عمدة الأحكام - كتاب الطهارة (5)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين برحمتك يا أرحم الراحمين.

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب المسح على الخفين:

عن المغيرة بن شعبة قال: "كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر, فأهويت لأنزع خفيه, فقال: ((دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين)) فمسح عليهما".

وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: "كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فبال فتوضأ ومسح على خفيه" مختصَراً.

باب المسح على الخفين:

والمسح مقابل الغسل، ولذا شروط الوضوء والأعضاء المفروض تطهيرها ورفع الحدث عنها منها ما يجب غسله بحيث يتردد الماء على العضو، ومنها ما يكفي فيه المسح، مما يجب غسله الوجه واليدين والرجلين، ويكفي في الرأس المسح، والرجل إذا كانت مكشوفة يجب غسلها، وسبق حديث: ((ويل للأعقاب من النار)) وجاء في الحديث: ((أسبغوا الوضوء)) وإسباغ الوضوء على المكاره، لكن من باب التخفيف يمسح ما يغطي القدم رفعاً للمشقة، وتيسيراً على الأمة، فإذا كان على القدم مما يستر المحل المفروض ما يغطيه من خف أو جورب فإنه يمسح، وقد ثبت المسح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من طريق سبعين صحابياً، فهو متواتر، المسح على الخفين متواتر، ولا ينكره إلا مبتدع، ولذا يدخل أهل العلم مسألة المسح على الخفين في كتب العقائد؛ لأنه متواتر، ومنكر المتواتر معلوم أمره على خطر عظيم؛ لأنه مفيد للعلم القطعي.

فثبت عن أكثر من سبعين صحابياً أن النبي -عليه الصلاة والسلام- مسح على خفه، من ذلكم حديث المغيرة، المغيرة بن شعبة قال: "كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر" سفر غزوة تبوك، "فأهويت لأنزع خفيه" أهوى وهوى إذا انحط من علو إلى سفل، ولذا جاء في الحديث الصحيح: وكان لا يرفع يديه إذا هوى للسجود، فأهوى المغيرة، نزل من علو إلى سفل، من أجل أن ينزع يخلع الخفين، خفي النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن المفروض غسل الرجلين، ولا يتم الغسل إلا بنزع ما عليهما مما يحول دون الغسل، فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((دعهما)) يعني اتركهما، اترك الخفين على القدمين؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يريد المسح عليهما، وقد تحقق الشرط، ((فإني أدخلتهما طاهرتين)) فمسح عليهما -عليه الصلاة والسلام-، ((دعهما)) اتركهما فلا تنزعهما، لماذا؟ لأنه يريد المسح عليهما، والشرط متحقق، لا بد أن يلبس الخفين على طهارة، ((فإني أدخلتهما طاهرتين)) حال كونهما طاهرتين، الآن الخف تدخل وإلا يدخل القدم فيهما؟ وطاهرتين حال من الخف أو من القدم؟ دعهما دع الخفين اللذين أراد نزعهما، ((فإني أدخلتهما)) يعني الخفين أو القدمين؟ نعم، ((أدخلتهما)) أدخلتهما إيش؟ أدخلت الخفين وإلا القدمين؟ ((فإني أدخلتهما)) يعني القدمين، ((طاهرتين)) يعني حال كونهما طاهرتين، ومقتضى الحال أن تكونا طاهرتين معاً، وبهذا يعرف ضعف قول من يقول: إنه يغسل الرجل اليمنى فيدخلها في الخف، ثم يغسل اليسرى فيدخلها في الخف، بل لا بد أن يدخلهما حال كونهما طاهرتين معاً.

لو افترضنا أن شخصاً توضأ ثم غسل الرجل اليمنى فأدخلها في الخف، ثم غسل الرجل اليسرى فأدخلها في الخف، يصح أن يقال: أدخلتهما طاهرتين؟ يعني معاً، هذا ظاهر اللفظ، أدخل واحدة طاهرة ثم أدخل واحدة طاهرة، إذن لو فعل ذلك ماذا يصنع؟ لو غسل اليمنى ثم أدخلها الخف، ثم غسل اليسرى فأدخلها الخف، يعني أدخل اليمنى قبل تمام الطهارة، أدخل اليمنى قبل تمام الطهارة، يقول أهل العلم: يلزمه أن ينزع الخف اليمنى ثم يلبسها، والذي يقول بجواز أن تغسل اليمنى وتدخل الخف ثم تغسل اليسرى يقول: مجرد نزع اليمنى من غير إحداث عمل يتعلق بالطهارة عبث، إيش معنى اخلع خفك ثم البسه؟ يقول: عبث، كيف عبث؟ لكن إذا أدخل اليمنى قبل تمام الطهارة يصح أن يقال: إنه أدخلهما طاهرتين؟ ما يصح، ظاهر اللفظ يقتضي أن تكونا معاً حال الإدخال طاهرتين، هذا ظاهر اللفظ، أما كونه يخلع خفه اليمنى ثم يلبسها ويقول: عبث؟ ليس بعبث، تحقيقاً لطهارة القدمين معاً.

