تعليق على تفسير سورة البقرة (36)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين.
وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
قال الإمام ابن كثيرٍ -رَحِمَهُ الله تَعَالَى-:
قَالَ الرَّازِيُّ: النَّوْعُ السَّادِسُ مِنَ السِّحْرِ: الِاسْتِعَانَةُ بِخَوَاصِّ الْأَدْوِيَةِ يَعْنِي فِي الْأَطْعِمَةِ وَالدِّهَانَاتِ. قَالَ: وَاعْلَمْ أَنْهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِ الْخَوَاصِّ، فَإِنَّ أَثَرَ الْمِغْنَاطِيسِ مُشَاهَدٌ".
فإن تأثير.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الرازي توسَّع في ذكر الأنواع، وتساهل في كثيرٍ منها، من أنواع السحر، وتقدَّم هذا بالدرس السابق، وأنه يُنسَب إليه كتاب اسمه: ((السر المكتوم))، وفيه طوام، حيث أباح وأجاز أنواعًا من السحر، أنواعًا فيها تعلُّق بغير الله -جلَّ وعلا- من النجوم، والكواكب. منهم من يقول: إن هذا الكتاب لم يثبت أنه من تأليفه، ومنهم من يقول: إنه تاب منه. وعلى كل حال، يبقى الحكم مُعلَّق، إن صحَّ عنه الكتاب، أو ثبت عنه الكتاب، فهو على خطرٍ عظيم، نسأل الله العافية.
هذا النوع الذي ذكره من أنواع السحر، وهو النوع السادس، يقول: "الِاسْتِعَانَةُ بِخَوَاصِّ الْأَدْوِيَةِ يَعْنِي فِي الْأَطْعِمَةِ وَالدِّهَانَاتِ". قَالَ: "وَاعْلَمْ أَنْهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِ الْخَوَاصِّ، فَإِنَّ تَأْثَيرَ الْمِغْنَاطِيسِ مُشَاهَدٌ".
الدميري في ((حياة الحيوان)) ذكر أشياء من الطلاسم وزعم أنها مؤثرة، ذكرها في جداول، وهو من فقهاء الشافعية. فإذا كُتِب كذا نفع من كذا، ثمَّ ذكر في خواص الحيوانات، كل حيوان يذكره؛ لأن الكتاب تكلَّم عن الحيوانات، واسمه: ((حياة الحيوان)). وهذا الكتاب فيه استطرادات، وفيه أشياء تاريخية، ونكت أدبية، وأشياء ماتعة في الحقيقة. وفيه خروجٌ إلى التواريخ، وذكر تواريخ الدول الإسلامية بنوعٍ من التفصيل في هذا الكتاب، وهو في الأصل مؤلف للحيوان. يذكر في الحيوان تعريفه، وما يتعلَّق به من قصص وطرائف، وأين يوجد، ويذكر حكمه الشرعي بالنسبة للأكل وعدمه، هذا يُستفاد منه في هذا الباب؛ لأنه فقيه، على مذهب الإمام الشافعي. لكن الإشكال في الطلاسم التي يذكرها، والأرقام التي يذكرها في شبه جداول، وأنها تنفع. والإشكال الثاني في خواص هذه الحيوانات، رأس الهدهد إذا وضعته في وسادك حصل لك كذا وكذا، ورجل الديك إذا وضعتها تحت رأسك حصل كذا وكذا، ومن هذا النوع كثير في كل حيوان يذكر خواصه، وهذا أيضًا.. هذا ضلال، نسأل الله العافية.
والكتاب إذا نُقِّح -وقد اختصر- وهُذِّب من هذه الأمور، وأيضًا الاستطرادات الأدبية والتاريخية التي كبّرت حجم الكتاب، فهو يقع في مجلدين كبيرين، إذا نُقِّح وهُذِّب وصُفي من هذه الشوائب، فإنه نافع جدًّا، يعني لا أعرف له نظيرًا في تفصيل الأحكام لهذه الحيوانات. تبحث عن حيوان ما عمرك سمعت عنه، تجده في هذا الكتاب. وقد يكون الحيوان معروفًا عندك، وتبحث عنه باسمه الذي تعرفه، ثمَّ يعطيك معلومات غير ما تعرف تمامًا؛ لأنه في بلده غير الذي عندك. بحثنا عن السقنقور، وعن حكمه، فقال: هو دويبةٌ تُشبه الضب، طولها: ذراع ونصف.
طالب: ...
ما هو الذي عندنا، بل الذي عندهم هم، يقول: ويعيش في دمياط، وبعض الأجزاء من الديار الهندية، ما هو الذي عندنا. لكن التوصيف على الهيئة قريب يعني من الزواحف. فإذا أخذت الحكم من هذا، هل تطبقه على ما عندك؛ لأن الاسم مشترك؟ أو أنه غيره تمامًا؟.
