بلوغ المرام - كتاب البيوع (20)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- في كتابه بلوغ المرام:

باب: الوقف

عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) رواه مسلم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب: الوقف

الوقف: هو الحبس؛ لأن العين الموقوفة تكون محبوسة عن التصرف يحبس عنها صاحبها، ويمنع من التصرف بها، وهو في الاصطلاح: تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، بمعنى أن الأصل لا يتصرف فيه بعد إجراء هذا العقد وهو إيقافه، فعدم التصرف فيه من لوازمه، وسيأتي في حديث عمر -رضي الله تعالى عنه- أن هذا مقتضى الوقف أنه لا يباع ولا يوهب، ولا يتصرف في أصله إلا بما يصلحه، وأما المنفعة والغلة فمصرفها محدد أيضاً في حديث وقف عمر الذي سيأتي الحديث فيه بعد الحديث الأول، والوقف إسلامي يعني مما جاء في الإسلام مما لا يعرف قبل الإسلام، وأول وقف عرف بالإسلام هو وقف عمر، وهو أصل أصيل في هذا الباب، والوقف له هدف شرعي ومصرف لا بد أن يتحقق فيه، وإلا انتفى عنه الاسم، وعلى هذا الوقف إذا لم يحقق الهدف الشرعي فإنه ليس بوقف حقيقةً، وإن حبس ومنع صاحبه من التصرف فيه، فتحقيق الهدف الشرعي من الوقف أمر لا بد منه؛ ليكون الوقف شرعياً، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يرى أنه لا يستحق أن يسمى وقف إذا كان لا يحقق الهدف، أو كان فيه مخالفة للشرع بوجهٍ من الوجوه، فسواء كان في بدايته أو في نهايته، في أصله أو في غلته، فالأموال التي تجتمع من غير الوجوه الشرعية لا يصح الإيقاف منها؛ لأن الله -جل وعلا- طيب لا يقبل إلا طيباً، وإذا جمعت الأموال من وجوهها الشرعية ثم اشتري به وقف بعقدٍ فيه خلل أيضاً لا يتحقق الهدف الشرعي من الوقف؛ لأنه قربة فكيف يتقرب بمثل هذا؟ إذا عقد عليه عقد صحيح بمالٍ طيب، ثم بعد ذلك استغل الوقف فيما فيه مخالفة شرعية مثلاً، بيت أوقف أو دكان محل تجاري أوقف، ثم صار يزاول في هذا المحال ما لا يرضي الله -جل وعلا-، هذا لا يحقق الهدف الشرعي منه، وإذا كان بيت مثلاً وأجر على من يستعمله في المعاصي مثل هذا لا يحقق الهدف الشرعي، فلا بد أن يكون الوقف طيباً في جميع ما يتعلق به، تكون قيمته طيبة، ويكون استعماله في الوجوه الشرعية ومصاريفه شرعية، وإلا فماذا يستفيد الواقف من بيتٍ يستعمل في المعصية؟ أو في محلٍ تباع فيه مواد محرمة شرعاً، أو يزاول فيه عقود محرمة، أو بيت يؤجر على من يزاول فيه محرمات كالبدع ويعرف صاحبه أنه يؤجره على مبتدع يفعل فيه ما لا يرضي الله -جل وعلا-، ويتقرب فيه بما يغضب الرب -سبحانه وتعالى-، مثل هذا وإن كان ممنوعاً بالإطلاق لكنه يتأكد إذا قصد به وجه الله؛ لأن هذه مضادة لأمر الله -جل وعلا-، وبعض الناس لا يهتم من هذا الأمر، توجد أوقاف كبيرة، وغلاتها كثيرة في محلات تجارية، وفي مواقع إستراتيجية على ما يقولون ومع ذلك تباع فيها المحرمات وغلتها وقف، هذا واقع كثير لا سيما إذا كانت الأوقاف كبيرة وكثيرة، يعني تصعب على حد قولهم: السيطرة عليها، مجمع تجاري فيه عشرات المحلات لا بد من التحري في مثل هذه الأمور، أن كونك تتقرب إلى الله -جل وعلا- بما لا يرضيه هذه محادّة، ومع الأسف أنه يوجد في أوقاف بعض الأثرياء من هذا النوع، ووقف مؤجر على بنك ممن يزاول الأعمال المحرمة، والأدوار العليا منه تؤجر على طوائف مبتدعة في أوقات المواسم، هل هذا يحقق الهدف الشرعي من الوقف؟ إذا كان الهدف جمع الأموال ثم صرفها هذا ما حققنا شيء؛ لأن المال النافع هو الطيب؛ لأن الله -جل وعلا- طيب لا يقبل إلا طيباً، فكوني أجمع الأموال من حلها ومن غير حلها ثم بعد ذلك أتقرب إلى الله -جل وعلا- لا يمكن أن يكون هذا، ولذا يفتي أهل العلم إذا ورد على الإنسان مال فيه دخل إما شبهة، أو محرم من غير قصد فإنه حينئذٍ يتخلص منه في المصارف المناسبة له، ولا يكون في المصارف الطيبة، والرسول -عليه الصلاة والسلام- قال: ((كسب الحجام خبيث، أطعمه ناضحك)) يعني لا تأكل منه أنت، ولا تتصدق به، فمثل هذه المكاسب الرديئة الخبيثة تصرف في المصارف غير الطيبة، لا مانع أن تجعل في مصارف صحية، في دورات مياه، وما أشبه ذلك مصارف تكون لائقة بها على سبيل التخلص، هذا في التصرفات العادية بالنسبة للناس، أما ما يتقرب به إلى الله -جل وعلا- فشرطه أن يكون طيباً؛ ليتم قبوله.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا مات ابن آدم))" بعض الروايات: ((إذا مات الإنسان)) كما سمعتم من القارئ ((إذا مات ابن آدم)) وهو الإنسان، فالرواية بالمعنى بالنسبة لمثل هذا سائغة؛ لأن الإنسان مساوي تماماً لابن آدم ((انقطع عمله إلا من ثلاث)) ابن آدم والإنسان يشمل جميع ما يطلق عليه اللفظ، فيدخل فيه الذكر والأنثى، وإن كان الإناث بنات آدم ((فهذا شيء كتبه الله على بنات آدم)) لكن إذا وجه الخطاب للذكور دخل فيه النساء، ما لم يمنع من ذلك مانع ((إذا مات ابن آدم)) الذكر والأنثى، والمقصود به من ينتفع، الجهة القابلة للانتفاع، وهو المسلم أما غير المسلم فإنه لا ينتفع بما عمله قبل موته؛ لأن شرط القبول منتفي ((إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله)) عمله الصالح، وكذلك غير الصالح، ما لم يكن قد سنّ فيه سنة إما حسنة وإما سيئة ((فمن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)) لا ينقطع أجرها، وبالمقابل ((من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)) فلنتصور أن هناك أناس ماتوا من مئات السنين وأعمالهم الصالحة تكتب لهم قرون؛ لأنهم سنوا هذه السنة، وبالمقابل أناس ماتوا من قرون تكتب عليهم الأوزار كرؤوس المبتدعة الذين ابتدعوا في الدين، وسنوا فيه ما لم يسبق له شرعية من كتابٍ أو سنة، وما زال الناس يعملون بها، هؤلاء عليهم أوزار وأوزار من عمل بها إلى يوم القيامة، وقد تموت هذه السنن في وقت سواء كانت صالحة أو طالحة فاسدة ثم يحييها من يحييها، وحينئذٍ يكون عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فإذا مات ابن آدم انقطع علمه، انتهى التكليف، وجف القلم إلا ما استثني من الخصال الثلاث المذكورة في الحديث وبقية العشر التي ذكرت في أحاديث أخرى.

((إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله)) إذا جنّ ابن آدم أو خرف واختلط قبل موته بعشر سنين، توقف عن العمل، فماذا عن هذه المدة من خرفه إلى وفاته؟ هل ينقطع عمله أو يستمر؟ لأن الانقطاع معلّق بالموت، فهذا شخص خرف لا يعي ما يقول، ولا يدري من حوله، وتسمع من بعضهم التسبيح والذكر وهو لا يعي ما حوله، وتسمع من بعضهم السب والشتم واللعن، وسمع هذا وسمع هذا، في المستشفيات في العناية المركزة التي لا يعي فيها الإنسان شيء ويعيش على الأجهزة تسمع هذا يكثر من التسبيح والتحميد والتهليل، وذاك يكثر من السب والشتم، وسمع من يقرأ القرآن وهو لا يسمع، ولا يرى، ولا يبصر، ولا يتحرك، وهذا سمعنا وسمع غيرنا، سب وشتم ولعن صريح وقذف وهو لا يعي، في هذه المدة التي بين انقطاع التكليف؛ لأن مناط التكليف العقل وقد فقد إلى الوفاة؛ لأنه في الحديث عندنا: ((إذا مات انقطع)) فالانقطاع معلق بالموت، فهل يؤاخذ بما يفعله في هذه المدة؟ يقرأ القرآن ليل نهار، وهو في غيبوبة، ومنهم من كان مؤذناً مدةً طويلة في صحته فحصل له ما حصل من المرض والإغماء ثم إذا جاء وقت الأذان أذن هذا موجود، شخص معلق قلبه بالصلاة إذا حان وقت الصلاة كبّر، يعجب الحاضر المشاهد ويعجب الأطباء كيف يتحرك في هذا الوقت وهو محكوم عليه أحياناً بالموت الدماغي؟ هذه الوقائع موجودة، ولا يماري فيها أحد ترى استفاضت يعني عرفت سمعناها وسمعها غيرنا، لكن المسألة في انقطاع العمل، فالحديث معلق على الموت، وهذه المدة التي ارتفع فيها التكليف لأن مناط التكليف العقل، هذه المدة التي قد تكون عشر سنوات أو أكثر أو أقل يؤاخذ عليها بما يصنعه ويؤجر على ما يفعله أو لا؟

طالب:........

يؤجر ولا يؤاخذ! كيف؟

طالب:........

لكن أهل العلم يتفقون على أن غير العاقل مرفوع عنه القلم، وهذا عقله قد زال، هذه المدة مدة ما بين ارتفاع التكليف بزوال العقل إلى الموت مقتضى الحديث أنه العمل جاري، العمل يجري له، لا سيما وأنه امتداد لعمله وقت التكليف، فمن لزم القرآن صار ديدنه ليل نهار، أو الذكر ثم بعد ذلك زال عنه التكليف فصار يسمع منه القرآن والذكر على ما كان يعمله في حال الصحة، مثل هذا واضح في كونه يثاب على هذا؛ لأنه امتداد لعمله، كمن سنّ سنة حسنة أو سيئة يؤجر على الحسنة ويوزر على السيئة وإن مات، وإن انقطع عمله فهذا من آثار عمله، لكن المؤاخذة -مؤاخذة الإنسان- وقد زال عقله، يعني أقرب ما يقال في مثل هذا مثل الصغير غير المكلف الذي رفع عنه قلم التكليف منهم من يرى أنه مرفوع رفع تام، بمعنى أنه لا له ولا عليه قبل التكليف، ومنهم من يرى أنه يكتب له الحسنات، ولا تكتب عليه السيئات، على كل حال هذه محل نظر وتحتاج إلى تحرير في هذه المدة.

((انقطع عنه عمله)) والمراد بعمله الصالح الذي يكتب له ((إلا من ثلاث)) لأن الاستثناء هنا إن قلنا: إنه متصل قلنا: انقطع عمله الصالح، وإذا قلنا: إنه أعم من أن يكون متصلاً أو منقطعاً قلنا: يشمل العمل الصالح وغير الصالح، كله ينقطع ((إلا من ثلاث: صدقة جارية)) وهذا هو الشاهد من الحديث للباب؛ لأن أهل العلم حملوه على الوقف الذي يستمر؛ لأن الصدقة التي يدفعها الإنسان إلى فقير فيأكلها هذا الفقير وتنتهي هي ليست جارية هي صدقة، لكن ليست جارية، أما الجارية هي التي تستمر ويدوم نفعها كالوقف.

((صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به)) بأن يكون معلماً لغيره، معلماً لطلاب ينشرون عنه العلم، ويؤخذ عنهم العلم، ويتسلسل هذا العلم لطلابهم وطلاب طلابهم.. الخ، هذا لا شك أنه علم ينتفع به، ويستمر نفعه، مثل هذا التأليف وهو أضمن في الاستمرار بإذن الله، وإن كان الطلاب فيهم خير، وفيهم نفع ينتفع بهم شيخهم الذي اقتدوا به، وأخذوا عنه، وينتفعون بمن يعلمونهم، ومن دل على خير كان له مثل أجر فاعله، التأليف لا شك أنه يستمر إذا كتب الله له الاستمرار، وإلا هناك مؤلفات كثيرة جداً تذكر بالتراجم، لكن لا أثر لها ولا وجود لها، هذه ما استمرت، والتأليف شأنه ونفعه عظيم، ولذلك تجدون في تراجم أهل العلم من يشاد به، ويوصف بأعظم الأوصاف لكنه لم يؤلف، ينتهي خبره، ولا يذكر، ومن لازم الذكر الترحّم عليه، فبعض الكتب تكون مباركة، تقرأ في كل درس، وفي كل مسجد، وفي كل مناسبة، وفي كل يوم يقال ألوف المرات: قال فلان -رحمه الله تعالى-، هذا لا شك أنه علم ينتفع به، وهو باقٍ والبركة كما تكون في الأشخاص تكون في آثارهم من مؤلفاتهم، فتجد هذا الشخص في علمه بركة بحيث يؤخذ عنه العلم من قبل عددٍ كبير، وينتشر هذا العلم في الأقطار والأمصار هذه بركة، وكذلك يكون له مؤلف يرزق القبول من الله -جل وعلا-، بينما يوجد من هو أعلم منه فيما يبدو للناس، لكن لا تجد هذا الأثر الذي لغيره ممن هو دونه في الظاهر، فالله -جل وعلا- إذا رضي بارك، يعني ما بركة كتب شيخ الإسلام وابن القيم وأئمة الدعوة وكتب أهل العلم المعروفين بالتحقيق الذي سار في مؤلفاتهم الركبان، وانتشر طلابهم والآخذون عنهم في الأمصار، وما زال التسلسل إلى الآن، فلان عن فلان، وفلان قرأ عن فلان، وأخذ عن فلان.. الخ، هذا لا شك أنها أبواب من أبواب الخير، المقصود أن العلم أشمل من أن يكون بالتعليم أو بالتأليف، المقصود أن الإنسان يبذل هذا العلم لينتفع به

فيجرى عليه أجره بعد وفاته، كذلك طبع الكتب لا يجب أن يكون الشخص عالماً لو كان ليس من أهل العلم وإنما ساهم في طبع الكتاب أو أشار على من يطبع كتاب لو كانت ليست لديه القدرة في التعليم والتأليف ولا الطبع من ماله فإذا أشار على شخص يستطيع طبع الكتاب النافع لا شك أن الله -جل وعلا- يدخله في السهم الواحد ثلاثة، فمنهم هذا، فلا يحقر الإنسان نفسه في مثل هذه الأمور له من الأجر قريب مما للمؤلف أو للطابع أو للناشر أو ما أشبه ذلك؛ لأنه على يديه انتشر الكتاب.

