التعليق على تفسير القرطبي - سورة الشورى (04)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم

"الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-:

 قوله تعالى: "{وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}.

فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ} أَيْ أَصَابَهُمْ بَغْيُ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَغَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَى أَصْحَابِهِ وَآذَوْهُمْ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ مَكَّةَ، فَأَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ بِالْخُرُوجِ وَمَكَّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنَصَرَهُمْ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: [الحج: 40 – 39] {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا} " الْآيَاتِ كُلَّهَا، وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي بَغْيِ كُلِّ بَاغٍ مِنْ كَافِرٍ وَغَيْرِهِ، أَيْ إِذَا نَالَهُمْ ظُلْمٌ مِنْ ظَالِمٍ لَمْ يَسْتَسْلِمُوا لِظُلْمِهِ، وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ذَكَرَ اللَّهُ الِانْتِصَارَ فِي الْبَغْيِ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ، وَذَكَرَ الْعَفْوَ عَنِ الْجُرْمِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا رَافِعًا لِلْآخَرِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى حَالَتَيْن ِإِحْدَاهُمَا".

لأنهما حالتان متضادتان فإما ان تكون إحدهما ناسخة، والأخرى منسوخة أو تنزل كل حالة على ما يناسبها فالانتصار له وقته، والعفو والصفح له وقته، فالذي يستحق العفو والصفح غير الذي يستحق الانتصار، لا شك أن الناس يتفاوتون، فمن كان شأنه ودأبه ظلم الناس فهذا لا بد من الانتصار منه، ولا بد من أن يقف عند حده، ومن حصلت منه الهفوة والذلة والغلطة مثل هذا يعفى عنه، ويصفح عنه.

 تنزل حالة مدح الصفح على هذا وحالة الانتقام والانتصار على الحالة الأولى، مثل هذا في الستر على العصاة منهم من يستحق، ويمدح من يستر عليه، من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن حصلت منه الهفوة والذلة وتاب منها، وجاء ليطهر منها مثل هذا يستر عليه، كما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- مع ماعز، لكن من كان ديدنه وشأنه إيذاء الناس والوقوع في المعاصي والجرائم والاعتداء على أموال الناس وأعرضهم ودمائهم مثل هذا لا بد أن ينتقم منه والانتصار منه، ولا يجوز الستر عليه بحال،.

 يعني لو قلنا بالستر مطلقًا ما كان للحدود فائدة، والانتصار توطئة للإباحية، إذا كان كل جان،ٍ كل عاصٍ، كل مجرم يستر عليه مثل هذا أن الحدود تعطل ولا قيمة لها، كل شارب كل زانٍ يستر عليه إباحية هذه، هذه إباحية –نسال الله العافية-.

"وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى حَالَتَيْن ِإِحْدَاهُمَا "أَنْ يَكُونَ الْبَاغِي مُعْلِنًا بِالْفُجُورِ، وَقِحًا فِي الْجُمْهُورِ".

يعني بين الناس.

"مُؤْذِيًا لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ".

يعني قد نزع جلباب الحياء لا يهتم لأحد، والله المستعان.

"فَيَكُونُ الِانْتِقَامُ مِنْهُ أَفْضَلَ".

نعم زجرًا له، وردعًا له، عبرة لغيره.

"وَفِي مِثْلِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسَهُمْ فَتَجْتَرِئُ عَلَيْهِمُ الْفُسَّاقُ.

 الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الْفَلْتَةُ، أَوْ يَقَعُ ذَلِكَ مِمَّنْ يَعْتَرِفُ بِالزَّلَّةِ وَيَسْأَلُ الْمَغْفِرَةَ، فَالْعَفْوُ ها هنا أَفْضَلُ، وَفِي مِثْلِهِ نَزَلَتْ {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى}[البقرة: 237]، وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]، وَقَوْلُهُ: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ"} [النور: 22]. قُلْتُ: هَذَا حَسَنٌ، وَهَكَذَا ذَكَرَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ فِي أَحْكَامِهِ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّ الِانْتِصَارَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَفْضَلُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَنَهُ إِلَى ذِكْرِ الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ.

ألا أنه قرن مع ما يمدح شرعًا فهو ممدوح معها.

"وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسَهُمْ فَتَجْتَرِئُ عَلَيْهِمُ الْفُسَّاقُ، فَهَذَا فِيمَنْ تَعَدَّى وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمَوْضِعُ الْمَأْمُورُ فِيهِ بِالْعَفْوِ إِذَا كَانَ الْجَانِي نَادِمًا مُقْلِعًا، وَقَدْ قَالَ عُقَيْبَ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ}، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ إِبَاحَةُ الِانْتِصَارِ لَا الْأَمْرُ بِهِ، وَقَدْ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغُفْرَانِ عَنْ غَيْرِ الْمُصِرِّ، فَأَمَّا الْمُصِرُّ عَلَى الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ فَالْأَفْضَلُ الِانْتِصَارُ مِنْهُ؛ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.

 وَقِيلَ: أَيْ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ تَنَاصَرُوا عَلَيْهِ حَتَّى يُزِيلُوهُ عَنْهُمْ وَيَدْفَعُوهُ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْعُمُومِ على ما ذكرنا".

يعني لا يترك المظلوم ينتصر لنفسه وقد لا يستطيع ذلك، وإنما يعان، وقد جاء بذلك الأمر «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا».

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} قَالَ الْعُلَمَاءُ: جَعَلَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَيْنِ، صِنْفٌ يَعْفُونَ عَنِ الظَّالِمِ فَبَدَأَ بِذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} الشورى: 37]، وَصِنْفٌ يَنْتَصِرُونَ مِنْ ظَالِمِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ حَدَّ الِانْتِصَارِ بِقَوْلِهِ: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} فَيَنْتَصِرُ مِمَّنْ ظَلَمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَدِيَ".

يعني لا يزيد على ما يسوغ له شرعًا يزيد على مظلمته، فإذا ظلم بكلام يرد بمثل هذا الكلام لا يزيد عليها لا يجوز أن يتعدى ذلك، وإذا ظلم بفعل كذلك، {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم}، يجهر بالسوء له بقدر ما ظلمته، وإذا كان المماطل يباح عرضه وعقوبته فما الذي من عرضه؟ مطل الغني ظلم يبيح عرضه وعقوبته، لي الواجد ظلم يبيح عرضه عقوبته، يبيح من عرضه أن تقول: ظلمني، مطلني، وعقوبته بأن يمنع، يعزر حتى يدفع ما عليه من مال.

" قَالَ مُقَاتِلٌ وَهِشَامُ بْنُ حُجَيْرٍ: هَذَا فِي الْمَجْرُوحِ يَنْتَقِمُ مِنَ الْجَارِحِ بِالْقِصَاصِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَبٍّ أَوْ شَتْمٍ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ، قَالَ سُفْيَانُ: وَكَانَ ابْنُ شُبْرُمَةَ يَقُولُ: لَيْسَ بِمَكَّةَ مِثْلُ هِشَامٍ".

يعني ابن حجير الذي قرنه مع مقاتل.

 "وَتَأَوَّلَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ مَنْ خَانَهُ مِثْلَ مَا خَانَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، وَاسْتَشْهَدَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِهِنْدٍ زَوْجِ أَبِي سُفْيَانَ: «خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ»، فَأَجَازَ لَهَا أَخَذَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذَا مُسْتَوْفًى فِي" الْبَقَرَةِ".

يسمونها مسألة الظفر، مسألة الظفر، ويبيحها الشافعي –رحمه الله- ويمنعها غيره؛ لحديث: «ولا تخن من خانك»، وبعضهم يتوسط يقول: إذا كان السبب ظاهرًا كالنفقة مثلاً فله أن يأخذ، وإذا كان السبب خفيًّا كالدين الذي لا بينة له عليه فلا يجوز أن يأخذ من ماله إلا بالمقاضاة.

" وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَابَلَةِ فِي الْجِرَاحِ، وَإِذَا قَالَ: أَخْزَاهُ اللَّهُ أَوْ لَعَنَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَهُ، وَلَا يُقَابَلُ الْقَذْف بِقَذْفٍ وَلَا الْكَذِبُ بِكَذِبٍ".

لأن المحرم لا يجوز أن يرد محرمًا، الكلام المباح يعاقب به فيرد عليه بالكلام المباح، وأما بالنسبة للمحرم فلا يجوز إذا بدئ به لا يجوز أن يرد محرمًا، لا يرد عليه بما حرم الله، من كذب أو قذف –نسأل الله العافية- لكن إذا دعا عليه يدعو عليه بمثل دعوته.

" وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّمَا مَدَحَ اللَّهُ مَنِ انْتَصَرَ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِدَاءٍ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ مَا فُعِلَ بِهِ، يَعْنِي كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ، وَسُمِّيَ الْجَزَاءُ سَيِّئَةً؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَتِهَا، فَالْأَوَّلُ سَاءَ هَذَا فِي مَالٍ أَوْ بَدَنٍ، وَهَذَا الِاقْتِصَاصُ يَسُوءُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا، وَقَدْ مَضَى هَذَا كُلُّهُ فِي " الْبَقَرَةِ" مُسْتَوْفًى".

والاقتصاص في الكلام يعني مثل ما قال إذا قال: أخذاه الله، لعنه الله، قال مثل ذلك إذا كان ذلك يردعه، وأما إذا كان يزيده فمثل هذا تركه أولى.

"الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ تَرَكَ الْقِصَاصَ وَأَصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الظَّالِمِ بِالْعَفْوِ {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أَيْ إِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُهُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: فَكَانَ الْعَفْوُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقَدْ مَضَى فِي "آلِ عِمْرَانَ"  فِي هَذَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

 وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيُّكُمْ أَهْلُ الْفَضْلِ؟ فَيَقُومُ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا إِلَى الْجَنَّةِ فَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَيَقُولُونَ: إِلَى أَيْنَ؟ فَيَقُولُونَ: إِلَى الْجَنَّةِ، قَالُوا: قَبْلَ الْحِسَابِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: أَهْلُ الْفَضْلِ، قَالُوا: وَمَا كَانَ فَضْلُكُمْ؟ قَالُوا: كنا إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا سيء إِلَيْنَا عَفَوْنَا، قَالُوا: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ".

خرج؟ له حكم الخبر، له حكم الرفع، مثل هذا لا يقوله علي بن الحسين من تلقاء نفسه، خرج؟

طالب: قال: ليس مرفوعًا من الروافع.

هو أثر ظاهره أثر، يعني لم يرفعه علي بن الحسين، لكن مع ذلك لا يمكن أن يقوله علي بن الحسين من تلقاء نفسه، فيكون له حكم الرفع.

"{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أَيْ مَنْ بَدَأَ بِالظُّلْمِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقِيلَ: لَا يُحِبُّ مَنْ يَتَعَدَّى فِي الِاقْتِصَاصِ وَيُجَاوِزُ الْحَدَّ، قَالَهُ ابْنُ عِيسَى.

الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ}".

قوله –جل وعلا –: {وجزاء سيئة سيئة} يعني إذا نظرنا إلى أن الأول أساء إلى الثاني، ثم أسيء إليه بمثل ما أساء بمعنى أن هذه المجازاة ساءته من هذه الحيثية يكون الأسلوب مطابقًا، وإذا قلنا: إن جناية الجاني سيئة ومعاقبته ليست بسيئة، بل حسنة يكون التعبير بسيئة في مقابلة الجاني يكون من باب المشاكلة جزاء سيئة سيئة مثلها، عقوبة الجاني حسنة، وليست سيئة، إقامة الحد على من يستحقه هذه حسنة.

"الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} أَيِ الْمُسْلِمُ إِذَا انْتَصَرَ مِنَ الْكَافِرِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى لَوْمِهِ، بَلْ يُحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْكَافِرِ، وَلَا لَوْمَ إِنِ انْتَصَرَ الظَّالِمُ مِنَ الْمُسْلِمِ، فَالِانْتِصَارُ مِنَ الْكَافِرِ حَتْمٌ، وَمِنَ الْمُسْلِمِ مباح، والعفو مندوب".

يعني الأصل الانتصار بالنسبة للكافر، وأخذ حق المسلم عليه إلا إذا ترتب على ذلك مصلحة راجحة من تأليف ونحوه.

الخامسة: في قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا".