الكتاب في جملته فيه نفع، وفيه ضررٌ كبير. ولو قيل: إن إثمه أعظم من نفعه وأكبر من نفعه، ما هو ببعيد؛ لأن فيه أمورًا لا بُدَّ من تنقيته منها. يعني خواص الحيوانات، مَنْ يُصدِّق أن رأس الهدهد إذا وُضِع تحت الرأس نفعك في كذا وكذا وكذا، ويذكر أشياء. وإذا أخذت ريشة من طائر كذا، استفدت كذا، هذا تعلُّق بغير الله. وجعل الشيء سببًا، وهو ليس بسببٍ شرعي ولا عادي، وهذا شرك، نسأل الله العافية. التعلُّق بما ليس بسبب، يعني لو قلت: هذه الورقة تنفعك من الزكام، هذه الورقة ضعها في جيبك ما يجيئك الزكام! ماذا تقول له؟ ما هذا؟ شرك؛ لأنه ليس بسببٍ شرعي، ما ورد فيه نص، ولا بسببٍ عادي وعُرف يقرر الأطباء أن في هذه الورقة من الخواص الطبية ما ينفعك في هذا الباب.
قال: "فَإِنَّ تَأْثيَرَ الْمِغْنَاطِيسِ مُشَاهَدٌ". نأتي إلى التنويم المغناطيسي الذي يستخرجون به من المتهم ما يريدون، وقد يتعدى ذلك أحيانًا إلى شيءٍ لم يقع، قد يُخْبِر عن أشياء لا علم له بها سابقًا، فيكون فيه ضربٌ من الاستعانة بالجن؛ ولهذا أُدْخِل في السحر. وفيه فتوى من اللجنة الدائمة، قالوا: إن التنويم المغناطيسي في أنواعه أنواع من السحر؛ لأنه إذا نُوِّم وسُئِل عن أشياء يُخْبِر، بشيءٍ قريب وشيءٍ بعيد، وشيءٍ ما شاهده، هذا لا بُدَّ فيه من الاستعانة، نسأل الله العافية.
ولذلك هذه الفتوى استغربت ممن قرأها، وتندَّر بها بعض الناس. لكن لو يُقرأ في تفاصيل الفتوى، عرفت أنه مُندرج تحت أنواع من السحر التي ذكروها بالتفصيل، وهنا الرازي ذكرها.
الذين يقولون بتأثير الأموات على من يستعين بهم، يجيء لك بمثل هذا النوع، ويجيء لك بمسألة العين والإصابة بالعين، يقول: ما فيه مماسة، مجرد ما رآك تأثرت، ويُلبِّس عليك بأن التأثير قد يكون من غير مماسة، وقد يكون من غير مشاهدة.
"قُلْتُ: يَدْخُلُ فِي هَذَا الْقَبِيلِ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَدّعي الْفَقْرَ وَيَتَحَيَّلُ عَلَى جَهَلَةِ النَّاسِ بِهَذِهِ الْخَوَاصِّ، مُدَّعِيًا أَنَّهَا أَحْوَالٌ لَهُ مِنْ مُخَالَطَةِ النِّيرَانِ وَمَسْكِ الْحَيَّاتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَالَاتِ".
نعم، يفعلون هذا في القديم والحديث، يفعلون هذا ويُلبسون على الناس ما يُسمونه الاحتراف، الناس تقول: هذا مُحترف، وهو يأتي بمخارق وأشياء هي فوق طاقته، لا يستطيعها بمفرده، بل لا بُدَّ فيها من الاستعانة والإعانة، نسأل الله العافية.
طالب: ...
لا، هو ذكر المغناطيس أنه مؤثر. الآن قد تلتبس بعض المسميات في السابق مع الموجود في الحاضر، لو قرأت في كتب شيخ الإسلام، أو ابن القيم، وحتى في ((مقدمة ابن خلدون)) أو غيرها عن الكيمياء، كلهم يقولون: حرام وضربٌ من السحر، لكن هل هي الكيمياء التي تدرسها الآن عند الطلاب؟ تختلف حقيقتها عنها.
طالب: ...
لا، يسمون الزهد فقرًا، قالوا عن الإمام أحمد أنه إمامٌ في الفقر، يعني: في الزهد، هذا اصطلاح قديم عندهم.
"قَالَ: النَّوْعُ السَّابِعُ مِنَ السِّحْرِ: تَعْلِيقُ الْقَلْبِ، وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ الساحرُ أَنَّهُ عَرَفَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَأَنَّ الْجِنَّ يُطِيعُونَهُ وَيَنْقَادُونَ لَهُ فِي أَكْثَرِ الْأُمُورِ، فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ السَّامِعُ لِذَلِكَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ قَلِيلَ التَّمْيِيزِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ حَقٌّ، وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِذَلِكَ وَحَصَلَ فِي نَفْسِهِ نَوْعٌ مِنَ الرَّهَبِ وَالْمَخَافَةِ، فَإِذَا حَصَلَ الْخَوْفُ ضَعُفَتِ الْقُوَى الْحَسَّاسَةُ فَحِينَئِذٍ يَتَمَكَّنُ السَّاحِرُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ".