((أو علمٍ ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) فعلى هذا يحرص الإنسان على تربية أولاده على الصلاح بأن يكون صالحاً في نفسه مصلحاً لأولاده ولغيره؛ لأن الولد الصالح حريّ بإجابة الدعوة، وهذا الصلاح يدعوه إلى الدعاء لوالديه بحيث يستشعر النصوص الشرعية الواردة في حقوق الوالدين، فيدعو لهما، والدعاء ينفع بلا شك، ونفعه للمتسبب ظاهر في التربية على الخير والصلاح، ولذا يقول الرب -جل وعلا-: {رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [(24) سورة الإسراء] فالتربية لها شأنها، فإذا فرّط الوالد في تربية الولد يحرم من هذا الدعاء؛ لأنه مربوط بالتربية – كما ربياني- يعني من أجل تربيتهما لي، فإذا رباه على الصلاح، ودعا له صار حرياً بالإجابة، استفاد من دعائه، والله المستعان.

هناك أمور جاءت بها النصوص، خصال أوصلها السيوطي إلى عشر خصال، ونضمها في قوله:

إذا مات ابن آدم ليس يجري
علوم بثّها ودعاء نجلٍ

 

عليه من فعالٍ غير عشرِ
..............................

هذا الوارد في الحديث.

...................................
وراثة مصحفٍ.................

 

وغرس النخل والصدقات تجري
...............................

الإنسان إذا ورث مصحف وصار يقرأ فيه لا شك أن له من الأجر مثل أجر من يقرأ فيه، وقل مثل هذا لو اشترى مصاحف ووزع، لا سيما في البلدان التي لا يتيسر فيها الحصول على المصاحف، أجر وخير عظيم أن يسر القراءة لمثل هؤلاء.

وراثة مصحف ورباط ثغرٍ
وبيت للغريب بناه يأوي      

 

وحفر البئر أو إجراء نهرِ
إليه أو بناء محل ذكر

وبيت للغريب، بيوت للغرباء، فنادق يسكّن فيها الغرباء من غير مقابل، هذه أجرها عظيم، ويستمر نفعها، وهي داخلة في الوقف، إذا بنى بيتاً أوقفه على الغرباء الذين لا سكن لهم، فهذا لا شك أنه داخل في الوقف، بعد هذا حديث ابن عمر.

وعن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: أصاب عمر -رضي الله تعالى عنه- أرضاً بخيبر، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، قال: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها، ولا يورث، ولا يوهب، فتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقاً غير متوّل مالاً. متفق عليه، واللفظ لمسلم.

وفي رواية للبخاري: تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب، ولكن ينفق ثمره.

حديث ابن عمر في وقف عمر وهو أصل في هذا الباب، ونقل الإجماع على مشروعية الوقف، ولم يخالف في ذلك إلا ما يذكر عن شريح القاضي أنه منع الحبس الذي هو الوقف، منعه؛ لأنه يحرم صاحبه من التصرف فيه، وأجاز أبو حنيفة -رحمه الله- البيع –بيع الوقف- ومنعه مطلقاً مالك والشافعي، انتهى، لزم، خرج من يده لا يتصرف فيه البتة، والمذهب عند الحنابلة أنه لا يجوز بيعه إلا إذا تعطلت منافعه، مزرعة اندثرت ولا تصلح لئن تكون سكن، أو كانت مصارفها من غلتها بالتعيين بأن قال: هذه المزرعة وقف مائة صاع منها من غلتها للإمام، وخمسون صاعاً للمؤذن، ومائة صاع للمدرس في المسجد، وزعها من غلتها؛ لأنهم الآن إذا تعطلت منافعها باعتبارها مزرعة أحياناً غلتها لا تفي بإصلاحها، يعني يصرف عليها من الأموال أكثر من غلتها، فيتفق الناظر مع الورثة فبدلاً من أن تكون مزرعة تكون مخطط سكني، أو محلات تجارية، أو ورش صناعية، أو ما أشبه ذلك، وتؤجر بمبالغ طائلة، فالحنابلة يقولون: إذا تعطلت المنافع تنقل، تباع وينقل، والمالكية والشافعية يقولون: لا لزمت، في حكم التعطّل ضعف الدخل الشديد، يعني بهذه الصورة مزرعة غلتها بعشرة آلاف وخمسة آلاف ريال، وإذا أجرت مستودع أو محل تجاري أو شيء من هذا بمائة ألف، هل نقول: خلاص هي كما تركها صاحبها؟ أو نقول: إنها تعطلت المنافع، وهجرت هجر الحي فلا مانع من بيعها، والانتقال إلى حيٍ يستفاد منها، معروف إن الأحياء تتفاوت في الدخل، فبدلاً من أن تكون غلتها خمسة آلاف وعشرة آلاف تنقل إلى حيٍ تكون غلتها مائة ألف، هي ما تعطلت منافعها، لكنها في حكم المتعطل؛ لأن الغلة بالنسبة لما هو أعظم منها كلا شيء، الضعف شديد، فالذي يقول بالتصرف فيها في مثل هذه الحالة هو مخرج على قول الحنابلة في التعطل؛ لأن هذا شبه تعطل، وأما بالنسبة للمالكية والشافعية لا يرون أنها تنقل لزمت ولو تعطلت منافعها، والحنفية يجيزون بيع الوقف.

يقول: "وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أصاب عمر أرضاً بخيبر" يعني المنقول عن شريح أنه لا يرى الحبس، هل يتصور أن شريحاً يرى يريد في كلامه هنا بالحبس هنا السجن ولا يرى سجن الجاني؟ لأنه قاضي؟ لأن أحياناً بعض الألفاظ على حسب ما يفهمه القارئ، فإذا قيل: إن عمر -رضي الله عنه- منع المتعة مثلاً، هل يريد بها متعة الحج أو متعة النساء؟ متعة الحج، لكن لو قيل: بالنسبة لشخصٍ يرى متعة الحج ومنع المتعة لا شك أنه يوجه على أن المراد متعة النساء؛ ليتحد قوله، فشريح قاضي، وكان لا يرى الحبس، هل المراد به أنه لا يرى الوقف أو لا يرى سجن الجاني؟ إنما يحكم عليه مباشرة وينفذ ولا يحبس؛ لأنه نقل عنه هذا أنه لا يرى الحبس، وفي هذا الموضع يعني في كتاب الوقف، من نقل عنه فهم من أنه يريد الوقف، وأنه لا يرى مشروعية الوقف، واللفظ محتمل، يحتمل وإلا ما يحتمل؟ فالذي يحدد هو السياق الذي جاء فيه هذا الكلام، وأيضاً مقارنة أقواله بعضها ببعض، وإلا ما عرف عن أحدٍ من علماء المسلمين أنه لا يرى مشروعية الوقف.

"عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أصاب عمر -رضي الله تعالى عنه- أرضاً بخيبر" نعم، كان عنده مائة رأس فاشترى بها مائة سهم من خيبر، هذه خيبر لما فتحت هل وزعت على الغانمين؟ أو بقيت وعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل خيبر عليها بالشطر؟ وكان عبد الله بن رواحة يخلص عليهم، وأعطوه من الرشوة ما أعطوه؛ ليخفف عنهم، في قصص وأحاديث معروفة مشهورة، النبي -عليه الصلاة والسلام- ما قسم خيبر بين الغانمين، وإنما عامل عليها أهلها بشطر ما يخرج منها، فعمر حينما أصاب هذه الأرض بخيبر يعني اشتراها بمائة رأس، اشترى مائة سهم بمائة رأس "فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأمره فيها" يطلب أمره فيها، ويستشيره فيها "فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه" الأرض مؤنثة "أصبت أرضاً بخيبر، لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه" يعني منها من الأرض، أنفس من هذه الأرض، والأصل أن يعود الضمير عليها بالتأنيث، لكن لما نزلت منزلة المال عاد الضمير عليها بالتذكير "فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" من باب المشورة ((إن شئت -ترك الأمر إليه- حبست أصلها وتصدقت بها)) حبست أصلها يعني أوقفتها، وتصدقت بها يعني بغلتها، والمعنى العام للصدقة يشمل الوقف "قال: فتصدق بها عمر، وأنه لا يباع أصلها" يعني مقتضى اللفظ أنه تصدق بها أنه أخرجها من يده، ووزعها على الفقراء والمساكين وابن السبيل وفي سبيل الله على ما سيأتي، لكنها صدقة مقيّدة بكونها لا يباع أصلها، وهذه حقيقة الوقف "ولا يورث" يعني خرجت عن ملكة بالتوقيف، فلا يستطيع بيعها ولا تورث منه إذا مات، ولا يستطيع أن يهبها إلى أحد، لا هو ولا أحد من ورثته "لا يباع أصلها، ولا يورث، ولا يوهب فتصدق بها في الفقراء" تكون غلتها مصروفة في هذا المصرف، لا أنها توزع الأرض على الفقراء، وإلا كان المراد بذلك فتصدق بها على أو للفقراء التي تقتضي التمليك، إنما تصدق بها بمعنى أنه أوقفها، وجعل غلتها مصروفةً في الفقراء وفي القربى، الفقراء ويشمل المساكين، وإن كان الفقر أشد عند الجمهور، والمسكنة أشد عند الحنفية، وهذا معروف في باب الزكاة.

"في الفقراء، وفي القربى" من باب الصلة يقدم ذوو القربى، لا سيما من انطبق عليه الوصف وهو الفقر، فهو أحق من غيره ممن بعد عنه في النسب "وفي القربى" جمع قريب "وفي الرقاب" بأن يعتق منها الأرقاء، ويؤدى منها عن المكاتبين، ويفك منها الأسرى "وفي سبيل الله" والمراد به في قول الجمهور الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، المراد في سبيل الله الجهاد عند الجمهور، ومنهم من يتوسع في مفهوم سبيل الله، سواء كان في هذا الحديث، أو في آية مصارف الزكاة، فيجعلها في كل ما ينفع، يعني في الجهاد، وفي الحج، وجاء ما يدل على كونه من سبيل الله، وفي الدعوة، وفي التعليم، فيتوسع في مفهوم في سبيل الله بحيث يشمل أبواب الخير من جهادٍ وحجٍ ودعوة وتعليم، وأيضاً يدخل في التعليم دخولاً أولياً تعليم القرآن، فيتوسعون في هذا ويجعلون من مصارف الزكاة هذا بهذا المفهوم، والأكثر على أن المراد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وهو المتجه؛ لأنه قول عامة أهل العلم.

"وفي سبيل الله وابن السبيل" من انقطعت به الأسباب، انتقل من بلده إلى بلدٍ آخر مسافراً، فنفذت نفقته أو ضاعت يعطى من الزكاة، ويعطى من الأوقاف حتى يرجع إلى بلده، ولو كان غنياً في بلده، وهذا الحاجة ماسّة إليه في أوقاتٍ مضت، أما الآن فتكاد تكون معدومة، أعني مسألة الانقطاع ابن السبيل، ففي كل بلد مصرف وصراف، وإن كان غنياً في بلده فبطاقته معه، يسحب من أي بلد يحل فيه كأنه في بلده، فخفت هذه المسألة، يبقى أنه شخص ما له حساب في البنوك وفي المصارف ولا بطاقته عنده، أو بطاقة الصرف منتهية، هذا منقطع يعطى حتى يعود إلى بلده وإن اقترض بنية الوفاء لا شك أنه أفضل من السؤال والتكفف، وإن كان يجوز له أن يسأل حتى يعود إلى بلده، وليس معنى هذا أن الإنسان يقصد هذا الأمر يقصد الانقطاع فلا يأخذ من النفقة ما يكفيه ليكون ابن سبيل!

"وابن السبيل والضيف" الضيف ولو كان غنياً، ولو كان واجداً، إذا حل بالمسلم ضيف فعليه إكرامه، أقل الأحوال يومه وليلته، وما عدا ذلك ففضل إلى الثلاث ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) فمن مصارف الوقف الضيف، لو أن شخصاً أوقف بيتاً وجعل غلته فيما جاء في حديث عمر، وصار كل من جاءه من ضيف أكرمه وبالغ في إكرامه، حتى ضاق الصرف عن المصارف، أو ضاق المصروف عن المصارف، صار يا الله يكفيه ها الوقت الضيوف الذي يحلون عليه، هل نقول: إن هذا يقي ماله بهذا الوقف؟ أو نقول: إن الضيف داخل في المصارف المنصوص عليها ولا تثريب عليه؟ ماذا نقول؟ يعني أوقف داراً تؤجر بعشرين ألف مثلاً، هذه الدار أجرتها عشرون ألفاً، وهو رجل مضياف في كل أسبوع يحل به ضيف، ويكلّفه خمسمائة ستمائة إلى ألف أحياناً، فما تنتهي السنة إلا والعشرون ألف منتهية للضيوف، يكون هذا وقف وإلا لا؟

طالب:........

لا هو الضيف منصوص عليه، يعني شرط الواقف كنص الشارع.

طالب:........

إيه هذا يطلقه الفقهاء، لكن عندنا الضيف منصوص عليه أنه من المصارف، لكن لا يعني هذا أنه يأتي على جميع المصرف، وإن كانت مصارف الزكاة يجوز صرفها في وجهٍ واحد، يعني لو شخص عنده مليون زكاة وصرفها كلها في الفقراء، وترك السبعة من المصارف يلام وإلا ما يلام؟ ما يلام، لكن هذا عنده المصارف الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، ستة، فخصص الغلة للضيوف، ولا شك أنه إذا كان إكرامه للضيوف من باب امتثال قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) هذا لا شك أنه مأجور على هذا، لكن يبقى أنه إن كان ليقال: كريم أو يدفع بذلك عن ماله، لا يود أن يخرج من ماله شيء للضيوف، ولا يخسر عليهم شيء، وقال: فرصة الضيف مصرف من مصارف الأوقاف، وعندنا هذا الوقف، لماذا لا نكرم الضيوف؟ وهل يلزم إخبار الضيف أن هذه الوليمة من الوقف أو لا يلزم؟ الضيف حينما حل به الأصل أن يكرمه من ماله، فهل يلزم أن يقول للضيف: هذا الإكرام من الوقف؟ ترى لها نظائر يا إخوان، بعض الناس لا يعق عن ولده إلا إن حل به ضيف، يستغل هذا الضيف ويذبح هذه الشاة، أو هذا الكبش وينويه عقيقة لولده، والثانية إذا جاء ثاني، والبنت إذا جاء ثالث وهكذا، هل تجزئ عقيقة وقد قدمت على أنها إكرام لضيف أو لا بد أن يقول لضيفه: هذه عقيقة فلان؟ يعني إذا قال: هذه عقيقة فلان انتهى الإشكال صحت ما في إشكال عقيقة، لكن إذا قدمها على أنها إكرام لهذا الضيف؟ وقل مثل هذا في الوقف إذا قدمه على أنه إكرام لهذا الضيف، وتناقل الناس أنه يكرم الضيوف، وهو في الحقيقة من الأوقاف ومن العقائق، لا بد من البيان، لا بد أن يقول: هذه عقيقة فلان، حياكم الله على عقيقة فلان وهكذا، وإن كان في الأصل يجوز له أن يأكل ويهدي ويتصدق، ويعزم عليها الأقارب، يعزم عليها الجيران، لكن لا يظهر نفسه بخلاف الواقع، لا يظهر بخلاف الواقع، فإذا توقّع منه خلاف الواقع لا بد من البيان، وإذا جاء ذم من يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، هاجر شخص من الدمام إلى مكة، والذي يظهر للناس إنما ترك هذه المنطقة إلى مكة من أجل المضاعفات، ومن أجل البلد الحرام، من أجل البيت، للطواف، للتعبد هناك، مجاورة، وهو في الحقيقة إنما بحث عن زوجةٍ مناسبة في بلده فما وجد، فانتقل إلى بلد آخر ليجد زوجة أو غلب على ظنه وجود زوجة، أو وعد، أو حدث عنها، فانتقل وهاجر، وظهر للناس أو أظهر للناس أنه إنما هاجر لله ورسوله، فمثل هذا يذم، وقل مثل هذا إذا هاجر لدنيا يصيبها، يسأل لماذا سكنت في مكة؟ والله سكنت في مكة ما يخفى فضل مكة، والصلاة بمائة ألف صلاة، الكلام صحيح، لكن هل هذه نيته؟ فإذا ظهر للناس على خلاف الواقع لا بد من البيان، فإذا كان يظهر للناس أنه كريم من جاء إلى البلد من غريب أقام له وليمة، ودعا إليها أعيان الناس، واستفاض بين الناس أنه كريم، لا بد أنه يقول: هذه عقيقة أو هذا وقف لبيان الواقع، وإلا فالأصل أن الهجرة للدنيا أو الهجرة لامرأة يتزوجها لا إشكال فيها، ما فيه شيء إلا إذا ظهر على خلاف واقعه، أو أظهر للناس بقوله أو بفعله إنه إنما هاجر من أجل كذا، وسواء كان ذلك بلسان المقال أو بلسان الحال.