يشترطون في الخف إضافة إلى ما ذُكر في الحديث إدخالهما والقدمان طاهرتين، أن يكون الخف ساتر للمحل المفروض؛ لأن ما بدا من المحل المفروض وانكشف فرضه الغسل، فعلى هذا لا يجوز المسح على الخف المخرق ولا على الرقيق الذي يصف المحل المفروض؛ لأن ما ظهر مما افترض غسله فرضه الغسل، ولا يكفي فيه المسح، وجمع من أهل العلم يرون أنه لا مانع من أن يمسح على الخف المخرق الشفاف وما لا يثبت بنفسه إلا بشده، وأن غالب خفاف الصحابة لضيق الحال عندهم من هذا النوع، المقصود أن الأصل في الطهارة غسل القدم، وهو المنصوص عليه في كتاب الله -عز وجل-، كون النبي -عليه الصلاة والسلام- مسح على الخفين تخفيفاً على الأمة هذا شرع، شرع ملزم يجب العمل به، لكن هل معنى هذا أننا نتنازل عن الأصل؟ الأصل في القدم أن تغسل ظهر جزء من القدم يجب أن يغسل، فعلى هذا لا بد أن يكون الخف ساتر للمحل المفروض من غير شقوق ولا خروق، يسمى خف، حقيقته حقيقة الخف، لكن لو لم تكن حقيقته حقيقة الخف، من رآه ما قال عليه خف؟ شخص مشى في الطين إلى الكعبين ستر المحل المفروض بطين، ويبس هذا الطين، نقول: امسح عليه؟ وإلا اغسله؟ هذا ليس بخف، يغسل، لا بد أن يغسل هذا الطين، ويغسل المحل المفروض، لا بد أن يكون خف الممسوح عليه أو في حكمه مما يشق نزعه، وأن يكون ساتر، بمعنى أن يكون غير مخرق، ولا صفيق يستر المحل الفروض.

أنكر المسح على الخفين طوائف من المبتدعة، لكن لا عبرة بقولهم مع ثبوته عن سبعين صحابياً عن النبي -عليه الصلاة والسلام-.

وثبت من حديث جرير بن عبد الله البجلي، وإسلام جرير -رضي الله عنه- بعد نزول المائدة التي فيها التنصيص على غسل الرجلين، فهل المسح ناسخ أو مبين؟ نقول: هل المسح ناسخ لغسل الرجلين أو مبين؟ نعم؟ نعم قدر زائد على ما جاء في كتاب الله -عز وجل-، يبين أنه في حالة لبس الخف يكفي المسح، وفي حالة نزعه يجب غسل الرجلين إلى الكعبين.

في هذا خدمة الكبير، وأنه لا يزري بالخادم، إذا كان ممن يستحق الخدمة، فالصحابة كلهم يخدمون النبي -عليه الصلاة والسلام-، كما سبق في حديث أنس: "كنت أحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة" يخدمونه -عليه الصلاة والسلام-، المغيرة بن شعبة يهوي لينزع الخفين، ولا غرابة في ذلك ولا ضير، وليس هذا من استعباد الخلق كما يقال، بل هو من باب التشرف بخدمة هذا النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام-.

حديث حذيفة بن اليمان الذي يليه -رضي الله عنهما- قال: "كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فبال وتوضأ ومسح على خفيه"، في قصة، بال النبي -عليه الصلاة والسلام- وتوضأ, ومسح على خفيه، فالمسح على الخفين متواتر، لا ينكره كما قلنا إلا طوائف من المبتدعة، الذين لا يستدلون بمثل هذه الأخبار، وإلا فهي أدلة قطعية ملزمة، مثبتة موجبة للعلم والعمل معاً، فلا ينكر مثل هذا الثابت إلا زائع نسأل الله السلامة والعافية.

هناك مباحث تتعلق بالمسح على الخفين تُستقصى وتُستوعب من كتب الفروع، نعم.

باب في المذي وغيره:

عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "كنت رجلاً مذاءً فاستحييت أن أسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمكان ابنته مني, فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال: ((يغسل ذكره ويتوضأ)).

وللبخاري: ((اغسل ذكرك وتوضأ)) ولمسلم: ((توضأ وانضح فرجك)).

يقول -رحمه الله تعالى-: "باب في المذي وغيره" يعني مما يوجب الوضوء.

"عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "كنت رجلاً مذاءً" يعني كثير المذي وهو ماء رقيق يخرج عند الملاعبة وعند التفكر والنظر، يخرج هذا الماء وهو رقيق نجس يجب غسله، وإن كانت نجاسته مخففة فيكتفى فيه بالنضح، المقصود أنه نجس بخلاف المني فهو طاهر.

يقول: "كنت رجلاً مذاءً" يعني كثير المذي، مذاء فعال صيغة مبالغة "فاستحييت أن أسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمكان ابنته مني" نعم هو صهر النبي -عليه الصلاة والسلام-، زوج البتول فاطمة بنت الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وعلى هذا ينبغي استعمال الأدب والحياء من الأصهار خلافاً لما يفعله كثير من الناس من نزع جلباب الحياء معهم فضلاً عن غيرهم، لا سيما وأن هذا المسئول عنه يتعلق بأمر خاص، يكون بين الرجل وزوجته في الغالب.

"فاستحييت أن أسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمكان ابنته مني, فأمرت المقداد بن الأسود" علي -رضي الله عنه- أمر المقداد أن ينوب عنه بالسؤال، في سؤال النبي -عليه الصلاة والسلام- عما يوجبه خروج المذي، فسأله, فقال: ((يغسل ذكره ويتوضأ)) فالمراد بالغسل هنا النضح، وليس المراد به المبالغة في تنظيف المحل لما جاء في صحيح مسلم: ((توضأ وانضح فرجك)) وللبخاري: ((اغسل ذكرك وتوضأ)) على أنه يمكن حمل رواية مسلم على أنه يغسل كغيره من النجاسات مع المبالغة في غسله وإزالته، ثم يتوضأ بعد ذلك، ثم بعد الوضوء ينضح فرجه؛ لأن المذي في الغالب لا ينقطع بسهولة، ما هو مثل البول، فيظن أنه يستمر حتى بعد الوضوء، فإذا نُضح الفرج، ونُضح السراويل، نعم يحال ما يظن خروجه عليه؛ لئلا يبتلى الإنسان بوسواس.

على كل حال المذي نجس، ونجاسته ليست كنجاسة البول، لكن مع ذلكم يغسل وينضح الفرج منه، وبعضهم يقول: يُكتفى بالنضح.