نعم، وهذا مُشاهد في حال الضعف ممن يخاف من العين، هو أقرب الناس إصابةً بها؛ لأن المقاوم ضعيف. لكن لو كانت نفسه قوية ومعتمدًا على الله ومتوكلًا عليه، ولا يهتم بهذه الأمور، مع اعتقاده أن العين حق، لكن كلما ضَعُفَ الإنسان سَهُلَت الإصابة.
"قُلْتُ: هَذَا النَّمَطُ يُقَالُ لَهُ التَّنْبَلَةُ، وَإِنَّمَا يَرُوجُ عَلَى الضُّعَفَاءِ الْعُقُولِ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَفِي عِلْمِ الْفِرَاسَةِ مَا يُرْشِدُ إِلَى مَعْرِفَةِ كَامِلِ الْعَقْلِ مِنْ نَاقِصِهِ، فَإِذَا كَانَ المُتَنْبِلُ حَاذِقًا فِي عِلْمِ الْفِرَاسَةِ عَرَفَ مَنْ يَنْقَادُ لَهُ مِنَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِهِ".
ما هي التنبلة عند الناس اليوم؟ الكسل. لكن الإنسان يعرف خصمه، تعرف الذي أمامك قويًا أو ضعيفًا، لا سيما إذا كان عندك شيء من النباهة، فتصرفات الناس تدلُّ على واقعهم، بعض الناس يدخل على المسؤول وهو يرتعد، مثل هذا سهل أن يقول له المسؤول: ما عندنا لك سند؛ لأنه عرف أنه ما عندك أحد، ضعيف. وبعض الناس عنده قوة وثقة بالنفس، هذا يُحْسَب له حساب.
طالب: ...
الجرأة هي فيها شيء جبلي، وفيها شيء مُكتسب، ما في شيء مستحيل.
"قَالَ: النَّوْعُ الثَّامِنُ مِنَ السِّحْرِ: السَّعْيُ بِالنَّمِيمَةِ وَالتَّضْرِيبِ مِنْ وُجُوهٍ خفية لطيفة، وذلك شائعٌ في الناس.
قُلْتُ: النَّميمةُ عَلَى قِسْمَيْنِ، تَارَةً تَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيشِ بَيْنَ النَّاسِ وَتَفْرِيقِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا حَرَامٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إِن كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ".
وجاء في الخبر أن النمَّام يُفسِد في ساعة ما لا يُفسده الساحر في سنة، نسأل الله العافية. النمَّام الذي يمشي بالنميمة ويسعى بالتحريش بين الناس، وينقل كلام بعضهم إلى بعض؛ من أجل الإفساد، لا شك أنه مُفْسِد، ويحصل به الضرر العظيم. ولذلك أكثر عذاب القبر من النميمة، وعدم الاحتراز من البول، كما جاء في الصحيح.
"فَأَمَّا إِن كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَائْتِلَافِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ بِالْكَذَّابِ مَنْ يَنُمَّ خَيْرًا»، أَوْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّخْذِيلِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ جُمُوعِ الْكَفَرَةِ، فَهَذَا أَمْرٌ مَطْلُوبٌ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ». وَكَمَا فَعَلَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ فِي تَفْرِيقِهِ بَيْنَ كَلِمَةِ الْأَحْزَابِ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ".
على كل حال، الذي يذهب ليُصلِح ويجد بين الإخوان وبين بعض فئات المسلمين من التنافر والتباغض والتدابر، ويأتي ويقول: إن فلانًا أثنى عليك خيرًا، ولو لم يحصل، ويذهب إلى الثاني ويقول: فلان فعل كذا مما يسره؛ من أجل التأليف بينهم، هذا ليس بالكذَّاب، وهذا على جهة الإصلاح. وكذلك في الحرب، إذا ذهب ليُخذِّل، كما فعل نُعيم بن مسعود، الذي جاء فيه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [سورة آل عمران:173]. «الحربُ خَدْعَة» بفتح الخاء، لغة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا في سُنن أبي داوود، يقول: بفتح الخاء، لغة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
طالب: ...
لغة النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
طالب: أحسن الله إليك، ما علاقة النميمة بالسحر؟
وجه الشبه، الشبه كبير. وقد يستعمل النمَّام شيئًا من السحر، قد يصاحبه أنواع من السحر، إذا عَجِز أن يفعل أو أن يصل إلى غايته بالنميمة، بالقول، قد يستعمله.