"لا جناح على من وليها" لا إثم ولا تثريب على من وليها من ناظرٍ ذكراً كان أو أنثى "أن يأكل منها بالمعروف" النص هنا على الأكل يحتاج نفقة، يأخذ نفقة "أو يطعم صديقاً غير متمولٍ مالاً" يأكل بالمعروف، لكن لو قال الناظر: أنا ما عند استعداد أقبل النضارة، وهي تأخذ علي وقت إلا بأجرة المثل، ما يكفيني آكل نعم الأوقات تتفاوت، قد يكون في عهده -صلى الله عليه وسلم- أن الأكل في مقابل العمل الدائم مناسب، وإلى وقتٍ قريب والأجير يستأجر بطعامه، يعمل في الأعمال الشاقة من طلوع الشمس إلى غروبها، بوجبتي الغداء والعشاء فقط، وهذا مناسب لوقت من الأوقات؟ لكن الآن؟! لو تبي تقول لواحد من طلاب العلم: عندي عمل ليس بشاق تكون في المكتبة، وتحضر لي بعض المسائل، وترتب الكتب، عمل مريح، وفي مكان بارد، وفي محل تهواه، لكن ما عندي لك إلا الغداء والعشاء في أحد بيقبل؟ فكيف إذا كان مثل هذا الوقف أرض وبعيدة عن المدينة، وتحتاج إلى رعاية، وتحتاج إلى متابعة، وتحتاج إلى نظر، وفي عمال، وفي غلة، وفي بيع وشراء، ويكفي أن يأكل؟ إذا لم يوجد من يتبرع بحث عمن يأكل، إذا لم يوجد من يكفيه الأكل بحث عن من يعمل فيه بأجرة المثل، وامرأة تسأل قالت: إنها أوقفت محلات تجارية، وعيّنت عليها ناظر، وكان الناظر منصوص عليه في ورقة الوقف أن له خمسة بالمائة، قالت: إنها لم تجد أحد يمسك الخمسة، فتريد أن ترفع النسبة إلى عشرة في المائة، لها ذلك أو ليس لها ذلك؟ نعم، إذا لم تجد يترتب على عدم وجوده ضياع الوقف ترفع النسبة؛ لأنه من مصلحة الوقف، ومثل هذا يقال في الأكل بالمعروف، يعني قد لا نجد من يعمل في مثل هذه الأعمال بمجرد أن يأكل منه، أو يطعم صديقاً، ولو كان غنياً يطعمه غير متمولٍ مالاً، يعني يطعمه الشيء الذي لا يضر بالمصرف.

"غير متمول مالاً" متفق عليه واللفظ لمسلم، وفي رواية للبخاري: تصدق بأصلها لا يباع ولا يوهب" الضبط إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر، وهنا في رواية البخاري: تصدق يعني بدل قوله: فتصدق بها عمر، يعني تصدق عمر بأصلها لا يباع ولا يوهب، ولكن ينفق ثمره الغلة المنفعة تنفق في المصارف المذكورة في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف.

وكان الناظر عمر -رضي الله تعالى عنه- في وقته، ثم بعد ذلك بعده آلت النظارة إلى حفصة أم المؤمنين، فدل على أن المرأة تلي مثل هذه الأعمال، بما لا يقتضي مخالطةً منها للرجال.

وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر على الصدقة الحديث، وفيه: ((فأما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله)) متفق عليه.

حديث أبي هريرة تقدم ذكره، وهو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- بعث عمر -رضي الله تعالى عنه- على الصدقة يجبي الصدقة، بعثه جابياً للصدقة، عاملاً عليها، والحديث فيه أنه منع ابن جميل وخالد والعباس، امتنعوا من دفع الصدقة، فقال: ((أما العباس فهي عليّ ومثلها، وأما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله)) وهذا هو الشاهد ((وأما ابن جميل فما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله)) يعني بدلاً من أن يشكر النعمة يمنع حق الله في المال، فدل على أن الناس ينزلون منازلهم، هذا شخص فقير أغناه الله وليست له ما لغيره من هؤلاء من عطاء، ومن إفادة للإسلام والمسلمين، فمثل هذا يقال في حقه مثل هذا الكلام، يعني أقل الأحوال أن يدفع إليه يؤدي الواجب، كان فقير فأغناه الله فعليه أن يؤدي هذه الصدقة، وأما العباس فهي علي ومثلها، ومنهم من يقول: إنه دفع زكاة سنتين، وعلي عندي معناها عندي أنها مدفوعة، ويستدلون بذلك على جواز تعجيل الزكاة، ومنهم من يقول: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- ضمن عنه أو أدى عنه ما وجب عليه.

((وأما خالد -وهو الشاهد هنا- فقد احتبس)) يعني أوقف أدراعه جمع درع، وهو الذي يقي البدن من السهام، يلبس على البدن ليقيه من السهام، وهو في الغالب من الحديد، ((وأعتاده)) جمع عتد، وهو أيضاً مما يعتد به ويستعان به في القتال من سلاحٍ وخيلٍ ومركوب أياً كان، فهو يعتد به، ويستعان به في القتال، منهم من فسره بالخيل، ويستدل بالحديث على جواز وقف المنقول، وأنه لا يختص بالعقار والأراضي، المنقول يوقف، أما المنقول الذي يدوم أصله كالدرع مثلاً والسيف الأمور التي يستمر نفعها، فهذا لا إشكال في إيقافها، لكن ما تتلف عينه هل ينطبق عليه أنه وقف؟ ما تتلف عينه؟ يعني يستهلك، المستهلك يصح إيقافه وإلا ما يصح؟ يعني إيقاف النخل الأصل إيقاف الأصل والمنفعة توزع على المصارف هذا ما فيه إشكال، لكن لو أقف الثمرة التي على رؤوس النخل دون النخل يسمى وقف وإلا لا؟ ما يسمى وقف؛ لأنه مستهلك، والوقف من شأنه أن يثبت ويدوم؛ لأن هذا معنى الوقف، وهذا معنى التحبيس، فكونه أوقف الأدراع هذا ما فيه إشكال لأنها تدوم من حديد وتنتقل من شخص إلى شخص في سبيل الله، يعني كما توقف مصحف، المصحف في الغالب يدوم، ومن يد فلان إلى فلان، وإذا استغنى عنه فلان دفعه إلى فلان، وقل مثل هذا في كتب العلم وإن كانت منقولة، خلافاً لمن يقول: إنه لا يصح وقف المنقول، فالصحيح صحة وقف المنقول كالكتب والمصاحف والأدراع وما أشبه ذلك، أما بالنسبة للفرس الذي يموت مثلاً فتوقيفه محل خلاف بين أهل العلم، والحديث حجة على صحة وقف الحيوان لمن يستفيد منه، شخص ربط خيل في بيته أو عند بابه من احتاجه يركبه ويعيده إلى مكانه، شخص وقف سيارة وجعل المفتاح عليها قال للمحتاج من المسلمين له مشوار يركب ويمشي، فإيقاف مثل هذا صحيح بناءً على تفسير العتاد بالخيل، نعم.