لا يلزم أن يكون انتصارًا للنفس بالنفس، وإنما إذا انتصر برفعه إلى من بيده النصر؛ لأن هذه الأمور المتعدية إلى الغير مربوطة بالولاة، لا يجوز أن يقتص الإنسان لنفسه بالنفس وما دونهم من الجراح، وكذلك ما يمكن أن يتعدى ضرره وشره بسبب تولي ذلك الإنسان بنفسه، إنما هذه الأمور منوطة بولي الأمر، يأخذ الحق، يجب عليه أن ينتصر للمظلوم، هذا من أولويات أعماله يلزمه أن ينتصر للمظلوم، لكنه لا يجوز لغيره أن يفتات عليه.

"أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا فِي بَدَنٍ يَسْتَحِقُّهُ آدَمِيٌّ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ إِنِ اسْتَوْفَاهُ مِنْ غَيْرِ عُدْوَانٍ وَثَبَتَ حَقُّهُ عِنْدَ الْحُكَّامِ، لَكِنْ يَزْجُرُهُ الْإِمَامُ فِي تَفَوُّتِهِ بِالْقِصَاصِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى سَفْكِ الدانَّمِ، وَإِنْ كَانَ حَقُّهُ غَيْرَ ثَابِتٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حَرَجٌ، وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ مُطَالَبٌ، وَبِفِعْلِهِ مُؤَاخَذٌ وَمُعَاقَبٌ".

لأن هذا الجاني قد يستحق هذه العقوبة شرعًا، زانٍ محصن مثلاً وجد يزني فحده الرجم، لكن من اعتدى عليه ورجمه بنفسه هذا كما جاء في الحديث: «أيقتله فتقتلونه؟ قال: نعم»، قال: نعم؛ لأنه جاء في الحديث الصحيح: الرجل يجد عند امراته رجلاً، أيقتله فتقتلون؟ قال: نعم، نقتل، لماذا ما نقتل؟ لأنه لو أخذ بهذه الدعاوى، نعم بعض الناس يكون صادقًا، لكن كثيرًا من الناس يتذرع بمثل هذه الأمور إلى قتل من لا يستحق القتل، يعني يكون بينه وبين غيره شحناء أو عداوة، ثم يجره إلى بيته وقال: وجده على زوجته، أو على بنته، أو ما أشبه ذلك، أو على أخته، ثم يقتله، إذا تركت هذه الأمور لآحاد الناس صارت المسألة فوضى، لا بد أن يكون لمثل هذه الأمور الحدود كلها إلى الإمام، ومثله لو حصل جراح أو شجار ثم أراد أن ينتصر لنفسه تكون المسألة فوضى.

"الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَدُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا حَقَّ لِآدَمِيٍّ فِيهِ كَحَدِّ الزِّنَى وَقَطْعِ السَّرِقَةِ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَ حَاكِمٍ أُخِذَ بِهِ وَعُوقِبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَ حَاكِمٍ نَظَر".

يعني أخذ به وعوقب عليه، يعني انقطع شخص، وجد شخص يسرق مع اكتمال الشروط فقال: هذا حده القطع، فقطع يديه، فإن لم يثبت ذلك عند حاكم أخذ به وعوقب عليه، نعم يقتص منه إن ثبت.

"ثَبَتَ عِنْدَ حَاكِمٍ نَظَر، فَإِنْ كَانَ قَطْعًا فِي سَرِقَةٍ سَقَطَ بِهِ الْحَدُّ لِزَوَالِ الْعُضْوِ الْمُسْتَحَقِّ قَطْعُهُ".

 لما قطع فلا يقطع قانية.

 "وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَقٌّ؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ أَدَبٌ، وَإِنْ كَانَ جَلْدًا لَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْحَدُّ؛ لِتَعَدِّيهِ مَعَ بَقَاءِ مَحِلِّهِ فَكَانَ مَأْخُوذًا بِحُكْمِهِ".

يعني رأى زانيًا لم يحصن فجلده مائه جلدة ماذا يقال عنه يعزر يجلد؛ لأن ذه من حق الإمام، لكن إذا رأي سارق وثبت السرقة بالبينة وثبتها الحاكم ثم قام شخص وقطع يده تقطع يده ولا ما تقطع على كلا المؤلف ما تقطع لأنه مستحق لهذه العقوبة والافتيات  لا يقتضي إن يصل على حد تقطع به اليد أو يصل إلى حد قتل على كل حال هذه الأمور اجتهادية فإذا رأى الإمام أننا استتاب على هذا الأمر صار هذا بصدد أن يحدث فوضى مثل هذا يعزر لأنه ناوي للقتل ومنه يقتله فتقتلونه وأم إذا كان المسائل وقائع نادرة فإن هذا  لا يحصل إلي حد عقوبة الجاني الحقيقي وإن استحق التعزير نعم

"الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حَقًّا فِي مَالٍ، فَيَجُوزُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُغَالِبَ عَلَى حَقِّهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ هُوَ عَالِمٌ بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ نَظَرَ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِسْرَارُ بِأَخْذِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِالْمُطَالَبَةِ لِجُحُودِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ فَفِي جَوَازِ اسْتِسْرَارِهِ بِأَخْذِهِ".

يعني لو عليه بينة أو سببه ظاهر كالنفقة فمثل هذا لم يكن له الاستسرار بأخذه إذا كان نقول: فإن أمكنه الوصول إليه عند المطالبة يعني عليه بينة لم يكن يكون له الاستسرار بأخذه؛ لأن الجحد خيانة، فلا يقابل بخيانة، لكن إذا لم يكن عنده بينة فهذا محل الخلاف بين الشافعي وغيره من أهل العلم.

"وَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِالْمُطَالَبَةِ لِجُحُودِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ فَفِي جَوَازِ اسْتِسْرَارِهِ بِأَخْذِهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، الثَّانِي: الْمَنْعُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ".

مسألة الظفر التي أشرنا إليه سابقًا.

"السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} أَيْ بِعُدْوَانِهِمْ عَلَيْهِمْ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أي يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم، {ويبغون في الأرض بغير الحق} أَيْ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَغْيُهُمْ عَمَلُهُمْ بِالْمَعَاصِي، وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: هُوَ مَا يَرْجُوهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ أَنْ يَكُونَ بِمَكَّةَ غَيْرُ الْإِسْلَامِ دِينًا".

نعم العاصي وإن كان في الظاهر يُظن أن معصيته خاصة به، وأن إثمه عليه، لكنه بحق هذه الأمر معصيته، وإن كانت فيما يظن قاصرة لا تتعدى إلى غيره، فهي متعدية، فما يحصل من القحط والجدب والشدة وشدة المؤنة كل هذا بسبب الذنوب والمعاصي، وكل عاصٍ مساهم في هذه الشدة فهو باغٍ متعدٍّ إلا على غيره شعر أو لم يشعر.

" وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ مَنْسُوخٌ بِالْجِهَادِ، وَإِنَّ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، وَقَوْلُ قَتَادَةَ: إِنَّهُ عَامٌّ، وَكَذَا يَدُلُّ ظَاهِرُ الْكَلَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

 السَّابِعَةُ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي" بَرَاءَةٌ" وَهِيَ قَوْلُهُ: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، فَكَمَا نَفَى اللَّهُ السَّبِيلَ عَمَّنْ أَحْسَنَ فَكَذَلِكَ نفاها على من ظلم".

ابن العربي أثبتها، يعني تقابل نفاها أثبتها.

طالب: فكذلك نفاه على من ظُلم.

أثبتها على من ظَلم، هذا ما فيها إشكال، لكن إذا كانت كما في جميع النسخ نفاها فهي على من ظُلم، من ظُلم لا سبيل عليه.

" فَكَذَلِكَ نفاها على من ظلم واستوفى ببان الْقِسْمَيْنِ.

الثَّامِنَةُ: وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي السُّلْطَانِ يَضَعُ على أهل بلد مالاً معلومًا بأخذهم بِهِ وَيُؤَدُّونَهُ عَلَى قَدْرِ أَمْوَالِهِمْ، هَلْ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَ، وَهُوَ إِذَا تَخَلَّصَ".

مما تكون من مكوث وضرائب، تفرض على الناس، وهي من أشد الأمور تحريمًا، «لقد تابت توبة، لو تابها صاحب مكث »، يعني لو كان أشد منه لذكر في هذا المقام، فالمكوث محرمة، بل من عظائم الأمور، هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل؟ يعني هل له أن يتحايل على إسقاطها، والحيلة الشرعية إذا كانت لإسقاط محرم واجتناب محرم أو لفعل واجب يتوصل بها إلى فعل الواجب أو ترك المحرم هذه صارت حيلة شرعية، وإذا كانت بالعكس لترك الواجب يسعى جاهدًا، ويتحايل لإسقاط الزكاة هذه حيلة اليهود، أو يسعى ويتحايل لارتكاب المحرم، هذه حيلة لليهود، أما التحايل على إسقاط المحرم، أو التوصل إلى الواجب فهذه هي الحيل الشرعية، نعم.

"وَهُوَ إِذَا تَخَلَّصَ أَخَذَ سَائِرَ أَهْلِ الْبَلَدِ بِتَمَامِ مَا جُعِلَ عَلَيْهِمْ، فَقِيلَ: لَا".

فقيل: لا، لماذا؟

لأنه بحيلته هذا السلطان يحتاج إلى مبلغ معين، نفترض أنه يحتاج إلى مليون ريال أو مليون دينار، والتجار عنده ألف، كل واحد عليه ألف دينار، لكن لو تحايل منهم عشرة، عشرون، صار البقية مطلوبة من الآخرين، فبدلاً من أن يدفع كل واحد ألف دينار، يدفع ألفًا ومائتين، ألفًا وخمسمائة، فيتعدى هذا الضرر إلى غيره، ولذلك قال سحنون من المالكية: لا يجوز له أن يتحايل بما يترتب عليه تضمين الآخرين؛ لأن هذا يتعدى، أما إذا كان يتحايل سقط من غير تضمين الآخرين هذا لا إشكال فيه.

 ونظير هذا هذه الشفاعات التي يتوسط بها إلى تقديم بعض الناس على بعض، قد يقدم غير الكفؤ على الكفؤ؛ لأن هذا يكون ضرره متعديًا، وفيه ظلم لهذا الكفؤ، فيه ظلم لهذا الكفؤ، هذه من باب مقابلة المسألة التي معنا.

 وغيره يقول: يتحايل بالنسبة لإسقاط ما حرم الله، يتحايل وغير مسؤول عن غيره أن يخلص نفسه من هذا الإثم، وغيره مظلوم مظلوم، سيؤخذ منه، سيؤخذ سواء قل منه أو كثر، –والله المستعان-.

" وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَقِيلَ: نَعَمْ، لَهُ ذَلِكَ إِنْ قَدَرَ عَلَى الْخَلَاصِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الدَّاوُدِيُّ".

لماذا الداودي؟ لأنه عطف عليه مذهبًا، ما هو بنسب داودي منسوب إلى ..

طالب: ظاهري.

ظاهري نعم، كان المذهب الظاهري مذهب داود، ثم صار مالكيًّا نعم.

" ثُمَّ الْمَالِكِيُّ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ مَالِكٍ فِي السَّاعِي يَأْخُذُ مِنْ غَنَمِ أَحَدِ الْخُلَطَاءِ شَاةً وَلَيْسَ فِي جَمِيعِهَا نِصَابٌ، إِنَّهَا مَظْلَمَةٌ عَلَى مَنْ أُخِذَتْ لَهُ، لَا يَرْجِعُ عَلَى أَصْحَابِهِ بِشَيْءٍ، قَالَ: وَلَسْتُ آخُذُ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ لَا أُسْوَةَ فِيهِ، وَلَا يُلْزَمُ أَحَدٌ أَنْ يُولِجَ نَفْسَهُ فِي ظُلْمٍ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُضَاعَفَ الظُّلْمُ عَلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ}".

يعني هذا الذي تخلص من الظلم بهذه الحيل لم يظلم أحدًا، إنما السبيل والإثم كله على من ظلم، نعم.

"التاسعة: واختلف الْعُلَمَاءُ فِي التَّحْلِيلِ".