لا معارضة بين رواية مسلم ((توضأ وانضح فرجك)) مع حديث بسرة: ((من مس ذكره فليتوضأ)) لا، لا معارضة بينهما لأن النضح يتم بدون مس، النضح هو مجرد الرش، ويتم بدون مس، يعني الجمع من الروايات أن يغسل الذكر كما يغسل منه سائر النجاسات كالاستنجاء، ثم بعد ذلكم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم بعد ذلكم ينضح فرجه وسراويله، لما جرت به العادة أن المذي لا ينقطع بسرعة، كما ينقطع البول، فلئلا يصاب الإنسان بالوسواس هل خرج شيء أو لم يخرج ينضح ذكره، فيحيل ما يحس به من رطوبة إلى هذا الماء المنضوح، وبهذا يحصل الانصراف عن التفكير في هذا الشيء؛ لأن المسالك كل ما غفل عنه الإنسان لزمت، وكل ما تذكرها وحرص عليها درت، فالإنسان ينضح فرجه ولا يلتفت إلى شيء خلاص، لا يقول: خرج ما خرج، تحيل ما تحس به من رطوبة إلى هذا النضح، ومثله من يخيل إليه أنه يخرج من ذكره شيء، بعض الناس يخيل إليه أنه توضأ ثم خرج منه، نزل منه شيء، انضح فرجك ولا تلتفت إلى شيء وبهذا تستطيع أن تقطع الوسواس؛ لأن الشيطان حريص على أن يدخل الخلل على المسلم في عبادته، أن يصرف المسلم عن عبادته إن استطاع وإلا أدخل الخلل عليه والنقص، فهو يوقع في نفسه أنه خرج منه شيء، وقد جاء التوجيه في الحديث الذي يليه، الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فوجهه أنه لا ينصرف لمجرد هذا التخييل، يخيل إليه أنه خرج من ذكره شيء لا ينصرف، وعلاج الوسواس يكون بالنضح، نعم.

وعن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني -رضي الله عنه- قال: شكي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة, فقال: ((لا ينصرف حتى يسمع صوتاً, أو يجد ريحاً)).

نعم يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني" راوي الحديث السابق، حديث الوضوء، وذكرنا أنه غير عبد الله بن زيد بن عبد ربه راوي حديث الأذان، "قال: شكي إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة" يخيل إليه وهذا الغالب في الباعث على هذا التخيل الحرص، يعني الغالب أن من يصاب بهذه التَخَيُلات والتَخْيلات والوساوس هو الشخص الحريص، الشخص الحريص هو الذي يبتلى بمثل هذه الأمور، لا سيما إذا استرسل مع الشيطان.

فيخيل إليه أنه يخرج من قُبله شيء، رطوبات تنزل، يخيل إليه أنه يخرج من دبره شيء رياح، لكن العلاج في عدم الالتفات إلى هذه التخييلات؛ لأن هذه شكوك، وبعضها أوهام، والأصل بقاء الطهارة، والشك لا يزيل اليقين، فعلى الإنسان ألا ينصرف حتى يتحقق، والوسواس من أوسع مداخل الشيطان على المسلم ليصرفه عن عبادته، وكم من شخص ترك الصلاة بسبب الوسواس، الباعث الحرص الشديد الذي لم يؤطر ويخطم بخطام الشرع، تجد الإنسان مع الجهل والحرص يصاب بمثل هذا، لكن لو كان عنده علم بهذه النصوص ما التفت إلى هذه الشكوك، ولا هذه الأوهام، والوسواس بلوى، مصيبة تجعل الإنسان في نهاية الأمر يترك الصلاة، لا سيما إذا تضرر في بدنه أو في دنياه، وقد يمكث الساعة يتوضأ والساعتين الثلاث، أحياناً يمكث خمس ساعات ويتوضأ، ويعيد، يتوضأ ويعيد، خرج ما خرج، نويت ما نويت، هذا مرض، ومثل ذلك في الصلاة، فيمضي وقته في ليله ونهاره كله في محاولة الوضوء في الصلاة، وأخيراً يقال له: لا تتوضأ ولا تصلي، خلاص في حكم المجانين،....... يعني شخص يحاول صلاة العشاء...، الوضوء لصلاة العشاء، وصلاة العشاء إلى الثامنة صباحاً مثلاً، مثل هذا متى بيصلي الفجر؟ ولن ينتهي إلا بعد خروج وقت صلاة الظهر، وهكذا، مثل هذا كارثة، فإذا وصل الإنسان إلى هذا الحد لا بد أن يقال له: المشقة تجلب التيسير، لكن قبل ذلك نويت ما نويت توضأ بدون نية، مجرد قصدك للوضوء هذه النية، يقول: لا ما نويت، ولأدنى سبب يقطع الصلاة، هذا بلاء، فنتمثل مثل هذه..، الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: ((لا ينصرف حتى يسمع صوتاً, أو يجد ريحاً)) يعني يتأكد؛ لأنه متيقن الطهارة، وقطعها وإبطالها مشكوك فيه، والشك لا يزيل اليقين، نعم.

وعن أم قيس بنت محصن الأسدية أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأجلسه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجره, فبال على ثوبه, فدعا بماء فنضحه على ثوبه, ولم يغسله".

وعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي بصبي فبال على ثوبه, فدعا بماء فأتبعه إياه. ولمسلم: "فأتبعه بوله ولم يغسله".

