وإنما مرتبته أقل ومنزلته دون؟ كما في قوله -جل وعلا-: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [(267) سورة البقرة] الخبيث هذا محرم؟ يعني لو كان عندك طعام جيد وطعام أقل نعم رديء جداً مثلاً فيه سوس، لكن يوجد من ينظفه ويأكله، ويحتاج إليه أنت مأجور على التصدق به، لكن هو في مقابل الصدقة بالطيب دون، ولا يعني هذا أنه محرم، ما دام ينتفع به إنسان أو حيوان.

((عمل الرجل بيده)) عرفنا أن من أهل العلم من رجح الزراعة، ومنهم من رجح الصناعة، ومنهم من رجح حرف أخرى حسب انتفاع الناس بها، وما ورد فيها من نصوص، والذي رجحه ابن القيم والحافظ ابن حجر أن أفضل المكاسب الغنائم، وهي كسب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ((وجعل رزقي تحت ظل رمحي)) ولما في ذلك من إعلاء الدين وشأنه.

المقصود أن المسألة وتفاضل الأعمال إنما يكون بحسب ما يقر في قلب العبد، وبحسب حاجة الناس إلى هذا العمل، لو قيل: إن الزراعة أفضل الأعمال فاتجه الناس كلهم إلى الزراعة، وأهملوا الجوانب الأخرى، وفاض المنتوج الزراعي، وزاد عن الحاجة، والناس بحاجة إلى أمور أخرى، عطلت أمور أخرى، نقول: هذه الأمور الأخرى أفضل من الزراعة؛ لأنه قد يعرض للمفوق ما يجعله فائقاً، وهذه الجملة تستعمل في كل العلوم، الناس بحاجة ماسة إلى من يعلمهم ويوجههم ويرشدهم ويبصرهم بما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، ولو بالأجرة، وإذا احتيج إلى مثل هذا فهذا العمل من أفضل الأعمال، وعلى كل حال المسألة ليس فيها قول فصل، وإنما تتفاوت هذه الأعمال بحسب ما يقر في قلب العامل، وبحسب ما يُحتاج إليه من الأعمال.

((وكل بيع مبرور)) خالص من شوائب الغش والخداع والتدليس، والعقود المحرمة، والأيمان الفاجرة لتنفيق السلع، هذا أيضاً من أنفع ومن أفضل الأعمال، وأطيب المكاسب، لكن على من يزاول هذه المهنة والتجارة والبيع والشراء أن يتعلم ما يصحح هذه العقود، لئلا يقع في معاملة يظنها صحيحة وهي في حقيقة الأمر ليست بصحيحة، وعليه أيضاً أن يتحلى بالورع، وأن يجتنب الشبهات، وكان الناس إلى عهد قريب يحرجون من يفتيهم بإقناعهم عن وجه الحل، إذا سألوا عن معاملة فقال المفتي: حلال هم بحاجة إلى من يقنعهم بوجه الحل اتقاءً للشبهة، والآن مع ما وجد في أسواق المسلمين وغير المسلمين من باب أولى من انسعار ولهث وراء الدنيا تجد المستفتي إذا سأل عن مسألة قيل له: حرام قال: أقنعني أنها حرام، والسبب في هذا وجود من يتساهل في أمر الإفتاء، والله المستعان.

فعلى الإنسان أن يتقي الشبهات فضلاً عن المحرمات، لا يجوز للمسلم أن يقدم على معاملة محرمة بحال، ولو فتح له الشيطان أبواب، وقال له: تتخلص منها، هذه نسبة يسيرة، أقدم عليها ثم تخلص منها، أبداً، لا يجوز الإقدام على المحرم، لكن إذا أقدم على شيء يجزم بإباحته أو يغلب على الظن إباحته، ثم تبين له فيما بعد أنه لحقه شيء من الشبهات، أو شيء مما لا يجوز في معاملته يتخلص منه لا بأس، وفرق بين هذا وهذا، فرق بين من يقدم على المعاملة المحرمة ولو كانت نسبتها يسيرة، وفرق بين يلحقه شيء من الشبهة أو شيء من المحرم من غير قصد، ثم يتخلص منه، فلا بد من ملاحظة هذا.

 

وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.