التحليل يعني إذا ظلمت أحدًا سواء كان بقصد أو من غير قصد، يعني تذهب إليه؛ ليجعلك في حل من هذه المظلمة سواء كانت في مال أو في عرض، ما حكمه؟ سعيد بن المسيب لا يري شيئًا اسمه تحليل، خلاص الإثم ثبت، والآن الإنسان ما يملك يعني إذا اغتابه ثم ذهب ليتحلل منه، الغيبة حرام، فكأنه يقول لي: اجعل ما حرم الله عليَّ حلالًا، وقد قال بعض مما قيل له: أنا اغتبتك، فأبحني وحللني قال: أنا لا أحلل ما حرم الله، الغيبة حرام، ما أحلها، وبعضهم لا يحلل في الظاهر، وحلل في الباطن، إذا جاءه أحد قال: حللني، قال: ما أحلك، وفي الباطن يحلله؛ لئلا يتمادى، ليس بالسهل إذا كان الناس كلهم بهذه المثابة نغتاب ونتحلل، لكن إذا وفق الأول قال: ما فيه شيء اسمه حل، أنا لا أحل ما حرم الله، يحتاط لنفسه -والله المستعان-، والجمهور على أنه يملك، هذا  أمر لا يعدوه، فله أن يتنازل عنه.

طالب: قال النبي –صلي الله عليه وسلم-: «فلا يتحلله منه».

الأدلة تجزئ إن شاء الله.

" فَكَانَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ لَا يُحَلِّلُ أَحَدًا مِنْ عِرْضٍ وَلَا مَالٍ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ يُحَلِّلَانِ مِنَ الْعِرْضِ وَالْمَالِ، وَرَأَى مَالِكٌ التَّحْلِيلُ مِنَ الْمَالِ دُونَ الْعِرْضِ، رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وهب عن مالك وسئل عَنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ:" لَا أُحَلِّلُ أَحَدًا" فَقَالَ: ذَلِكَ يَخْتَلِفُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، الرَّجُلُ يُسَلِّفُ الرَّجُلَ فَيَهْلَكُ وَلَا وَفَاءَ لَهُ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ يُحَلِّلَهُ وَهُوَ أَفْضَلُ عِنْدِي، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}[الزمر: 18]، فقيل له: الرجل يظلم الرجل؟ فَقَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ، هُوَ عِنْدِي مُخَالِفٌ لِلْأَوَّلِ، يَقُولُ اللَّهُ تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ}، وَيَقُولُ تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}[التوبة: 91] فَلَا أَرَى أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فِي حِلٍّ.

 قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا لَا يُحَلِّلُهُ بِحَالٍ، قَالَهُ سعيد بن الْمُسَيَّبِ.

 الثَّانِي: يُحَلِّلُهُ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ.

 الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ مَالًا حَلَّلَهُ، وَإِنْ كَانَ ظُلْمًا لَمْ يُحَلِّلْهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.

 وَجْهُ الْأَوَّلِ أَلَّا يُحَلِّلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فَيَكُونُ كَالتَّبْدِيلِ لِحُكْمِ اللَّهِ، وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ كَمَا يُسْقِطُ دَمَهُ وَعِرْضَهُ، وَوَجْهُ الثَّالِثِ الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَلَبَ عَلَى أَدَاءِ حَقِّكَ فَمِنَ الرِّفْقِ بِهِ أَنْ يَتَحَلَّلَهُ، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَمِنَ الْحَقِّ أَلَّا تَتْرُكَهُ؛ لِئَلَّا تَغْتَرَّ الظَّلَمَةُ  وَيَسْتَرْسِلُوا فِي أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ حَدِيثُ أَبِي الْيُسْرِ الطَّوِيلِ وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِغَرِيمِهِ: اخْرُجْ إِلَيَّ، فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ، فَخَرَجَ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي؟ قَالَ: أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ ثُمَّ لَا أَكْذِبُكَ، خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ فَأَكْذِبُكَ، وَأَنْ أَعِدَكَ فَأُخْلِفُكَ".

وهذا شأن كل غريم لا يجد السداد لا بد أـن يحدث فيكذب، ويعد ويُخلف؛ لأنه ليس لديه حيلة يدفع بها للدائن إلا هذا، ولذا استعاذ النبي –عليه الصلاة والسلام-من المأثم والمغرم؛ لأنه يدعو الإنسان إلى هذا.

" وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكُنْتُ وَاللَّهِ مُعْسِرًا، قَالَ قُلْتُ: آللَّهِ؟ قَالَ اللَّهِ قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَةٍ فَمَحَاهَا فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِ، وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي حِلٍّ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا فِي الْحَيِّ الَّذِي يُرْجَى لَهُ الْأَدَاءُ لِسَلَامَةِ الذِّمَّةِ وَرَجَاءِ التَّمَحُّلِ، فَكَيْفَ بِالْمَيِّتِ الَّذِي لَا مُحَالَلَةَ لَهُ وَلَا ذِمَّةَ مَعَهُ".

يعني الحي ينتظر فيه لعله أن يدفع، لعله أن يسدد، لكن الميت ما عاد فيه حيلة خلاص يحلل فورًا –والله المستعان -.

"الْعَاشِرَةُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ مَنْ ظُلِمَ وَأُخِذَ لَهُ مَالٌ".

نعم.

طالب: .........

نعم، يقال: أنت صحابي..

طالب:...........

أنت صاحب رسول الله، وأنا معسر، يعني أخشى أن أكذب عليك، أو أن أخلف وعدي معك، فتدعو عليًّ، وأنت صاحب الرسول –عليه الصلاة والسلام-، وأقرب الناس إلى إجابة الدعوة نعم.

" قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ مَنْ ظُلِمَ وَأُخِذَ لَهُ مَالٌ فَإِنَّمَا لَهُ ثَوَابُ مَا احتبس عنه إلى موته، ثم يرجع الثَّوَابُ إِلَى وَرَثَتِهِ، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى آخِرِهِمْ".

لأنه بوفاته ينتقل المال حكمًا إلى الورثة، فليس له من أجل هذا المال إلى المدة التي يعيشها، ثم بعد ذلك أجر هذا المال ينتقل إلى الورثة، كما لو كان المال موجودًا ينتقل إلى الورثة.

" لِأَنَّ الْمَالَ يَصِيرُ بَعْدَهُ لِلْوَارِثِ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الدَّاوُدِيُّ الْمَالِكِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ فِي النَّظَرِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنْ مَاتَ الظَّالِمُ قَبْلَ مَنْ ظَلَمَهُ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا أَوْ تَرَكَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وَارِثُهُ فِيهِ بِظُلْمٍ لَمْ تَنْتَقِلْ تَبَاعَةُ الْمَظْلُومِ إِلَى وَرَثَةِ الظَّالِمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلظَّالِمِ مَا يَسْتَوْجِبُهُ وَرَثَةُ الْمَظْلُومِ".

يعني لو مات الظالم خلاص انتهى حق المظلوم بموت صاحبه الأول؛ لأن الثاني فات عليه الوارث، فات عليه الوارث بأنه لا يستحقه إلا بعد وفاة مورثه، ولكن هذا القول لا شيء، الحقوق لا تضيع.

"الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} أي صبر على الأذى، و" غَفَرَ" أَيْ تَرَكَ الِانْتِصَارَ لِوَجْهِ اللَّهِ تعالى، وَهَذَا فِيمَنْ ظَلَمَهُ مُسْلِمٌ.

 وَيُحْكَى أَنَّ رَجُلًا سَبَّ رَجُلًا فِي مَجْلِسِ الْحَسَنِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، فَكَانَ الْمَسْبُوبُ يَكْظِمُ وَيَعْرَقُ فَيَمْسَحُ الْعَرَقَ، ثُمَّ قَامَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ الْحَسَنُ: عَقَلَهَا وَاللَّهِ! وَفَهِمَهَا إِذْ ضَيَّعَهَا الْجَاهِلُونَ، وَبِالْجُمْلَةِ الْعَفْوُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَدْ يَنْعَكِسُ الْأَمْرُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَرْجِعُ تَرْكُ الْعَفْوِ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ إِذَا احْتِيجَ إِلَى كَفِّ زِيَادَةِ الْبَغْيِ وَقَطْعِ مَادَّةِ الْأَذَى، وَعَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ زَيْنَبَ أَسْمَعَتْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- بِحَضْرَتِهِ فَكَانَ يَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، فَقَالَ لِعَائِشَةَ: «دُونَكِ فَانْتَصِرِي»، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِمَعْنَاهُ، وَقِيلَ:  "صَبْرٌ" عَنِ الْمَعَاصِي وَسَتْرٌ عَلَى الْمَسَاوِئِ.

{إنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أَيْ مِنْ عَزَائِمِ اللَّهِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا، وَقِيلَ: مِنْ عَزَائِمَ الصَّوَابِ الَّتِي وُفِّقَ لَهَا، وَذَكَرَ الْكَلْبِيُّ وَالْفَرَّاءُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَعَ ثَلَاثِ آيَاتٍ قَبْلَهَا، وَقَدْ شَتَمَهُ بَعْضُ الْأَنْصَارِ فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ أَمْسَكَ، وَهِيَ الْمَدَنِيَّاتُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَاتُ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ هَذَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} يُرِيدُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعُبَيْدَةَ وَعَلِيًّا وَجَمِيعَ الْمُهَاجِرِينَ- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ-".

انتصروا مما ظلمهم في غزوة بدر، وذلك حينما بارز حمزة وعبيدة وعلي بارزوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة انتصروا منهم.

"{فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} يُرِيدُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعُبَيْدَةَ وَعَلِيًّا- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} يُرِيدُ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ وَأَبَا جَهْلٍ وَالْأَسْوَد، وَكُلَّ مَنْ قَاتَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ.

{وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ} يُرِيدُ بِالظُّلْمِ وَالْكُفْرِ، {أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} يُرِيدُ وَجِيعٌ، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} يُرِيدُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَمُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ وَجَمِيعَ أَهْلِ بَدْرٍ- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-، {إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} حَيْثُ قَبِلُوا الفداء وصبروا على الأذى.

 قَوْلُهُ تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} أَيْ يَخْذُلُهُ {فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} هَذَا فِيمَنْ أَعْرَضَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْمَوَدَّةِ فِي الْقُرْبَى، وَلَمْ يُصَدِّقْهُ فِي الْبَعْثِ، وَأَنَّ مَتَاعَ الدُّنْيَا قَلِيلٌ، أَيْ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا يَهْدِيهِ هَادٍ.

 قَوْلُهُ تعالى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ}" أَيِ الْكَافِرِينَ، {لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ} يَعْنِي جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: رَأَوُا الْعَذَابَ عِنْدَ الْمَوْتِ، {يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} يَطْلُبُونَ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا؛ لِيَعْمَلُوا بطاعة الله فلا يجابون إلى ذلك".

ومع ذلك لو ردوا لعادوا كما قال الله –جل وعلا- عنهم.

"قَوْلُهُ تعالى: {وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها} أَيْ عَلَى النَّارِ؛ لِأَنَّهَا عَذَابُهُمْ، فَكَنَّى عَنِ الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ بِحَرْفِ التَّأْنِيثِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ هُوَ النَّارُ، وَإِنْ شِئْتَ جَهَنَّمُ".

قال لما رأوا العذاب، العذاب ظرفه النار، ولذا قال: {وتراهم يعرضون عليها} التي هي النار، وهذا عذابهم بما فيه من وسائل التعذيب -نسأل الله السلامة والعافية-.

"وَلَوْ رَاعَى اللَّفْظَ لَقَالَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قِيلَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ جَمِيعًا يُعْرَضُونَ عَلَى جَهَنَّمَ عِنْدَ انْطِلَاقِهِمْ إِلَيْهَا، قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَقِيلَ: آلُ فِرْعَوْنَ خُصُوصًا، تُحْبَسُ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ سُودٍ تَغْدُو عَلَى جَهَنَّمَ وَتَرُوحُ، فَهُوَ عَرْضُهُمْ عَلَيْهَا، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ، تُعْرَضُ عَلَيْهِمْ ذُنُوبُهُمْ فِي قُبُورِهِمْ، وَيُعْرَضُونَ عَلَى الْعَذَابِ فِي قُبُورِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي الْحَجَّاجِ،" {خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ}".

لكن أقرب ما يعود إليه الضمير في السياق الظالم، يعترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون: هل إلى مرد من سبيل، وتراهم يعرضون، تراهم أيضًا يعني الظالمين.