حديث أم قيس بنت محصن أخت عكاشة بن محصن الذي قال للنبي -عليه الصلاة والسلام-: اسأل الله أن يجعلني منهم، قال: ((أنت منهم)) "الأسدية أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" الصحابة كانوا يأتون بأطفالهم الصغار إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، يدعو لهم، ويبرك عليهم، ويحنكهم، وهذا من حسن عشرته -عليه الصلاة والسلام-، ورأفته ولطفه بالصغار، مراعاةً لآبائهم وأمهاتهم هذه أتت النبي -عليه الصلاة والسلام- بابن لها صغير لم يأكل الطعام، لهذا القيد، وهذا قيد معتبر وإلا جاء الإطلاق كما في حديث عائشة: "أتي بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه" والقيد في حديث أم محصن معتبر، والحد الفاصل أكل الطعام، إذا استقل بأكل الطعام فإن حكمه يختلف عما كان قبل أكل الطعام، ولذا قال: "إنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأجلسه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجره, فبال على ثوبه, فدعا بماء فنضحه على ثوبه, ولم يغسله" ابن وهذا يخرج البنت، وقد جاء التفريق بين الذكر والأنثى في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام)) هذه جاءت بابن، وهذا قيد معتبر يخرج البنت، وجاء التفريق بينهما من حديث أبي السمح وغيره أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام)) فالتفريق معتبر، وهو الصحيح، وإن قال بعضهم: إنه لا فرق بين الذكر والأنثى إذا لم يأكلا الطعام، وكونه لم يأكل الطعام قيد معتبر، خلافاً لمن يزعم أن الرش للذكور ولو كبروا، ولو أكلوا الطعام، والغسل للإناث، والصواب أنه لا بد أن يكون ذكراً، وأن لا يأكل الطعام، والتخصيص بالذكر، قالوا فيه: الحكمة والعلة والسبب أنه جرت العادة أن العرب يحبون الذكور أكثر من الإناث، ويكثرون من حملهم أكثر من الإناث، ويحصل البول بينهم كثيراً، فلو أمروا بالغسل لتضرروا ولشق عليهم بخلاف الإناث فإن حملهم لهن قليل، فلا يشق عليهم أن يغسلوا، وهذا الكلام ليس بصحيح؛ لأن الشرع لا يفرق بين الذكر والأنثى.

منهم من قال: لأن بول الغلام ينتشر في مواضع، فإذا أمر بغسل جميع هذه المواضع شق، بينما بول الأنثى موضعه واحد ولا ينتشر وغسله لا يشق.

"فبال على ثوبه, فدعا بماء فنضحه" أتبعه بالماء نضحاً، وفرق بين النضح والرش والغسل، ولم يغسله، فدل على أن بول الغلام الذكر الذي لم يأكل الطعام نجاسته مخففة بخلاف الأنثى، وبخلاف الكبير.

وفي حديث عائشة "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي بصبي, فبال على ثوبه, فدعا بماء, فأتبعه إياه" أتي بصبي، هذا الحديث مطلق يقيده ما سبق "لم يأكل الطعام" فبال على ثوبه -عليه الصلاة والسلام-، فدعا النبي -عليه الصلاة والسلام- بماء فأتبعه إياه رشاً ونضحاً، لا غسلاً كما تقدم.

"ولمسلم: "فأتبعه بوله ولم يغسله" نعم.

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد, فزجره الناس, فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما قضى بوله أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذنوب من ماء فأهريق عليه".

نعم بول الصبي نجاسته مخففة، وبول الكبير نجاسته مغلظة، ولذا أردف الحديث السابق بحديث أنس -رضي الله عنه-.

قال: "جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد" الشرع يلاحظ لا يجمع بين المتفرقات والمختلفات، كما أنه لا يفرق بين المتماثلات، تطهير الثوب يختلف عن تطهير الأرض، فالثوب لو بال عليه كبير وجب غسله، وتنظيفه، لكن الأرض كيف تطهر الأرض؟ هل نقول: إن الأرض تطهر كما يطهر الثوب؟ لا، تطهير كل شيء بحسبه.

الخف إذا وطئ فيها الأذى كيف تغسلها؟ إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب، ما يتلفه الماء إذا وقعت عليه نجاسة كيف يطهر؟ وقد نهى النبي -عليه الصلاة والسلام- عن إضاعة المال، المقصود أن الشرع يلاحظ مثل هذه الأمور، فيفرق بين المختلفات، لكنه لا يفرق بين المتماثلات.

"وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد" ناحية المسجد، زاوية من زوايا المسجد، "فزجره الناس, فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم-" وفي رواية: "جاء أعرابي فدخل المسجد فصلى ركعتين، ثم قال: اللهم اغفر لي ومحمداً ولا تغفر لأحد معنا أبداً" قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((لقد حجرت واسعاً)) فما لبث أن بال في طائفة المسجد، وبعض الروايات ترتب الدعوة على ما حصل من الصحابة من زجره، جاء فبال فزجره الناس فنهاهم النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((دعوه)) ((لا تزرموه)) ((لا تقطعوا عليه بوله)) فقال: اللهم اغفر لي ومحمداً، وهذا أنسب، وإن كان في بعض الروايات تقديم الدعوة على ما حصل منه من بول.

"جاء أعرابي" والأعرابي ساكن البادية، يقابله الحضري ساكن الحاضرة، جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد في ناحيته، فزجره الناس، يعني أغلظوا عليه القول، قاموا إليه فزجروه، لكن الرسول -عليه الصلاة والسلام- بحلمه وعقله وعلمه نهاهم النبي -عليه الصلاة والسلام- رفقاً بهذا الجاهل، فينبغي أن يرفق بالجاهل في تعليمه؛ ليكون أدعى إلى القبول، فنهاهم النبي -عليه الصلاة والسلام- لئلا يتضرر هذا الشخص؛ ولئلا يعظم الضرر، ويزداد تنجيس المسجد، لما ترك وقضى حاجته وبوله في مكان واحد في جهة واحدة، أمر بذنوب من ماء فصب عليه انتهى الإشكال، لكن لو قطع عليه بوله وأمر بأن ينصرف عن المسجد تلوث بدنه وثيابه، ومواضع من المسجد، وأصيب بالضرر؛ لأن حبس البول مضر، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- الرؤوف الرحيم، إمام المعلمين، إمام الأئمة -عليه الصلاة والسلام- هذا أسلوبه، وهذا تعامله مع الجاهل، والله المستعان.

"فلما قضى بوله أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذنوب من ماء فأهريق عليه" الذنوب: هو الدلو، بذنوب من ماء، و(من) بيانية، في بعض الروايات: "بسجل من ماء" والسجل: هو الدلو الذي فيه الماء، "فأهريق عليه" يعني صب عليه، ويكفي هذا الفعل في تطهير الأرض، ولا يلزم تقليب التراب، ولا نقله وإخراجه من المسجد، يكفي أن يصب عليه الماء، نعم؟

طالب:.......