باب: الهبة

عن النعمان بن بشير -رضي الله تعالى عنهما- أن أباه أتى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أكل ولدك نحلته مثل هذا؟)) فقال لا: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((فأرجعه)) وفي لفظٍ: فانطلق أبي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليشهده على صدقتي، فقال: ((أفعلت هذا بولدك كلهم؟)) قال: لا، قال: ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) فرجع أبي فرد تلك الصدقة. متفق عليه.

وفي رواية مسلم: قال: ((فأشهد على هذا غيري)) ثم قال: ((أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟)) قال: بلى، قال: ((فلا إذاً)).

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب: الهبة

الهبة والعطية والنحلة بمعنى واحد إلا أن الهبة تطلق على ما كان في حال الصحة وكذلك الهدية، وأما العطية فهي مختصة في العرف عند أهل العلم أنها ما كانت في حال المرض، والهبة عبارة عن تمليك عين دون مقابل، يقول -رحمه الله تعالى-: "عن النعمان بن بشير -رضي الله تعالى عنهما- قال: إن أباه أتى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً" يعني وهبه له، بشير بن سعد وهب ابنه النعمان ونحله غلام كان له "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أكل ولدك نحلتهم مثل هذا؟))" يعني جميع الأولاد أعطيتهم مثل هذا الغلام؟ "فقال: لا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((فأرجعه))" وعلى هذا إذا استوت المطالب -مطالب الأولاد- لا بد من التعديل بينهم، فعنده خمسة من الأولاد كلهم يحتاج إلى سيارة، فأعطى واحد سيارة، أعطاه إياه، وهبها له، وترك الباقي وقال له: لا تنس إخوانك إن كان لهم مشاوير وإلا شيء توصلهم، ما يكفي، لا بد أن يهب لكل واحد سيارة، وإلا تكون السيارة باسمه هو، ثم يخوّل واحداً منهم لقيادتها لكونه أجدر بهذه القيادة من غيره، ومع ذلك لا يختص بها في مشاويره الخاصة، ومن احتاجها من إخوانه ينتفع بها؛ لأنها ليست له، وإنما هي لأبيه، وتعلقهم بها كتعلقه هو، أما إذا اختلفت المطالب، هذا يحتاج سيارة، والبنت تحتاج إلى ذهب، والصغير يحتاج إلى مصروف مدرسة ودروس وطعام يناسبه، ورابع أو خامس يحتاج إلى زواج، اختلفت هذه المطالب، هل نقول: إذا زوجت زيد الذي يبلغ من العمر خمسة وعشرين سنة لا بد أن تدفع لعمر الذي يبلغ من العمر خمس سنين مقدار المهر؟ يلزم وإلا ما يلزم؟ ما يلزم؛ لأن هذه حاجات أصلية تقدر بقدرها، وكل يعطى ما يحتاج، فإذا أعطى الولد سيارة ينتفع بها وينفع بها والده وأهله، وتعطى البنت من الذهب ما تحتاجه من الحلي، وما يناسب المرأة، ويعطى الصغير ما يناسبه هذا لا يلزمه فيه التعديل، الحوائج الأصلية لا يلزم فيها التعديل، لكن إذا وصل إلى ما وصل إليه أخوه الذي به أعطي ما أعطي لزم الأب التعديل، تزوج الولد الأول لما بلغ العشرين، يلزمه إذا كانت ظروفه تمسح له أن يزوج الثاني إلى وصل إلى العشرين ولا يجوز له تأخيره إذا طلب ذلك وهذا تعديل، نعم قد ينظر في مصلحة الأول ومصلحة الثاني، الأول من مصلحته أن يزوج مبكر، والثاني ليس من مصلحته أن يتزوج مبكراً، فهذه النظر إليه، لكن يبقى أن التعديل لا بد منه والتسوية، وإذا زوج الولد الأول هل يلزمه أن يوصي بتزويج الثاني والثالث من رأس ماله أو لا؟ ((لا وصية لوارث)) هل من التسوية والتعديل بين الأولاد أن يزوج الثاني والثالث كما زوج الأول ولو بعد وفاة الأب؟ بالوفاة انتقل المال منه إلى ورثته فصار لا يملك إلا الوصية بالثلث فأقل، والنص المتلقى بالقبول ((لا وصية لوارث)) فعلى هذا يزوج من إرثه لا من رأس المال "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((فأرجعه)) وفي لفظ: فانطلق أبي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليشهده على صدقتي، فقال: ((أفعلت هذا بولدك كلهم؟)) قال: لا، قال: ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم))" فعدم التسوية وإيثار بعض الأولاد دون بعض محرم، والتصرف باطل، فلا بد من إرجاع هذه العطية سواء قبضت أو لم تقبض في حياة المعطي وبعد وفاته، منهم من يقول: إنه إذا أعطى بعض أولاده وزاد بعضهم على بعض ثم مات عليه الإثم والعطية ثابتة، ولا ترد، وهذا قول كثير من أهل العلم، لكن المرجح أنه ما دام أمر بإرجاعها أنها لم تثبت ملكاً للولد، فعلى هذا ترد ولو بعد وفاة الأب، ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) الأولاد يشمل الذكور والإناث {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [(11) سورة النساء] فالتعديل واجب بين الأولاد ذكوراً كانوا أو إناثاً، وأهل العلم يختلفون في مثل هذا هل مقتضى الحديث التسوية والتعديل بأن يكون ما يعطى للذكر والأنثى على حدٍ سواء؟ أو تكون القسمة على قسمة الله -جل وعلا- في المواريث للذكر مثل حظ الأنثيين؟ فلنتفرض أن شخصاً ثرياً عنده عشرة أولاد وخمس بنات، عشرة ذكور وخمس إناث، فأعطى العشرة من الذكور كل واحد مائة ألف، مليون، فماذا يعطي البنات؟ هل يعطي كل واحدة من البنات مائة ألف أو يعطيها خمسين ألف؟ هل نقول: مقتضى قوله: ((اتقوا الله واعدلوا)) مقتضى هذا أن يكون العدل بالتسوية، سووا بين أولادهم، فالتسوية تقتضي أن يعطى البنات مثلما يعطى الذكور، لا على قسمة الميراث، ومن أهل العلم من يرى أن القسمة في العطية لا في النفقة والحوائج الأصلية تكون على قسمة الله بالميراث، فأعطى الذكور على مائة ألف يعطي الإناث على خمسين ألف، وهذا لا شك أنه قول له حظ من النظر، أما بالنسبة للحوائج الأصلية؛ لأن هذه مسائل عملية يحتاجها الناس باستمرار، يعني شخص عنده عشرين بين ذكر وأنثى، وفي نهاية كل شهر يعطيهم المصاريف التي يحتاجونها، ويحدد لهم، يجب عليه أن يعدل بين زوجاته، فإذا حدد لهن مبلغاً من المال لا يجوز أن يزيد واحدة على الأخرى، الزوجات نفترض أنه يعطي كل زوجة خمسمائة وكل واحد من الأولاد الذكور مائتين، فهل معنى هذا أنه يعطي الإناث مائة مصروف؟ أو نقول: إن المائة لا تكفي، أحياناً تكون البنات أشد مصروف من الأولاد؟ لأن الحاجة الأصلية لا بد من تأمينها، فهذه ليست العطية هذه من باب النفقة، إلا أنه من أجل تنضبط أموره يعطيهم دراهم، فإذا قلنا: إنه على الميراث لا بد أن يعطي البنت النصف، وحينئذٍ تتضرر، البنات يحتجن من المصاريف أكثر مما يحتاجه الأولاد؛ لأننا لو نظرنا إلى الثياب مثلاً، الولد يخاط ثوبه بمائة ريال، والبنت ما يخاط إلا بمائتين ثلاثمائة، وقل مثل ذلك في أمور أخرى مما يحتاجه الناس فكونه يقنن لهم مصاريف لا يعني أنهم يقسم بينهم هذه المصاريف على الميراث، مثاله: الأكل والشرب، يعني لو قدم طعام فهل يستطيع أن يقول للبنت: للذكر مثل حظ الأنثيين لا تأكلين إلا نصف ما يأكل الولد؟ يمكن أن يقال هذا؟ لا، فالحوائج الأصلية تؤمن من دون نظر إلى الميراث، وهذه مسألة عملية ويحتاجها الناس، هذا إذا أراد أن يعطيهم دراهم في مقابل المصروف ينفقون على أنفسهم، لكن لو تولى الشراء لهم، يكون هذا العمل فيه على حسب الحاجة، الكبير يحتاج إلى ثوب أربعة أمتار قيمته مائة وعشرين، الذي دونه إلى ثلاثة أمتار قيمته مائة، الذي دونه يحتاج إلى مترين بستين مثلاً، أو سبعين، البنت تحتاج إلى ثوب مائتين، الزوجة الكبرى تحتاج إلى ثوب مناسب بخمسمائة، الثانية تحتاج إلى ثوب مناسب بألف، فالناس لا شك أنهم منازل، فإذا كان الصرف بالحوائج نفسها فهي تتفاوت من شخص إلى آخر، فكل إنسان يعطى ما يناسبه وما يعطاه مما يناسبه تعديل، لو اشترى للزوجتين وبينهما من العمر عشرين سنة مثلاً، الأولى عمرها أربعين والثانية عشرين، اشترى لهم من قماش واحد، وتفصيل واحد، يصلح وإلا ما يصلح؟ الكبيرة تقول: هذا لا يناسبني، هذا ثوب شهرة يصلح للصغار، والصغيرة تقول: لا يناسبني هذا دون مما أحتاجه، ولذلك في مثل هذه الأمور أفضل ما يكون أن يعطوا دراهم يتصرفون فيها كل على حسب حاجته، وبهذا يتم التعديل وينضبط، أما تأتي للكبرى وبينهما.. التي قد تكون بنت من بنات هذه الكبرى أكبر من هذه الزوجة، وتأتي لها بثوب مثل ثوب الصغرى ما هو مناسب، والعكس كذلك ليس بمناسب، فمثل هذه الأمور لا يحلها إلا الدراهم، هي التي يمكن فيها التعديل، فإذا أعطيت هذه خمسمائة وهذه خمسمائة انتهى الإشكال ولا كلام لأحد، وكل واحد منهما تشتري ما يناسبها يعني في حدود ما أباح الله -جل وعلا-، أما لو أرادات إحداهما أن تشتري شيئاً محرماً لذاته أو وصفه فإنها لا تمكّن من ذلك، قد يقول قائل: إن مثل هذا يسهّل لها الخروج لقضاء حوائجها، ولو تولى الأب أو الزوج تأمين هذه الأمور بنفسه وامتثل جعل النسوة يمتثلن القرار في البيوت، لا شك أن هذا أولى وأكمل لكن لا ينضبط، لا يمكن ضبطه، فالتعديل في مثل هذا يكون بالفلوس تبرأ الذمة بمثل هذا، يعني يحدد للزوجات مثلاً مصروف، وهذا تبعاً ليسار الزوج وعسره فيزيد إذا كانت أموره متيسرة، ويقل إذا كانت أموره أقل وهكذا، فالمتوسط لو أعطى الزوجات كل واحدة خمسمائة وأعطى كل واحد من الأولاد والبنات مائتين أو ثلاثمائة ماشي ما يكون ظلم أحد منهم.