"{خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} ذَهَبَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ إِلَى الْوَقْفِ عَلَى " خاشِعِينَ"، وَقَوْلُهُ: " مِنَ الذُّلِّ" مُتَعَلِّقٌ بِ" يَنْظُرُونَ"، وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ ب" خاشِعِينَ"، وَالْخُشُوعُ الِانْكِسَارُ وَالتَّوَاضُعُ، وَمَعْنَى {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} أَيْ لَا يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ لِلنَّظَرِ رَفْعًا تامًّا؛ لأنهم ناكسو الرؤوس، وَالْعَرَبُ تَصِفُ الذَّلِيلَ بِغَضِّ الطَّرْفِ، كَمَا يَسْتَعْمِلُونَ فِي ضِدِّهِ حَدِيدَ النَّظَرِ إِذَا لَمْ يُتَّهَمْ بِرِيبَةٍ فَيَكُونُ عَلَيْهِ مِنْهَا غَضَاضَةٌ".

يعني مثل ما قيل في الهجاء:

 فغض الطرف إنك من نمير.... فلا كعبًا بلغت ولا كلابًا

"وَقَالَ مُجَاهِدٌ:" مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ" أَيْ ذَلِيلٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ بِقُلُوبِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عُمْيًا، وَعَيْنُ الْقَلْبِ طَرْفٌ خَفِيٌّ".

كما عين البصر طرف ظاهر.

 "وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالْقُرَظِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُسَارِقُونَ النَّظَرَ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَنْظُرُونَ مِنْعَيْنٍ ضَعِيفَةِ النَّظَرِ، وَقَالَ يُونُسُ: " مِنْ" بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ يَنْظُرُونَ بِطَرْفٍ خَفِيٍّ، أَيْ ضَعِيفٍ مِنَ الذُّلِّ وَالْخَوْفِ، وَنَحْوِهُ عَنِ الْأَخْفَشِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِطَرْفٍ ذَابِلٍ ذَلِيلٍ، وَقِيلَ: أَيْ يَفْزَعُونَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَيْهَا بِجَمِيعِ أَبْصَارِهِمْ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ أَصْنَافِ الْعَذَابِ، {وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ"} أَيْ يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْجَنَّةِ لَمَّا عَايَنُوا مَا حَلَّ بِالْكَفَّارِ: إِنَّ الْخُسْرَانَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا صَارَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْعَذَابِ الْمُخَلَّدِ".

هذا هو الخسران الحقيقي الذي لا يعوض خسارة الدنيا كلها، الإنسان يخسر الدنيا كلها، جميع ما يملك، هذه تعوض ولو لم يحصل التعويض فغير مأسوف عليها، هي أيام وليالٍ وتنقضي، لكن الإشكال خسران النفس والأهل يوم القيامة الذي لا نهاية له ولا أمد، أما ما له أمد ينتهي عما قريب ينجلي فهذا أمره سهل، ينتظر الإنسان، ويصبر ويحتسب، ويزاد في أجره إذا صبر واحتسب، لكن الإشكال خسران النفس والأهل يوم القيامة –نسأل الله السلامة والعافية-.

" وَخَسِرُوا أَهْلِيهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَهْلَ إِنْ كَانُوا فِي النَّارِ فَلَا انْتِفَاعَ بِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْجَنَّةِ فَقَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ".

يعني إن كان معهم في النار فلا يمكن أن ينتفعوا بهم، ولو كانوا معهم فقد خسروهم، وإن كانوا في الجنة وأصولهم في النار فكذلك، – والله المستعان-.

"وَقِيلَ: خُسْرَانُ الْأَهْلِ أَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا لَكَانَ لَهُمْ أَهْلٌ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا لَهُ مَنْزِلَانِ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَإِذَا مَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ}» [المؤمنون: 10]، وَقَدْ تَقَدَّمَ".

خرجه؟

طالب: ............

 التخريج؟

طالب:......

في مسند الدارمي.

" وَفِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ إِلَّا زَوَّجَهُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَسَبْعِينَ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَمَا مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ إِلَّا وَلَهَا قُبُلٌ شَهِيٌّ وَلَهُ ذَكَرٌ لَا يَنْثَنِي»".

خرج عند الدارمي؟

طالب: تخريجه....

ماذا؟

طالب: لم نقف عليه بمسند الدارمي، وأخرجه بتمامه وفي إسناده خالد بن يزيد...واهِ...

يعني ضعفه ظاهر، لكن ما يجد.

طالب:.................

يعزوه إلى مسند الدارمي، والدارمي الموجود المتداول بين الناس سنن، وليس بمسند، عده ابن الصلاح من المثاني وانتقد.

ودونها في رتبة ما جعل على المسانيد فيدعى الجفلا

كمسند الطيالسي وأحمدا وعده للدارمي انتقدا

لكن ذكر بترجمة من تاريخ بغداد أن له مسندًا فلعله كتاب آخر غير السنن.

" قَالَ هِشَامُ بن خَالِدٍ: مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَعْنِي رِجَالًا أُدْخِلُوا النَّارَ فَوَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ نِسَاءَهُمْ كَمَا وُرِّثَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ.

{أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ} أَيْ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاء مِنَ اللَّهِ تعالى".

طالب: حديث....

عند ابن ماجه في سنن ابن ماجه ماذا فيه؟

طالب........

والثاني؟

طالب: ..........

كلاهما عند ابن ماجه..

"قَوْلُهُ تعالى: {وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ} أَيْ أَعْوَانًا وَنُصَرَاءَ {يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أَيْ مِنْ عَذَابِه، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} أَيْ طَرِيقٍ يَصِلُ بِهِ إِلَى الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِ طَرِيقُ النجاة.

 قَوْلُهُ تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} أَيْ أَجِيبُوهُ إِلَى مَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ".

لأنه الطريق الموصل إلى الجنة، ولا سبيل إليه إلا عن طريقه –عليه الصلاة والسلام-، فباتباعه يصل، وهذا أعرض عنه، فكيف يصل –والله المستعان-؟ نعم، هذا دُعي إلى الجنة فأبى، وكل الناس يدخلون الجنة إلا من أبي، قال: «فمن أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى».

"قَوْلُهُ تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} أَيْ أَجِيبُوهُ إِلَى مَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالطَّاعَةِ، اسْتَجَابَ وَأَجَابَ بِمَعْنًى، وَقَدْ تَقَدَّمَ.

{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} يُرِيدُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَيْ لَا يَرُدُّهُ أحد بعد ما حَكَمَ اللَّهُ بِهِ وَجَعَلَهُ أَجَلًا وَوَقْتًا، {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ} أَيْ مِنْ مَلْجَأٍ يُنْجِيكُمْ مِنَ الْعَذَاب،ِ { وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} أَيْ مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُكُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ".

يعني يستنكر وينكر ما فعل بكم الذي ينتصر لغيره ينكر ما فعل به إذا أراد أن ينصر أحدًا أنكر ما فُعل به؛ لأنه فُعل به بغير حق، وهنا {ما لكم من نكير} ما فيه أحد يستنكر ما فُعل بكم، فكيف ينصركم؟

" وَقِيلَ: النَّكِيرُ بِمَعْنَى الْمُنْكَرِ، كَالْأَلِيمِ بِمَعْنَى الْمُؤْلِمِ، أَيْ لَا تَجِدُونَ يَوْمئِذٍ مُنْكِرًا لِمَا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، حَكَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَالَهُ الْكَلْبِيُّ، الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُنْكِرُوا الذُّنُوبَ الَّتِي يُوقَفُونَ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: " مِنْ نَكِيرٍ" أَيْ إِنْكَارِ مَا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَالنَّكِيرُ وَالْإِنْكَارُ تَغْيِيرُ المنكر.

 قَوْلُهُ تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا} أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ {فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أَيْ حَافِظًا لِأَعْمَالِهِمْ حَتَّى تُحَاسِبَهُمْ عَلَيْهَا".

يعني ما عليك إلا البلاغ، وأنت تبلغهم، ما عليك إلا البلاغ، ليس عليك هدايتهم، ولا رصد أعمالهم.

طالب: ............

بالكتابة الكتابة وكل بها من يحفظها.

" وَقِيلَ: مُوَكَّلًا بِهِمْ لَا تُفَارِقُهُمْ دُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا، أَيْ لَيْسَ لَكَ إِكْرَاهُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} وَقِيلَ: نُسِخَ هَذَا بِآيَةِ الْقِتَالِ {وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ} الْكَافِرَ، {مِنَّا رَحْمَةً} رَخَاءً وَصِحَّةً، {فَرِحَ بِها} بَطِرَ بِهَا، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} بَلَاءٌ وَشِدَّةٌ، {بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ} أَيْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النِّعْمَةِ فَيُعَدِّدُ الْمَصَائِبَ وينسى النعم.

قَوْلُهُ تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ} فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

 الْأُولَى: قَوْلُهُ تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ،" يَخْلُقُ مَا يَشاءُ" مِنَ الْخَلْقِ،" يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ" قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو مَالِكٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَالضِّحَاكُ: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا لَا ذُكُورَ مَعَهُنَّ، وَيَهَبُ لِمَنْ يشاء ذكورًا لا إناثًا مَعَهُمْ، وَأَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ عَلَى الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ؛ لِأَنَّهُمْ أَشْرَفُ فَمَيَّزَهُمْ بِسِمَةِ التَّعْرِيفِ، وَقَالَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ: إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَبْكِيرَهَا بِالْأُنْثَى قَبْلَ الذَّكَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تعالى قَالَ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ}".

يعني فقدم الإناث على الذكور، وإذا ما قدمت في الذكر فتقديمها في الواقع والوجود تبعًا لتقديمها في الذكر، يعني كما قال النبي –عليه الصلاة والسلام: «ابدأ بما بدأ الله به» الإنسان ليس له يد في مثل هذا الله -جل وعلا- هو الذي يقدر ذكورًا وإناثًا، لكن إذا تطابق الواقع مع الخبر فهذا لا شك أنه أكمل كما قالوا هنا.

" فَبَدَأَ بِالْإِنَاثِ {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً"} قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَنْ تَلِدَ الْمَرْأَةُ غُلَامًا ثُمَّ تَلِدُ جَارِيَةً، ثُمَّ تَلِدُ غُلَامًا ثُمَّ تَلِدُ جَارِيَةً".

 لا يلزم أن يكون على التعاقب هكذا لو ولدت غلامين ثم جاريتين ثم ثلاث جواري ثم ثلاث غلمان وما أشبه ذلك صح أنه زوجهم ذكرانًا وإناثًا، يعني خلط لهم من النوعين.

" وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ أَنْ تَلِدَ تَوْأَمًا، غُلَامًا وَجَارِيَةً، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا، قَالَ الْقُتَبِيُّ: التَّزْوِيجُ ها هنا هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: زَوَّجْتُ إِبِلِي إِذَا جَمَعْتُ بَيْنَ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ.

 {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً} أَيْ لَا يُولَدُ لَهُ، يُقَالُ: رَجُلٌ عَقِيمٌ، وَامْرَأَةٌ عَقِيمٌ، وَعَقِمَتِ الْمَرْأَةُ تَعْقَمُ عَقْمًا، مِثْلُ حَمِدَ يَحْمَدُ، وَعَقُمَتْ تَعْقُمُ، مِثْلُ عَظُمَ يَعْظُمُ، وَأَصْلُهُ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ الْمُلْكُ الْعَقِيمُ، أَيْ تُقْطَعُ فِيهِ الْأَرْحَامُ بِالْقَتْلِ وَالْعُقُوقِ خَوْفًا عَلَى الْمُلْكِ، وَرِيحٌ عَقِيمٌ، أَيْ لَا تَلْقَحُ سَحَابًا وَلَا شَجَرًا، وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ عَقِيمٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَوْمَ بَعْدَهُ، وَيُقَالُ: نِسَاءٌ عُقُمٌ وَعُقْمٌ، قَالَ الشاعر:
عُقِمَ النِّسَاءُ فَمَا يَلِدْنَ شَبِيهَهُ ........ إِنَّ النِّسَاءَ بمثله عقم"

منه أيضًا الجدال العقيم الذي لا أثر له ولا فائدة من ورائه يعني ليس له ثمرة.

"وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْأَنْبِيَاءِ خُصُوصًا وَإِنْ عَمَّ حُكْمُهَا، وُهِبَ لِلُوطٍ الْإِنَاثُ لَيْسَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ، وَوُهِبَ لِإِبْرَاهِيمَ الذُّكُورُ لَيْسَ مَعَهُمْ أُنْثَى، وَوُهِبَ لِإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَجُعِلَ عِيسَى وَيَحْيَى عَقِيمَيْنِ، وَنَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ".

هؤلاءأمثلة، أمثلة لبقية الناس هؤلاء أمثلة على ماجاء في الآية لبقية الناس، وبقية الناس على هذا الشكل.

"وَإِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ، قَالَ إِسْحَاقُ: نَزَلَتْ فِي الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ عَمَّتْ {يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً} يَعْنِي لُوطًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، لَمْ يُولَدْ لَهُ ذَكَرٌ، وَإِنَّمَا وُلِدَ لَهُ ابْنَتَانِ، {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ} يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يُولَدْ لَهُ أُنْثَى، بَلْ وُلِدَ لَهُ ثَمَانِيَةُ ذُكُورٍ، {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً"} يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وُلِدَ لَهُ أَرْبَعَةُ بَنِينَ وَأَرْبَعُ بَنَاتٍ، "{وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً} يَعْنِي يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، لَمْ يَذْكُرْ عِيسَى.

قال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: " يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً" يَعْنِي لُوطًا كَانَ لَهُ بَنَاتٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ، " وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ" يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ، كَانَ لَهُ بَنُونَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِنْتٌ، وَقَوْلُهُ: " أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً" يَعْنِي آدَمَ، كَانَتْ حَوَّاءُ تَلِدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ تَوْأَمَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَيُزَوِّجُ الذَّكَرَ مِنْ هَذَا الْبَطْنِ مِنَ الْأُنْثَى مِنَ الْبَطْنِ الْآخَرِ، حَتَّى أَحْكَمَ اللَّهُ التَّحْرِيمَ فِي شَرْعِ نُوحٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ لَهُ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ مِنَ الْأَوْلَادِ: الْقَاسِمُ، وَالطَّيِّبُ وَالطَّاهِرُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَزَيْنَبُ وَأُمُّ كُلْثُومَ وَرُقَيَّةُ وَفَاطِمَةُ، وَكُلُّهُمْ مِنْ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-".

منهم من يرى أن الطيب والطاهر من أوصاف عبد الله، فيكون أولاده- عليه الصلاة والسلام-القاسم وعبد الله وإبراهيم الذي من مارية.

"وَكُلُّهُمْ مِنْ خَدِيجَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، وَإِبْرَاهِيمُ وَهُوَ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ، وَكَذَلِكَ قَسَمَ اللَّهُ الْخَلْقَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَحْدُودِ بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ، لِيَبْقَى النَّسْلُ، وَيَتَمَادَى الْخَلْقُ، وَيَنْفُذَ الْوَعْدُ، وَيَحِقَّ الْأَمْرُ، وَتَعْمُرَ الدُّنْيَا، وَتَأْخُذَ الْجَنَّةُ وَجَهَنَّمُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مَا يَمْلَؤُهَا وَيَبْقَى، فَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ النَّارَ لَنْ تَمْتَلِئَ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ ، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ ، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَيَبْقَى مِنْهَا، فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ»".

وفيه إثبات القدم في رواية: يضع فيها رجله إثبات لله –جل وعلا – على ما يليق بجلاله وعظمته خلاف ما يتأوله المبتدعة المنكرون لهذه الصفات.

 يبقي أن العدل من الله- جل وعلا- هو الحق، وهو الواقع سواء كان الناس من البنين أو من البنات، بعض الناس يتذمر ويتضايق إذا رزق مثلاً عشر بنات، وأخوه مثلاً عشر أولاد، كونه مظلومًا، وما يدري أن الخير في هذه البنات دونه كالأولاد أو العكس أنه وجد من يتضايق من الأولاد، ويري أن أولاده العشرة أرهقوه، وكلفوه الأموال، وأراد أن يزوجهم من بنات أخيه فعجز عن المهور ويقول: إن أخاه كسب من وراء هذه البنات وأنا خسرت من هؤلاء.

يعني الرضا بالقضاء نادر عند الناس، تجد من عنده الأولاد يقول: البنات كلهن نفع، والذي عنده  البنات يقول: البنات حمل، حمل ثقيل لا شك أن البنات بلوى، وجاء في الحديث الصحيح: «من ابتلى بشيء من هذه البنات»، لكن مع ذلك هن أقرب للوالدين من الأولاد، والواقع يشهد بذلك، نعم لا يساعدن على التكسب، لذا يقول العربي: والله ما هي بنعم الولد، نصرها بكى، وبرها سرقة، نصرها بكى يعني إذا مرض الأب فما عندها إلا أن تصيح، الولد ممكن يساعد، يجيء له بطبيب أو  يذهب. المهم أنه يسعي، لكن المجمع عندها البكاء، وبرها سرقة، إن جاءت بشيء فهو من بيت زوجها علم أو لم يعلم.

 لكن مع ذلك «أو ولد صالح يدعو له»، المعول على الصلاح سواء كان ذكرًا أو أنثي، المعول على الصلاح، ليس معنى هذا أنه إذا صلح بنفسه ودعا بذلك أن أجرك مثل ما لو كنت السبب في صلاحه، ولذا جاء الدعاء: {وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرًا}، يعني رُبي الأولاد من قِبل غيرك ويدعون لك، لك أجر عظيم، لكن ليس مثل أجرك كما لو كنت السلب في صلاحهم، والتعليل: كما ربياني صغيرًا، وبعض الناس لاسيما من ولده يعيش في كنف غيره لا يعرفه ألبتة، يطلق الأم، ثم يذهب الولد مع أمه إلي أن يشب ويكبر، والأب لا يعرف، ويخرج هذا الولد رجلًا صالحًا وعالمًا، والبر يرجو ثواب ما يترتب على أعمال هذا الولد وهو لم يقدم شيئًا؟ كما ربياني صغيرًا.

 نعم الوالد سبب في وجود الولد، الوالد سبب في وجوده، وله من دعواته، وله من عمله، أولادكم من كسبكم، لكن لا يستويان، شخص تعب على الولد ورباه، حصل، وحرص حرصًا شديدًا علي أن يكون على الجادة والاستقامة، ليس مثل الأب المهمل، ليس مثل الأب المهمل، لا يستويان والله المستعان.

طالب: ...............

 لا ينساه، لا ينساه يقوم بما أوجب الله عليه، يقوم بما أوجب الله عليه.

"الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ اللَّهَ تعالى: لِعُمُومِ قُدْرَتِهِ وَشَدِيدِ قُوَّتِهِ يَخْلُقُ الْخَلْقَ ابتداءً من غير شيء، وَبِعَظِيمِ لُطْفِهِ وَبَالِغِ حِكْمَتِهِ يَخْلُقُ شَيْئًا مِنْ شيء لا عن حاجة، فإنه قدوس
عَنِ الْحَاجَاتِ، سَلَامٌ عَنِ الْآفَاتِ، كَمَا قَالَ: الْقُدُّوسُ السَّلَامُ، فَخَلَقَ آدَمَ مِنَ الْأَرْضِ، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ آدَمَ، وَخَلَقَ النَّشْأَةَ مِنْ بَيْنِهِمَا منهما مرتبًا على الوطء، كَائِنًا عَنِ الْحَمْلِ مَوْجُودًا فِي الْجَنِينِ بِالْوَضْعِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«إِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل أنثى»، وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا «إِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَعْمَامَهُ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَخْوَالَهُ».

 قُلْتُ: وَهَذَا مَعْنَى حَدِيثِ عَائِشَةَ لَا لَفْظُهُ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْهَا أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَلْ تَغْتَسِلُ الْمَرْأَةُ إِذَا احْتَلَمَتْ وَأَبْصَرَتِ الْمَاءَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ»، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: تَرِبَتْ يَدَاكِ وَأَلَّتْ".

يعني فضحت النساء، كأنها قالت: فضحت النساء، كما جاء في بعض الروايات.

" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".

وألت يعني أصيبت بآلة تؤذيها أو تكسرها أو تجرحها.

"فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «دَعِيهَا، وَهَلْ يَكُونُ الشَّبَهُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ؟ إِذَا عَلَا مَاؤُهَا مَاءَ الرَّجُلِ أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَخْوَالَهُ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَهَا أَشْبَهَ أَعْمَامَهُ»، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَعَلَى يقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْعُلُوَّ يَقْتَضِي الشَّبَهَ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِلْيَهُودِيِّ: «مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّهِ، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بِإِذْنِ اللَّهِ» الْحَدِيثَ.

فَجَعَلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا الْعُلُوَّ يَقْتَضِي الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ، فَعَلَى مُقْتَضَى الْحَدِيثَيْنِ يَلْزَمُ اقْتِرَانُ الشَّبَهِ لِلْأَعْمَامِ وَالذُّكُورَةِ إِنْ عَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ إِنْ عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ اقْتِرَانُ الشَّبَهِ لِلْأَخْوَالِ وَالْأُنُوثَةِ؛ لِأَنَّهُمَا مَعْلُولا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلِ الْوُجُودُ بِخِلَافِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّا نَجِدُ الشَّبَهَ لِلْأَخْوَالِ وَالذُّكُورَةِ وَالشَّبَهَ لِلْأَعْمَامِ وَالْأُنُوثَةِ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ".

نعم؛ لأن مقتضى الحديثين أن الشبه مقارن للجنس، فإذا وجدت الذكورة صار الشبه للأعمام، وإذا وجدت الأنوثة صار الشبه للأخوال، فكل ذكر مشبه لأعمامه، وكل أنثى مشبه لأخواله، لكن الواقع أنه يوجد الولد ذكر أشبه بأخواله من أعمامه، وقد توجد البنت أشبه بعماتها من خالتها، كثير هذا في الواقع، فلابد من تأويل الحديثين على هذا.

" وَالَّذِي يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ الَّذِي فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ فَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ الْعُلُوَّ مَعْنَاهُ سَبَقَ الماء إلى الرحم، ووجهه أَنَّ الْعُلُوَّ لِمَا كَانَ مَعْنَاهُ الْغَلَبَةَ مِنْ قَوْلِهِمْ سَابَقَنِي فُلَانٌ فَسَبَقْتُهُ أَيْ غلبتَه.

غلبتُه.

أي غَلَبْتُهُ".

فرق بين أي وإذا.

"وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ"} [الواقعة: 60] أَيْ بِمَغْلُوبِينَ، قِيلَ عَلَيْهِ: عَلَا".

 يعني السابق هو العالي، السابق منهما إلى الرحم هو الذي يعلو وغلب.

"وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ المرأة ماء الرجل آنثا»".

وليس بيد الرجل والمرأة شيء من هذا ألبتة؛ لأن بعضهم يسمع هذا الكلام ويقول: إذا أردت أنثى تأخرت عنها، وإذا أردت ذكرًا قلت لها: تأخري، ما ينفع هذا، السبق هذا أمر خفي لا يدرك.

طالب: فيه واحدة كانت في الجامعة تجادل تقول: فيه جينات وفيه يمكن الإنسان أن يحول الجنين هذا إلى ذكر أو أنثى ...............

على كل حال هم يدعون كما ادعي، هم يدعون، يدعون هذا، ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله –جل وعلا- يدعون ما هو أعظم من ذلك، لكن من المسلمين من يتبع كل ناعق، وغرض الكفار تشكيك المسلمين في عقائدهم، نعم ويبتلى، يبتلى الناس؛ لينظر ثباتهم وتصديقهم –والله المستعان-.

"وَقَدْ بَنَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِنَاءً فَقَالَ: إِنَّ لِلْمَاءَيْنِ أَرْبَعَةَ أَحْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَخْرُجَ مَاءُ الرَّجُلِ أَوَّلًا، الثَّانِي: أَنْ يَخْرُجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ أَوَّلًا، الثَّالِث:ُ أَنْ يَخْرُجَ مَاءُ الرَّجُلِ أَوَّلًا، وَيَكُونُ أَكْثَرَ، الرَّابِعُ أَنْ يَخْرُجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ أَوَّلًا وَيَكُونُ أَكْثَرَ، وَيَتِمُّ التَّقْسِيمُ بِأَنْ يَخْرُجَ مَاءُ الرَّجُلِ أَوَّلًا ثُمَّ يَخْرُجُ مَاءُ الْمَرْأَةِ بَعْدَهُ، وَيَكُونُ أَكْثَرَ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَإِذَا خَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ أَوَّلًا وَكَانَ أَكْثَرَ جَاءَ الْوَلَدُ ذَكَرًا بِحُكْمِ السَّبْقِ وَأَشْبَهَ الْوَلَدُ أَعْمَامَهُ بِحُكْمِ الْكَثْرَةِ، وَإِنْ خَرَجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ أَوَّلًا وَكَانَ أَكْثَرَ جَاءَ الْوَلَدُ أُنْثَى بِحُكْمِ السَّبْقِ وَأَشْبَهَ أَخْوَالَهُ بِحُكْمِ الْغَلَبَةِ، وَإِنْ خَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ أَوَّلًا لَكِنْ لَمَّا خَرَجَ مَاءُ الْمَرْأَةِ بَعْدَهُ كَانَ أَكْثَرَ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا بِحُكْمِ السَّبْقِ، وَأَشْبَهَ أَخْوَالَهُ بِحُكْمِ غَلَبَةِ مَاءِ الْمَرْأَةِ، وَإِنْ سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ لَكِنْ لَمَّا خَرَجَ مَاءُ الرَّجُلِ كَانَ أَعْلَى مِنْ مَاءِ الْمَرْأَةِ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى بِحُكْمِ سَبْقِ مَاءِ الْمَرْأَةِ وَأَشْبَهَ أَعْمَامَهُ بِحُكْمِ غَلَبَةِ مَاءِ الرَّجُل.