الفرش لا بد من غسله، الفرش تغسل؛ لأن غسلها ممكن، أما الأرض كيف تغسل؟ ما لها إلا هذا، نعم.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((الفطرة خمس: الختان, والاستحداد, وقص الشارب, وتقليم الأظفار, ونتف الإبط)).

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((الفطرة خمس)) وفي رواية: ((خمس من الفطرة)) وفي رواية: ((عشر من الفطرة)) على كل حال أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- بالعدد ثم زيد عليه، لا يقال: حصرها في الخمس خطأ، لا؛ لأنه ما يمنع أن يكون النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر بالخمس ثم زيد عليها، وقد أساء بعضهم الأدب في تعامله مع بعض النصوص، النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح يقول: ((لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة)) قال بعض الشراح: في هذا الحصر نظر، تنظر في كلام من؟ في كلام من لا ينطق عن الهوى، في كلام من؟ في كلام من لا ينطق عن الهوى، في هذا الحصر نظر؟ هذا سوء أدب، وغفلة شديدة، نعم تكلم في المهد سبعة، أخبر بالثلاثة، ثم زيد رابع ثم زيد خامس وسادس وسابع، أخبر بخمس ثم زيد على ذلك على العشر، بل زادت على العشر، الفطرة: هي بدء الخلقة أو الدين، بعضهم يقول: الفطرة الدين، وبعضهم يقول: الفطرة السنة المتبعة المتلقاة عن الأنبياء في الأديان، وبعضهم يقول: الفطرة بدء الخلق، الخلقة أو الدين، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [(30) سورة الروم] ولذا يقول ابن عباس: "ما عرفت معنى فاطر حتى اختصم إلي اثنان في بئر، فقال بعضهم: هي بئري أنا فطرتها" يعني أنا ابتدأتها وحفرتها.

وعلى كل حال مما فطر الله الناس عليه هذه الخمس، وغيرها من سنن الفطرة.

((الختان)) الختان: هو قطع ما على قلفة الرجل، ومن المرأة أيضاً يقطع ما يحتاج إلى قطعه، فالختان بالنسبة للرجال واجب، واجب اتفاقاً؛ لأنه لا يتم التطهير إلا به، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد جاء في الحديث: ((ألقِ عنك شعر الكفر واختتن)) جاء الأمر به، والنص الذي معنا يتناول الرجال والنساء فهو من سنن الفطرة، وأوجبه بعضهم بالنسبة للنساء كالرجال، ومنهم من اقتصر على كونه سنة، ومكرمة بالنسبة للنساء، وجاء فيه ما جاء فيه من النصوص: ((أشمي ولا تنهكي، فإنه أحظى وأنظر)) المقصود أنه مطلوب بالنسبة للمرأة كالرجل إلا أنه لا يجب مثل وجوبه على الرجال.

وقد ثارت ثائرة من يدعي الدفاع عن حقوق الإنسان، وأن هذا تعذيب، لكن لا كلام لأحد مع ما جاء في شرع الله -عز وجل-، لا بالنسبة للرجال ولا بالنسبة للنساء، وهو بالنسبة للنساء مفيد جداً، يخفف الشهوة إذا كان مطلوب في سائر الأوقات ففي مثل هذه الظروف يتأكد التي وجد ما يثير الشهوات، لا شك أنه يخفف، وهو أحظى -كما يقولون- عند الزوج، وأنظر للمرأة، والله المستعان، ثارت ثائرة الكفار، ومن يردد كلامهم ومقاصدهم وأهدافهم معروفة، هذه البلاد التي يكثر فيها الختان للنساء يقل فيها الشر والفساد، رغم ما فيها من إباحية، لكنه يقل، يعني لو قدر أن مع هذه الإباحية ومع هذه الشرور والفتن ما وجد ختان لصارت المسألة أعظم وأعظم.

الختان: هذا الختان يُرد على المرء عند إرادة البعث، ولذا يبعثون حفاة عراة غرلاً، يعني غير مختونين، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [(104) سورة الأنبياء].

((والاستحداد)) يعني استعمال الحديدة، وهي الموسى في إزالة الشعر النابت حول القبل، شعر العانة يزال بالحلق، يحلق بالحديدة التي هي الموس، هذا من سنن الفطرة.

((وقص الشارب)) وجاء الأمر بإحفاء الشارب، وجاء الأمر بأخذ الشارب، وجاء الأمر بحلق الشارب، كما في سنن النسائي وغيره، على كل حال يبالغ في إنهاكه، وإن قال الإمام مالك: إن أخذه مثلة، على كل حال عندنا النصوص أن قص الشارب من الفطرة، وجاء الأمر بإحفائه، وإعفاء اللحية، وإكرم اللحية، ((أكرموا اللحى)) ((أعفو اللحى)) ((وفروا اللحى)) وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- كث اللحية، يعرفون قراءته باضطراب لحيته ومن خلفه، ثم يأتي من يأتي بتشريع أخذ ما زاد على القبضة، ومعلوم أنه إذا دخل المقص شيء أزاله مع التدريج، أنتم ترون من بدأ بأخذ ما زاد على القبضة زاد على ذلك، ثم بعد ذلك طال الأيمن، ثم أخذ من الأيسر إلى أن تنتهي اللحية، مع النصوص الصريحة الصحيحة التي تأمر بإعفائها وإكرامها وتوفيرها، وجاء في وصفه -عليه الصلاة والسلام- أنه كان كث اللحية، الذي يأخذ من اللحية ما زاد على القبضة ترى لحيته من خلفه؟ ما يمكن أن ترى من خلفه، نعم ثبت عن ابن عمر أنه في النسك يأخذ من لحيته ما زاد على القبضة، لكن هذا فهمه لقوله -جل وعلا-: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [(27) سورة الفتح] هو فهم من هذه الآية أن من تلبس بنسك يلزمه أن يجمع بين الحلق والتقصير، محلقين أو مقصرين، والحلق للرأس والتقصير لإيش؟ إذا حلق الرأس ويش يبقى؟ ما يبقى إلا اللحية، فكان يفعل هذا ويتأول هذه الآية، وذكر عن غيره من الصحابة، لكن العبرة بما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما جرؤ المسلمون على حلق لحاهم إلا بعد أن خالطوا الكفار؛ لما استعمرت البلاد الإسلامية، وأيضاً لما شاع عندهم مثل هذا القول، الأخذ من اللحية وما زاد على القبضة، ولا بد من ترتيبها، ولا بد أن يخرج الإنسان المسلم بمظهر يليق به، ويش صار؟ المسلمون على مر العصور لحاهم متوافرة، وأول من بدأ بحلق اللحية طائفة ضالة قد تنتسب إلى الإسلام وهي لا نصيب لها، قلندرية يقال لهم، ثم بعد ذلك اختلط الناس بالاستعمار وصاروا قدوات الكفار المستعمرين صاروا قدوات في بلاد الإسلام صاروا يقلدون على هذا، وساعد على ذلك نشر مثل هذا القول فدخل المقص، وإذا دخل المقص خلاص ما له حد، حتى وجد من يدرس في كليات شرعية أن القبضة الأصبع، أصبع واحدة، والله المستعان.