"وَكَمَا فَعَلَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ فِي تَفْرِيقِهِ بَيْنَ كَلِمَةِ الْأَحْزَابِ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَجَاءَ إِلَى هَؤُلَاءِ فَنَمَى إِلَيْهِمْ عَنْ هَؤُلَاءِ كَلَامًا، وَنَقَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَى أُولَئِكَ شَيْئًا آخَرَ، ثُمَّ لَأَمَ بَيْنَ ذَلِكَ، فَتَنَاكَرَتِ النُّفُوسُ وَافْتَرَقَتْ. وَإِنَّمَا يَحْذُو عَلَى مِثْلِ هَذَا الذَّكَاءُ وَالْبَصِيرَةُ النَّافِذَةُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
ثُمَّ قَالَ الرَّازِيُّ: فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي أَقْسَامِ السِّحْرِ وَشَرْحِ أَنْوَاعِهِ وَأَصْنَافِهِ.
قُلْتُ: وَإِنَّمَا أَدْخَلَ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ فِي فَنّ السِّحْرِ، لِلَطَافَةِ مَدَارِكِهَا؛ لِأَنَّ السِّحْرَ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَمَّا لطُف وَخَفِيَ سَبَبُهُ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا». وَسُمِّيَ السّحورُ لِكَوْنِهِ يَقَعُ خَفِيًّا آخَرَ اللَّيْلِ. والسَّحْر: الرِّئَةُ، وَهِيَ مَحَلُّ الْغِذَاءِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِخَفَائِهَا وَلُطْفِ مَجَارِيهَا إِلَى أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَغُضُونِهِ، كَمَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ لِعُتْبَةَ: انْتَفَخَ سَحْرُكُ، أَيِ: انْتَفَخَتْ رِئَتُهُ مِنَ الْخَوْفِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: تُوُفِّيَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَحْري ونَحْري. وَقَالَ تَعَالَى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [سورة الأعراف:116] أَيْ: أَخْفَوْا عَنْهُمْ عَمَلَهُمْ، وَاللَّهُ تَبَارك وتَعَالَى أَعْلَمُ".
طالب: ...
هو الإتباع مع النحر يقتضي السكون، وهذا مسلوك يعني: سحري ونحري، والأصل: سَحَر.
«إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» الحديث حمله بعض أهل العلم على الذم للبيان، وقال بعضهم: إنه مدح للبيان، ولا شك أنه يختلف باختلاف ما استعمل فيه هذا البيان، فإذا استعمل البيان في نصر الحق وإظهاره، ودحض الباطل، لا شك أنه ممدوح. وإن استعمل بالعكس في نشر الباطل ونقض الحق، والضحك على الناس كما يقولون، لا شك أنه مذموم. وأهل العلم يُعبرون بالسحر الحلال، ويقصدون به البيان. وكثيرًا ما يُقال عن ابن القيم أنه صاحب القلم السيَّال والسحر الحلال، ويعنون به البيان، وابن القيم في بيانه براعة كما هو مُشاهدٌ في كتبه- رَحِمَهُ الله-.
طالب: ...
محل التنفُّس.
طالب: ...
نعم، ولكن المقصود أنه محل التنفُّس.
"فَصْلٌ: وَقَدْ ذَكَرَ الْوَزِيرُ أَبُو الْمُظَفَّرِ يَحْيَى بْنُ هَبيرة بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ هُبَيْرَةَ فِي كِتَابِهِ: ((الْإِشْرَافُ عَلَى مَذَاهِبِ الْأَشْرَافِ)) بَابًا فِي السِّحْرِ، فَقَالَ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَهُ حَقِيقَةٌ إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ"
وهو قسم من كتابه الكبير: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) تكلَّم فيه على الصحيحين، وشرحهما شرحًا مُفصلاً مطولاً، حتى إذا جاء على حديث: «مَنْ يُرِد الله به خيرًا يُفقهه في الدين» تكلَّم عليه بكلامٍ مطول، وأتى بمسائل الفقه في جميع الأبواب، وذكر فيها مذاهب أهل العلم، وهذا القسم مطبوع قديمًا في حلب من بلاد الشام، وطُبِعَ أخيرًا وضُمَّ إليه أجزاء مما وُجِد من شرح الصحيحين.
"إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ وَيَسْتَعْمِلُهُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يَكْفُرُ بِذَلِكَ. وَمِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ قَالَ: إِنْ تَعَلَّمَهُ لِيَتَّقِيَهُ أَوْ لِيَجْتَنِبَهُ فَلَا يَكْفُرُ، وَمَنْ تَعَلَّمَهُ مُعْتَقِدًا جَوَازَهُ أَوْ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ كَفَر. وَكَذَا مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَفْعَلُ لَهُ مَا يَشَاءُ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: إِذَا تَعَلَّمَ السِّحْرَ قُلْنَا لَهُ: صِفْ لَنَا سِحْرَكَ. فَإِنْ وَصَفَ مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ مِثْلَ مَا اعْتَقَدَهُ أَهْلُ بَابِلَ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، وَأَنَّهَا تَفْعَلُ مَا يُلْتَمَسُ مِنْهَا، فَهُوَ كَافِرٌ. وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ، فَإِنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ.
قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: وَهَلْ يُقْتَلُ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: نَعَمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا.