 قَالَ: وَبِانْتِظَامِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ يَسْتَتِبُّ الْكَلَامُ، وَيَرْتَفِعُ التَّعَارُضُ عَنِ الْأَحَادِيثِ، فَسُبْحَانَ الْخَالِقِ الْعَلِيمِ".

لكن في الاكتشافات الحديثة في الطب أن الكثرة والقلة ليس لها دخل في هذا، وأنه  ليس الجنين يُخلق من مجموع المائين، وإنما يؤخذ من ماء الرجل ما يسمونه بالحيوان، ويؤخذ من ماء المرأة هذه البويضة، وتلقح هذه بهذا، فالكثرة والقلة عندهم لا قيمة لها، لا قيمة لها، وكأن الواقع قد يشهد لشيء من هذا باعتبار أن القلة، والكثرة تتبع القوة والنشاط والشباب والشيخوخة، فأحيانًا يأتي ولد الشيخ أصح وأمثل وأمتع من ولد الشاب، وحينئذ تكون القلة والكثرة ما لها دخل، وقد يكون العكس..

الأطباء هم الآن يباشرون هذه الأمور بآلاتهم بدقة، واستطاعوا أن يأخذوا من ماء الرجل هذا الحيوان، ومن ماء المرأة هذه البويضة، ويجعلون في ظرف خارج عن رحم المرأة، ويعيش هذه المدة ثم بعد ذلك يسمونه بالتلقيح الصناعي ليس المعول على كثرة الماء أو قلته كما قال ابن العربي، لكن ابن العربي في وقته ما عندهم إلا هذا، ما عندهم إلا مثل هذا الكلام، ويريد بذلك أن يرفع التعارض بين الأحاديث.

 وتبقى هذه المسألة من المعجزات التي لا يمكن إن تدرك ويبقى كلام من لا ينطق عن الهوى هو الحكم في الباب، هو الحكم في الباب، الله- جل وعلا- يقول: {ويعلم ما في الأرحام} فيه خمس لا يعلمها إلا الله، نثبت على هذا؛ لأن عندنا نصوصًا قطعية مهما قالوا، ومهما روجوا، ومهما كذا، وسيبين في يوم من الأيام ضعف مقالهم، يعني مثل ما أبدوا لنا من النظريات وأجلبوا عليها، وصدقناها، ثم بعد ذلك رجعوا عنها.

 والآن يطنطنون بالاستمطار وما الاستمطار، والله –جل وعلا- يقول: {أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون }، لا بد أن  نرجع إلى نصوص الكتاب والسنة نكون مثل عبدالله بن رواحة الذي صدق ما ظنه عن الله وعن رسوله وكذب بصره، كيف يبتلى الإيمان؟ كيف يبتلى صبر الإنسان وثباته على دينه إلا بامتثال الأوامر والنواهي وتصديق الأخبار؟

" الثَّالِثَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا".

لكن لا يمنع هذا أن نسعى إلى التوفيق بين هذه العلوم وهذه النظريات والنصوص لا على أن نعسف النصوص ونخضعها لهذه النظريات.

"كَانَتِ الْخِلْقَةُ مُسْتَمِرَّةً ذَكَرًا وَأُنْثَى إِلَى أَنْ وَقَعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى الْخُنْثَى فَأُتِيَ بِهِ فَرِيضَ الْعَرَبِ وَمُعَمِّرَهَا عَامِرَ بْنَ الظَّرِبِ".

فريض العرب الذي يقسم بينهم الضرائب والمواريث.

"فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فِيهِ".

أول حادثة هذه.

"وَأَرْجَأَهُمْ عَنْهُ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ تَنَكَّرَ مَوْضِعَهُ، وَأَقَضَّ عَلَيْهِ مَضْجَعَهُ، وجعل يتقلى وَيَتَقَلَّبُ، وَتَجِيءُ بِهِ الْأَفْكَارُ، وَتَذْهَبُ، إِلَى أَنْ أَنْكَرَتْ خَادِمُهُ حَالَهُ، فَقَالَتْ: مَا بِكَ؟ قَالَ لَهَا: سَهِرْتُ لِأَمْرٍ قَصَدْتُ بِهِ فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهِ؟ فَقَالَتْ: مَا هُوَ؟ قَالَ لَهَا: رَجُلٌ لَهُ ذَكَرٌ وَفَرْجٌ، كَيْفَ يَكُونُ".

يعني هذه حقيقة الخنثى له آلة ذكر وآلة أنثى.

"حَالُهُ فِي الْمِيرَاثِ؟ قَالَتْ لَهُ الْأَمَةُ: وَرِّثْهُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ، فَعَقَلَهَا وَأَصْبَحَ، فَعَرَضَهَا عَلَيْهِمْ، وَانْقَلَبُوا بِهَا رَاضِينَ، وَجَاءَ الْإِسْلَامُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ تَنْزِلْ إِلَّا فِي عَهْدِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَضَى فِيهَا.

 وَقَدْ رَوَى الْفَرْضِيُّونَ عَنِ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَوْلُودٍ لَهُ قُبُلٌ وَذَكَرٌ، مِنْ أَيْنَ يُوَرَّثُ؟ قَالَ: مِنْ حَيْثُ يَبُولُ، وروي أَنَّهُ أُتِيَ بِخُنْثَى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: «وَرِّثُوهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَبُولُ»، وَكَذَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ، وَنَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَحَكَاهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ.

 وَقَالَ قَوْمٌ: لَا دَلَالَةَ فِي الْبَوْلِ، فَإِنْ خَرَجَ الْبَوْلُ مِنْهُمَا جَمِيعًا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُحْكَمُ بِالْأَكْثَرِ، وَأَنْكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ: أَتَكِيلُهُ! وَلَمْ يَجْعَلْ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لِلْكَثْرَةِ حُكْمًا، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا قَالَا: تُعَدُّ أَضْلَاعُهُ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَزِيدُ عَلَى الرَّجُلِ بِضِلْعٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ مَضَى مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ فِي"  النِّسَاءِ" مُجَوَّدًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ".

طالب:.... تكيله...

تكيلها، ولكن ما يفهم.

طالب:......الكيل...

 يستنكر أبو حنيفة.

" الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ أَنْكَرَ قَوْمٌ مِنْ رُءُوسِ الْعَوَامِّ وُجُودَ الْخُنْثَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى قَسَمَ الْخَلْقَ إِلَى ذَكَرٍ وَأُنْثَى، قُلْنَا: هَذَا جَهْلٌ بِاللُّغَةِ، وَغَبَاوَةٌ عَنْ مَقْطَعِ الْفَصَاحَةِ، وَقُصُورٌ عَنْ مَعْرِفَةِ سَعَةِ الْقُدْرَةِ، أَمَّا قُدْرَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، وَأَمَّا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَلَا يَنْفِي وُجُودَ الْخُنْثَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى قَال: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ}، فَهَذَا عُمُومُ مَدْحٍ، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ تَقْتَضِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً} فَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْغَالِبِ فِي الْمَوْجُودَاتِ، وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ النَّادِرِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ عُمُومِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَالْوُجُودُ يَشْهَدُ لَهُ وَالْعِيَانُ يُكَذِّبُ مُنْكِرَهُ، وَقَدْ كَانَ يَقْرَأُ مَعَنَا بِرِبَاطِ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى الْإِمَامِ الشَّهِيدِ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ خُنْثَى لَيْسَ لَهُ لِحْيَةٌ، وَلَهُ ثَدْيَانِ وَعِنْدَهُ جَارِيَةٌ، فَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِهِ، وَمَعَ طُولِ الصُّحْبَةِ عَقَلَنِي الْحَيَاءُ عَنْ سُؤَالِهِ".

يعني منعني الحياء كأنه عقل لسانه عن السؤال.

"وبودي اليوم لو كاشفته عن حاله.

 قوله تعالى: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}.

فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تعالى: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً} سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَلَا تُكَلِّمُ اللَّهَ وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى وَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَإِنَّا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مُوسَى لَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ»".

لم، لم

طالب: لن ..

الموجود في النسخ لن لكن صوابها لم.

طالب: لم..

مطابقة للآية {لن تراني} نعم لن ينظر إلي يعني في الدنيا ماشٍ مطابق للآية.

"فَنَزَلَ قَوْلُهُ: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً}، ذَكَرَهُ النَّقَّاشُ وَالْوَاحِدِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ، " وَحْياً" قَالَ مُجَاهِدٌ: نَفَثَ يَنْفُثُ فِي قَلْبِهِ فَيَكُونُ إِلْهَامًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي روْعِي  إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ، رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ».

 {أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} كَمَا كَلَّمَ مُوسَى، {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} كَإِرْسَالِهِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: "إِلَّا وَحْياً" رُؤْيَا يَرَاهَا فِي مَنَامِهِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ زُهَيْرٍ،" أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ" كَمَا كَلَّمَ مُوسَى،" أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا" قَالَ زُهَيْرٌ: هُوَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-".

المقصود بالحجاب حجابه النور، وفي روايات: حجابه النار، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهي إليه من خلقه، المنتهى إليه النظر وهم من خلقه.

"{فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ} وَهَذَا الْوَحْيُ مِنَ الرُّسُلِ خِطَابٌ مِنْهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ يَسْمَعُونَهُ نُطْقًا وَيَرَوْنَهُ عِيَانًا، وَهَكَذَا كَانَتْ حَالُ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِذَا نَزَلَ بِالْوَحْيِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ فَلَمْ يَرَهُ مِنْهُمْ إِلَّا مُحَمَّدٌ وَعِيسَى وَمُوسَى وَزَكَرِيَّا- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، فَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَكَانَ وَحْيًا إِلْهَامًا فِي الْمَنَامِ.

وَقِيلَ: " إِلَّا وَحْياً" بِإِرْسَالِ جِبْرِيلَ" أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ" كَمَا كَلَّمَ مُوسَى، " أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا" إِلَى النَّاسِ كَافَّةً.

 وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ: " أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ" بِرَفْعِ الْفِعْلَيْنِ، والْبَاقُونَ بِنَصْبِهِمَا، فَالرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ".

يرسلَ .... فيوحيَ.

" أَيْ وَهُوَ يُرْسِلُ، وَقِيلَ:" يُرْسِلُ" بِالرَّفْعِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ إِلَّا مُوحِيًا أَوْ مُرْسَلًا، وَمَنْ نَصَبَ عَطَفُوهُ عَلَى مَحَلِّ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُوحِيَ أَوْ يُرْسِلَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْجَارِّ مِنْ أَنِ الْمُضْمَرَةِ، وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، التَّقْدِيرُ أَوْ بِأَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْطِفَ" أَوْ يُرْسِلَ" بِالنَّصْبِ عَلَى " أَنْ يُكَلِّمَهُ" لِفَسَادِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُرْسِلَهُ أَوْ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ رَسُولًا، وَهُوَ قَدْ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مِنَ الْبَشَرِ، وأرسل إليهم.

الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ رَأَى فِيمَنْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ رَجُلًا فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا أَنَّهُ حَانِثٌ؛ لِأَنَّ الْمُرْسَلَ قَدْ سُمِّيَ فِيهَا مُكَلِّمًا لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْحَالِفُ الْمُوَاجَهَةَ بِالْخِطَابِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ أَلَّا يُكَلِّمَ فُلَانًا فَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا، فَقَالَ الثَّوْرِيُّ: الرَّسُولُ لَيْسَ بِكَلَامٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَبِينُ أَنْ يَحْنَثَ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ: وَالْحُكْمُ فِي الْكِتَابِ يَحْنَثُ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْنَثُ فِي الْكِتَابِ وَالرَّسُولِ، وَقَالَ مَرَّةً: الرَّسُولُ أَسْهَلُ مِنَ الْكِتَابِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْكَلَامُ".