"((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) فرجع فرد تلك الصدقة" امتثالاً لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((فأرجعه)) فرد تلك الصدقة فدل على أن الجور والميل وعدم التسوية وعدم التعديل أمر ليس عليه أمر النبي -عليه الصلاة والسلام-، فهو رد، أي مردود، فلا بد من رده في حياة الواهب، وبعد مماته، خلافاً لمن يقول: إنه إذا مات ثبت الإثم في حقه، وثبتت العطية والهبة لمن وهبت له.

"وفي رواية لمسلم: قال: ((فأشهد على هذا غيري))" هل معنى هذا أنه يأذن له في أن يستمر في هبته لكن يشهد على هذا غير النبي -عليه الصلاة والسلام- لأن منزلته أعظم على مثل هذا؟ فيكون فيه إذن وإباحة؟ أو أن السياق سياق تهديد: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [(40) سورة فصلت]؟ لأن منهم من يرى أن التسوية غير واجبة، التعديل بين الأولاد غير واجب، بل التفاضل مكروه، بدليل أنه قال: ((أشهد عليه غيري)) ولو كان محرماً لما أمر بإشهاد غيره، لأنه لا يجوز لغيره أن يشهد على محرم، نقول: ليس الأمر هنا للإذن بل هو للتهديد، كقوله -جل وعلا-: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [(40) سورة فصلت] "ثم قال: ((أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟)) قال: بلى قال: ((فلا إذاً))" يعني فلا تفضل بعضهم على بعض ليتم البر منهم على حدٍ سواء، وما وجد العقوق والتمرد على الآباء إلا بعد أن وجد التفضيل لبعض الأولاد على بعض، فالتفضيل سبب للعقوق، كثير من الأولاد خله ينفعه فلان، هو الغالي عنده وهو اللي..، موجود هذا، إذا وجد التفضيل من بعضهم على بعض لا شك أن البشر كثير منهم لا يحتمل مثل هذا، وإلا فالأصل أن على الابن أن يؤدي ما عليه، وأن يسأل الله -جل وعلا- الذي له، ويطالب أباه بما له، ويخوفه بالله ويأمره بالعدل، ويضرب له مثل هذا النص، نعم.

وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)) متفق عليه.

وفي رواية للبخاري: ((ليس لنا مثل السوء الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه)).