فَأَمَّا إِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ إِنْسَانًا، فَإِنَّهُ يُقْتل عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَقَالَ أَبُو حنيفة: لا يُقْتَلُ حَتَّى يَتَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ، أَوْ يُقِرّ بِذَلِكَ فِي حَقّ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ. وَإِذَا قَتَلَ فَإِنَّهُ يُقْتَل حَدًّا عِنْدَهُمْ إِلَّا الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ: يُقْتَلُ -وَالْحَالَةُ هَذِهِ- قصَاصًا".
حدًا؛ لأنه ساحر، وحدُّ الساحر: ضربةٌ بالسيف، هذا حد عند الجمهور، وعند الشافعي الأصل: أنه لا يكفر ولا يُقْتَل، لكن إن قتل بسحره قُتِل قصاصًا، كما لو قتل بآلةٍ أخرى. ولا شك أن مثل هذا القول من الإمام -رحمة الله عليه- زلةٌ وهفوةٌ عظيمة، وهي التي جعلت بعض المسلمين في بعض الأقطار يتساهل في أمر السحر، ويتداولونه بينهم من غير نكيرٍ. هذه مشكلة كبيرة؛ لأن السحر شرك، تسميح الشرك وتيسير سُبُله، ومطلوب سد الذرائع الموصلة إلى الشرك، وهذا فيه نوع فتحٍ لهذه الذرائع.
طالب: أحسن الله إليك، يقول: "وَكَذَا مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَفْعَلُ لَهُ مَا يَشَاءُ فَهُوَ كَافِرٌ"، أما يعارضه قول الله -عزَّ وجلَّ- في سليمان: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ} [سورة سبأ:13]؟
خاص بسليمان؛ ولذلك النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لما أراد أن يوثق الجني في المسجد؛ حتى يراه صبيان المدينة، قال: «تذكرت دعوة أخي سليمان»، {وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} [سورة ص:35]، هذا من خواص سليمان.
طالب: أصل الكلام في الاعتقاد أو من اعتقد، لا الفعل، "مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَفْعَلُ لَهُ مَا يَشَاءُ فَهُوَ كَافِرٌ".
هذا كلام مَنْ؟
طالب: كلام أبي الوزير: "مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَفْعَلُ لَهُ مَا يَشَاءُ فَهُوَ كَافِرٌ" لا مَنْ عَمِل.
طالب: ...
لا، تفعل له ما يشاء.
طالب: هل بمجرد الاعتقاد بها يكفر؟
نعم، يكفر، تفعل له ما يشاء، تفعل له غير سليمان -عَلَيْهِ السَّلَام-. ولن تفعل له إلا عن طريق الشرك والكفر.
"قَالَ: وَهَلْ إِذَا تَابَ السَّاحِرُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَ: لَا تُقْبَلُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: تُقْبَلُ. وَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْتَلُ، كَمَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ الْمُسْلِمُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لَا يُقْتَلُ. يَعْنِي لقصة لبيد بن أعصم".
الذي سحر النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، لم يأمر بقتله -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ لأنه مُتلبِّس بالكفر.
طالب: ...
أين؟ ساحر أهل الكتاب؟
طالب: ...
يعني مالك وأبو حنيفة ما عندهما تردد؟ ما عندهم أكثر من رواية؟
طالب: "وَهَلْ إِذَا تَابَ السَّاحِرُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُم: لَا تُقْبَلُ".
عنهم؟ كل الثلاثة؟
طالب: نعم، "لَا تُقْبَلُ".
هو في الغالب الذي تُذْكَر رواياته عنه: الإمام أحمد. لكن الجزم صعب. يوجد في نُسَخ أخرى؟ الثلاثة كلهم؟ "فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُم".
طالب: ...
هذا الذي تردد في الجمع.
طالب: ...
نعم، لكن هو بصدد ..، هو عنده كفر صريح. سحر النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ما أعظم من هذا؟ أهل الكتاب لا يُعامَلون معاملة المسلم في كل شيء، عندهم أشياء وطوام وشرك.
طالب: ...
إذا وُجِد الضرر، يُكَف الضرر.
طالب: ...
لا.
"وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُسْلِمَةِ السَّاحِرَةِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَهَا لَا تُقْتَلُ، وَلَكِنْ تُحْبَسُ. وَقَالَ الثَّلَاثَةُ: حُكْمُهَا حُكْمُ الرَّجُلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
يعني: كما اختلفوا في المرتدة من النساء، يقول أبو حنيفة: لا تُقْتَل؛ لأنه ثبت أن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- نهى عن قتل النساء والذرية، وهذه منهم. والجمهور يقول: تُقْتَل؛ لأنه -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قال: «مَنْ بَدَّل دينه فاقتلوه»، فيدخل في ذلك الرجال والنساء، ويكون عدم القتل خاصًّا في الكوافر الأصليات في حال الحرب، وأما من بدَّل دينه فيُقْتَل. وحديث النهي عن قتل النساء والذرية عمومه غير محفوظ، مُخصص، فالقاتلة تُقْتَل، والزانية تُرْجَم، ما يُقال إنها لا تُقْتَل لعموم النهي عن قتل النساء والذرية.