لأن الرسول يمكن أن ينسب إليه الكلام بخلاف الكتاب لا يمكن أن ينسب إليه الكلام، حلف ألا يكلم زيدًا، فأرسل له كتابًا هذا كلام، الكتاب مشتمل على كلام، ولا يمكن أن ينسب الكلام إلى هذا الكتاب، إنما ينسب إلى منشئه من أنشأه وقاله فحنثه فليس الكاتب أقرب من حنثه بالرسول؛ لأن الرسول يمكن أن ينسب إليه الكلام؛ لأنه يتكلم، وكل هذا إذا ما خلا الأمر عن النية فإنه إن يحلف ألا يكلمه بأي وسيلة كانت مثل هذا يحنث، وإذا كانت نيته ألا يكلمه مواجهة ليس بينه وبينه وصل مثل هذا لا يحنث.

"وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْكَلَامُ سِوَى الْخَطِّ وَالْإِشَارَةِ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يَحْنَثُ فِي الْكِتَابِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَحْنَثُ فِي الْكِتَابِ وَالرَّسُولِ.

 قُلْتُ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَمَنْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ رَجُلًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا، أَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ هُوَ فِيهِمْ فَقَدْ حَنِثَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَإِنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا أَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَحْنَثْ".

سلم عليه في الصلاة قال: السلام عليكم ورحمة الله، وهو بجانبه، هذا لا يقصده بعينه، مثل هذا لا يحنث.

"قُلْتُ: يَحْنَثُ فِي الرَّسُولِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْمُشَافَهَةَ، لِلْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّلِ " سُورَةِ مَرْيَمَ" هَذَا الْمَعْنَى عن علمائنا مستوفًى، والحمد لله.

قوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} أَيْ وَكَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، " رُوحاً" أَيْ نُبُوَّةً، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وقال الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا، وقال السُّدِّيُّ: وَحْيًا، وقال الْكَلْبِيُّ: كِتَابًا، وقال الرَّبِيعُ: هُوَ جبريل، وقال الضحاك: هو القرآن، وهو قول مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ".

يعني وهو ما تحيا به القلوب، نظير ما تحيا به الأبدان من الأرواح.

"وَسَمَّاهُ رُوحًا؛ لِأَنَّ فِيهِ حَيَاةً مِنْ مَوْتِ الْجَهْلِ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَمْرِهِ بِمَعْنَى أَنْزَلَهُ كَمَا شَاءَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنَ النَّظْمِ الْمُعْجِزِ وَالتَّأْلِيفِ الْمُعْجِبِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يحمل قوله: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}
[الاسراء: 85] عَلَى الْقُرْآنِ أَيْضًا، {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] أي يسئلونك مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا الْقُرْآنُ؟ قُلْ: إِنَّهُ من أمر الله أنزله عَلَيَّ مُعْجِزًا، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ، وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، مَاذَا زَرَعَ الْقُرْآنُ فِي قُلُوبِكُمْ؟ فَإِنَّ الْقُرْآنَ رَبِيعُ الْقُلُوبِ، كَمَا أَنَّ الْغَيْثَ رَبِيعُ الْأَرْضِ.

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ} أَيْ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ الطَّرِيقَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَظَاهِرُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ قَبْلَ الْإِيحَاءِ مُتَّصِفًا بِالْإِيمَانِ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَهُوَ مِنْ مُجَوَّزَاتِ الْعُقُولِ، وَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْمُعْظَمُ".

المعظم، المعظم.

طالب: المعظم.

لأن معظم العلماء..

"أَنَّ اللَّهَ مَا بَعَثَ نَبِيًّا إِلَّا كَانَ مُؤْمِنًا بِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ".

لأن ظاهر الآية يؤيد ما تجوزه العقول أنه قد يبعث النبي وهو لا يدري قبل هذه البعثة ما الكتاب الذي ينزل عليه، ولذلك استنكر النبي-عليه الصلاة والسلام- نزول جبريل أول ما نزل، لا يستنكر أنه النازل وما نزل به؛ لأنه لم يعتده، ولا الإيمان؛ لأنه محل الإشكال؛ لأنهم يقولون: كيف يكون قبل ذلك مشركًا ثم يصطفى من بين غيره من البشر، المعظم على أنه كان عنده الإيمان الإجمالي إتباعًا للملة الحنيفية التي جاء بها إبراهيم –عليه السلام- دون التفاصيل والشرائع.

" وَفِيهِ تَحَكُّمٌ، إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ بِتَوْقِيفٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضٌ: وَأَمَّا عِصْمَتُهُمْ مِنْ هَذَا الْفَنِّ  قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَلِلنَّاسِ فِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مِنَ الْجَهْلِ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَالتَّشَكُّكِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ تَعَاضَدَتِ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ بِتَنْزِيهِهِمْ عَنْ هَذِهِ النَّقِيصَةِ مُنْذُ وُلِدُوا، وَنَشْأَتِهِمْ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ، بَلْ عَلَى إِشْرَاقِ أَنْوَارِ الْمَعَارِفِ وَنَفَحَاتِ أَلْطَافِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ طَالَعَ سِيَرَهُمْ مُنْذُ صِبَاهُمْ إِلَى مَبْعَثِهِمْ حَقَّقَ ذَلِكَ، كَمَا عُرِفَ مِنْ حَالِ مُوسَى وَعِيسَى وَيَحْيَى وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-.

 قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أُعْطِيَ يَحْيَى الْعِلْمَ بِكِتَابِ اللَّهِ فِي حَالِ صِبَاهُ، قَالَ مَعْمَرٌ: كَانَ ابْنَ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، فَقَالَ لَهُ الصِّبْيَانُ: لِمَ لَا تَلْعَبُ! فَقَالَ: أَلِلَّعِبِ خُلِقْتُ! وَقِيلَ فِي قوله: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 39] صَدَّقَ يَحْيَى بِعِيسَى وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ، فَشَهِدَ لَهُ أَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ، وَقِيلَ: صَدَّقَهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَكَانَتْ أُمُّ يَحْيَى تَقُولُ لِمَرْيَمَ إِنِّي أَجِدُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ تَحِيَّةً لَهُ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى كَلَامِ عِيسَى لِأُمِّهِ عند ولادتها إياه بقوله: {أَلَّا تَحْزَنِي}[مريم: 24] على قراءة من قرأ: {مِنْ تَحْتِها}، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُنَادِي عِيسَى وَنُصَّ عَلَى كَلَامِهِ فِي مَهْدِهِ فَقَالَ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30]، وَقَالَ: {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء: 79]، وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ حُكْمِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ صَبِيٌّ يَلْعَبُ فِي قِصَّةِ الْمَرْجُومَةِ، وَفِي قِصَّةِ الصَّبِيِّ مَا اقْتَدَى بِهِ أَبُوهُ دَاوُدُ ، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ عُمْرَهُ كَانَ حِينَ أُوتِيَ الْمُلْكَ اثْنَيْ عشر عامًا".

خبر كان.

"وكذلك قصة موسى مَعَ فِرْعَوْنَ وَأَخْذُهُ بِلِحْيَتِهِ وَهُوَ طِفْلٌ، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء: 51]: أَيْ هَدَيْنَاهُ صَغِيرًا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: اصْطَفَاهُ قَبْلَ إِبْدَاءِ خَلْقِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا يَأْمُرُهُ عَنِ اللَّهِ تعالى: أَنْ يَعْرِفَهُ بِقَلْبِهِ وَيَذْكُرَهُ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، وَلَمْ يَقُلْ أَفْعَلُ، فَذَلِكَ رُشْدُهُ، وَقِيلَ: إِنَّ إِلْقَاءَ إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارِ وَمِحْنَتَهُ كَانَتْ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَإِنَّ ابْتِلَاءَ إِسْحَاقَ بِالذَّبْحِ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ".

المؤلف جرى على طريقته وعادته في ترجيح أن الذبيح هو إسحاق، وعموم أهل العلم ومحققوه على أنه إسماعيل على ما تقدم.

" وَإِنَّ اسْتِدْلَالَ إِبْرَاهِيمَ بِالْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ كَانَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَقِيلَ: أُوحِيَ إِلَى يُوسُفَ وَهُوَ صبي عندما هَمَّ إِخْوَتُهُ بِإِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ بِقَوْلِهِ تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ  هذا} [يوسف: 15] الْآيَةَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ.

 وَقَدْ حَكَى أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ أُخْبِرَتْ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وُلِدَ حِينَ وُلِدَ بَاسِطًا يَدَيْهِ إِلَى الْأَرْضِ رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَمَّا نَشَأَتُ بُغِّضَتْ إِلَيَّ الْأَوْثَانُ، وَبُغِّضَ إِلَيَّ الشِّعْرُ، وَلَمْ أَهُمَّ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ إِلَّا مَرَّتَيْنِ فَعَصَمَنِي اللَّهُ مِنْهُمَا ثُمَّ لَمْ أَعُدْ»".

خرج الخبر؟ تخريجه؟

طالب: وأما عجزه فأخرجه ابن حبان والحاكم والبيهقي........... وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

يعني كلام آمنة أمه هذه هذا من ضمن ما يذكر في السير والشمائل مما ثبت وما لم يثبت، يذكرون كل شيء في هذا مما يدل على فضله- عليه الصلاة والسلام- منه الثابت، ومنه غير الثابت، وأما قوله: «بغضت إليه الأوثان» فهو الذي قاله أصلاً.

" ثُمَّ يَتَمَكَّنُ الْأَمْرُ لَهُمْ، وَتَتَرَادَفُ نَفَحَاتُ اللَّهِ تعالى عَلَيْهِمْ وَتُشْرِقُ أَنْوَارُ الْمَعَارِفِ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى يَصِلُوا الْغَايَةَ وَيَبْلُغُوا بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ تعالى لَهُمْ بِالنُّبُوَّةِ فِي تَحْصِيلِ الْخِصَالِ الشَّرِيفَةِ النِّهَايَةَ دُونَ مُمَارَسَةٍ وَلَا رِيَاضَةٍ".

نعم؛ لأن النبوة غير مكتسبة غير مكتسبة، النبوة توفيق من الله –جل وعلا-، واصطفاء واختيار، وليست مكتسبة، يعني لا تنال بالرياضة ولا ممارسة، وإن كان علم النبوة يورث، يعني هذا الذي يورث العلم النبوي لا يتوقع أنه في يوم من الأيام أنه يكون نبيًّا لو ورث ما ورث؛ لأن النبوة ختمت بمحمد -عليه الصلاة والسلام-، لكن ورثوا العلم، من أخذ منه أخذ بحظ وافر، وبقدر إرث الشخص من العلم والعمل يكون نصيبه من هذا الحظ العظيم.

" قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً}[يوسف: 22]، قَالَ الْقَاضِي: وَلَمْ يَنْقِلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَخْبَارِ أَنَّ أَحَدًا نُبِّئَ وَاصْطُفِيَ مِمَّنْ عُرِفَ بِكُفْرٍ وَإِشْرَاكٍ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمُسْتَنَدُ هَذَا الْبَابِ النَّقْلُ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْقُلُوبَ تَنْفُرُ عمن كانت هذه سبيله،
قَالَ الْقَاضِي: وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ رَمَتْ نَبِيَّنَا -عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِكُلِّ مَا افْتَرَتْهُ، وَعَيَّرَ كُفَّارُ الْأُمَمِ أَنْبِيَاءَهَا بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهَا وَاخْتَلَقَتْهُ، مِمَّا نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَوْ نَقَلَتْهُ إِلَيْنَا الرُّوَاةُ، وَلَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَعْيِيرًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِرَفْضِهِ آلِهَتَهُمْ ، وَتَقْرِيعِهِ بِذَمِّهِ بِتَرْكِ مَا كَانَ قَدْ جَامَعَهُمْ عَلَيْهِ".

 يعني وافقهم عليه من الشرك.