((وتقيلم الأظفار)) الأظفار ما يكون على أطراف الأصابع من هذه المشبهة للغضاريف، وهي تصلب كلما زاد عمر الإنسان، لا سيما مع العمل والتعب، فإطالتها مؤذية من هذه الحيثية، ومن جهة أنها يجتمع تحتها الأوساخ، فمن الفطرة تقليم الأظفار، ونتف الآباط، الشعر الذي ينبت في الإبط، فهذه من باب التنظيف تنتف، ونتفها أولى من حلقها، كما أن حلق العانة والاستحداد أولى من نتفها؛ لأن الآباط تنبعث منها روائح كريهة بسبب اجتماع العرق، ونتفها يزيل هذه الأمور من أصلها، والاستحداد يبقي فيها ما يبقي من أصول الشعر مما يجتمع فيه الأوساخ، حدد وقت هذه الأمور، قص الشارب، تقليم الأظفار، ونتف الآباط على أن لا يزيد على أربعين يوماً، لكن لو طالت قبل الأربعين، قبل الأربعين طالت، بحيث يجتمع فيها من الأوساخ ما يمنع من وصول الماء في الوضوء إلى هذه الأماكن لتعين أخذها.

ومثل الاستحداد ما يقوم مقامه مما يزيل الشعر كالنورة ونحوها، هناك أدهان معروفة يدهن بها الموضع ويزال الشعر، وحكمها حكم الاستحداد، نعم.

باب الجنابة:

عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب، قال: فانخنست منه، فذهبت فاغتسلت ثم جئت، فقال: ((أين كنت يا أبا هريرة؟)) قال: كنت جنباً فكرهت أن أجالسك على غير طهارة، فقال: ((سبحان الله، إن المؤمن لا ينجس)).

نعم، الباب باب الغسل من الجنابة:

الموجب للغسل هو الجنابة، وما في حكمها مما يكون سبباً لخروج المني من مخرجه المعتاد بلذة.

يقول: "عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب" جنب: متلبس بالجنابة، متلبس بجنابة موجبة للغسل، قال أبو هريرة: "فانخنست منه" انسللت، خنس تأخر، ولذا جاء في وصف الشيطان أنه وسواس خناس، يوسوس لمن غفل عن ذكر الله -عز وجل- ويخنس ويتأخر عمن يذكر الله -عز وجل- "فانخنست منه فذهبت" انخنس لئلا يجالس النبي -عليه الصلاة والسلام- على غير طهارة، وهو متصف بالحدث الأكبر، فاغتسل، رفع الحدث، ثم جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((أين كنت يا أبا هريرة؟)) لماذا تخلفت؟ لماذا تأخرت؟ لماذا انخنست؟ قال: "كنت جنباً فكرهت أن أجالسك" وهذا من احترام الصحابة للنبي -عليه الصلاة والسلام-، لكن الجنب طاهر ليس بنجس، طاهر من الخبث لكنه غير طاهر من الحدث؛ لأن الطهارة إما أن تكون عن خبث أو تكون عن حدث، فيمكن أن يقال: إن الجنب طاهر غير طاهر، طاهر باعتبار أنه ليس بنجس، والمسلم لا ينجس، وهو أيضاً غير طاهر يعني غير متطهر، متلبس بالحدث، فالجهة منفكة، ما يقال: وصفان متناقضان، لا يمكن أن يطلقا على ذات واحدة في آن واحد، يمكن أن يطلقا على ذات واحدة في آن واحد؛ لأن الجهة منفكة.

"((أين كنت يا أبا هريرة؟)) قال: كنت جنباً فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة" كلام صحيح، هو على غير طهارة؛ لأنه محدث، "فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((سبحان الله)) تعجب، ((إن المسلم لا ينجس)) وقد جاء في قوله -جل وعلا-: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [(28) سورة التوبة] والمسلم لا ينجس، والكفار والمشركون نجس، {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [(28) سورة التوبة] وهي نجاسة معنوية عند جمهور أهل العلم، وإن حملها بعضهم على أنها نجاسة حسية، والمسلم لا ينجس ولو تلبس بما يوجب الغسل، ففي هذا دليل على طهارة الجنب، طهارة سؤره إذا شرب من شيء طاهر، طهارة عرق الجنب، يجالس يؤاكل، لا بأس، جميع تصرفاته صحيحة، ولا تمنعه الجنابة إلا من مزاولة ما يفترض له الغسل، نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه, وتوضأ وضوءه للصلاة, ثم اغتسل, ثم يخلل بيده شعره, حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته, أفاض عليه الماء ثلاث مرات, ثم غسل سائر جسده, وقالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد, نغترف منه جميعاً".