طالب: ...
انتهى، يُقْتَل؛ لأنه بدَّل دينه. وُلِدَ مُسلمًا، وكبر على ذلك، وشب ونشأ، هذا اختيار.
"وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: قَرَأ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ- عُمَرُ بْنُ هَارُونَ".
قَرأ أم قُرِئ؟
طالب: قرأ على أبي عبد الله
يعني القارئ مَنْ هو؟
طالب: عُمَر بن هارون.
عُمَر بن هارون ما هي طبقته؟
طالب: ...
"حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَحَرَتْهُ امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ فَلَمْ يَقْتُلَهَا.
وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مَالِكٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ قَالَ فِي الذِّمِّيِّ إِذَا سَحَرَ يُقْتَلُ إِنْ قَتَلَ سِحْرُهُ، وَحَكَى ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَيْنِ فِي الذِّمِّيِّ إِذَا سَحَرَ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ أَسْلَمَ، وَأَمَّا السَّاحِرُ الْمُسْلِمُ فَإِنْ تَضَمَّنَ سِحْرُهُ كُفْرًا، كَفَرَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [سورة البقرة:102]".
طالب: من كبار العاشرة.
نعم، شيخ أحمد.
طالب: هو سنده ضعيف جدًّا.
هو البلخي، عُمَر بن هارون البلخي. ما عندي شيء،... هل عندك مُترجم له؟
طالب: ...
إن كان البلخي فهو تالف، معروف.
طالب: هل ينتقض عهد اليهودي والنصراني ...؟
نعم، ينتقض بأقل من ذلك، لو زنا بمسلمة انتقض عهده، نسأل الله العافية.
طالب: خُوَيْزِ مَنْدَادَ اسم مُركَّب؟
نعم، من أئمة المالكية معروف، ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ.
طالب: ...
نعم، يعتنون به عناية فائقة، القرطبي ما تسلم آية من رأيه.
"وَأَمَّا السَّاحِرُ الْمُسْلِمُ فَإِنْ تَضَمَّنَ سِحْرُهُ كُفْرًا، كَفَرَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [سورة البقرة:102].
لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَالزِّنْدِيقِ".
لأنه ما فيه ما يدلُّ على صدقه في التوبة؛ لأن فعله وعمله خفي.
"فَإِنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِ وَجَاءَنَا تَائِبًا قَبِلْنَاهُ وَلَمْ نَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلَ سِحْرُهُ قُتِلَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَالَ: لَمْ أَتَعَمَّدِ الْقَتْلَ، فَهُوَ مُخْطِئٌ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ".
سحر ولم يتعمَّد القتل؟! الله المُستعان، رَحِمَ الله الشافعي.
طالب: ...
نعم، مثل ما قال الشافعي: ما هو بلازمٍ للكفر عنده. لكن الجمهور: ما فيه سحر إلا بكفر، ما فيه إلا بقرابين تُقرَّب للشياطين.
"مَسْأَلَةٌ: وَهَلْ يُسْأَلُ السَّاحِرُ حَلَّ سِحْرِهِ؟ فَأَجَازَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: لَا بَأْسَ بِالنُّشْرَةِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَّا تَنَشَّرْتَ؟، فَقَالَ: «أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي، وَخَشِيتُ أَنْ أَفْتَحَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا»".
لا شك أن هذا فتح باب شر، لو قيل للمسحور: اذهب إلى الساحر واطلب منه أن يفك سحرك، ولن يفكه إلا بشرك، لهذا يُقال: لا يحلُّ السحر إلا ساحر. والنُشرة التي جاءت في كلامه، وأنها لا بأس بها، بالأمور المباحة، بالقرآن بالرقية الشرعية، وبالسدر، وما أشبه ذلك.
طالب: كيف يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنها شرًا؟
لا، هلَّا تنشرت؟ لها أكثر من معنى، النُشرة كما تكون بالرقية والآيات الشرعية، تكون أيضًا بحلِّ السحر.
"وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ وَهْبٍ: أَنَّهُ قَالَ: يُؤْخَذُ سَبْعُ وَرَقَاتٍ مِنْ سِدْرٍ فَتُدَقُّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ ثُمَّ تُضْرَبُ بِالْمَاءِ وَيُقْرَأُ عَلَيْهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَيَشْرَبُ مِنْهَا الْمَسْحُورُ ثَلَاثَ حَسَوَاتٍ ثُمَّ يَغْتَسِلُ بِبَاقِيهِ، فَإِنَّهُ يَذْهَبُ مَا بِهِ، وَهُوَ جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ الذِي يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ.