يقول: "ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)) متفق عليه" هذا دليل على تحريم الرجوع في الهبة؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- شبهه في أمر شنيع، قبيح، وفي الرواية الأخرى: ((ليس لنا مثل السوء الذي يعود في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه)) وأسلوب السياق دليل ظاهر على التحريم؛ لأن المكلف لا يجوز له أن يفعل هذا الفعل، لا يجوز له أن يعود في قيئه فلا يجوز له أن يعود في هبته كما مثلت الغيبة بأكل لحم أخيه ميتاً، كما أنه لا يجوز له أن يأكل لحم أخيه ميتاً كذلك لا يجوز له أن يأكل لحم أخيه حياً بالغيبة، وكذلك إذا كان لا يجوز له أن يعود في قيئه لا يجوز له أن يعود في هبته، هذا قول الجمهور، ومنهم من يقول: يجوز له أن يعود في هبته، طيب والمثل الذي ذكره النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو مثل السوء؟ قال: إن الكلب غير مكلف ولا إثم عليه إذا عاد في قيئه وحينئذٍ يكون المشبه مثل المشبه به، فلا إثم على من عاد في هبته! ظاهر وإلا مو ظاهر؟ الجمهور أخذوا منه تحريم العود في الهبة وهو ظاهر، السياق يدل دلالة صريحة على التنفير من هذا العمل، ومنهم من يقول: يكره العود في الهبة ولا يحرم لماذا؟ لأن المشبه ينزل منزلة المشبهة به، فالعائد في هبته لا يأثم كما أن الكلب إذا عاد في قيئه لا إثم عليه؛ لأنه غير مكلف، ومثله المشبه به، لكن نهينا عن مشابهة الحيوانات، أقعاء الكلب، افتراش السبع، بروك البعير، هذا ليس للمسلم، وكذلك من أشنع التشبيه في السنة النبوية ما جاء معنا هنا، يقيء.. أولاً كلب، وهو من أخبث الحيوانات وأنجسها، ومع ذلك فعله شنيع، يقيء ثم يعود في قيئه، نعم منها ما يأكل الجيف، ومنها ما هو أخبث من ذلك، لكن هنا التمثيل والتنظير مطابق منه -عليه الصلاة والسلام-، وهذا في غاية البلاغة، وظاهر من الذي يعطي ثم يأخذ هذا لا شك أنه عمل سيء مشابه لعود الكلب في قيئه، وفي رواية للبخاري: ((ليس لنا مثل السوء الذي يعود في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه)) يستثنى من ذلك... نعم؟

طالب:......

 

نعم... لا، المهدي بالكلب، المهدي الذي يعود في هديته كالكلب، العائد في هبته كالكلب، نعم والهدية كالقيء، يعني لو كان المنظور إليه مثلما يقول من يبيح الرجوع ويفسر الحديث على هذا الفهم قلنا: إن الهدية هذه لا يجوز قبولها؛ لأنها كالقيء! صحيح، ما دام يشبه العائد في هبته كالكلب في عدم التكليف وعدم المؤاخذة؛ لأن الكلب غير مكلف، المقصود التشبيه إجمالاً لا تفصيلاً، وإلا لو قلنا: بالتفصيل لاتجه قولهم، لكن الصورة الإجمالية لا شك أنها تدل على منع الرجوع في الهبة، يستثنى من ذلك هبة الوالد لولده، وأيضاً الهبة مع عدم التعديل على ما سيأتي وما تقدم، والحديث الذي يليه حديث ابن عمر في المغرب -إن شاء الله تعالى-...

"
يقول: لماذا أورد المؤلف حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) في باب: إحياء الموات؟ وما تعلقه بهذا الباب؟

هذا يتعلق بجميع أبواب الدين ((لا ضرر ولا ضرار)) متعلق بجميع أبواب الدين، وتعلقه بإحياء الموات ظاهر؛ لأن من يحيي بصدد أن يضر غيره في دخوله على أملاكهم أو استيلائه على أملاكهم التي قد لا يستطيعون إثباتها، فهذا ضرر، وقد يضر هو بعقوبةٍ أكثر مما ضر بها غيره، وهو الضرار.

هذا سؤال: يقول: ما مدى أهمية وفائدة الأجزاء الذي قام بإكمالها السبكي والمطيعي من كتاب المجموع للنووي؟

المجموع للنووي شرح لكتاب المهذب للشيرازي، المهذب متن متين، وأصل عند الشافعية يعولون عليه في تربية طلاب العلم، كثير منهم في التراجم يقول: حفظ المهذب، فهو متن معتمد عندهم، وله شروح، من أهمها وأنفسها المجموع للنووي -رحمه الله تعالى-، لكن الكتاب لم يكمل، شرح النووي يقع في تسعة مجلدات إلى باب الخيار من كتاب البيوع، وهو كتاب نفيس، يعني لو كمل الكتاب لصح أن يتصدر القائمة في كتب الفقه؛ لكنه ناقص لكن العبادات يعني من خير ما يقرأ في الفقه المقارن في كتاب المجموع للنووي -رحمه الله-، وهو كتاب في الأصل فقهي، لكنه في الوقت نفسه حديثي، فيه الأحاديث والاستدلال، ووجوه الاستنباط والتعليل، وكلام على الرواة، وهو كتاب نفيس، لكن أكمل منه تسعة أجزاء فقط، ثم كمّل من قبل جمعٍ من الشافعية، طبع منها تكملة السبكي في ثلاثة مجلدات العاشر والحادي عشر والثاني عشر، والسبكي من فقهاء الشافعية كلامه في الجملة جيد وقوي، يستفاد منه، لكنه دون كلام النووي بكثير، يعني النسبة بين كلام النووي وكلام السبكي فرق بينهما كبير، وأما التكملات الأخيرة للمطيعي وللعقبي فهي تكملات ضعيفة لا تنمّ عن فقه نفس، وإنما هي نُقول، وعلى كل حال فهي أنها كملت الكتاب بدلاً من أن يكون الكتاب ناقصاً صار كاملاً، فهي من هذه الحيثية مقبولة في الجملة هذه تكملة المطيعي، أما تكملة العقبي فضعيفة جداً، ضعيفة يعني تعليقات يسيرة على المتن، أما تكملة المطيعي ففيها شيء من البسط، لكنها مجرد نُقول، واعتماده في الغالب على المغني، فالكتاب كمل بهذه الطريقة، لكن يجد الإنسان البون الشاسع بين كلام النووي والسبكي، ثم بعد ذلك يجد الهوة السحيقة بين كلام النووي وكلام المطيعي، والله المستعان.

هذا يقول: ما هي أفضل نسخة لمتن عمدة الأحكام؟

أنا معولي على النسخة التي بتحقيق أحمد شاكر وأخيه علي شاكر، وظهر مجموعة مجاميع ثلاثة وأربعة مجاميع تحمل اسم الشيخ أحمد شاكر وعلي محمد شاكر أخوه، والعمل فيها كله على علي، ولا تجد لمسات للشيخ أحمد -رحمه الله- من تعليق أو تصويب أو تصحيح إلا في جودة الطباعة وعلامات الترقيم، على أن طبعة مختصر المقنع الذي هو الزاد في ضمن هذه المجاميع طبعة ليست جيدة، فيها أغلاط كثيرة، أما العمدة فهي نفيسة طبعة جيدة، تخلو من التخريج والعزو، لكنها صحيحة في الجملة.
يقول: النسخة التي بتحقيق شعيب الأرناؤوط؟
أنا ما رأيتها، نسخة من عمدة الأحكام بتحقيق شعيب الأرناؤوط ما رأيتها.
يقصد محمود الأرناؤوط لعله الشيخ عبد القادر.
أما محمود بن بن الشيخ عبد القادر ممكن.

سائل يسأل عن شخصٍ ترقّى في وظيفته ويباشر هذه الوظيفة بعد الترقية خارج مدينته، والنظام المعمول به هو أن الشخص المرقّى له راتبان بشرط أن يقيم، ويزاول عمل الوظيفة عليها في نفس البلد..

سائل يسأل عن شخصٍ ترقّى في وظيفته ويباشر هذه الوظيفة بعد الترقية خارج مدينته، والنظام المعمول به هو أن الشخص المرقّى له راتبان بشرط أن يقيم، ويزاول عمل الوظيفة عليها في نفس البلد، وهو سيذهب -بإذن الله- لتلك المدينة، وسيباشر عمله فيها لمدة قليلة فقط، قد لا تتجاوز اليومين، ثم سيعود لمدينته الأولى، ومقر عمله الأول، السؤال ما حكم أخذ هذين الراتبين الإضافيين بدل ترحيل؟
هو إذا كانت هذه المكافئة مربوطة بمجرد الترقية فهو يستحقها، وإن كانت من أجل إعانته على حمل أثاثه ومتاعه إلى البلد المنقول إليه، وهذه نيته فلا يستحقها.