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اغتسل من الجنابة" يعني إذا شرع في غسله من الجنابة غسل يديه، كما أنه إذا أراد أو شرع في الوضوء غسل يديه ثلاثاً، وهنا: يغسل يديه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة, قبل ذلك بعد أن يغسل يديه يغسل فرجه وما لوثه، يغسل اليدين ثم الفرج وما تلوث، ثم بعد ذلك ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، وضوءاً كاملاً، وقد يؤخر غسل الرجلين إلى ما بعد الغسل والانتقال من المكان لا سيما إذا كان المكان غير نظيف، يعني محل الطين ونحوه، فينتقل منه إلى مكان آخر فيغسل رجليه، بعد أن يعمم بدنه بالماء.

تقول: "كان إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه, ثم توضأ وضوءه للصلاة" مقتضى ذلك أنه يغسل رجليه، وجاء في بعض الروايات: أنه يؤخر غسل الرجلين، ولا يمنع أن يتوضأ وضوءه للصلاة كاملاً بما في ذلك غسل الرجلين، ثم يغتسل يعمم بدنه بالماء، ثم إذا خرج من المكان الملوث بالماء والطين يغسل رجليه، وبهذا تجتمع النصوص.

"ثم يغتسل" ثم شرح هذا الغسل بأن يخلل بيديه شعره، يفيض الماء على رأسه ثلاثاً، ثم يغسل شقه الأيمن ثلاثاً، ثم الأيسر ثلاثاً، "ثم يخلل بيديه شعره" ليصل الماء إلى أصول الشعر، التخليل بأن يدخل الأصابع في خلل الشعر فيتخلل فيصل الماء إلى أصول هذا الشعر، وعلى هذا إذا وجد ما يمنع من وصول الماء إلى الشعر مما يوضع على الرأس من دهن بحيث ينبو الماء عن الشعر، ولا يصل إلى أصوله يزال إذا لُبد على الرأس علاج مثلاً له جرم يمنع من وصول الماء إليه، أو حناء أو ما أشبه ذلك يزال، فيخلل بيديه شعره "حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات" أفاض الماء على رأسه ثلاث مرات، "ثم غسل سائر جسده".

الغسل المجزئ تعميم البدن بالماء على أي وجه يكون، إذا عمم البدن بالماء ارتفعت الجنابة، لكن السنة أن يفعل هكذا يغسل يديه، يغسل فرجه وما لوثه، يخلل شعره بيديه، يفيض الماء على رأسه ثلاثاً، يغسل شقه الأيمن ثلاثاً، ثم الأيسر ثلاثاً، هذا غسل كامل، "ثم غسل سائر جسده" يعني الباقي، والسائر هو الباقي، باقي الجسد.

"وكانت تقول: "كنت أغتسل أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد، نغترف منه جميعاً".

"كنت أغتسل أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-" (أنا) هذه جيء بها للفصل بين الضمير المرفوع وما عطف عليه، "كنت أغتسل أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد" فدل على أنه لا مانع من أن يغتسل الرجل والمرأة جميعاً، يغترفان جميعاً، تغرف منه ويغرف، وكان كثيراً ما يقول: ((دعي لي)) وكثيراً ما تقول: "دع لي" تختلف أيديهما في الإناء.

وجاء النهي عن أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو الرجل بفضل المرأة، جاء النهي عن أن تغتسل المرأة بفضل الرجل والعكس، لكن ثبت أن النبي -عليه الصلاة والسلام- اغتسل وتوضأ بفضل ميمونة، واغتسل مع عائشة، وكان الرجال والنساء يتوضئون في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- جميعاً فلا مانع من أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل، والحديث الذي ذكر فيه كلام لأهل العلم، وأصرح منه وأصح أن النبي -عليه الصلاة والسلام- اغتسل بفضل بعض نسائه.

"نغترف منه جميعاً" تختلف أيديهم فيه، حتى يقول: ((دعي لي)) اتركي لي، وتقول: "دع لي" يعني اترك لي، نعم.

وعن ميمونة بنت الحارث زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "وضعت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وضوء الجنابة, فأكفأ بيمينه على يساره مرتين -أو ثلاثاً- ثم غسل فرجه, ثم ضرب يده بالأرض, أو الحائط, مرتين -أو ثلاثاً- ثم تمضمض واستنشق, وغسل وجهه وذراعيه, ثم أفاض على رأسه الماء, ثم غسل جسده, ثم تنحى, فغسل رجليه, فأتيته بخرقة فلم يردَّها"

يُردْها، فلم يُردْها.

"فلم يُردْها, فجعل ينفض الماء بيديه".