قُلْتُ: أَنْفَعُ مَا يُسْتَعْمَلُ لِإِذْهَابِ السِّحْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي إِذْهَابِ ذَلِكَ، وَهُمَا الْمُعَوِّذَتَانِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَمْ يَتَعَوَّذِ الْمُتَعَوِّذُونَ بِمِثْلِهِمَا»، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ فَإِنَّهَا مطردَةٌ لِلشَّيْطَانِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ: وَعِنْدَنَا أَنَّ السِّحْرَ حَقٌّ، وَلَهُ حَقِيقَةٌ يَخْلُقُ اللَّهُ عِنْدَهُ مَا يشاء.
خلافًا للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني مِنَ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّهُ تَمْوِيهٌ وَتَخَيُّلٌ".
هذا الكلام السابق. يخلق الله عنده، هذه طريقة الأشاعرة، وأن السبب غير مؤثر، لكن يوجد عنده، مثل ما يقولون: إن الري يكون عند الشرب، والشِبَع يكون عند الأكل، ما يكون به، هذا معروف عند الأشاعرة، وأن السبب لا أثر له، ولكن توجد الآثار عند هذا السبب. ويُقابلهم المعتزلة، الذين يقولون: السبب مؤثر بنفسه.
"قَالَ: وَمِنَ السِّحْرِ مَا يَكُونُ بِخِفَّةِ الْيَدِ، كَالشَّعْوَذَةِ، وَالشَّعْوَذِيُّ الْبَرِيدُ؛ لِخِفَّةِ سَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ".
يعني: لا توجد في كلام العرب: الشعوذة، موَّلدة.
"قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِنْهُ مَا يَكُونُ كَلَامًا يُحْفَظُ وَرُقًى مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ عُهُودِ الشَّيَاطِينِ وَيَكُونُ أَدْوِيَةً وَأَدْخِنَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ: وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَدْحًا كَمَا تَقَوَّلَهُ طَائِفَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَمًّا لِلْبَلَاغَةِ. قَالَ: وَهَذَا أصَحُّ. قَالَ: لِأَنَّهَا تُصَوِّبُ الْبَاطِلَ حَتَى توهَم السَّامِع أَنَّهُ حَقٌّ كَمَا قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- «فلعلَّ بعضكم أن يكون ألحن لحجته مِنْ بَعْضٍ، فَأقْضَيَ لَهُ»، الْحَدِيثَ".
لا شك أن البيان والبلاغة والفصاحة إذا استعملت في الباطل ورد الحق، فهذا لا شك أنه مُجمعٌ على أنه ذم. وإذا استعملت في العكس، ولذلك الخلاف لا حقيقة له في الواقع، من يقول: ذم، ومن يقول: غير ذم؛ لأن من يقول: ذم، لا يُخالف في أنه إذا استعمل في نشر الحق والذب عنه والدعوة إليه، ما أحد يقول إنه.. فالنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أفصح الناس، ولا يختلف معه من يقول: أنه إذا استعمل في نشر الباطل ودحض الحق، هذا مذموم، لا يُختَلَف فيه.
"قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة البقرة:104-105].
نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِالْكَافِرِينَ فِي مَقَالِهِمْ وَفِعَالِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُعَانُون مِنَ الْكَلَامِ مَا فِيهِ تَوْرِيَةٌ".
يعانون يعني: يتعاطونه. يستعملون التورية بكثرة؛ لأنهم أهل مكر وخديعة.
"لِمَا يَقْصِدُونَهُ مِنَ التَّنْقصِ -عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ- فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَقُولُوا: اسْمَعْ لَنَا، يَقُولُونَ: رَاعِنَا، وَيُورُونَ بِالرُّعُونَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}"
يعني: لو أتوا باللفظ الذي لا يحتمل، الذي هو الأصل، لكن إذا جيء بلفظٍ يحتمل الحق ويحتمل الباطل، يجب الكف عنه ويُستفصَل من صاحبه.
"{وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا} [سورة النِّسَاءِ:46] وَكَذَلِكَ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ، بِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَلَّموا إِنَّمَا يَقُولُونَ: السامُ عَلَيْكُمْ. وَالسَّامُ هُوَ: الْمَوْتُ. وَلِهَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِـ (وَعَلَيْكُمْ). وَإِنَّمَا يُسْتَجَابُ لَنَا فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِينَا".
"يُسْتَجَابُ لَنَا فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِينَا"؛ لأنهم معتدون في الدعاء. وأما الردّ عليهم فهذا من باب: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ} [سورة النحل:126]، {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [سورة النساء:148]، فالمظلوم له أن يدافع عن نفسه ويكون مُحقًّا.
"وَالْغَرَضُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُشَابَهَةِ الْكَافِرِينَ قَوْلًا وَفِعْلًا، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة البقرة:104].
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي مُنيب الجُرَشي، عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةَ بِالسَّيْفِ، حَتَّى يُعبد اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَتِ الذِّلَّةُ والصَّغارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ».