 "ولو كان هذا لكانوا بذلك مبادرين، ويتلونه فِي مَعْبُودِهِ مُحْتَجِّينَ، وَلَكَانَ تَوْبِيخُهُمْ لَهُ بِنَهْيِهِمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ قَبْلُ أَفْظَعَ وَأَقْطَعَ فِي الْحُجَّةِ مِنْ تَوْبِيخِهِ بِنَهْيِهِمْ عَنْ تَرْكِهِ آلِهَتَهُمْ وَمَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ، فَفِي إِطْبَاقِهِمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا سَبِيلًا إِلَيْهِ، إِذْ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ وَمَا سَكَتُوا عَنْهُ كَمَا لَمْ يَسْكُتُوا عَنْ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَقَالُو: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها} [البقرة: 142] كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ".

 الثَّالِثَةُ: وَتَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، هَلْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِدِينٍ قَبْلَ الْوَحْيِ أَمْ لَا، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا وَأَحَالَهُ عَقْلًا، قَالُوا: لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا مَنْ عُرِفَ تَابِعًا، وَبَنَوْا هَذَا عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى بِالْوَقْفِ فِي أَمْرِهِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَتَرْكِ قَطْعِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي ذَلِكَ، إِذْ لَمْ يُحِلِ الْوَجْهَيْنِ مِنْهُمَا الْعَقْلُ وَلَا اسْتَبَانَ عِنْدَهَا فِي أَحَدِهِمَا طَرِيقُ النَّقْلِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي الْمَعَالِي، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ: إِنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ وَعَامِلًا بِهِ".

يسير مع قوله –جل وعلا-: {فبهداهم اقتده} لما ذكر جمع من الأنبياء قال: فبهداهم اقتده، هذا حجة من يقول: إننا متعبدون بشرع من قبلنا، وأنه شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه.

"وَقَالَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ: إِنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ وَعَامِلًا بِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي التَّعْيِينِ، فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ عِيسَى فَإِنَّهُ نَاسِخٌ لِجَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ قَبْلَهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عَلَى دِينٍ مَنْسُوخٍ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِهِ وَهُوَ أَبُو الْأَنْبِيَاءِ.

 وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ مُوسَى؛ لِأَنَّهُ أَقْدَمُ الْأَدْيَانِ، وَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى دِينٍ، وَلَكِنْ عَيْنُ الدِّينِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ عِنْدَنَا.

 وَقَدْ أَبْطَلَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا أَئِمَّتُنَا؛ إِذْ هِيَ أَقْوَالٌ مُتَعَارِضَةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْلُ يُجَوِّزُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَالَّذِي يُقْطَعُ بِهِ أَنَّهُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَكُنْ مَنْسُوبًا إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نِسْبَةً تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مِنْ أُمَّتِهِ وَمُخَاطَبًا بِكُلِّ شَرِيعَتِهِ، بَلْ شَرِيعَتُهُ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا، مُفْتَتَحَةٌ مِنْ عِنْدِ الله الحاكم -عز وجل-، وأنه-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَا سَجَدَ لِصَنَمٍ، وَلَا أَشْرَكَ بِاللَّهِ، وَلَا زَنَى، وَلَا شَرِبَ الْخَمْرَ، وَلَا شَهِدَ السَّامِرَ".

يعني المكان الذي يجتمعون فيه للسمر والسهر.

" وَلَا حَضَرَ حِلْفَ الْمَطَرِ وَلَا حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ، بَلْ نَزَّهَهُ اللَّهُ وَصَانَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدِيثًا بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ كَانَ يَشْهَدُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ مَشَاهِدَهُمْ، فَسَمِعَ مَلَكَيْنِ خَلْفَهُ أَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ حَتَّى تَقُومَ خَلْفَهُ، فَقَالَ الْآخَرُ: كَيْفَ أَقُومُ خَلْفَهُ وَعَهْدُهُ بِاسْتِلَامِ الْأَصْنَامِ فَلَمْ يَشْهَدهُمْ بَعْدُ؟

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ جِدًّا وَقَالَ: هَذَا مَوْضُوعٌ، أَوْ شَبِيهٌ بِالْمَوْضُوعِ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّ عُثْمَانَ وَهِمَ فِي إِسْنَادِهِ، وَالْحَدِيثُ بِالْجُمْلَةِ مُنْكَرٌ، غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَى إِسْنَادِهِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَالْمَعْرُوفُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خِلَافُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قَوْلِهِ: «بُغِّضَتْ إِلَيَّ الْأَصْنَامُ»، وَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ بَحِيرَا حِينَ اسْتَحْلَفَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى إِذْ لَقِيَهُ بِالشَّامِ فِي سَفْرَتِهِ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ صَبِيٌّ، وَرَأَى فِيهِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فَاخْتَبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تَسْأَلْنِي بِهِمَا، فَوَاللَّهِ مَا أَبْغَضْتُ شَيْئًا قَطُّ بُغْضَهُمَا»، فَقَالَ لَهُ بَحِيرَا: فَبِاللَّهِ إِلَّا مَا أَخْبَرْتِنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، فَقَالَ: «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ». وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ مِنْ سِيرَتِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَتَوْفِيقِ اللَّهِ إِيَّاهُ لَهُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ يُخَالِفُ الْمُشْرِكِينَ فِي وُقُوفِهِمْ بِمُزْدَلِفَةَ فِي الْحَجِّ، وَكَانَ يَقِفُ هُوَ بِعَرَفَةَ".

مخالفة المشركين يعني من الحُمس فقط، الذين هم أهل البيت، فلا يخرجون عنه في مناسكهم، بخلاف غيرهم فإنهم يخرجون إلى الحل، ويقفون بعرفة، والنبي-عليه الصلاة والسلام- وقف مع الناس بعرفة، وهو من الحمس، من أهل البيت من قريش؛ مخالفة للمشركين، اتباعا لما أُمر به –عليه الصلاة والسلام-.

على كل حال قصة بحيرا الراهب هذه أنكرها جمع من أهل العلم، وقواها ابن حجر في فتح الباري، وأيضًا نصرها جمع من أهل العلم، وروي أن لها أصلاً.

"لِأَنَّهُ كان مَوْقِفَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ} [البقرة: 135]، وقال: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيم} [النحل: 12]، وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} [الشورى: 13] الْآيَةَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ، فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَإِقَامَةِ الدِّينِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ".

يعني مما يتفقون فيه، جميع الأنبياء والرسل يتفقون في أصل الدين الذي هو التوحيد، فهو متعبد به، {فبهداهم اقتده} يعني اجتمع نحن معاشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد، أما بالنسبة للشرائع والتفاصيل والأعمال والفرعيات فهذه {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا}.

" وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} [الشورى: 13] وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

الرَّابِعَةُ: إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلُهُ تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ} فَقَالَ جَمَاعَةٌ: مَعْنَى الْإِيمَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَرَائِعُ الْإِيمَانِ وَمَعَالِمُهُ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ، وَقِيلَ: تَفَاصِيلُ".

التفاصيل يعني التفاصيل الدقيقة لا يعرفها قبل نزول القرآن عليه، وأما الإيمان إجمالًا بالله –جل وعلا- فهو يعرفه.

"ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ، وَقِيلَ: تَفَاصِيلُ هَذَا الشَّرْعِ، أَيْ كُنْتَ غَافِلًا عَنْ هَذِهِ التَّفَاصِيلِ، وَيَجُوزُ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْإِيمَانِ عَلَى تَفَاصِيلِ الشَّرْعِ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ، وَقِيلَ: مَا كُنْتَ تَدْرِي قَبْلَ الْوَحْيِ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ، وَلَا كَيْفَ تَدْعُو الْخَلْقَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَنَحْوَهُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَقَالَ بَكْرٌ الْقَاضِي: وَلَا الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ الْفَرَائِضُ وَالْأَحْكَامُ. قَالَ: وَكَانَ قَبْلُ مُؤْمِنًا بِتَوْحِيدِهِ، ثُمَّ نَزَلَتِ الْفَرَائِضُ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَدْرِيهَا قَبْلُ، فَزَادَ بِالتَّكْلِيفِ إِيمَانًا، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ مُتَقَارِبَةٌ.

 وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: عَنَى بِالْإِيمَانِ الصَّلَاةَ؛ لِقَوْلِهِ تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} [البقرة: 143] أَيْ صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ عَامًّا وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ، وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: أَيْ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا أَهْلَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ مَنِ الَّذِي يُؤْمِنُ؟ أَبُو طَالِبٍ أَوِ الْعَبَّاسُ أَوْ غَيْرُهُمَا، وَقِيلَ: مَا كُنْتَ تَدْرِي شَيْئًا إِذْ كُنْتَ فِي الْمَهْدِ وَقَبْلَ الْبُلُوغِ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ نَحْوَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى قَالَ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ لَوْلَا الرِّسَالَةُ، وَلَا الْإِيمَانُ لَوْلَا الْبُلُوغُ. وَقِيلَ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ لَوْلَا إِنْعَامُنَا عَلَيْكَ، وَلَا الْإِيمَانُ لَوْلَا هِدَايَتُنَا لَكَ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ.

 وَفِي هَذَا الْإِيمَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَهَذَا يَعْرِفُهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَقَبْلَ نُبُوَّتِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ دِينُ الْإِسْلَامِ".

معرفته هذه قدر زائد على ما يعرف بالفطرة، والمعرفة التي عنده –عليه الصلاة والسلام- التي خص بها قدر زائد على ذلك، لكنه لا يصل إلى حد التفاصيل التي لم يدريها ولم يعرفها إلا بنزول الوحي.

"وَالثَّانِي: أَنَّهُ دِينُ الْإِسْلَامِ وَهَذَا لَا يَعْرِفُهُ إلا بعد النبوة.

 قلت: أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ حِينِ نَشَأَ إِلَى حِينِ بُلُوغِهِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ} أَيْ كُنْتَ مِنْ قَوْمٍ أُمِّيِّينَ لَا يَعْرِفُونَ الْكِتَابَ وَلَا الْإِيمَانَ، حَتَّى تَكُونَ قَدْ أَخَذْتَ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ عَمَّنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وهو كقوله تعالى: {وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]، رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-،" وَلكِنْ جَعَلْناهُ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: يَعْنِي الْإِيمَانَ، وقال السُّدِّيُّ: الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: الْوَحْيُ، أَيْ جَعَلْنَا هَذَا الْوَحْيَ {نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ} أَيْ مَنْ نَخْتَارُهُ لِلنُّبُوَّةِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ} [آل عمران: 74]، ووحد الكناية؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي كَثْرَةِ أَسْمَائِهِ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ فِي الِاسْمِ الْوَاحِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: إِقْبَالُكَ وَإِدْبَارُكَ يُعْجِبُنِي، فَتَوَحَّدَ، وَهُمَا اثْنَان ِ{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} أَيْ تَدْعُو وَتُرْشِدُ" إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ" دِينٍ قَوِيمٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَقَالَ عَلِيٌّ: إِلَى كِتَابٍ مُسْتَقِيمٍ.

 وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ وَحَوْشَبٌ: " وَإِنَّكَ لَتُهْدَى" غَيْرَ مُسَمَّى الْفَاعِلِ، أَيْ لَتُدْعَى، والْبَاقُونَ "لَتَهْدِي" مُسَمِّي الْفَاعِلِ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: " وَإِنَّكَ لَتَدْعُو"، قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا لَا يُقْرَأُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسَّوَادِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ مَا كَانَ مِثْلُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَائِلِهِ عَلَى جِهَةِ التَّفْسِيرِ، كَمَا قَالَ: "وَإِنَّكَ لَتَهْدِي" أَيْ لَتَدْعُو.

 وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}{ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ}".

لأن هذه الهداية المثبتة للنبي -عليه الصلاة والسلام- هي هداية الدلالة والإرشاد والدعوة إلى صراط المستقيم، وأما هداية التوفيق والقبول فهي المنفية في قوله: {إنك لا تهتدي من أحببت} نعم.

{صِراطِ اللَّهِ} بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ بَدَلُ الْمَعْرِفَةِ مِنَ النَّكِرَةِ، قَالَ عَلِيٌّ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ، وَرَوَاهُ النَّوَّاسُ بْنُ سَمْعَانَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

 {الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} ملكًا وعبدًا وخلقًا. {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}، وَعِيدٌ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، قَالَ سَهْلُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ: احْتَرَقَ مُصْحَفٌ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا قَوْلُهُ: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}، وَغَرَقَ مُصْحَفٌ فَامَّحَى كُلُّهُ إِلَّا قَوْلُهُ: {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}، والحمد لله وحده".

"