عن ميمونة بنت الحارث -رضي الله عنها- أم المؤمنين زوج النبي -عليه الصلاة والسلام- أنها قالت: "وضعت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وأمهات المؤمنين أعرف الناس بهذه الأمور الخاصة من النبي -عليه الصلاة والسلام-، قالت: "وضعت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وضوء الجنابة" يعني الماء الذي يغتسل منه عن الجنابة وغيرها، الماء الذي يتوضأ به وضوء، الماء الذي يغتسل به وضوء، المقصود أنه ماء، "وضعت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وضوء الجنابة، فأكفأ بيمينه على يساره مرتين -أو ثلاثاً-" وجاء بدون شك أنه غسل يديه ثلاثاً، "مرتين أو ثلاثاً، ثم غسل فرجه" نعم لا بد من غسل ما على الفرج مما تلوث بسبب الجنابة، سواءً كانت من احتلام أو من زوجة، "ثم غسل فرجه, ثم ضرب يده بالحائط" نعم بالأرض, أو الحائط, من أجل أن تتنظف، فركها بالأرض، فركها بالحائط، وكذا لو استنجى من غير جنابة، من بول أو غائط يضرب بيده على الأرض، يمسح بها الأرض ليزول الأثر، "ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين -أو ثلاثاً-" على الشك، "ثم تمضمض واستنشق, وغسل وجهه وذراعيه, ثم أفاض على رأسه الماء" يعني توضأ وضوءاً غير كامل، توضأ غسل وجهه وذراعيه، يعني بعد أن تمضمض واستنشق غسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض الماء على رأسه، وهنا لم يذكر مسح الرأس، بينما أُخر غسل الرجلين، وتقدم البحث فيه، ثم أفاض على رأسه، ثم غسل سائر جسده, غسل باقي الجسد، ثم تنحى, يعني انتقل من مكانه الذي هو فيه انتقل، إما لما في الأرض من أوساخ تسببت عن اختلاط الماء بالتراب، لا يتصور أن أماكن الغسل عندهم مبلطة، فيها ما يمنع من اختلاط الماء بغيره، لا، "ثم تنحى، فغسل رجليه, فأتيته بخرقة" منديل، لكي يمسح أثر الغسل "فلم يردْها, فجعل ينفض الماء بيديه" لم يردها، ما استعمل المنديل -عليه الصلاة والسلام- هنا؛ لأن من توضأ ومثله من اغتسل تخرج ذنوبه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، ولذا ينبغي أن لا يحرص الإنسان على التمسيح إلا إذا كان هناك حاجة، يعني إذا كان الجو بارد يتمسح، يتمندل، لا بأس، لكن إذا كان الجو طيب أو حار يترك الماء لتخرج ذنوبه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، جعل ينفض الماء بيديه، يعني ينفضه عن يديه لينزل منها الماء، والله المستعان، نعم.

وعن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: ((نعم, إذا توضأ أحدكم فليرقد)).

عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله أيرقد؟ -يعني أينام؟- أحدنا وهو جنب؟" متلبس بالجنابة، قال: ((نعم, إذا توضأ أحدكم فليرقد)).

الأصل أن يغتسل ليبرأ من عهدة هذا الواجب، ويسارع إلى إبراء ذمته؛ لأنه ما يدري ما يطرؤ عليه، وهو أيضاً الجنب..، البيت الذي فيه جنب جاء الخبر أنه لا تدخله الملائكة، فعلى الإنسان أن يحرص على دخول الملائكة إلى بيته، إن لم يستطع أو عجز أو كسل عن الغسل لرفع هذا الحدث يتوضأ، وأيضاً الوضوء على سبيل الاستحباب عند جماهير أهل العلم.

أيرقد أحدنا وهو جنب؟ ينام أحدنا وهو جنب؟ يسألون النبي -عليه الصلاة والسلام-، قال: ((نعم)) ينام أحدكم وهو جنب، ولا يلزم أن يغتسل، لكن إن خفف هذه الجنابة ولو بالوضوء كان أولى، نعم.

وعن أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((نعم, إذا رأت الماء)).

وعن أم سلمة -رضي الله عنه- أم المؤمنين زوج النبي -عليه الصلاة والسلام- أنها قالت، مقدمة بين يدي سؤالها؛ لأن السؤال مما يستحيا منه غالباً، تستحيي منه النساء، فقدمت بين يديها مقدمة قالت: إن الله لا يستحيي من الحق, لا يستحيي بياءين، هذه مقدمة بين يدي السؤال الذي يستحيا منه، إن الله لا يستحيي من الحق، بياءين، فإذا دخل على الفعل يستحيي جازم حذف إحدى الياءين، فجاء في الحديث الصحيح: ((إذا لم تستحي)) ما هو بتستحيي، بياء واحدة، ((إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)) باعتبار أن الكلمة فيها ياءين، لكن لو كانت ياء واحدة لحذفت مع الجازم، فقيل: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت، وفي التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [(26) سورة البقرة] وهنا قدمت بهذه المقدمة لكي تدخل إلى السؤال الذي تريده، وهكذا ينبغي أن يكون الأدب في الألفاظ التي قد يكون في التعبير عنها بصراحة شيء مما يخجل منه، لا سيما النساء اللاتي ينبغي أن يتصفن بالحياء، نعم الذي لا يمنعهن من التفقه في الدين، لكن لا ينبغي الاسترسال أيضاً في الكلام الفاحش البذيء ولو من الرجال، لكن النساء قد يكون الأمر بالنسبة لهن أعظم، وأما الرجال لا ينبغي أن يتفوهوا بالكلمات الفاحشة البذيئة.

جرت عادة الشرع الكناية عن بعض الألفاظ التي يُستحيا من ذكرها، لكن إذا لم يكن هناك مفر من ذكرها وترتب عليها بعينها حكم شرعي لا بد أن تذكر، ولو كانت مما يستحيا منه.

"إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟" إذا رأت في منامها أنها تجامَع، الرجل إذا احتلم يغتسل، لكن هل المرأة مثل الرجل تغتسل؟ قال: ((نعم, إذا هي رأت الماء)) علق الوجوب برؤية الماء.

فعلى هذا لو رأى الشخص أو رأت المرأة أنها يحصل لها شيء من ذلك في النوم، ولا رأت ماء، ولا أثر لذلك فإنه لا يلزمها الغسل، فالغسل معلق برؤية الماء، وفي الحديث: ((الماء من الماء)) الحديث الصحيح: ((الماء من الماء)) وإن كان بعضهم يرى أن هذا الحديث منسوخ، لكن إن أمكن حمله على حالة الجنابة فهو صحيح، وإن كان المقصود به بجميع الأحوال أنه لا غسل إلا مع خروج الماء فلا، فالحديث الصحيح: ((إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل ولو لم ينزل)) وحديث: ((الماء من الماء)) كما قال الترمذي: منسوخ.

"فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((نعم إذا هي رأت الماء))" فعلق وجوب الغسل على رؤية الماء، والنساء كما هو معلوم شقائق الرجال، فما وجب على الرجل وجب على المرأة إلا ما خصه الدليل، والله أعلم.

 

وصلى وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.