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ بِهِ «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ منهم»، فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى النَّهْيِ الشَّدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، عَلَى التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَلِبَاسِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ، وَعِبَادَاتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمُ التِي لَمْ تُشْرَع لنا ولَمْ نُقَرر عَلَيْهَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَر، عَنْ مَعْن وعَوْن -أَوْ أَحَدِهِمَا- أَنَّ رَجُلًا أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: اعْهَدْ إِلِيَّ. فَقَالَ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَأَرْعِهَا سَمْعك، فَإِنَّهُ خَيْرٌ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عَنْهُ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ خَيْثَمَةَ، قَالَ: مَا تَقْرَؤُونَ فِي الْقُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَإِنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ: (يَا أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ).
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {رَاعِنَا} أَيْ: أَرْعِنَا سَمْعَكَ".
تقدَّم مرارًا أن هذا الإسناد ضعيف.
"وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَرْعِنَا سَمْعَكَ. وَإِنَّمَا {رَاعِنَا} كَقَوْلِكَ: عَاطِنَا".
مفاعلة من الطرفين.
"وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَقَتَادَةَ، نَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا}: لَا تَقُولُوا خِلَافًا. وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تَقُولُوا: اسْمَعْ مِنَّا وَنَسْمَعُ مِنْكَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا}: كَانَتْ لُغَةً تَقُولَهَا الْأَنْصَارُ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} قَالَ: الرَّاعِنُ مِنَ الْقَوْلِ السُّخْرِيُّ مِنْهُ، نَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْخَرُوا مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيج أَنَّهُ قَالَ مِثْلُهُ.
وَقَالَ أَبُو صَخْرٍ: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا}"
طالب: ...
من الرعونة.
"وَقَالَ أَبُو صَخْرٍ: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا}، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِذَا أَدْبَرَ نَادَاهُ مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَقُولُ: أَرْعِنَا سَمْعَكَ. فَأَعْظَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لَهُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ، يُدْعَى رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ يَأْتِي النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَإِذَا لَقِيَهُ فَكَلَّمَهُ قَالَ: أَرْعِنِي سَمْعَكَ وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَع. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَحْسَبُونَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانَتْ تُفَخَّم بِهَذَا، فَكَانَ نَاسٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ: غَيْرَ صَاغِرٍ، وَهِيَ كَالتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. فَتَقَدَّمُ اللَّهُ إِلَى المؤمنين أن لا يقولوا: راعنا.
وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا".
هذه الكلمة في بعض النواحي من هذه البلاد، تُسْتَعْمَل بكثرة بمعنى: انظر، بكثرة، في جهات الشمال، حائل، وكالجهات، قليل يستعملون: انظر، يستعملون: راع. وتُستعمل أيضًا من المراعاة في البيع والشراء، فالعدول إلى ما وجهنا الله -جلَّ وعلا- إليه هو الأصل، ونترك اللفظ المُحْتَمِل، نُهينا عن ذلك.
طالب: هذا في النظر، يا شيخ، وليست من السمع.
راع من النظر، نعم، نقول: راع، يعني: انظر. وأيضًا المراعاة في البيع، يعني: نزِّل كذلك، لكنها ألفاظ مشابهة، والألفاظ المشابهة لألفاظٍ محتملة نُهينا عنها، لا تكون بمنزلتها في قوة النهي، لكن اجتنابها هو الأولى.
طالب: ...
هو المعنى واضح في الاستعمال، سواءً كانت من المراعاة أو من النظر، المعنى واضح، ولا يقصدون بذلك ما يقصده اليهود، هذا أمرٌ مفروغٌ منه. لكن المشابهة باللفظ، ولو كان الاحتمال ضعيفًا أو لا يوجد، ما كان فيه مشابهة للممنوع فيُمنَع، ولا يكون مساويًا له في المنع.
طالب: ...
والله، هو الواقع هو مخاطبة.. الأصل والسبب إنما ورد في مخاطبة اليهود للنبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قاصدين بذلك ما يريدون، وجاء النهي عن ذلك، ولكن عموم اللفظ مُعتبر.
"قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: أَنَّ اللَّهَ نَهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا لَنَبِيِّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: رَاعِنَا؛ لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ كَرِهَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَهَا لَنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، نَظِيرَ الذِي ذُكِرَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «لَا تَقُولُوا لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ، وَلَكِنْ قُولُوا: الحَبَلَة. وَلَا تَقُولُوا: عَبْدِي، وَلَكِنْ قُولُوا: فَتَايَ»، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} يُبَيِّنُ تَعَالَى بِذَلِكَ شِدَّةَ عَدَاوَةِ الْكَافِرِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ حَذَّرَ تَعَالَى مِنْ مُشَابِهَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ لِيَقْطَعَ الْمَوَدَّةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ. وينبِّه تَعَالَى عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الشَّرْعِ التَّامِّ الْكَامِلِ، الذِي شَرَعَهُ لَنَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة البقرة:105]"
وهذا مما عُرِفوا به من الحسد لهذه الأمة، والله المُستعان.
اللهمَّ صلِّ على محمد.